السلفية.. وتكفير المدارس العقدية

السلفية.. وتكفير المدارس العقدية
لا ينظر السلفية إلى العقيدة الإسلامية باعتبارها المجال الذي من خلاله تتم معرفة حقائق الوجود كما هي في الواقع فقط، وإنما ينظرون إليها قبل ذلك وبعده كأهم وسيلة ترضي نزوة العداء التي تمتلئ بها نفوسهم، أو انتقلت لهم من أسلافهم.
ولذلك نجدهم في كتبهم المسندة التي تأسست علىها عقيدتهم، لا يذكرون قضية من القضايا العقدية، حتى لو كانت بسيطة جدا، بل حتى لو كانت مجرد اجتهاد اجتهده بعض سلفهم المعصومين، إلا ويعقبون عليها بأن منكر هذه العقيدة جهمي معطل زنديق كافر.
وبناء على هذا وضع خلفهم ومتأخروهم ما يسمونه نواقض الإيمان، والتي تشمل الكثير من الأصول والفروع التي خالفهم فيها سائر المسلمين، والتي لو طبقت فإنها ستشمل الأمة جميعا.
ومع كون تلك النواقض من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى فتاوى عينية تتعلق بكل طائفة أو مدرسة على حدة، إلا أننا مع ذلك نجد الفتاوى والكتب الكثيرة التي تكفر كل طائفة على حدة، وهو ما يسمونه التكفير العيني.
وبناء على هذا سنحاول في هذا الفصل أن نذكر كلا التكفيرين، وشمولهما لجميع المدارس العقدية، ما عدا المدرسة السلفية، أو المدارس التي لم يبق لها وجود بسبب انصهارها في السلفية كالكرامية والمقاتلية وغيرها من الفرق المشبهة والمجسمة.
وإن كنا من باب المنطق العلمي لا نحتاج إلى ذكر التكفير العيني لأي مدرسة، ما دام يشملها التكفير المطلق، ذلك أن من قال: [كل منتم للجامعة طالبا كان أو أستاذا يحق له الاستفادة من مكتبة الجامعة]، فإن ذلك لا يحتاج إلى تعليق إعلانات أخرى تخص كل كلية أو قسم أو شخص على حدة.
وهكذا يفعل السلفية في التكفير المطلق، فهم يضعون مقدمة كلية عامة تنص على أن كل من قال بأن الله ليس في جهة، أوذكر بأنه لم يتكلم بحرف وصوت، أو اعتقد أنه ليس له يدان وساق، كافر معطل جهمي.. وعند تطبيق هذه المقولة على المدارس الإسلامية نجدهم جميعا ينصون عليها.. فهم ينزهون الله عن الجهة والحرف والصوت والأعضاء وغير ذلك مما يعتبره السلفية صفات الله تعالى.
والنتيجة الطبيعية لهاتين المقدمتين: هو أن كل مدرسة تقول بذلك كافرة ومعطلة بناء على المعتقدات السلفية.. لأن ذلك يشبه تماما ذلك المثال المنطقي المعروف: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان.
لكن السلفية نتيجة بغضهم للمنطق، ونقضهم له كما يتصورون، يقعون ـ عمدا أو جهلا ـ في الكذب على أنفسهم، والكذب على الناس، فإذا قيل لهم: أنتم تكفرون الأشاعرة مثلا.. يقولون: نحن لا نكفرهم.. فيقال لهم: فأنتم تكفرون كل من ينكر الجهة؟.. فيقولون: أجل.. فيقال لهم: وهل الأشاعرة يقولون بالجهة؟.. فيقولون: لا.. فيقال لهم: فهم كفار إذن بحسب مقدمتكم الكبرى.. فيقولون: لا.. نحن لم نقل ذلك.
وللأسف فإن هذه المغالطات التي يضحك بها السلفيون على عقولهم وعقول البسطاء من أمثالهم جعلتنا لا نكتفي بذكر تكفيراتهم المطلقة، وإنما نضيف إليها تكفيراهم العينية التي شملت مدارس الأمة جميعا، لنلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.
يضع السلفية ـ كما ذكرنا ـ الكثير من نواقض الإيمان التي تجعل من يقع فيها كافرا أو مشركا أو جهميا أو معطلا، وغيرها من التسميات التي يراد منها الكفر الجلي المخرج من الملة، وهم يركزون كل جهودهم التكفيرية على المسائل الخلافية، فلم أر مع كثرة مطالعتي لمصادرهم أي كلام تكفيري يرتبط بأسماء الله الحسنى، أو الحقائق العقدية الضرورية، باعتبار كل المدارس الإسلامية تؤمن بذلك، وهم لا يهتمون بإيمان الأمة، وإنما يهتمون بإيمان الطائفة.. ولذلك احتقروا وتساهلوا فيما يسمونه توحيد الربوبية، وعظموا ما يسمونه توحيد الألوهية والأسماء والصفات، باعتبارها المداخل الكبرى للحكم على الأمة بالشرك والكفر.
بناء على هذا فسأكتفي هنا بثلاث قضايا كبرى تم بموجبها تكفير كل المدارس العقدية التنزيهية للأمة: أولها، ما يسميه السلفية العلو، أو الجهة، أو المكان، والثاني: تعطيل الصفات، والثالث: القول بخلق القرآن.
فكتب السلفية جميعا التي يعتبرونها مصادرهم العقدية، تمتلئ بتكفير كل من يخالفهم في هذه المسائل الثلاث، كما سنرى.
وقد أشار ابن تيمية إلى هذا عندما ذكر موضع النزاع بين أهل الحديث، وبين سائر المتكلمين، فقال:(..إن أمهاتِ المسائل التى خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب مذهب الأشعرى لأهل الحديث ثلاثُ مسائل: وصفُ الله بالعلو على العرش، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات)([1])
وسنتحدث هنا عن هذه القضايا بحسب الترتيب الذي ذكره ابن تيمية.
يعتبر السلفية تحديد [جهة الله] من أعظم المسائل العقدية، ولهذا يقومون بامتحان الناس على أساسها، فمن أثبت الجهة اعتبروه مؤمنا وموحدا وسنيا وسلفيا، ومن خالفهم فيها اعتبروه جهميا ومعطلا وكافرا وملحدا.
بل قد نقلوا إجماع الأمة على ذلك، وهو يدل على أنهم لا يعتبرون الأمة غيرهم.. فمن عداهم من الأمة من المتكلمين والصوفية وغيرهم من المنزهة لا يعتبرونهم ـ بسبب عدم قولهم بالجهة ـ من هذه الأمة، فضلا عن اعتبارهم من أهل السنة.
يقول أحد متقدميهم، وهو قتيبة بن سعيد (150-240 هـ): (هذا قول الائمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله:الرحمن على العرش استوى)، وقد علق عليه الذهبي بقوله: (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة، وقد لقي مالكا والليث وحماد بن زيد، والكبار وعمر دهرا وازدحم الحفاظ على بابه)([2])
وقال ابن بطة العكبري (304-387 هـ) في كتابه المشهور [الإبانة عن شريعة الفرقة والناجية]: (باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه، ولا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان)([3])
وهكذا فإنهم يعتبرون كل من يخالفهم في هذا حلوليا زائغا مارقا من الدين، حتى لو كان يستند في هذا إلى ما نص عليه القرآن الكريم من استحالة الجهة والمكان لله كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وغيرها من الآيات الكريمة.
وقد ذكر ابن عبد البر (ت 463 هـ) وهو من أئمة السلفية المعتبرين في العقائد مخالفة الأمة جميعا لهم في هذا، فقال ـ بعد ذكر حديث النزول: (وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش)([4])، وقال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا انهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله)([5])
وهم لا يكتفون بنقل الإجماع على المسألة، وعدم اعتبار من ورد عنه خلافها، وهم أكثر الأمة، بل يضيفون إلى ذلك ما شاءت لهم عدوانيتهم من التصريحات التكفيرية التي لا تحتمل أي مجال للتأويل.
ومن أمثلتها قول ابن خزيمة (ت 311 هـ): (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا)([6])
وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين)([7])
وقال في (مجموع الفتاوى) كعادته في نقل إجماع أهل الملل والنحل: (وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله تعالى على العرش، وقالوا هم ليس على العرش شىء وقال محمد بن اسحاق بن خزيمة امام الأئمة من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه ثم ألقى على مزبلة لئلا يتأذى به اهل القبلة ولا أهل الذمة…)([8])
وهكذا نجد المتأخرين من السلفية يعتبرون إنكار الجهة كفرا وحلولا مع علمهم أن كل المدارس الإسلامية العقدية تقول بذلك، قال الشيخ سليمان بن سحمان في (كشف الشبهتين): (وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم: يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني: يا جهمي، وليس كذلك، أو يا كافر أو يا مبتدع)([9])
وقال: (وإذا أنكر هذا الصنف علو الله على خلقه فهم كفار، لأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، ومن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو القدرة على الأشياء كما تقوله الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه، لأن الله مستول على الأشياء كلها وقادر عليها فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليه، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقولوا إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها وقد كان من المعلوم بالضرورة أن الاستواء هو العلو والارتفاع على العرش وعلى جميع المخلوقات فمن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو غير ذلك من تفاسير الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ولا ينفعه الإقرار بلفظ الاستواء على العرش مع جحود معناه وصرفه عن ظاهره وما يليق به إلى ما لا يليق به، فإذا تبين لك هذا علمت أن هذا الصنف هم جهال المقلدين للجهمية وأنه لا خلاف في تكفيرهم)([10])
وقال: (إذا عرفت هذا فمسألة علو الله على خلقه من المسائل الجلية الظاهرة ومما علم بالضرورة فإن الله قد وضحها في كتابه وعلى لسان رسوله وهي مما فطر الله عليها جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته واتبع هواه وأخلد إلى الأرض وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله فإنه قد صرح في غير موضع أن الخطأ والجهل قد يغفرا لمن لم يبلغه الشرع ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة إذ اتقى الله ما استطاع واجتهد بحسب طاقته وأين التقوى وأين الاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى والغائبين والمعطلون للصانع عن علوه على خلقه واستواءه على عرشه ونفى أسماءه وصفات كماله ونعوت جلاله والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت)([11])
وهذه النصوص وحدها كافية في الدلالة على تكفير السلفية لمخالفيهم من جميع الأمة الإسلامية من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة فضلا عن الشيعة والإباضية وغيرهم.. لأن هؤلاء جميعا يقولون بنفي الجهة عن الله تعالى.
يعتبر السلفية القول بخلق القرآن من أخطر المسائل العقدية، ولهذا يوظفونه توظيفا خطيرا في تكفير من عداهم من الأمة، حتى المتوقفون منهم الذي يكتفون باعتبار القرآن الكريم كلام الله من غير إضافة الخلق أو عدمه.
بل إن السلفية يشترطون في الإيمان أن يعتقد المؤمن عندهم أن القرآن كلام الله تكلم به بفمه الذي هو صفة ذاته.. كما قال قال أبو يعلى: (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق الفي عليه سبحانه، كما لم يمتنع إطلاق اليد والوجه والعين، وقد نص أحمد على ذلك في رسالة أبي العباس أحمد بن جعفر الفارسي: فقال: كلم الله موسى تكليما من فيه)([12]).. ورووا عن بعض سلفهم في ذلك أنه سئل: (كيف كلم الله عز وجل موسى عليه السلام؟ قال: مشافهة)([13])، ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كأن الخلق لم يسمعوا القرآن حين سمعوه من فيه يوم القيامة)([14])
وروى الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة) في [باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى] من حديث الزهري قوله: (لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، إنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت.. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك؟ قال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبِّهه؟ قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله)([15])
وقال أبو الفضل التميمي في اعتقاد الإمام أحمد –وهو الذي يعتمد عليه الأشعريان في نقل معتقده-: (وكان يقول: إن القرآن كيف تصرف غير مخلوق، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف)([16])
وبناء على هذا، فقد وضعوا الشروط الكثيرة المرتبطة باعتبار القرآن الكريم كلام الله، وهي كلها ترجع إلى تشبيه قراءتنا للقرآن الكريم بتكلم الله به.. وكأن مخارج حروفنا والهواء الذي يصدر من أجهزتنا عندما نتكلم، والذي يحصل بسببه الكلام هو نفسه يقع لله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا عظيما.
ولهذا نراهم يبالغون فيما يسمونه محنة خلق القرآن الكريم مبالغة عظيمة، وكأن الإسلام كاد ينهد لولا وقوف سلف السلفية كالجدار المنيع دون تلك الفتنة التي كادت تقضي على القرآن الكريم.
أو كما عبر على ذلك بعضهم، فقال: (لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام)([17])
أو كما يروون عن علي بن المديني قوله: (أيد اللَّه هذا الدين برجلين لا ثالث لهما أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل فِي يوم المحنة)([18])
ويروون أنه قيل لبشر بن الحارث يوم ضرب أحمد: قد وجب عليك أن تتكلم، فقال: (تريدون مني مقام الأنبياء ليس هذا عندي.. حفظ اللَّه أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه) ثم قَالَ بعد ما ضرب أحمد لقد أدخل الكير فخرج ذهبة حمراء([19]).
ويروون عن الربيع بن سليمان أن الشافعي قال: (من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر) فقيل له: تطلق عليه اسم الكفر، فقال: (نعم من أبغض أحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة أبغض النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبغض النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم كفر بالله العظيم)([20])
وهكذا أصبح أحمد بن حنبل عند السلفية بسبب هذه المسألة نبيا، يمتحن على أساسه إيمان المؤمنين، فمن أحبه كان مؤمنا، ومن أبغضه كان كافرا.
وبناء على هذا ينطلق السلفية من إمامهم أحمد بن حنبل في تكفير من يقول بخلق القرآن، أو من يتوقف في ذلك، أو من يقول بأن الحروف والأصوات مخلوقة، وهذه جميعا أقوال أصحاب المدارس الإسلامية الكبرى، كما سنرى في المبحث الثاني.
ومن الأقوال التي يروونها عن الإمام أحمد في ذلك ما رواه ابنه عبد الله قال: (سألت أبي رحمه الله عن قوم، يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت).. وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان، قال أبي: وهذا الجهمية تنكره.. وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، ألا إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت)([21])
وروى أبو بكر الخلال عن المروذي قال: (سمعت أبا عبد الله وقيل له: أن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال عافاه الله)([22])
وبناء على هذا نص كل سلف السلفية وخلفهم على كفر من يقول بخلق القرآن، يقول إمام السلفية في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري (329هـ): (والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي كلم موسى بن عمران يوم الطور، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمن قال غير هذا، فقد كفر بالله العظيم)([23])
وقال حافظ بن أحمد الحكمي: (القرآن (ليس بمخلوق) كما يقول الزنادقة من الحلولية والاتحادية والجهمية والمعتزلة وغيرهم تعالى الله عن أن يكون شيء من صفاته مخلوقاً.. وقد انعقد إجماع سلف الأمة الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون على تكفير من قال بخلق القرآن وذلك لأنه لا يخلو قوله من إحدى ثلاث: إما أن يقول إنه خلقه في ذاته أو في غيره أو منفصلا مستقلا وكل الثلاث كفر صريح، لأنه إن قال خلقه في ذاته فقد جعل ذاته محلا للمخلوقات، وإن قال إنه خلقه في غيره فهو كلام ذلك الغير فيكون القرآن على هذا كلام تالٍ له.. وإن قال إنه خلقه منفصلا مستقلا فهذا جحود لوجوده مطلقا إذ لا يعقل ولا يتصور كلام يقوم بدون متكلم كما لا يعقل سمع بدون سميع ولا بصر بدون بصير ولا علم بدون عالم ولا إرادة بدون مريد ولا حياة بدون حي إلى غير ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فهذه الثلاث لا خروج لزنديق منها ولا جواب له عنها فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)([24])
بل إن سلف السلفية وخلفهم لم يكتفوا بتكفير من يقول بخلق القرآن، بل ذهبوا إلى تكفير من توقف في تكفيره..
حيث يروون عن يحيى بن خلف المقرئ قوله: (أتيت الكوفة فلقيت أبا بكر بن عياش؛ فسألته: ما تقول في من قال: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر، وكل من لم يقل: إنه كافر؛ فهو كافر. ثم قال: أيُشك في اليهودي والنصراني؛ أنهما كافران؟ فمن شك في هؤلاء أنهم كفار؛ فهو كافر، والذي يقول: القرآن مخلوق. مثلهما)([25])
ويروون عن يزيد بن هارون قوله: (من قال: القرآن مخلوق. فهو كافر، ومن لم يكفره؛ فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر)([26])
ويروون عن سفيان بن عيينة قوله: (القرآن كلام الله عز وجل؛ من قال: مخلوق. فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر)([27])
ويروون عن أحمد بن حنبل قوله: (من قال: القرآن مخلوق. فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر)([28])
وبناء على هذا كله ينقلون الإجماع على ذلك، قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة؛ عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؛ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً؛ فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته.. ومن زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة. ومن شك في كفره – ممن يفهم ولا يجهل – فهو كافر)([29])
وقال حرب الكرماني (توفي 280 هـ): (هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم، عليها؛ فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق.. فكان من قولهم.. والقرآن كلام الله؛ تكلم به؛ ليس بمخلوق؛ فمن زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو جهمي كافر. ومن زعم أن القرآن كلام الله، ووقف، ولم يقل: ليس بمخلوق. فهو أكفر من الأول، وأخبث قولاً. ومن زعم أن ألفاظنا بالقرآن، وتلاوتنا له؛ مخلوقة، والقرآن كلام الله؛ فهو جهمي خبيث مبتدع. ومن لم يكفر هؤلاء القوم، والجهمية كلهم؛ فهو مثلهم)([30])
وهكذا قال ابن بطة: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة، ووصفها، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام، وسائر الأمة، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، إلى وقتنا هذا.. من قال: مخلوق، أو قال: كلام الله، ووقف، أو شك، أو قال بلسانه، وأضمره في نفسه، فهو كافر بالله حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء، ومن شك في كفره، ووقف عن تكفيره، فهو كافر)([31])
وهذه الكلمات الممتلئة بالتكفير كافية وحدها لاعتبار السلفية أكبر مدرسة تكفيرية في الأمة، لأن هذه المقولات تنطبق على جميع المدارس الإسلامية من دون حاجة لأي تعيين أو تسمية.
فالتعيين الذي يفر به بعض من يمارس التقية لا يقصد به العلماء ولا طلبة العلم، وإنما يقصد به عوام الناس وبسطاؤهم فقط، كما قال أحمد بن منيع البغوي: (من زعم أنه مخلوق؛ فهو جهمي، ومن وقف فيه؛ فإن كان ممن لا يعقل؛ مثل البقالين، والنساء، والصبيان؛ سُكت عنه، وعُلم، وإن كان ممن يفهم؛ فأجره في وادي الجهمية)([32])
ذكرنا في كتابنا [السلفية والوثنية المقدسة] أن المقصود بالصفات عند السلفية هو الأعضاء، ولذلك يردون بشدة على ما يسميه المنزهة بنفي الكم المتصل عن الله، أو نفي التركيب عنه، بل يرون أن الله مركب من الساق واليد والوجه والحقو والضرس وغيرها، ويتعاملون مع هذه الأعضاء جميعا، باعتبارها صفات ذاتية لله، وأن منكر كل واحدة منها كافر معطل جهمي.
ومثله من أول أي كلمة منها على مقتضى كلام العرب، أو متوقف في شأنها.. فالجميع عندهم معطل، وسواء في الضلالة.
وهكذا ما يسمونه صفات أفعال، كالجري والمشي والهرولة والقعود والنزول والضحك وغيرها.. فهم يعقبون كل وصف من هذه الأوصاف برمي المنكر لها بالتجهم والتعطيل والكفر والضلال.
وهم يستندون ـ بزعمهم ـ في هذا إلى الآيات القرآنية الكريمة التي نزلت وفق مقتضى كلام العرب من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها، لكنهم حملوها على ظواهرها، وأولوا من أجلها كل الآيات المحكمة.
وكمثال على ذلك أن الدارمي ـ الذي يعتبر مصدرا أساسيا في العقيدة السلفية ـ ساق بعض تلك النصوص في كتابه [الرد على الجهمية]، ثم قال بنبرة غاضبة مخاطبا المدرسة التنزيهية بالشدة السلفية المعهودة: (فهذا الناطق من قول الله – عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار ليس عليها غبار، فإن كنتم من عباد الله المؤمنين؛ لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، إن أهل العلم من أمركم لعلى يقين، فإن قال قائل منهم: معنى إتيانه في ظلل من الغمام، ومجيئه والملك صفا صفا، كمعنى كذا وكذا، قلت: هذا التكذيب بالآية صراحا، تلك معناها بين للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين، فأما مجيئه يوم القيامة وإتيانه في ظلل من الغمام والملائكة، فلا اختلاف بين الأمة أنه إنما يأتيهم يومئذ كذلك لمحاسبتهم، وليصدع بين خلقه، ويقررهم بأعمالهم، ويجزيهم بها، ولينصف المظلوم منهم من الظالم، لا يتولى ذلك أحد غيره، تبارك اسمه وتعالى جده، فمن لم يؤمن بذلك؛ لم يؤمن بيوم الحساب)([33])
وهكذا يعطي السلفية لهذا الموقف التجسيمي هذا الحكم الخطير، وهو أنه من لم يؤمن بنزول الله على الغمام، لا يؤمن أصلا بيوم الحساب..
وهكذا نراهم يتعاملون مع كل عضو من الأعضاء أو فعل من الأفعال، والتي يسمونها جميعا صفات.. فمن أنكر أي واحدة منها، حتى لو قبل بالجميع، فإنه يعتبر جهميا معطلا.
والنهاية الطبيعية التي تنتهي عندها هذه العقيدة عندهم هي أنه لا يتخلص أحد من وصف الجهمية وما يرتبط بها من تكفير حتى يشبه الله بالإنسان، فمن لم يؤمن عندهم بأن صورة الله هي نفس صورة الإنسان ـ مع اختلاف الكيف الذي لا ندري معناه ـ فإنه جهمي.
ولهذا ألف الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري كتابا سماه [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، وهو الكتاب الذي اعتنى به السلفية المعاصرون، بل قدم له شيخهم الكبير عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وقال في تقديمه له: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن.. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة رحمه الله في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى)([34])
وقد ذكر التويجري في مقدمة هذا الكتاب أن منكر الصورة جهمي ـ والجهمي كافر عندهم بالإجماع ـ فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)([35])
وهو يقصد بالجهمة هنا كل منزهة الأمة، لأنهم جميعا، حتى مع تصحيح الحديث لا يقولون بمقتضاه الظاهر، بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويلات.
وبذلك فإن منكر كون الله له صورة كصورة الإنسان ـ عند السلفية ـ جهمي.. والجهمي عندهم معطل وكافر.. ومن شاء أن يعرف حكم الجهمي عندهم، فليقرأ ما كتبه ابن تيمية وغيره عنه.
وبناء على هذا جاءت تعبيراتهم الكثيرة في الحكم بالكفر على من أنكر أي صفة من تلك الصفات، وقد نقل الذهبي عن معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني (توفي 418 هـ) بعد سرده لبعض ما أجمع عليه أهل الحديث والأثر من أن (..الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون منه فلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويعجب ويضحك ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا بلا كيف ولا تأويل كيف شاء فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال)([36])
وقد عقد الدارمي بابا خاصا بهذا في كتابه [الرد على الجهمية ] بعنوان [باب الاحتجاج في إكفار الجهمية]([37]) قال في مقدمته: (ناظرني رجل ببغداد، منافحا عن هؤلاء الجهمية فقال لي: بأية حجة تكفرون هؤلاء الجهمية، وقد نهى عن إكفار أهل القبلة؟ بكتاب ناطق تكفرونهم؟ أم بأثر، أم بإجماع؟ فقلت: ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، وما نكفرهم إلا بكتاب مسطور، وأثر مأثور، وكفر مشهور. أما الكتاب؛ فما أخبر الله – عز وجل – عن مشركي قريش، من تكذيبهم بالقرآن، فكان من أشد ما أخبر عنهم من التكذيب؛ أنهم قالوا: هو مخلوق، كما قالت الجهمية سواء)([38])
وهكذا راح يستعرض الآيات القرآنية التي وردت في تكذيب المشركين للقرآن الكريم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليطبقها على المسلمين الذين نزهوا الله عن الحرف والصوت، ليحكم عليهم جميعا حكما واحدا بالكفر، ثم قال: (ونكفرهم أيضا بكفر مشهور؛ وهو تكذيبهم بنص الكتاب، أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما، وقال هؤلاء لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم؛ دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] فقال له موسى -في دعواهم-: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه أن يجيب إلى ربوبية مخلوق، كما أجاب موسى-في دعواهم- فما فرق بين موسى وفرعون في مذهبهم في الكفر؟ إذا فأي كفر بأوضح من هذا؟! وقال الله تبارك وتعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط قولا وكلاما كن فكان، ولا يقوله أبدا، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام -في دعواهم- فالصنم -في دعواهم- والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام، فأي كفر بأوضح من هذا؟!.. وقال الله تبارك وتعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] و{ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] و{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وقال: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، قال هؤلاء: ليس لله يد، وما خلق آدم بيديه، إنما يداه نعمتاه ورزقاه، فادعوا في يدي الله أوحش مما ادعته اليهود { قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقالت الجهمية: يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها، وذاك محال في كلام العرب، فضلا أن يكون كفرا)([39])
وهكذا راح يكفرهم لإنكارهم كل مستلزمات التجسيم، يقول: (ونكفرهم أيضا بالمشهور من كفرهم، أنهم لا يثبتون لله تبارك وتعالى وجها ولا سمعا ولا بصرا ولا علما ولا كلاما ولا صفة، إلا بتأويل ضلال افتضحوا وتبينت عوراتهم، يقولون: سمعه، وبصره، وعلمه، وكلامه؛ بمعنى واحد، وهو بنفسه في كل مكان، وفي كل بيت مغلق، وصندوق مقفل، قد أحاطت به -في دعواهم- حيطانها وأغلاقها وأقفالها، فإلى الله نبرأ من إله هذه صفته، وهذا أيضا مذهب واضح في إكفارهم.. ونكفرهم أيضا؛ أنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بأين الله، والله قد وصف نفسه بأين، ووصفه به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([40])
ولهذا نجد ابن تيمية يعتبرهم من شر المبتدعة والملاحدة، فيقول: (..فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)([41])
بل إنه ـ كعاته في التنابز بالألقاب ـ سماهم بدل [أهل التفويض] بـ [أهل التجهيل]، فقال عنهم: (..أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات..ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك)([42])
وهذا من تحريف السلفية لحكاية الأقوال، فالمفوضة تركوا علم ما تشابه من النصوص على عقولهم لله تعالى، ولم يزعموا أبدا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعلم ذلك، معاذ الله وهو سيد الراسخين في العلم.
وهكذا يكتب الكثير من الردود الشديدة عليهم في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) وفي (الفتوى الحموية)، ومثله ابن القيم في (الصواعق المرسلة)، وغيرها.
وهكذا نرى المتأخرين ينهجون منهج المتقدمين في تكفير المفوضة، حيث نرى ابن عثيمين يقول عنهم: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول)([43])
وبهذا لا يبقى حل لمن يريد أن يسلم من التكفير السلفي سوى أن يقع في التجسيم والتشبيه بكل ألوانه وأنواعه، وإلا فلن يرحمه سيف التكفير السلفي لو توقف ولو عند مفردات من مفردات عقائدهم التجسيمية.
وبناء على هذا فإن السلفية أنفسهم يكفر بعضهم بعضا بسبب مواقفهم من بعض ما ورد في بعض الأحاديث.. ومن ذلك الموقف من المسألة التي أولاها السلفية اهتماما كبيرا، والتي عنونوها بـ [إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش]
فالسلفية المثبتون لهذا يكفرون من يخالف ذلك، باعتبار ثبوت هذا النوع من القرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل متقدميهم الذين يحتجون بهم في العادة على مخالفيهم([44]) ومنهم أحمد بن حنبل، وهارون بن معروف، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الوهاب الوراق، وأبو داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المروذي وأبو بكر الخلال،، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر الآجري، وأبو عبد الله ابن بطة، وغيرهم كثير.
بل قال إبراهيم الأصبهاني في الحديث: (هذا الحديث صحيح ثبت، حدث به العلماء منذ ستين ومائة سنة)
وقال أبو بكر المروذي: قال أبو بكر بن حماد المقرئ: (من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت فهو متهم على الإسلام ! فكيف من طعن فيها؟!)
و قال أبو بكر بن صدقة: (ما حكمه عندي إلا القتل)
وقال أبو بكر بن أبي طالب: (من رده فقد رد على الله عز وجل، ومن كذب بفضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر بالله العظيم).
وقال محمد بن إسماعيل السلمي: (من توهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل ما قال مجاهد فهو كافر بالله العظيم)
وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: (لا علمت أحدا رد حديث مجاهد يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على العرش)
وقال أبو قلابة: (لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية)
وقال الحسن بن الفضل: (من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال ما أدركنا أحدا يرده إلا من في قلبه بلية، يهجر ولا يكلم)
وقال ابن بطة: سمعت أخي القاسم – نضر الله وجهه – يقول: (لم يكن البربهاري يجلس مجلسا إلا ويذكر فيه أن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش).
و قال محمد بن إسماعيل السلمي: (كل من ظن أو توهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاهد فهو عندنا جهمي، وإن هذه المصيبة على أهل الإسلام أن يذكر أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدموا عليه بأجمعهم !)
بل إن المتأخرين أيضا ممن لا يمارسون التقية قالوا بذلك، من أمثال الشيخ ابن فوزان فقد قال في شرحه على النونية عن أثر مجاهد: (هذا حديث صحيح وإن كان يشوش على ضعاف الإدراك فلا عبرة بهم لأنه لا يمكن أن يقال هذا الكلام من جهة الاجتهاد أو الرأي بل له حكم الرفع)([45])
وبذلك يقع الكثير من أعلام السلفية المعاصرين في الفخ الذي نصبوه للأمة، وكفروها على أساسه، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
ومن أول هؤلاء الألباني الذي أنكر على الذهبي إيراده لخبر مجاهد في [مختصر العلو]، فقال: (لو أن المؤلف رحمه الله وقف عند ما ذكرنا لأحسن، ولكنه لم يقنع بذلك، بل سود أكثر من صفحة كبيرة في نقل أقوال من أفتى بالتسليم بأثر مجاهد في تفسير قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: يجلسه أو يقعده على العرش. بل قال بعضهم: أنا منكر على كل من رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوء متهم.. بل ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: هذا تلقته العلماء بقبول إلى غير ذلك من الأقوال التي تراها في الأصل ولا حاجة بنا إلى استيعابها في هذه المقدمة. وذكر في مختصره المسمى بـ [الذهبية] أسماء جمع آخرين من المحدثين سلموا بهذا الأثر ولم يتعقبهم بشيء هناك)([46])
ومنهم إمام التجريح في هذا العصر ربيع بن هادي المدخلي، الذي قال في شرحه على شرح السنة للبربهاري: (لايصح هذا من كلام مجاهد وهو لايثبت وليس من كلام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. أما قول مجاهد غفر الله له فممكن أن يأخذه من الإسرائليات)([47])
وردا على أمثال هذه المقولات المعاصرة ألف بعض السلفية رسالة في رمي أصحابه الذين أنكروا هذا بالتجهم، وقد سمى رسالته (الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد)([48])، وقد قدم لها بقول محمد بن إسماعيل السلمي: (لولا أن أبا بكر المروذي رحمه الله اجتهد في هذا –أي في الرد على من أنكر أثر مجاهد- لخفت أن ينزل بنا وبمن يقصر عن هذا الضال المضل عقوبة، فإنه من شر الجهمية ما يبالي ما تكلم به)([49])
بناء على أن أهم المدارس العقدية الموجودة في الواقع الإسلامي الحالي، وفي أكثر فترات التاريخ هي: الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، فسنتحدث عن موقف السلفية منهم هنا، أما ما عداهم من المدارس كالشيعة والإباضية والصوفية، فقد عقدنا فصلا خاصا بكل واحد منها، باعتبار الخلاف بينها وبين السلفية لا يقتصر على العقائد.
تعتبر مدرسة الأشاعرة من أكثر المدارس الإسلامية أتباعا، ذلك أن أكثر العلماء المتأخرين من المالكية والشافعية والحنابلة والصوفية وغيرهم قد اختاروا منهجهم العقدي، فقرروه في مدارسهم وزواياهم، بالإضافة إلى العوامل السياسية الكثيرة التي ساعدت على ذلك.
وهذا ما جعل السلفية في حرج كبير من أمرهم، لأنهم إن صرحوا بتكفيرهم، فسيضر ذلك بسمعتهم، ويجعل كل الأوصاف التي رموا بها من يسمونهم الخوارج تنطبق عليهم بالدرجة الأولى، فلذلك استعملوا أمرين: التكفير الخفي، والتكفير الصريح.
وقد مارسه أصحاب التقية من السلفية سواء كانوا من الذين يجمعون بين السلفية والسياسة من أمثال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وغيره، أو من الذين وكلت لهم بعض المناصب الحساسة في الدولة والتي تتطلب بعض الحكمة والمرونة، كالإفتاء وغيره، أو من الذين عاشوا في مجتمعات ممتلئة بالأشاعرة، ولم يمكنهم التصريح بكفرهم، فعدلوا إلى التلميح، مثل ابن تيمية.
وهؤلاء يستعملون في التكفير التلميح لا التصريح، أو ذكر المكفرات، دون ذكر انطباقها على من يكفرونهم.
ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا سابقا عن ابن باز من اعتباره عدم القول بالجهة والمكان كفر، وأن من قال ذلك كافر، لكنه عندما سئل عن الأشاعرة، ذكر أنهم من المسلمين، مع العلم أن مقولته بتكفير من ينكر الجهة تنطبق عليهم كما تنطبق على الجهمية والمعتزلة والماتريدية وغيرهم.
ومن أمثلة ذلك فتواه المتعلقة بعبد الله الحبشي الأشعري، فقد جاء فيها: (وأفيدك أن هذه الطائفة معروفة لدينا فهي طائفة ضالة ورئيسهم المدعو عبد الله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الاستماع لهم أو قبول ما يقولون، ولا شك أن من أنكر أن الله في السماء فهو جهمي ضال كافر مكذب لقول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ})([50])
وهذا تصريح ليس بعده تصريح في تكفير ابن باز للأشاعرة، أولا لأن عبد الله الحبشي منهم، وثانيا، لأنه كفره بسبب إنكاره للجهة والمكان، وهو قول الأشاعرة.
وهكذا قال الفوزان الذي يتعلق به من يمارس التقية من السلفية، فقد قال: (وهذا الذي ينفي كون الله في السماء يكذب القرآن ويكذب السنة ويكذب إجماع المسلمين فإن كان عالما بذلك، فإنه يكفر بذلك، أما إذا كان جاهلا فإنه يبين له فإن أصر بعد البيان فإنه كافر والعياذ بالله)([51])
بل هكذا أفتت اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية، فقد جاء في بعض فتاواها: (من قال: لا نقول إن الله فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال فهو بهذا مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة من أهل العلم والإيمان فيجب أن يُبين له الحق فإن أصر فهو كافر مرتد عن الإسلام لا تصح الصلاة خلفه)([52])
ومن أمثلة ذلك أيضا ترديدهم لكون الأشاعرة يقولون بخلق القرآن مع علمهم أن كتبهم السلفية لا ترحم أبدا من يقول بذلك.
ومن ذلك أن الشيخ العثيمين عندما تحدث عن الفرق بين الأشاعرة والمعتزلة في صفة الكلام، قال: (وقالت الأشعرية الذين تذبذبوا بين أهل السنة والمعتزلة قالوا: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم في نفسه، وما يُسمع فإنه مخلوق خلقه الله تعالى ليعبر عما في نفسه. فما الفرق إذن بين المعتزلة والأشعرية؟ الفرق: أن المعتزلة يقولون: لا ننسب الكلام إليه وصفا، بل فعلا وخلقا. والأشاعرة يقولون: ننسب الكلام إليه وصفا لا باعتبار أنه شيء مسموع، وأنه بحروف، بل باعتبار أنه شيء قائم بنفسه، وما يسمع أو يكتب فهو مخلوق؛ فعلى هذا يتفق الأشاعرة والمعتزلة في أن ما يُسمع أو يكتب مخلوق، فالأشاعرة يقولون: القرآن مخلوق، والمعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: إنه كلامه حقيقة، كما أن السموات خلقه حقيقة، وقالت الأشاعرة: ليس هو كلام الله تعالى حقيقة، بل هو عبارة عن كلام الله!!، فصار الأشاعرة من هذا الوجه أبعد عن الحق من المعتزلة، وكلتا الطائفتين ظالم، لأن الكلام ليس شيئا يقوم بنفسه، والكلام صفة المتكلم، فإذا كان الكلام صفة المتكلم، كان كلام الله صفة، وصفات الله تعالى غير مخلوقة، إذ إن الصفات تابعة للذات، فكما أن ذات الرب عز وجل غير مخلوقة، فكذلك صفاته غير مخلوقة، وهذا دليل عقلي واضح)([53])
وهكذا قال الشيخ محمد أمان الجامي: (ما الفرق إذن بين الأشاعرة وبين المعتزلة في صفة الكلام؟ خلاف لفظي غير حقيقي كلهم يتفقون على أن هذا القرآن الذي نقرأه ونحفظه ونكتبه مخلوق وليس بكلام الله، تتفق الأشاعرة مع المعتزلة على هذا بل موقف الأشاعرة أخطر لأن موقف المعتزلة واضح)([54])
وهكذا نجد ابن تيمية ـ الذي يسوق السلفية بعض كلماته في عدم التكفير ـ يملح في كثير من كتبه إلى تكفير الأشاعرة، ومن ذلك قوله في: (كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا اذا سعى الى الجمعة من قطعية الكرج الى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات)([55])
وهو يشير بهذا إلى أن الباقلاني ـ وهو إمام من أئمة الأشاعرة الكبار ـ يقول بخلق القرآن.. وهو ينقل مع هذا القول ما يدعيه من إجماعات في تكفير من يقول بخلق القرآن.
وهكذا نراه في [مجموع الفتاوى] يقول: (فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل: قد قلت فى ذلك المجلس للشيخ تقى الدين أنه من قال إن حرفا من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مرارا، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضبا شديدا ورفع صوته، وقال هذا يكفر أصحابنا المتكلمين الأشعرية الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة مثل امام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا)([56])
وهكذا نراه في مسألة الرؤية، والتي اتفق السلفية على تكفير جاحدها، فقد قال ابن تيمية: (أئمة أصحاب الأشعري لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها الجهمية وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية)([57])
وهكذا نراه فيما يسمونه تعطيل الصفات يقول عنهم ببذاءته المعهودة: (.. ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصراً نافذاً وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء علم قطعاً أنهم يلحدون فى أسمائه وآياته وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله. ولهذا كانوا يقولون إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة والأشعرية مخانيث المعتزلة. وكان يحيى بن عمار يقول المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية. وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعرى فى آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب إلى الاشعرى بدعة. لا سيما وأنه بذلك يوهم حسناً بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر)([58])
والكتاب الذي يشير إليه طبعا، وهو [الإبانة] لا يقول به أحد من الأشاعرة على مدار التاريخ، لأنه كتاب سلفي محض، لا يختلف عن سائر كتبهم التجسيمية، ولكنهم يتلاعبون بالألفاظ، ليوهموا البسطاء أن هناك أشاعرة مثبتة وأشاعرة معطلة.
وهكذا نرى ابن القيم يصرح بما لم يتجرأ ابن تيمية على التصريح به، فيقول عن الأشاعرة([59]):
ليسوا مخانيث الوجود فلا إلى | الكفران ينحازوا ولا الإيمان |
ويقول بلغة تكفيرية بذيئة([60]):
أهون بذا الطاغوت لا عز اسمه كم من أسير بل جريح بل قتيل وترى الجبان يكاد يخلع قلبه وترى المخنث حين يقرع سمعه ويظل منكوحاً لكل معطـــــل |
طاغوت ذي
التعطيل والكفران تحت ذا الطاغوت في الأزمان من لفظه تبا لكل جبان تبدو عليه شمائل النسوان ولكل زنديق أخــــي كــــفران |
بل يعتبر أن هناك طائفتان وحيدتان في الأمة في باب الصفات: أحدهما أهل الإثبات، وهم أهل الحديث وحدهم، والثانية من عداهم، وهم الذين كنى عنهم بالجهمية، والمراد به كل من لم يوافق السلفية في التجسيم، فيقول: (..بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين عسكر الكفر وعسكر الإسلام)([61])
وقال في النونية مبينا اتفاق الأشاعرة مع المعتزلة في الرؤية:
ولذاك قال محقـق منكم لأهـــل الاعتزال مـــقالة بأمان
ما بيننا خُلف وبينكم لدى التحـقيق في معنىً فيا إخواني
وقال ـ وهو يتحدث عن الأشاعرة ـ: (فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل)([62])
وهكذا يقول أبو محمد عبد الله بن محمد القحطاني الأندلسي (387هـ) في نونيته التي لا زال السلفية يحفظونها، ويرددون ما فيها، ومنها هذه الأبيات التكفيرية([63]):
والآن أهجو الأشعري وحزبه عطلتم السبع السموات العلا لأقطعن بمعولي أعراضكم ولأكتبن إلى البلاد بسبكم يا أشعرية يا أسافلة الورى إني لأبغضكم وأبغض حزبكم لو كنت أعمى المقلتين لسرني قد عشت مسروراً ومت مخفراً لم أدخر عملاً لربي صالحـــــــاً |
وأذيع ما
كتموا من البهتان والعرشَ أخليتم من الرحمن ما دام يصحب مهجتي جثماني فيسير سير البزل بالركبان يا عمي يا صم بلا آذان بغضاً أقل قليله أضغاني كيلا يرى إنسانكم إنساني ولقيت ربي سرني ورعاني لكن بإسخاطي لكم أرضــاني |
وهكذا قال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ)، وهو يلمح إلى الأشاعرة: (وهذا حال هؤلاء القوم لا محالة فهم زنادقة بغير شك، فإنه لا شك في أنهم يظهرون تعظيم المصاحف إيهاما أن فيها القرآن، ويعتقدون في الباطن أنه ليس فيها إلا الورق والمداد، ويظهرون تعظيم القرآن ويجتمعون لقراءته في المحافل والأعرية، ويعتقدون أنه من تأليف جبريل وعبارته، ويظهرون أن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت)([64])
ومثل هؤلاء جميعا الشيخ عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجزيّ (المتوفى: 444هـ) الذي ألف رسالة في تكفير من أنكر الحرف والصوت، ويقصد بهم الأشاعرة بالدرجة الأولى، فقد قال ناقلا لقولهم في المسألة: (وقال أبو محمّد بن كلاب ومن وافقه، والأشعري وغيرهم([65]): (القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه كافر إلا أن الله لا يتكلم بالعربية، ولا بغيرها من اللغات ولا يدخل كلامه النظم، والتأليف، والتعاقب، ولا يكون حرفاً ولا صوتاً)([66])
ثم عقب عليه بقوله: (ومنكر القرآن العربي وأنه كلام الله كافر بإجماع الفقهاء ومثبت قرآن لا أوّل له ولا آخر كافر بإجماعهم، ومدعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي عند العرب)([67])
وهو بهذا ـ كسائر السلفية ـ يكفرون كل من يقول بالكلام النفسي، لأن من مقتضياته أن الله تعالى لم يتكلم بالحروف والأصوات التي ننطق بها عند قراءتنا للقرآن الكريم، وهذا هو قول الأشاعرة كلهم متقدمهم ومتأخرهم.
وهكذا قال بعده الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي (المتوفى: 481هـ) في كتابه في [ذم الكلام وأهله]، وهو كتاب مشحون بتكفير الأشاعرة، وقد نقل ابن تيمية الكثير منه مستحسنا له، ومن ذلك قوله في [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية]: (وقال شيخ الاسلام أبو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد بابا في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال: باب في ذكر كلام الأشعري: (ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم الا على التعطيل البحت، وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم، والفلك دوار والسماء خالية، وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق.. وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام، ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم يقولون ليس هو في مكان، ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف، وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد النفس وأريد به التفسير، وهذا صوت القاري إما يرى حسن وغير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازا به حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب، فراوغوا، فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا غير مخلوق، ومن قال مخلوق كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات)([68])
وقد أقر ابن تيمية كلام الهروي، وأن الأشاعرة جهمية في باب صفة الكلام، وأنهم بذلك وقعوا في هذه البدعة المكفرة بإجماعهم.
وقد ذكر الشيخ الهروي سلفه في هذا، فقال: (ورأيت يحيى بن عمار ما لا أحصي من مرة على منبره يكفرهم ويلعنهم، ويشهد على أبي الحسن الأشعري بالزندقة، وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا)([69])
وإلى هذا أيضا ذهب أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي (المتوفى: 418هـ) وهو من مشايخهم الكبار المعتمدين، فقد قال في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]: (سياق ما دل من الآيات من كتاب الله تعالى وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن يتحدى به، وأن يدعو الناس إليه، وأنه القرآن على الحقيقة. متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن، وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول ومربوب، بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلما، ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذاهب السنة والجماعة)([70])
ثم عقد فصلا آخر خصصه للأشاعرة، فقال: (سياق ما روي في تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق)([71])
ثم ذكر الأئمة الذين ذهبوا إلى هذا المذهب، فقال: (روي ذلك عن الأئمة. عن محمد بن إدريس الشافعي، وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وسويد بن سعيد، وأبي همام الوليد بن شجاع، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، وهارون بن موسى الفروي، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، والحسن بن الصباح البزار، وهارون بن عبد الله الحمال، وعبد الوهاب بن الحكم الوراق، ومحمد بن منصور الطوسي، وإسحاق بن إبراهيم البغوي، وأبي نشيط محمد بن هارون، وعباس بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن أبي الثلج، وسليمان بن توبة النهرواني، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وأبي يونس محمد بن أحمد بن يزيد الجمحي والحسن بن إبراهيم البياضي، ومحمد بن إسحاق بن يزيد أبي عبد الله الصيني..)([72]) وغيرهم كثير.
وهكذا نجد كبار أئمة السلفية من المتقدمين والمتأخرين يصرحون بتكفير الأشاعرة بطرق لا تخفى على أي عاقل، لكنهم مع ذلك يظلون يجادلون، لا بالإنكار على أئمتهم الذين اعتبروا أمثال تلك المقولات مكفرة، ولكن بنفي التكفير عنهم.
ولست أدري أي منطق يعتمدون عليه في ذلك: هل المنطق الذي يقول: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان.. وهو المنطق الذي اتفقت البشرية جميعا عليه، وقياسا عليه: فإن كل من قال ـ بحسب الرؤية السلفية ـ بأن الحرف في الصوت والقرآن مخلوق كافر.. والأشاعرة قالوا بهذا.. إذن هم كفار.
لكنهم يأبون هذا من باب الخداع والحيلة.. لا من باب الصدق والحقيقة، ولهذا نحتاج إلى الحديث عن أهل الجرأة فيهم، والذين لم يكتفوا بالتلميح، وعدلوا إلى التصريح.
بناء على تلك المقولات والفتاوى الكثيرة التي يزدحم بها التراث السلفي، والتي لا يملك أي سلفي صادق إلا أن يذعن لها، لأنه إن لم يذعن لها، فسيقع في تكفير سلفه الصالح له، ظهرت الكثير من الرسائل والكتب التي لا تكتفي بالتكفير الخفي، بل تضم إليه التكفير الصريح.
ومن أوائل هؤلاء المصرحين أئمة الدعوة النجدية من أبناء وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والذين يعتبرهم السلفية المعاصرون من كبار مراجعهم الفكرية بعد سلفهم الأول، فقد ورد في [مجموعة الرسائل والمسائل النجدية] في عد رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (1225-1293هـ) وهو من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذه الرسالة [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]
وقد قدموا لها بهذا التقديم: (وله أيضا –يقصد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن – رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه -سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه)([73])
وهذه مقتطفات من هذه الرسالة من هذا المرجع الكبير من مراجع السلفية: (.. بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت، وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام، ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة)([74])
ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد الشيخ محمد عبد الوهاب الذي كفر الأشاعرة صراحة، فقال: (وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد؛ فلقد أعظموا الفرية على الله، وخالفوا أهل الحق من السلف والأئمة وأتباعهم؛ وخالفوا من ينتسبون إليه، فإن أبا الحسن الأشعري، صرح في كتابه الإبانة، والمقالات، بإثبات الصفات؛ فهذه الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سبيل الله، فجحدوا توحيد الله في الإلهية، وأجازوا الشرك الذي لا يغفره الله، فجوزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل)([75])
ومنهم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الملقب بـ [أبابطين] (توفي 1282 هـ)، وقد تولي عدة مناصب حساسة في السعودية في أطوارها المختلفة، ففي ولاية عبد الله بن سعود صار قضيا على عمان، ثم لما جاء عهد الحكومة السعودية الثانية صار قاضيا على مقاطعة الوشم، وقضاء سدير.. وهذا يبين نوع القضاة الذين يختارهم آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
فعند مطالعة رسالة هذا الشيخ القاضي الذي أولاه الوهابيون كل تلك الثقة نرى شخصية ممتلئة بالحقد والتكفير لكل المسلمين، بمن فيهم الأشاعرة، ومن أمثلة ذلك الفصل الذي عنونه بـ [تقارب الأشعرية من المعتزلة والجهمية في بعض الصفات]، فمما جاء فيه قوله: (ومذهب السلف قاطبة: أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله -تعالى- تكلم بالقرآن، حروفه ومعانيه، وأن الله -سبحانه وتعالى- يتكلم بصوت يسمعه من يشاء. والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه ويسمون من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون صفة العلو، والاستواء، كما أخبر الله -سبحانه- بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل. وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي هذه الصفة، لكن الجهمية يقولون: أنه -سبحانه وتعالى- في كل مكان، ويسمون الحلولية، والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان قبل أن يخلق المكان. والأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: إن معنى الرؤية إنما هو زيادة علم، يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا. فهم بذلك نافون للرؤية التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح. قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا عن مذهب الأشاعرة من نفي صفات الله -سبحانه وتعالى- غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف، ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب -سبحانه وتعالى- معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم، إذا عرفت ذلك عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه أدخلهم في أهل السنة مدارة لهم لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم)([76])
وهذا تصرح من هذا الشيخ السلفي بأن التقية هي التي دعت بعض السلفيين إلى التساهل مع الأشاعرة، لأنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة والجهمة، وما داموا قد كفروهما، فلم لا يكفرون من يقول بنفس قولهما.
وبناء على هذا نجد الكثير من الرسائل والكتب المعاصرة، والتي تنتشر بكثرة على النت، وفي المواقع المختلفة، وهي تصرح جميعا بأن الأشاعرة جهمية معطلة كفار، وتستند في ذلك لكل التراث السلفي المشحون بتكفير من يقول بقولهم.
وسأذكر هنا من باب المثال نموذجين عن تكفير الأشاعرة من خلال الكتابات السلفية المعاصرة:
النموذج الأول:
وهو لرسالة بعنوان [تكفير الأشاعرة] لصاحبها الشيخ خالد بن علي المرضي الغامدي، وهو كما في ترجمته قد تتلمذ على كبار مشايخ السلفية المعاصرين، كالشيخ (عبد العزيز بن باز) الذي أخذ عنه الحديث والتوحيد والفقه والمصطلح، والشيخ (عبد الله بن حبرين) الذي درس على يديه الفقه والعقيدة والنحو، والشيخ (محمد بن عثيمين) ودرس على يديه الفقه والنحو والعقيدة والحديث، بالإضافة لتتلمذه على الشيخ (عبد الله بن قعود) والشيخ (محمود التو يجري) وغيرهم.
وله كتابات كثيرة تمتلئ بالتكفير، وتحيي سنة سلفه الصالح في ذلك، ومنها (التوحيد وحقيقة الشرك) و(شرح نواقض الإسلام) و(شرح شروط لا اله إلا الله) و(الميثاق) و(نقض عقائد الأشاعرة) و(قواعد في البراء والولاء)
وقد قدم لرسالته هذه بقوله: (هذا كتاب في تكفير الأشاعرة الجهمية، وبيان قول أهل العلم فيهم، وتحقيق إجماع السلف على كفرهم، والرد على من زعم خلاف ذلك، كما وفيه بيان أن من أنكر صفات الله العقلية التي لا تقوم ربوبيته ولا تصح ألوهيته إلا بها كالعلم والقدرة والعلو والكلام والسمع والبصر ونحوها كافر لا يعذر بجهل أو تأويل، وعليه فمن علم منه عبادة غير الله كدعاء الأموات والحكم بغير ما أنزل الله أو إنكار ربوبية الله أو صفاته التي لا يكون الله تعالى ربا إلا بها والتي هي من لوازم ألوهيته وربوبيته فإنه يحكم بكفره ولا يعذر بجهله وتأوله ومن مات على هذه العقيدة فهو مشرك لا يترحم عليه)([77])
ثم صرح بأن البحث العلمي في التراث السلفي هو الذي دفعه إلى هذا القول دفعا، فقال: (هذا وإني كنت سابقاً لا أقول بتكفير الأشاعرة والماتريدية كما في كتابي نقض عقائد الأشاعرة تبعا لما رأيته من الكلام المنسوب للإمام ابن تيمية، وكنت أقول قديماً أن العذر بالجهل والتأويل في الشرك وإنكار الصفات خالف فيه بعض أهل السنة وكنت أخطئهم وذلك على أن المسألة خلافية وليس الأمر كذلك، فلما تأملت في الأدلة وكلام السلف رجعت من هذا القول وتبرأت منه ولا أحل أحدا أن ينقله عني أو ينسبه لي)([78])
ثم ذكر قدوته وسلفه في ذلك، فقال: (ولي في ذلك أسوة وهو الإمام أحمد حين قال عن الجهمية: (كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القران)([79]).. وأدعو من يخالف في المسألة إلى التبصر في الأدلة والاقتداء بمنهج السلف في تكفيرهم وعد إعذارهم، قال البخاري: (وإني لأستجهل من لا يكفر الجهمية إلا من لا يعرف كفرهم) وقال أحمد: (الجهمية كفار) وقال البربهاري: (الجهمي كافر ليس من أهل القبلة) وقال الدارمي: (وأي فرق بين الجهمية وبين المشركين حتى نجبن عن قتلهم وإكفارهم)([80])
ثم ذكر النتيجية التي وصل إليها، فقال: (فالحق الذي لا مرية فيه أن الأشاعرة جهمية، والجهمية كفار غير مسلمين، وأن المشرك الجاهل بالتوحيد منكر صفات الربوبية والألوهية لا يسمى مسلما ولو كان جاهلا او متأولاً، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة، ومن خالف في هذه المسألة فلا اعتبار بخلافه لأنه يعد ناقضا للإجماع، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)([81])
وبناء على أهمية ما ذكره في هذه الرسالة، ودلالتها على أنه يستحيل على أي سلفي صادق في سلفيته أن يتوقف عن التكفير، أو يتوقف فيه، فسأذكر بعض ما ذكره هنا للدلالة على أن التراث السلفي أعظم خزان للتكفير.
فقد مهد بعد المقدمة بتمهيد عنونه بـ [تمهيد بوجوب تكفير الأشعرية]، قال فيه: (اعلم أن مدار الرسالة يقف على أمرين: الأول: أن الأشاعرة وقعوا في مكفرات عديدة لم يختلف أحد من أهل السنة في تكفير فاعلها وقائلها ومعتقدها، وسنأتي بها على وجه التفصيل مع كلام أهل العلم.. الثاني: وجوب تكفير من كفره الله من الواقعين في فعل ينقض إيمانهم، ومنهم الجهمية وأتباعهم الأشاعرة الذين أجمع السلف على وجوب تكفيرهم بأعيانهم وكفروا من لم يكفرهم)([82])
فهاتان مقدمتان منطقيتان، وكلاهما مما يمتلئ التراث السلفي بالدلالة عليهما.. وقد ساق الكاتب الكثير من النصوص الدالة على وجوب التكفير، وحرمة التوقف عنه أو فيه، ومما نقله من ذلك قول البربهاري فيمن وقع في نواقض الإسلام كإنكار علو الله: (وإذا فعل شيئاً من ذلك وجب عليك أن تخرجه من الإسلام)([83])
ونقل عن جماعة من العلماء من أصحاب الدعوة النجدية: (..وأجاب الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم: ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية والقبوريين أو يشك في كفرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذكروا نحواً مما تقدم من كلام الشيخ عبد اللطيف، ثم قالوا: وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم من شم رائحة الإيمان؛ وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات قوليها وفعليها، فيما يخفى دليله ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النّزاع بين الأمة.)([84])
ونقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قوله: (لو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع إدعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام… وهل قال واحد من العلماء في هذه المكفرات وأسباب الردة إن هؤلاء يكفر أنواعهم ولا يكفر أعيانهم)([85])
ونقل عن عبدالله با بطين قوله: (وما سألت عنه من حكم تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟ فإن من ارتكب شيئا من هذا النوع فهذا لا شك في كفره ولا بأس بمن تحققت منه أشياء من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل)([86])
ثم نقل جملة من (كلام أهل العلم في كفر الممتنع عن تكفير من وقع في الكفر والردة)، ومنها قول ابن بطة: (من قال كلام الله مخلوق فهو كافر حلال الدم ومن شك في كفره ووقف في تكفيره فهو كافر)([87])
ومنها قول الإمام الملطي (توفي 377هـ) في الشاك في كفر الكافر: (وجميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم: أن من شك في كافر فهو كافر، لأن الشاك في الكفر لا إيمان له، لأنه لا يعرف كفرا من إيمان)([88])
ومنها قول بعض أئمة الدعوة النجدية: (فمن لم يكفر المشركين… فهو كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويحب الإسلام فإن الذي لا يكفر المشركين غير مصدق بالقرآن)([89])
ومنها قول الشيخ سليمان بن عبد الله: (من كان شاكا في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكافر فهو كافر)([90])
وبناء على هذه النقول وغيرها قال: (وبعد هذا الكلام ستعلم الفائدة من دعوتنا لتكفير الأشاعرة وأهميته، وأنه من الدين والكفر بالطاغوت، وتارك التكفير بالكلية امتناعا يكفر، لأن الامتناع عن تكفير المشركين يعد أحد نواقض الإسلام، والسلف كفروا الجهمية وأصحاب عقيدة نفاة صفات الكمال والعلو وكفروا من لم يكفر أصحابها، فتنبه فإني لك ناصح والأمر جد خطير، كما أن في تكفير العلماء للواقع في الكفر تحذيرا للمرتدين لعلهم يرجعون، وقد بينت هذه المسألة في شرح نواقض الإسلام)([91])
ثم عقد فصولا يعدد فيها وجوه كون الأشاعرة فرقة من الجهمية، مثلهم مثل (المعتزلة والمريسية والكلابية والماتريدية والإباضية الخوارج والزيدية وغيرهم.. وتكفير السلف يشملهم جميعا لأن جميعهم منكرة للعلو)([92])
ومن تلك الوجوه: (قولهم بقول الجهم بن صفوان في الصفات والقدر والإيمان، واتباعهم لمذهبه فهم اليوم على معتقد الجهمية حذو القذة.. بل إن الأشعرية زادوا في الغلو، فأنكروا كثيرا من الصفات التي كان الأشعري يثبتها، وهذا من غير القول برجوع الأشعري عن مذهبه إن صح مع بقائهم على منهج الجهمية بعده، فكيف ينسبون له وقد تاب من عقيدته إن ثبت رجوعه. هذا واعلم أن كثيرا من أهل العلم لا يسمون الأشاعرة إلا بالجهمية، كالهروي وابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية وابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش في غزو الجهمية والصواعق المرسلة على الجهمية وكذلك كثير من أئمة الدعوة وقصدوا بالجهمية الأشاعرة)([93])
ومن تلك الوجوه (إجماع الأمة على تكفير الجهمية)، وبما أن الأشاعرة جهمية أو فرق من فرق الجهمية كما ينص كل أعلام السلف، فإن هذا الإجماع يشملهم، قال الغامدي: (أجمع أئمة السلف على كفر الجهمية وصرحوا بتكفير أعيانهم وعدم صحة الصلاة خلفهم ولا أكل ذبائحهم ولا مناكحتهم)
ثم أخذ يعدد الأقوال التي كفرت الجهمية بها، والتي شاركم فيها الأشاعرة، فقال: (اعلم أن الأقوال التي من أجلها كفر السلف الجهمية تقول بها الأشاعرة، ومنها: الأول: إنكار علو الله تعالى وهو أشنعها: والسلف أجمعوا على تكفير من أنكر علو الله تعالى، والأشاعرة تقول به تبعاً للجهمية.. قال ابن تيمية عن علو الله: (ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالإضطرار من الدين)([94]).. بل لابد أن تعلم أن جميع الأشاعرة صرحوا بما لم يصرح به الجهمية، فالجهمية لم يتجرؤوا على إظهار إنكار العلو، بينما الأشاعرة يجاهرون بإنكاره)([95])
ثم نقل عن ابن تيمية قوله: (الجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وإنما كان العلماء يعرفون هذا منهم بالاستدلال.. وهذا كما قال حماد بن زيد: (وما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله)، وقال عبدالرحمن بن مهدي: (ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء) ومثل هذا كثير في كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك: أن الله ليس على العرش، ويجعلون هذا منتهى قولهم، وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق)([96])
وعلق عليه بقوله: (فلا تعجب بعد ذلك إن قلت لك إن ما لم يتجرأ على إظهاره الجهمية وهو نفي العلو تجاهر الأشاعرة بإظهاره فأوجبوا إنكار العلو بل وكفروا من يثبت لله العلو لأن هذا عندهم من التجسيم)([97])
ثم نقل بعض أقوال المتقدمين منهم، وعقب عليها بقوله: (ومن عرف عنه هذا القول كالنووي وابن حجر والهيتمي والقرطبي وغيرهم من الأشاعرة فلا يجوز أن يترحم عليه إلا أن يثبت رجوعه، بل يجب أن يحكم بكفره ونفي الإسلام عنه إن مات على هذه العقيدة الجهمية الكافرة التي لم يختلف السلف على كفر أصحابها)([98])
وبهذا فإن تطبيق أقوال سلف السلفية على أكثر علماء الأمة يجعلهم جهمية وكفارا لا يستثنى أحد منهم حتى لو كان في مرتبة النووي وابن حجر وغيرهما..
هذا هو النموذج الأول، وهو نموذج صادق في التعامل مع التراث السلفي لأنه من الغريب أن تقول فرقتان هما الجهمية والأشاعرة قولا واحدا، ثم تكفر إحداهما بسببه تكفيرا غليظا، ثم تعذر الأخرى.. لأن المنطق السليم ينص إما على اعتبار الجميع معذورين، أو اعتبارهم جميعا مدانين.
النموذج الثاني:
وهو لكتاب بعنوان [تأكيد المسلمات السلفية في نقض الفتوى الجماعية بأن الأشاعرة من الفرقة المرضية]، وهو لعلم سلفي معروف لدى السلفية المعاصرين هو عبد العزيز بن ريس الريس، بالإضافة إلى أنه قدم له وقرظ وأثني عليه من طرف كبار أعلام السلفية المعاصرين من أمثال: الشيخ المحدث أحمد النجمي، والشيخ عبيد الجابري، بالإضافة لمراجعة كل من الشيخ صالح الفوزان والشيخ المحدث عبدالمحسن العباد، والكتاب منتشر على النت بكثرة، وهو يمثل وجهة نظرة سلفية كبيرة.
وهو في أصله رد علمي وبالأدلة الكثيرة على فتوى من بعض أصحاب المنهج التكفيري الخفي من السلفية، والذين رأوا أن المصلحة في الوقت الحالي تستدعي تخفيف الحرب على الأشاعرة، لتفرغهم لمن يسمونهم الروافض.
وأصحاب الفتوى ـ وهم الشيخ عبدالله الغنيمان والشيخ محمد السحيباني والشيخ عبد العزيز القاري ـ ليس لهم شأن كبير لدى السلفية، لا في علمهم، ولا في مكانتهم، ولكنهم مع ذلك لقوا ردود فعل شديدة من أعلام السلفية الكبار، لانحرافهم عن المنهج السلفي الأصيل.
ونص الفتوى التي اجتهد الكاتب في نقضها هي: (الأشاعرة والماتريدية قد خالفوا الصواب حين أولوا بعض صفات الله سبحانه. لكنهم من أهل السنة والجماعة، وليسوا من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين إلا من غلا منهم في التعطيل، ووافق الجهمية فحكمه حكم الجهمية [وهذا ينطبق على كل الأشاعرة، لأنهم جميعا متفقون على نفي الجهة ونفي الحرف والصوت وتعطيل كل ما يذكره السلفية من صفات اليد والوجه والساق وغيرها]([99]) أما سائر الأشاعرة والماتريدية فليسوا كذلك [لأنه لا يوجد أشعري أو ماتريدي بالوصف الذي ذكره] ([100])، وهم معذورون في اجتهادهم وإن أخطأوا الحق. ويجوز التعامل والتعاون معهم على البر والإحسان والتقوى، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية قد تتلمذ على كثير من العلماء الأشاعرة، بل قد قاتل تحت راية أمراء المماليك حكام ذلك الزمان وعامتهم أشاعرة، بل كان القائد المجاهد البطل نور الدين زنكي الشهيد، وكذا صلاح الدين الأيوبي من الأشاعرة كما نص عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وغيرهما كثير من العلماء والقواد والمصلحين، بل إن كثيراً من علماء المسلمين وأئمتهم أشاعرة وماتريدية، كأمثال البيهقي والنووي وابن الصلاح والمزي وابن حجر العسقلاني والعراقي والسخاوي والزيلعي والسيوطي، بل جميع شراح البخاري هم أشاعرة وغيرهم كثير)([101])
وبعد أن أورد الكاتب نص الفتوى بدأ بنقضها، وأول ما فعله لذلك هو تقديمه لتقريظات وتزكيات من هم أوثق وأعلم لدى السلفية من أصحاب الفتوى، وفي مقدمتهم الشيخ المحدث أحمد النجيمي الذي في تقريظه للكتاب: (اطلعت على رسالة كتبها الشيخ عبدالعزيز بن ريس الريس – جزاه الله خيراً، وبارك فيه -؛ رد بها على فتوى كتبها مجموعة من المشائخ زعموا فيها أن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة؛ كبرت كلمة تخرج من أفواههم، والحق الذي لا مرية فيه، أن الأشاعرة، والماتريدية؛ من طوائف أهل البدع، ولا يجوز لأحد أن يقول إنهم من أهل السنة، ومن زعم أن هاتين الطائفتين من أهل السنة والجماعة، فإنه قد أقحم نفسه في خطأ فادح، وخطر فاضح، وسيسأل يوم القيامة عن قيله قبل أن يُفرَج له عن سبيله)([102])
وقد يتصور البعض أن السلفية في هذا النص لم يفعلوا سوى أن أخرجوهم من أهل السنة والجماعة لا من الإسلام، وهذا لا يقوله إلا من لا يعرف السلفية، لأن الإسلام عندهم هو أهل السنة والجماعة، ومن عداها فضالون كافرون..
وقد رفع النجيمي نفسه اللبس عن ذلك حينما قال في تقريظه للكتاب بحماسة وغضب: (كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يحكم العقل في القضايا الإيمانية الثابتة بالكتاب والسنة، فما قبله منها قبل، وما ردّه منها ردَّ، ولذلك فإنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبع صفات، وما عداها فإنه يكون مصيرها التأويل؛ الذي يؤدي إلى التعطيل؛ كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يؤول قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} باستولى، فيكون كأنَّه مستولٍ عليه غيره، ثم استولى عليه بعد ذلك؛ كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول حديث نزول الربِّ في الثلث الأخير من الليل.. فيقول المؤول: ينزل أمره مع أن أمر الله عز وجل هو نازل في كل وقت وحين؛ كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول اليدين بالنعمتين مع أن الله سبحانه وتعالى قد قرن ذلك بما يكون من خصائص اليد، وهو الإنفاق.. كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول حديث (لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء)، وما في معناه؛ يتأول النظر في هذا الحديث بأن النظر هنا مجازٌ عن الرحمة بأنه لا يرحمهم؛ إلى غير ذلك من التأويلات المتعسفة، والتي يحيلون بها النصوص الواردة من الله عزّ وجل في كتابه أو على لسان رسوله مما يتضمن المعاني السامية التي تليق بالله عز وجل يتأولونها بتأويلات باطلة. وإذا فكرنا ما هو الذي أوجب لهم ذلك نجد أنهم زعموا إحالة العقول بأن يوصف الله بتلك الصفات؛ لأنهم جعلوا تأصيلات أهل الكلام هي الأساس، وحكموا بها على النصوص الشرعية؛ التي جاءت في كتاب الله، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تثبت لله عز وجل أسماءً، وصفات تليق بجلاله، فجعل الأشاعرة والماتريدية تلك التأصيلات الكلامية؛ التي هي مأخوذة عن الفلاسفة، وأهل المنطق ممن استغرقوا في علم الكلام، وأمضوا فيه أوقاتهم، وأفنوا فيه أعمارهم)([103])
فقوله كل حين (كيف يكون من أهل السنة والجماعة) نوع من التلبيس على القراء، لأن الصحيح عندهم هو (كيف يكون من المسلمين)، لأن كل ما ذكره من تأويلات هي ما يتفق السلفية جميعا على تكفير من يقول بها، ويسمونه جهميا، إما حقيقة ـ كما هو الحال بالنسبة للسلف الأول ـ أو تقية كما هو الحال بالنسبة للسلف الآخر، لأنه لم يبق أحد يتحدث في مثل هذه المسائل بهذا المنهج إلا الأشاعرة أو إخوانهم من الماتريدية أو المعتزلة أو إخوانهم من الشيعة والإباضية.
وبما أن سند السلفية الأول هو الرجال ومواقفهم، فقد وضع الكاتب فصلا لأعلام السلفية ومواقفهم من الأشاعرة، وأولهم هو رجل السلفية الأول، وعمدتهم الأكبر الإمام أحمد الذي بدع الكلابية الذين يعتبرهم السلفية سلف الأشاعرة الأوائل، كما قال ابن تيمية: (والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة، وقد جمع أبو بكر بن فورك شيخ القشيري كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول ولكن لم يكن كلام أبي عبد الرحمن السلمي قد انتشر بعد فإنه انتشر في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت كتب القاضي أبي بكر بن الباقلانى ونحوه)([104])
وقد أورد عبدالعزيز الريس مقالة أبي بكر بن خزيمة لما قال له أبو علي الثقفي: (ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ فقال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره)([105])
وعلق عليها بقوله: (فكيف لو أدرك من جاء بعدهم من الأشاعرة الذين ازدادوا سوءاً إلى أشاعرة زماننا الذين تميع فيهم هؤلاء المفتون وطار بفتواهم إذاعة ونشراً موقع الإسلام اليوم تحت نظر ورعاية من مشرفه سلمان العودة، فإن الأشاعرة كلما تأخروا زادوا بعداً عن السنة قال ابن تيمية: (فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة)([106])، وقال: (وهذا الكلام في الأصل-أي تقديم العقل على النقل- هو من قول الجهمية المعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة أصحابه وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع بل ما جعله معاضداً له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل)([107])
ثم ذكر بعده الشيخ أبو نصر السجزي (توفي 444 هـ) الذي وصف الأشاعرة بأنهم متكلمون وفرقة محدثة وأنهم أشد ضرراً من المعتزلة فقال:(فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، عُلم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو يناظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي.. ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمى محدثاً بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف له لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علماً، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً، مخالفاً، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا)([108])
ثم قال: (ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء؛ بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري.. وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ببغداد وأبو إسحاق الإسفرائني وأبوبكر بن فورك بخراسان فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة.. وكلّهم أئمّةُ ضَلالة يدعونَ النّاسَ إلى مخالفةِ السّنةِ وتركِ الحديث)([109])
ثم ذكر ما ذكره ابن تيمية والعثيمين وغيرهما من كون الأشاعرة أشد خطرا من المعتزلة فقال: (لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف ولم تُمَوِّه.بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا قوة… فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه)([110])
ومن الأعلام الذين ذكرهم لاعتبار الأشاعرة من أهل البدع والأهواء المكفرة محمد بن أحمد بن خويز منداد، فقد روى عنه ابن عبد البرأنه قال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: (لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء) قال: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها)([111])
ومنهم ابن قدامة الذي نص على أنهم مبتدعة، فقال: (ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها إلا الزنادقة والأشعرية)([112])
ومنهم أبو حامد الإسفرائني، الذي قال عنه ابن تيمية: (قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، قال ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه ـ يعني الأشعرية ـ وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله، وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته)([113])
وقد ذكر ابن تيمية مستحسنا المعاناة الشديدة التي كان يعانيها الباقلاني من طرف الإسفرايني وتلاميذه من السلفية، فقال: (.. قال الشيخ أبو الحسن وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا: كان أبو بكر الباقلانى يخرج إلى الحمام متبرقعاً خوفاً من الشيخ أبي حامد الإسفرايني)([114])
ومن الأعلام الذين ذكرهم، واستند إليهم في تكفير الأشاعرة أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، الذي قال عنه ابن تيمية: (كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب ذم الكلام فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات وله كتاب تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث وربما كان يلعنهم وقد قال له بعض الناس: بحضرة نظام الملك أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي وقام من عنده مغضباً)([115])
وقد نبه الشيخ عبد العزيز الريس إلى أن ما ذكره ابن تيمية في أكثر من موضع من أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة لا يفهم منه ظاهره، فـ (ليس معنى هذا تزكيتهم وأنهم من أهل السنة، بل معناه أنهم خير من الجهمية والمعتزلة على سوئهم الشديد كالقول إن النصارى أقرب إلى الإسلام من اليهود، فليس معنى هذا أن النصارى مسلمون فالله الذي قال: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] قد نص على أن النصارى كفار كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } [المائدة: 73])([116])
ورد كذلك على ما (شاع في هذا الزمن عند كثيرين إدخال الأشاعرة في أهل السنة معتمدين في هذا على كلام لابن تيمية وهو أن لأهل السنة اطلاقين: إطلاقاً عاماً وهو ما يقابل الرافضة، وإطلاقاً خاصاً والمراد بهم أهل الحديث، فعلى الإطلاق الأول تكون الأشاعرة من أهل السنة، وإذا أرادوا تعليل إدخال الأشاعرة في أهل السنة قالوا: هم أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة)([117])
وبين أن من فعل هذا من أصحاب المنهج التكفيري الخفي وقع في خطئين([118]):
الأول: في فهم كلام ابن تيمية فإنه لما ذكره أراد في استعمال عامة الناس، لا في استعمال الشرع، (وكلام العامة لاينبني عليه شرع، وإنما يذكر من باب الإخبار ببغض الناس للرافضة، ثم على فهم هؤلاء لكلام ابن تيمية تكون المعتزلة من أهل السنة)
الثاني: أنه يلزم على تعليلهم إدخال الرافضة في أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة، وقد أورد للدلالة على هذا نصوصا من كلام ابن تيمية يوضح بها مراده، منها قوله: (فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف بين أهل السنة والجماعة العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض، والسنى في اصطلاحهم من لا يكون رافضيا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن وأكثر قدحا في سلف الأمة وأئمتها وطعنا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة)([119])
وقال في موضع آخر: (فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة.وهذا الرافضي ـ يعنى المصنف ـ جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول، وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة، ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة)([120])
وهذا رد قوي من ابن تيمية على الذين ينقلون من كلامه ما يخدم التقية التي يمارسونها، ويقتدون بابن تيمية في ممارستها.
ثم عقد فصلا بعد هذا عنونه بـ [مختصر في معتقد الأشاعرة وسبب إخراجهم من الفرقة الناجية]، بين فيه أن معتقدات الأشاعرة لا تخرج عن معتقدات الجهمية التي اتفق سلف السلفية وخلفهم على تكفيرهم بسببها.
فمن المعتقدات التي اتفق سلف السلفية وخلفهم على تكفير معتقدها ([121])(أنهم لا يثبتون شيئاً من الصفات الفعلية([122])).. ويقصدون بها المجيء والإتيان والنزول والهرولة وغيرها، وكلها مما ذكر سلف السلفية كفر من لا يعتقدها.. ومنها أن (الأشاعرة الذين هم من بعد أبي المعالي الجويني أنكروا علو الله على خلقه بذاته)، وهي أيضا مما لا يخالف أحد من السلفية في تكفير منكرها، بل في تكفير من لا يكفر منكرها.. ومنها أن (مآل قولهم في كلام الله أن القرآن مخلوق كما أفاده أحد أئمة الأشاعرة المتأخرين الرازي).. وهي أيضا من المكفرات الكبرى عند أعلام السلفية جميعا.
وغيرها من المعتقدات الكثيرة التي يكفي الواحد منها في وضعهم مع الجهمية في سلة واحدة، ذلك أنه ـ كما يقول الريس ـ (تخرج الطائفة والفرقة من طائفة أهل السنة إلى أهل البدعة إذا خالفت أهل السنة في أمر كلي ولو واحدا)([123])
وقد نقل عن ابن بطة مما يؤيد هذا، فقد قال: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيغ مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة منذ بعث نبيه الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا. ثم ذكر أمور الاعتقاد)([124])
ثم عقد فصلا في التحذير من المبتدعة وهجرهم واستعمال كل الوسائل لإذيتهم، كما هي عادة كل كتب السلفية العقدية، ومن النصوص التي ذكرها قول أبي عثمان الصابوني: (ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم.. واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. وأنا بفضل الله عز وجل ومنّه متبع لآثارهم مستضيء بأنوارهم، ناصح لإخواني وأصحابي أن لا يزلقوا عن منارهم، ولا يتبعوا غير أقوالهم، ولا يشتغلوا بهذه المحدثات من البدع التي اشتهرت فيما بين المسلمين، والمناكير من المسائل التي ظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه وبدعوه، ولكذبوه وأصابوه بكل سوء ومكروه، ولا يغرّن إخواني حفظهم الله كثرة أهل البدع ووفور عددهم، فإن وفور أهل الباطل وقلة عدد أهل الحق من علامات اقتراب اليوم الحق، فإن ذلك من أمارات اقتراب الساعة، إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل والعلم هو السنة، والجهل هو البدعة)([125])
وقد ذكر هذا بناء على أن أصحاب تلك الفتوى أجازوا التعاون بين السلفيين وغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون بمذهب الأشعري.
وقد ختم كتابه بذكر (عشرة أخطاء شرعية في هذه الفتوى الجماعية)، وهي([126]):
- عدم جعلهم الأشاعرة من الثنتين والسبعين فرقة الضالة مع أن حالهم ما تقدم ذكره، فهذا إما أن يرجع إلى عدم معرفتهم بالأشاعرة والماتريدية أو عدم معرفتهم بتأصيل أهل العلم وضابطهم في إخراج الفرقة المخالفة من الناجية إلى عموم الاثنتين والشبعين فرقة وكلا الاحتمالين قبيح بأحدهم فكيف وهم مجتمعون.
- جوزوا التعاون مع أهل البدع على البر والتقوى، وهذا مخالف لهدي السلف مع أهل البدع، إذ الأصل العداء والبعد عنهم إلا لمصلحة شرعية وهو خلاف الأصل.
- خلطوا وقاسوا قياساً فاسداً وذلك أنهم قاسوا التعاون مع عموم الأشاعرة بالتعاون مع الحاكم وولي الأمر المبتدع كأن يكون أشعرياً، والشريعة فرقت بين ولاة الأمر وعامة الناس، ومعتقد أهل السنة كما في كتب الاعتقاد أن يقاتل ويصلى مع ولاة الأمر ولو كانوا فجاراً مبتدعة، وهذا ما لا يكون مع عامة الناس.
- أنهم جعلوا كثرة وجود الأشاعرة في العلماء دليلاً على أن الأشاعرة من أهل السنة، وهذا خطأ فإن مما يعرفه المبتدئون من طلاب العلم أن فعال وأقوال واعتقاد أهل العلم ليست حجة ما لم يجمعوا على ذلك فكيف جعلوا فعل الكثير حجة، وأنبه إلى أنه ليس معنى كونهم أشاعرة ألا يستفاد من علمهم فلا تعارض بين كونهم أشاعرة والاستفادة من علمهم عند الحاجة كما فصل ذلك علماء أهل السنة.
- جعْلُ المزي أشعرياً خطأ كبير بل هو من أئمة السنة كما يعرف ذلك من طالع كلام أئمة السنة في عصره.
- جعلهم جميع شراح البخاري أشاعرة خطأ فاضح فإن مما يعلمه المبتدئون من طلاب العلم أن من شراح البخاري ابن كثير وابن رجب وهما من علماء السنة.
- القول بأنهم لم يعرفوا من أئمة السلف من أمر بإعادة الصلاة خلف المأمون قصور من قائله فقد روى عبدالله بن أحمد في كتاب السنة أن يحيى بن معين كان يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر عبد الله بن هارون المأمون ما أظهر يعني القرآن مخلوق([127]).
- قولهم: يجب التأدب بآداب السلف حق وها نحن ندعوهم من هذا المنطلق أن يتأدبوا بآداب السلف ويقوموا بواجب الله تجاه الأشاعرة وأن يتراجعوا عن فتواهم علانية.
- حصرُ خطأ الأشاعرة في تأويل بعض الصفات فحسب غلطٌ ظاهر يدل على عدم معرفتهم بحال الأشاعرة مما يبين أن حكمهم فيهم غير مقبول، فلا أدري هل العجب من حكمهم في الأشاعرة أم جهلهم بهم.
- الجزم بأن الأشاعرة كلهم معذورون في اجتهادهم ضرب من الغيب ومقتضاه ألا يكون بينهم من هو مفرط في طلب الحق أو من اجتهد وليس أهلاً لذلك أو معاند وهكذا… وهذا يكذبه الواقع الذي لا يخفى على كل عارف منصف.
تعتبر المدرسة الماتريدية هي المدرسة العقدية الثانية التي تتقاسم مع الأشعرية أكثر بلاد العالم الإسلامي، ذلك أنها تنتشر في كل المناطق التي يتنشر فيها المذهب الحنفي، باعتبار أن أبا منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (توفي 333هـ) كان حنفيا.
وهي تنتشر في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية: كالصين، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان، وتركيا، والكثير من المناطق في سوريا ولبنان ومصر، أي في جميع المناطق التي يوجد فيها الحنفية، أو كان لهم سلطان فيها.
وسبب انتشارهم وكثرهم يعود بالدرجة الأولى إلى المناصرة والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية.. بالإضافة إلى المدارس الماتريدية الكثيرة التي كان لها دور كبير في نشر عقيدة هذه المدرسة، ومن أمثلتها: المدارس الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها؛ حيث لا زال يدرس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة.. بالإضافة إلى كثرة علمائهم، وما تركوه من مصنفات.
وقد قال بعض الباحثين في بيان سبب انتشارها: (وعلى أية حال، فإن الماتريدية بلغت قمة قوتها وذروتها بتدعيم الدولة العثمانية لها وهي بالتحديد سنة (700 – 1300هـ)، إذ كانت دولة حنفية الفروع، ماتريدية العقيدة، ومن تركيا انتشرت العقيدة الماتريدية شرقا وغربا، ويعد الهند من أهم مراكز المذهب الماتريدي، منذ أن حكمها الملوك السامانيون قديما، ثم قوي المذهب الماتريدي في العصر الحديث بعد أن اعتنقها الديوبندية. ولا يزال في الأزهر الشريف تدريس العقيدة الماتريدية وبخاصة تدريس كتاب (شرح العقائد النسفية) للتفتازاني، وهو شرح لكتاب [العقائد النسفية] لنجم الدين عمر النسفي)([128])
ويضم التاريخ الماتريدي الكثير من الأعلام الكبار من أمثال الشيخ أبو اليسر البزدوي (توفي 493هـ)، وأبو المعين النسفي (توفي 508هـ)، ونجم الدين عمر النسفي (توفي 537هـ)، وحافظ الدين عبد الله النسفي (توفي 710هـ)، وأبو محمد نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (توفي 580هـ).. وغيرهم كثير([129]).
ولذلك فإن التكفير السلفي لهذه المدرسة تكفير لكل المسلمين الذين تتلمذوا على يدي أعلامها، أو أخذوا بمعتقداتها.
والسلفية ـ الذين تجرأوا فكفروا الأشاعرة بسبب معتقداتهم ـ لم تنقص جرأتهم في موقفهم من الماتريدية.. ذلك أن كليهما يعتبران من الجهمية عند السلفية.
بل إن موقف السلفية من الماتريدية أشد، ذلك أنهم أقرب إلى المعتزلة، وأكثر استخداما للعقل، والسلفية لا يشككون في كفر المعتزلة وضلالهم، وضلال كل من يقترب منهم.. بل إن الأشاعرة ما حكم عليهم بالضلال إلا بسبب قربهم من المعتزلة، ولذلك فإن درجة كفر الماتريدية ـ عند السلفية ـ أكبر بسبب ذلك القرب.
وقد وضح الشيخ محمد أبو زهرة ـ وهو من أعلام الماتريدية المعاصرين ـ درجة ذلك القرب، فقال: (إن منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أي شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيدون بالنقل ويؤيدونه بالعقل، حتى إنه يكاد الباحث يقرر أن الأشاعرة في خط بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريدية في خط بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الذي تسير فيه هذه الفرق الإسلامية الأربع، والتي لا خلاف بين المسلمين في أنها جميعا من أهل الإيمان، إذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الذي يلي المعتزلة، الماتريدية، وفي الربع الذي يلي المحدثين، الأشاعرة)([130])
ومثله قال الشيخ محمد زاهد الكوثري ـ وهو من كبار أعلامهم الذين اتفق المعاصرون على تكفيرهم وتبديعهم واعتبارهم من الجهمية ـ: (الماتريدية هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلما يوجد بينهم متصوف، فالأشعري والماتريدي هما إماما أهل السنة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللفظي)([131])
وقد ذكر الامام البزدوي، وهو أحد مشايخ الماتريدية الكبار في القرن الخامس المسائل الكبرى للخلاف بين الأشاعرة والماتريدية، وأنها لا تعدو مسائل معدودة، فقال: (وأبو الحسن الأشعري وجميع توابعه يقولون إنهم من أهل السنة والجماعة، وعلى مذهب الأشعري عامة أصحاب الشافعي، وليس بيننا وبينهم خلاف إلا في مسائل معدودة)([132])
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بوجوب معرفة الله تعالى عقلا وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون الوجوب شرعيا لا عقليا، أو كما قال العضدي في المواقف: (النظر إلى معرفة الله واجب إجماعا، واختلف في طريق ثبوته، فهو عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل)([133])
وعلى خلافهم الماتريدية التي عبر عن مذهبها في هذا البياضي بقوله: (ويجب بمجرد العقل في مدة الاستدلال، معرفة وجوده، ووحدته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر، والتكذيب به، لا من البعثة وبلوغ الدعوة)([134])
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بالتحسين والتقبيح العقليين وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون التحسين والتقبيح يعرفان بالشرع لا بالعقل.
قال البياضي: (والحسن بمعنى استحقاق المدح والثواب، والقبح بمعنى استحقاق الذم والعقاب على التكذيب عنده (أي عند أبي منصور الماتريدي) إجمالا عقلي، أي يعلم به حكم الصانع في مدة الاستدلال في هذه العشرة ـ إشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلا ـ كما في التوضيح وغيره، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح، ولا مطلقا كما زعمته المعتزلة، أما كيفية الثواب وكونه بالجنة، وكيفية العقاب وكونه بالنار، فشرعي، واختار ذلك الامام القفال الشاشي، والصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وكثير من متقدميهم، كما في القواطع للامام أبي المظفر السمعاني الشافعي والكشف الكبير، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في (التبصرة البغدادية). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان، وحرمة الكفر واختاره المذكورون.. ويستحيل عقلا اتصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع، ولا العفو عن الكفر، عقلا، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه، كما في التنزيهات)([135])
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن التكليف بما لا يطاق غير جائز وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون عكس ذلك.
يقول البياضي: (ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط، واختاره الاستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في (التبصرة) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور)([136])
ويقول أبو منصور الماتريدي: (إن تكليف من منع عن الطاقة فاسد في العقل، وأما من ضيع القوة فهو حق أن يكلف مثله، ولو كان لا يكلف مثله لكان لا يكلف إلا من يطيع)([137])
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن أفعال الله سبحانه معللة بالغاياتوفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون عكس ذلك، يقول البياضي: (أفعاله تعالى معللة بالمصالح والحكم تفضلا على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد)([138])
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن صفاته تعالى عين ذاتهوفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يذكرون أنها قائمة بذاته، يقول النسفي: (ثم اعلم إن عبارة متكلمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إن الله تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازا عما توهم أن العلم آلة وأداة فيقولون: إن الله تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي رحمهالله يقول: إن الله عالم بذاته، حي بذاته، قادر بذاته، ولا يريد منه نفي الصفات، لأنه أثبت الصفات في جميع مصنفاته، وأتى بالدلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك، غير أنه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأن ذاته يستحيل أن لايكون عالما)([139])
بناء على هذا سنذكر هنا مقولاتهم في القضايا الثلاث الكبرى التي كفر السلفية على أساسها الجهمية والأشاعرة، لنرى مدى انطباق التكفير السلفي عليهم.
يتفق الماتريدية مع الأشاعرة على نفي اتصاف الله تعالى بالجهة والمكان، يقول أبو منصور الماتريدي في تفسير قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ـ والتي يعتبرها السلفية ركنا من أركان التكفير ـ: (إن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جل عن التغير والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم)([140])
ثم رد على أهل الحديث ـ سلف السلفية ـ القائلين بكونه تعالى على العرش، وأنه في جهة العلو، بأنه (ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54]، فدلك على تعظيم العرش)([141])
ثم ذكر ـ مثلما يذكر الأشاعرة عادة ـ مذهب التفويض، أي تفويض معنى الآية لله، لا تفويض الكيفية كما يقول السلفية، فقال: (وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فنفى عن نفسه، شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بأن الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل. ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره مما ذكرنا)([142])
وقد ذكرنا سابقا أن السلفية لم يرحموا أهل التفويض كما لم يرحموا أهل التأويل، بل إنهم يعتبرون التفويض أشد خطرا من التأويل.
وبناء على هذا ينص السلفية على كفر الماتريدية، أو كما عبر بعضهم، فقال: (المعتزلة والمريسية والكلابية والماتريدية والإباضية الخوارج والزيدية وغيرهم.. وتكفير السلف يشملهم جميعا لأن جميعهم منكرة للعلو)([143])
يتفق جميع المنزهة سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو معتزلة أو غيرهم على أن الله تعالى منزه في كلامه عن الحرف والصوت، لارتباط ذلك كله بالحدوث والجارحة وغيرها، والله تعالى هو الغنى عن كل ذلك.
وقد ذكرنا سابقا النصوص الكثيرة الدالة على أن سلف السلفية وخلفهم يكفرون كل من يقول ذلك، وبناء عليه، سنذكر هنا ـ من باب التأكيد ـ ما يقوله الماتريدية، لنرى مدى انطباق تلك الأحكام عليهم.
يقول التفتازاني (792هـ): (وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم – (أي المعتزلة) – يرجع إلى إثبات الكلام النفسي، ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف – ولا بعدم كونها مخلوقة – وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي)([144])
ويقول عبدالعزيز الفريهاري (كان حياً 1239هـ) مبينا محال الاتفاق بين الماتريدية والمعتزلة في كلام الله: (وإن لم يختلف الفريقان في إثبات النفسي ونفيه فلا نزاع، فإنا إذا قلنا: القرآن غير مخلوق، أردنا النفسي. وإذا قلنا: القرآن مخلوق أردنا اللفظي. فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف. بل بحدوثه كما قالت المعتزلة. وهم لا يقولون بحدوث النفسي. بل ينكرون وجوده، ولو ثبت عندهم لقالوا بقدمه مثل ما قلنا. فصار محل البحث، هو أن النفسي ثابت أم لا؟)([145])
ويقول التفتازاني: (إن الكلام يطلق على الكلام النفسي فمعنى كونه كلام الله أنه صفته، ويطلق على اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات ومعنى إضافته إلى الله: أنه مخلوق لله ليس من تأليفات المخلوقين)([146])
وقال الفريهاري ـ في توجيه إضافة القرآن إلى الله تعالى ومعنى كونه كلام الله ـ: (أراد – يعني التفتازاني- أنه – أي القرآن الكريم – مخلوقٌ لله تعالى، بلا توسط كاسب من المخلوقين إما بإيجاد الصوت حتى يسمعه الملك أو الرسول، وإما بإيجاد النقوش في اللوح، وإما بخلق إدراك الحروف في قلب الملك أو الرسول وإما بخلق الحروف في لسانه بلا اختياره)([147])
بل إن أبا المعين النسفي (508هـ) يذكر بكل صراحة بأن الله تعالى خلق صوتاً وحروفاً فأسمع جبريل كلامه بذلك الصوت والحروف فحفظه جبرائيل ونقله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. معللا ذلك بأن كلام الله قديم لا بحرف ولا صوت ([148]).
وقال الكوثري: (والواقع أن القرآن في اللوح المحفوظ وفي لسان جبريل عليه السلام وفي لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألسنة سائر التالين وقلوبهم وألواحهم مخلوق)([149])
يتفق الماتريدية مع الأشاعرة في اعتبار التأويل والتفويض أصلان من الأصول المنهجية التي يقوم عليها التعامل مع ما يسميه السلفية [صفات الله]، فقد ذكر الماتريدي بأن النصوص لا تحمل على ظواهرها بل يجب أن تفهم على المعنى الذي ورد في كلام العرب، حيث قال في (التأويلات): (إن الخطاب قد لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج ولكن على مخرج الحكمة والمعنى)([150])
وقال أبو المعين النسفي: (إن هذه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة المروية التي يوهم ظاهرها التشبيه وكون الباري جسما متبعضا متجزيا كانت كلها محتملة لمعان وراء الظاهر والحجج المعقولة.. غير محتملة، والعقول من أسباب المعارف وهي حجة الله تعالى، وفي حمل هذه الآيات على ظواهرها.. إثبات المناقضة بين الكتاب والدلائل المعقولة وهي كلها حجج الله تعالى ومن تناقضت حججه فهو سفيه جاهل.. والله تعالى حكيم لا يجوز عليه السفه.. فحمل تلك الدلائل السمعية على ظواهرها كان محالا ممتنعا)([151])
وقال في موضع آخر: (إن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما يحتمله من التأويل يوجب تناقضا فاحشا في كتاب الله تعالى.. فلا يجوز أن يفهم مما أضيف من الألفاظ إلى الله تعالى ما يستحيل عليه ويجب صرفه إلى ما لا يستحيل عليه أو تفويض المراد إليه والإيمان بظاهر التنزيل مع صيانة العقيدة عما يوجب شيئا من أمارات الحدث فيه)([152])
وقد ذكر التفتازاني ـ وهو من أعلام الماتريدية المعتبرين ـ القانون الذي يتعاملون به مع ما يسميه السلفية (آيات الصفات)، فقال: (.. والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظاهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله مع اعتقاد حقيتها جرياً على الطريق الأسلم.. أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفاسير، وشروح الأحاديث، سلوكاً للطريق الأحكم – يعني طريقة المتكلمين -)([153])
وهذان المنهجان [التفويض والتأويل] كلاهما منكران عند السلفية كما ذكرنا ذلك سابقا، بل يعتبرون التفويض أشد بدعة وضلالا من التأويل.
وبناء على هذا أول الماتريدية الاستواء، الذي يعتبر السلفية تأويله تعطيلا وتجهما، قال الماتريدي: (وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال ليس كمثله شيء، فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بـ (الرحمن على العرش استوى) على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء، لاحتماله غيره مما ذكرنا، واحتماله أيضا ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق، ونؤمن بما أراد الله به، وكذلك في كل أمر ثبت التنزيل فيه، نحو الرؤية وغير ذلك، يجب نفي الشبه عنه، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء)([154])
ومثله قال الجرجاني: (.. ولا يجوز التعويل في إثباته – أي الاستواء- على الظاهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور، هو أن المراد به الاستيلاء)([155])، وقال: (والحق أنها ـ أي الدلائل النقلية ـ قد تفيد اليقين في الشرعيات، نعم في إفادتها في العقليات نظر.. فلا جرم كانت إفادتها في العقليات محل نظر وتأمل)([156])
وهكذا أول البزدوي الكثير مما يسميه السلفية صفات أفعال، ويكفرون من أولها، ويسمونه معطلا، فقال في مسألة تحت عنوان (أن الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء): (فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنه يوصف بالاتيان قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأن له أيديا وأعينا، قال الله تعالى: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71].. وهذا من أمارات الأجسام)([157])
ثم أجاب على هذا بقوله: (الصحيح من مذهب السنة ـ يقصد به قول الماتريدية ـ فلا بد من الوصف بما وصف الله نفسه به، ولكن هذه الصفات ليست من صفات الأجسام، فإن الاتيان يذكر ويراد منه الظهور. قال الله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26].. معناه ـ والله أعلم ـ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم.. وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإن الاستواء هو الاستيلاء على الشيء والقهر عليه. قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } [القصص: 14] معناه ـ والله أعلم ـ تقوى حاله بتمام البنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه، عبارة عن الاستيلاء. فإنه (لا) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرا عليه، فالمستقر على العرش مستو، فكان معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [الفرقان: 59] ـ والله أعلم ـ أى استوى عليه بعد خلقه، والله تعالى مستول على جميع العالم، إلا أنه خص العرش بالذكر لأنه أعظم الأشياء وأشرفها، ثم ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين)([158])
وهكذا ذهب الماتريدية إلى نفس ما ذهب إليه المنزهة من نفي الرؤية الحسية لله، وهو من المسائل التي كفر بها السلفية مخالفوهم.
يقول الماتريدي عند حديثه عن رؤية الله تعالى: (فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفية تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام وقعود، واتكاء وتعلق، واتصال وانفصال، ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور وظلمة، وساكن ومتحرك، ومماس ومباين، وخارج وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم، أو يقدره العقل، لتعاليه عن ذلك)([159])
وما ذكره الماتريدي هو ما نص عليه جميع من المنزهة مما يسمونه الرؤية القلبية، خلافا للرؤية التي يذهب إليها السلفية، والتي عبر عن رأيهم فيها مقارنة برأي غيرهم ابن عساكر، فقال: (قالت الحشوية المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يرى مكيفا محدودا كسائر المرئيات، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقا بينهما فقال: يرى من غير حلول، ولا حدود، ولا تكييف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى، وهو غير محدود، ولا مكيف)([160])
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن منكر الرؤية الحسية، فأجاب بقوله: (رؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة. من أنكرها كفر. يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة)([161])
لا نحتاج إلى بذل جهد كبير لإثبات تكفير السلفية للمعتزلة، لأنهم يصرحون بذلك في كل حين، بل يعتبرون الاعتزال والمعتزلة مؤامرة على الدين، لتخريبه من الداخل، ويقصون في ذلك القصص الطويلة.
لكن بسبب إطلاقهم أسماء أخرى لهذه المدرسة المحترمة من مدارس الأمة وقع بعض الناس في اللبس، ذلك أنه كان يطلق عليها عند السلف الأول لقب الجهمية، لاشتراكها مع الجهمية الأصلية في مسائل كثيرة، مثل نفي الرؤية، وما يسميه السلفية الصفات، والقول بخلق القرآن، ولذلك فإن ما كتبه أوائل السلف من كتب في الرد على الجهمية، مثل الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية) والبخاري في الرد على الجهمية، كانوا يقصدون به المعتزلة.
وقد أشار ابن تيمية إلى هذا، فقال: (لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المئة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى… وطلبوا أهل السنة للمناظرة… لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً؛ لأن جهماً أشد تعطيلاً لنفيه الأسماء والصفات)([162])
وقال في موضع آخر، وهو يتحدث عن العلاقة بين الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ـ ويدخل معهم طبعا الماتريدية ـ: (من رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء علم قطعا أنهم يلحدون فى أسمائه وآياته وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله ولهذا كانوا يقولون ان البدع مشتقة من الكفر وآيلة اليه ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة والاشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى بن عمار يقول المعتزلة الجهمية الذكور والاشعرية الجهمية الاناث ومرادهم الاشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب الابانة الذى صنفه الاشعرى فى آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب الى الاشعرى بدعة)([163])
ويقول في موضع آخر: (فالمعتزلة فى الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات وكذلك الأشعرية ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصارى الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة ومن الناس من يقول المعتزلة مخانيث الفلاسفة لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم الى هذا الأصل أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه)([164])
وقد ذكر ابن تيمية أثناء ذمه للأشاعرة أن أمر المعتزلة واضح، وأن العلماء من سلفه كفوه شأنهم، فقال: (كما يقال الأشعرية مخانيث المعتزلة والمعتزلة مخانيث الفلاسفة لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة ونفرت القلوب عنهم صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين وأنتم شاركتموهم في ذلك وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع)([165])
ويطلق عليهم السلف كذلك لقب المعطلة، مثلما يطلقونه على الأشاعرة والماتريدية وكل المنزهة، ولهذا فإن مقصد ابن القيم من كتابه [الصواعق المرسلة في الرد على الجهميه والمعطلة] هو الرد على المعتزلة بالدرجة الأولى، باعتبارها ـ حسبما يصور السلفية ـ مصدرا لكل تعطيل حصل في الصفات.
وقد أضاف المعاصرون لقبا جديدا لمن يسمونهم [المعتزلة الجدد] وهو لقب العقلانيين أو العصرانيين أو غيرها من الألقاب، والتي سنتحدث عنها، وعن موقفهم منها في هذا المبحث.
وقد قسمنا الحديث فيه إلى قسمين: موقف المتقدمين، وموقف المتأخرين.
1 ـ تكفير متقدمي السلفية للمعتزلة:
يذكر السلفية بفخر واعتزاز مواقف سلفهم الأول المتشددة من المعتزلة الأول، ابتداء من الحسن البصري إلى آخر المتقدمين في العصر السلفي الذهبي.
ومن تلك المواقف موقف الحسن البصري من واصل بن عطاء، حيث طرده من حلقته([166]) وبذلك سمي المعتزلة ـ في نظر السلفية ـ بهذا الاسم.
وقد رووا أن الإمام أحمد كان يفتي بأنه (لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة)([167])
ورووا أن الإمام مالك سئل عن تزويج القدري، فقرأ قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221])([168])
ورووا أن عمر بن عبدالعزيز كان يقول في القدرية: (أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا، قال أبو سهيل: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي)([169])
ورووا أن رجلا قال للإمام عبدالله بن إدريس: يا أبا محمد إن قبلنا ناساً يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: من اليهود؟ قال: لا. قال: فمن النصارى؟ قال: لا. قال: فمن المجوس؟ قال: لا. فقال: فممن؟ قال: من الموحدين، قال: كذبوا هؤلاء ليسوا بموحدين، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق، ومن زعم أن مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة، هؤلاء زنادقة)([170])
ورووا أن معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة)([171])
ورووا عن أبي عوانة قال: (ما رأيت عمرو ابن عبيد ولا جالسته قط إلا مرة واحدة، فتكلم وطول ثم قال حين فرغ: لو نزل من السماء ملك مازادكم على هذا، فقلت: غيري من عاد إليك)([172])
ورووا عن عبدالوهاب بن الخفاف قال: مررت بعمرو بن عبيد وحده، فقلت: مالك؟ تركوك؟ قال: نهى الناس عني ابن عون فانتهوا([173]).
ورووا عن عدي بن الفضل قال: كلمت يونس بن عبيد في عبدالوارث، فقال: رأيته على باب عمرو بن عبيد جالساً لا تذكره لي ([174]).
ورووا عن قريش بن أنس قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: (يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله، فيقول لي: أنت قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم أتلو هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] فقلت – وليس في البيت أصغر مني-: أرأيت إن قال لك: أنا قلت: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فما رد علي شيئاً)([175])
ورووا عن بعضهم، قال: كنت جالسا عند يونس بن عبيد، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله، تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك قبيل؟ قال: ابني؟ قال: نعم، فلم أبرح حتى جالسه، فقال: يا بني، ألم تعرف رأيي في عمرو بن عبيد، ثم تدخل عليه؟ قال: كان عنده فلان، قال: فجعل يعتذر، فقال يونس: أنهاك عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو، وأصحاب عمرو ([176]).
بل إن سلف السلفية لم يرحموا المعتزلة حتى في منامهم، فقد رووا الكثير من الرؤى التي تصفهم بالضلال والبدعة، ويستدلون بذلك على ضلالاهم وبدعتهم، باعتبار عصمة أحلام سلفهم..
ومن تلك الرؤى ما رواه عاصم الأحول قال: (.. فرأيت عمرو بن عبيد في المنام يحك آية من القرآن، قلت: ما تصنع؟ قال: إني أعيدها، قال: فحكها، قلت: أعدها! فقال: لا أستطيع)([177])
ورووا أن عمرو بن عبيد، وإسماعيل المكي جاءا إلى محمد بن سيرين فسألاه عن رجل رأى كأنه نصف رأسه مجزوزة، ونصف لحيته، فقال لهما: اتقيا الله، لا تظهروا أمراً، وتسرا خلافه، قال: فقال عمرو: والله، لا نأخذ عنه في اليقظة وكيف نأخذ عنه في المنام؟)([178])
ورووا عن محمد بن إدريس الرازي قال: سمعت الأنصاري يقول: (رأيت في النوم كأنا على باب عمرو بن عبيد، ننتظر خروجه، إذ خرج علينا قرد، قالوا: هذا عمرو بن عبيد)([179])
ولم يكتف سلف السلفية بهذا، بل كتبوا الردود الكثيرة المشحونة بكل صيغ التكفير، فمن كتبهم الأولى في ذلك (رسالة الرد على القدرية) ينسبونها لعمر بن عبدالعزيز (توفي 101هـ)([180])
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لإسماعيل بن حماد (توفي 212هـ)
ومنها رسالة (في أن القرآن غير مخلوق) لأبي إسحاق الحربي (ت285هـ)
ومنها رسالة في (الرؤية) لأبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي (ت342هـ)
ومنها رسالة (الرؤية) لأبي أحمد العسال (ت349هـ)([181])
ومنها رسالة في (الرؤية) لعلي بن عمر الدارقطني (ت385هـ)
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ)
ومنها رسالة في (رؤية الله) لابن النحاس (ت 416هـ)
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لأبي المظفر السمعاني (ت489هـ)
ومنها رسالة (الانتصار في الرد على القدرية الأشرار) ليحيى بن سالم العمراني (ت 558هـ)
ومنها رسالة في (رؤية الباري) للذهبي (ت 748هـ)
وقد ذكرنا سابقا الكثير من النصوص عن السلف في تكفير من ينفي الجهة أو يؤول الصفات أو يقول بخلق القرآن، وقصدهم من ذلك كله المعتزلة، لأن الأشاعرة والماتريدية لم يظهرا بعد، أوكان ظهورهما في ذلك الحين محتشما، بحيث لم يشكلا مدارس خاصة.
ولم يكتفوا بهذا، بل أضافوا إليه استخدام السلطة السياسية في قهر المعتزلة، والتنكيل بهم، حتى لو كانوا من أعلام الأمة الأجلاء، بل حتى لو كان الاعتزال مجرد تهمة لم تثبت عنهم.
ولذلك فإن ما فعلوه بالمعتزلة، وبغيرهم ممن يوافقهم في بعض الأفكار والمواقف لا يساوي شيئا أمام تلك الفتنة البسيطة التي قام بها المأمون، والتي لم يصب فيها الإمام أحمد مكروه كبير مقارنة بالمصائب والويلات التي ألحقوها بالمعتزلة.
ونحن هنا لا نقر المأمون، ولا غيره ممن يصادرون الأفكار، ولكنا في نفس الوقت لا نقبل أن يعتبر المأمون طاغية ومستبدا وظالما وكافرا، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه المتوكل ـ وهو الذي وقف مع السلفية ضد المعتزلة ـ عادلا وطيبا وصالحا، بل وناصرا للسنة كما يزعم السلفية.
وبما أن جرائم المأمون في حق الفكر معروفة عند الجميع، فإني أحب هنا من باب العدالة، والشهادة لله، أن أبين ما ذكره المحققون من المؤرخين في حق المتوكل الذي يعتبرونه من خلفاء الأمة العدول، بل هناك من يعتبره من الخلفاء الاثني عشر الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد ذكر ابن الجوزي في كتاب (مناقب الإمام أحمد) أنّ المتوكِّل (في سنة 234 هـ أشخص الفقهاء والمحدِّثين، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس وأن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة، وأن يحدِّثوا في الرّؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور، ووضع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً)([182])
ومن هنا بدأ التطرف الشديد للسلفية بسبب ذلك الاستعلاء والكبرياء الذي أعانتهم عليه السلطة السياسية.. ولذلك راحوا يبالغون في التجسيم، وفي التكفير، ولأبسط المسائل، ومن يطالع ما كتب في تلك الفترة يرى هذا بوضوح.
وقد ذكرنا في محل سابق أن المتوكل كان يعتبر السلفية في ذلك الحين مرجعا له يستشيرهم في كل وظيفة يريد أن يقدم عليها، فقد رووا في ذلك عن أبي علي البلخي قوله: دخلت على أحمد ابن حنبل، فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء ـ ويقصدون بهم كل المخالفين لهم ـ فقال أحمد: لا يستعان بهم، فقال: يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بهم، فقال: إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم، وأصحاب الأهواء داعية([183]).
وروى البيهقي في [مناقب أحمد] عن محمد بن أحمد بن منصور المروذي أنه استأذن على أحمد بن حنبل، فأذن له، فجاء أربعة رسل المتوكل يسألونه فقالوا: الجهمية ـ ويقصد بهم في ذلك الحين المعتزلة ـ يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها أولى أم اليهود والنصارى؟ ففقال أحمد:(أما الجهمية فلا يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها، وأما اليهود والنصارى فلا بأس أن يستعان بهم في بعض الأمور التي لا يسلطون فيها على المسلمين حتى لا يكونوا تحت أيديهم، قد استعان بهم السلف)، قال محمد بن أحمد المروذي: أيستعان باليهود والنصارى وهما مشركان، ولا يستعان بالجهمي؟ قال: (يا بني يغتر بهم المسلمون وأولئك لا يغتر بهم المسلمون)([184])
وقد قام المتوكل بنفس المضايقات التي كان يقوم بها المأمون، والتي يبالغ فيها السلفية، ويعظمونها تعظيما كبيرا، وبعتبرونها جناية في حق الإسلام نفسه، ولكنهم في نفس الوقت يثنون على تلك الجرائم التي قام بها المتوكل، ويعتبرونه ناصرا للسنة، لسبب بسيط، وهو أنهم كانوا شركاءه في تلك الجرائم.
يقول الطبري: (وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرّعاع إلى موضع تلك الخشبة وكثروا وتكلّموا، فبلغ ذلك المتوكّل، فوجّه إليهم نصربن اللّيث، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم وحبسهم، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً… فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى (بغداد) وغسل ودفن وضمّ رأسه إلى بدنه)([185])
وهكذا انتقم السلفية لما حصل للإمام أحمد وغيره بالتنكيل بكل علماء المعتزلة، يقول الطبري: (وفي سنة 237 هـ غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد وأمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة)([186])
ولم يكتفوا بذلك التنكيل الحسي، بل راحوا يملأون المساجد بالتنكيل المعنوي من التكفير واستعمال كل أساليب الولاء والبراء التي ورثوها من أسلافهم، والتي عاملوا بها قبل ذلك واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، ومن ذلك أنه روي أنه سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم([187]).
وقد لخص الشيخ حسن بن فرحان المالكي ما فعله المتوكل من جرائم، والتي لا تزال آثارها إلى الآن، فقال: (أتى المتوكل عام 232 هـ؛ ومال مع العامة ضد الأتراك والثقافة السابقة برمتها؛ فعظم أهل الحديث – وعلى رأسهم أحمد – وأضطهد المعتزلة والشيعة؛ وتعرض المعتزلة ومن شايعهم؛ من أهل الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان؛ لاضطهاد أيضاً؛ أحرقت كبتهم؛ ولاحقتهم السلطات؛ وكان الأثر على العامة كبيراً؛ وما زال أثر المتوكل قائماً إلى اليوم؛ في التيار السلفي والأشعري معاً؛ فقد عظم المتوكل أهل الحديث؛ وأجزل لهم العطايا؛ وتشكلت العقائد من أيامه.. العقائد والتصورات اليوم، عن الدين والعقائد والمذاهب، هي من آثار عصر المتوكل. فقد كان جاهلاً ظالماً كالمتعصم والواثق، ولكن على الضد)([188])
وقد ذكر تغاضي السلفية عن جرائم المتوكل التي تشهد بها جميع كتب التاريخ، كما هي عادتهم مع كل من يساندهم، فقال: (المتوكل لم يكن رجلاً صالحاً؛ حتى بمقياس أهل الحديث؛ فقد كان غارقاً في الشهوات، مبغضاً لعلي والحسين، قاتلاً ظالماً؛ إلا أنه نصر الإمام أحمد.. أهل الحديث – وسط ما يشعرون به من انتصار سياسي – نسوا مظالم المتوكل، وسموه (ناصر السنة)؛ ونشطوا في هذه المرحلة؛ وغلوا وتطرفوا ضد الجميع.. هذه المرحلة هي التي دونت تكفير أبي حنيفة؛ وكان فيها الظلم كله؛ ونبش قبر الحسين؛ وإعلان بغض الإمام علي؛ وأهل الحديث ساكتون لأنه نصر أحمد! وكنت أقول لبعض الفضلاء من أهل الحديث؛ هل سنة المتوكل؛ في نصر الإمام أحمد؛ تغطي على بدعته في بغض علي والحسين؟ وأنتم تعترفون أنه ناصبي.. فكيف؟ بعض المحققين؛ من أهل الحديث؛ يعرفون هذا؛ وكان من عرف منهم هذا، كان السؤال محرجاً له بالمرة؛ فالسنة لا تتجزأ ولا تتمذهب؛ وأحمد لا يبلغ علياً)([189])
وقد شبه الشيخ حسن المتوكل بما يفعله داعش وخليفهم في عصرنا هذا، فقال: (المتوكل العباسي مات سنة 247هـ؛ بعد أن قام بأفعال لا تقوم بها داعش اليوم؛ ولكن؛ العمى عند أهل الحديث؛ وشدتهم في الخصومة؛ نسوا كل جرائمه وبدعه! فأفعاله القبيحة عندي؛ في الجانب الجنائي؛ أبشع من بغضه لأهل البيت)([190])
ومن تلك الجرائم الداعشية التي قام بها المتوكل، والتي أثنى عليه السلفية بسببها واعتبروه ناصرا للسنة، (سل لسان اللغوي الكبير يعقوب بن السكيت من قفاه؛ وقطعه فمات)([191])
وقد علق عليها حسن بن فرحان بقوله: (هذه لم تعملها داعش.. هذه القصة الشنيعة؛ عندي؛ هي المؤثرة في قبح سيرة المتوكل؛ أكثر من النصب. لكن؛ أهل الحديث؛ غفر الله لهم وهداهم؛ فقراء في الجانب الحقوقي؛ إلى اليوم؛ والسبب الذي من أجله استل المتوكل لسان ابن السكيت من قفاه – حفروا للسانه من القفا وأخرجوه من هناك وقطعوه – لأنه فضل الحسن والحسين على ابنيه.. فأهل الحديث تذكروا النصب وذموه عليه – أعني علماء أهل الحديث ومنصفيهم – ولكنهم؛ لم يذموه على هذا التفنن في المثلة بإمام العربية في وقته)([192])
ومن جرائمه التي يسكت عنها السلفية ـ وهي أكبر بكثير من جريمة المأمون في حق الإمام أحمد ـ أمره بجلد المحدث الكبير نصر بن علي ألفي سوط – وهو محدث مشهور من طبقة أحمد وابن معين – وسبب ذلك أنه روى حديثاً في فضل علي؛ وظن المتوكل أنه شيعي!
قال الخطيب البغدادي: (لما حدث (نصر بن علي) بهذا الحديث، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد؛ وجعل يقول له؛ هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه!)([193])
وقد علق الخطيب البغدادي على الحادثة ـ معتذار له ـ بقوله: (إنما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنه رافضيا، فلما علم أنه من أهل السنة تركه)
ولم يكن عصر المتوكل هو الوحيد الذي ساهم في إعلان الحرب على المعتزلة، وإنما تلت ذلك عصور كثيرة كان للسلفية كل السطوة فيها، ولذلك استعملوا كل ما ورثوه من سلفهم من أحقاد لقمع المعارضين.
ومن تلك العصور عصر القادر بالله الخليفة العباسي، الذي قام في سنة (408هـ) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول ابن كثير: (وفي سنة (408هـ)، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع وتبرّأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك وأنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام)([194])
ولم يكتف بذلك، بل راح ـ باسم سلطته السياسية يقوم بما قام به قسطنطين من قبله ـ من وضع قوانين للإيمان وللدين لا نزالي نعاني آثارها إلى الآن.. قال الخطيب البغدادي: (وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر النّاس سماعه)([195])
والسلفية يثنون كثيرا على هذا الكتاب المسمى بـ (بالبيان القادري)، والممتلئ بالتجسيم والتكفير، ويعتبرونه من فتوح الله لهم.
ولم يكتفوا بذلك، بل أضافوا إليه الكثير من ألوان الأذى للمعتزلة والفلاسفة وكل العلماء الذين يخالفونهم، يقول ابن الجزري في حوادث سنة (420هـ): (ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والنّجوم وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل)([196])
ويقول ابن كثير في حوادث سنة (456هـ) ناقلاً عن ابن الجوزي: (وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع وتدريسه للنّاس بهذا المذهب وأهانوه وجرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة)([197])
وذكر في حوادث سنة (477هـ): (إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها)([198])
وذكر في حوادث سنة (461هـ): (وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال)([199])
ويقول في حوادث سنة (465هـ): (وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال)([200])
2 ـ تكفير متأخري السلفية للمعتزلة:
انطلاقا من تلك المواقف التي وقفها السلف الأول، وصنفوا فيها المصنفات الكثيرة، لم يجد السلفية المتأخرون بدا من سلوك سبيل سلفهم الأول خشية على أنفسهم من أن تطالهم سيوف التكفير التي تطال كل من يشكك في كفر الجهمية إناثهم وذكورهم.
والأمثلة على ذلك التكفير أكثر من أن تحصى، ومنها قول الشيخ ابن باز في بعض فتاواه: (ومن قال: إن الله في الأرض، إن الله في كل مكان كالجهمية والمعتزلة ونحوهم فهو كافر عند أهل السنة والجماعة؛ لأنه مكذب لله ولرسوله، في إخبارهما بأن الله سبحانه في السماء فوق العرش جل وعلا، فلا بد من الإيمان بالله، فوق العرش فوق جميع الخلق، وأنه في السماء في العلو معنى السماء يعني العلو)([201])
وسئل: (ماحكم الشرع في نظركم فيمن ينفي الصفات الكلية والأسماء، أسماء الله وصفاته بالكلية ويقول هذا هو المعتقد الصحيح؟)، فأجاب: (هذا دين المعتزلة والجهمية، الجهمية ينفون أسماء الله وصفاته، والمعتزلة نفاة القدر ينفون صفات الله، ويثبتون أسماء بدون صفات يقولون: عليم بلا علم، رحيم بلا رحمة، سميع بلا سمع، وهذا باطل، والعياذ بالله، هذا كفر ردة عن الإسلام، تكذيب لله ولرسوله، الله جل وعلا أخبر عن نفسه إنه عليم وسميع وبصير، فمن نفى ذلك عن الله، وقال إنه يعلم بلا علم، لاعلم له ولا رحمة له ولا سمع له فهو كافر، مكذب لله ولرسوله، فالجهمية عند أهل السنة، والمعتزلة عند أهل السنة كفار بهذا الاعتقاد الباطل)([202])
وقد ورد في بعض أشرطته الصوتية هذا الحوار المهم، الذي يمكنه لوحده، أن يجعل من ابن باز مكفرا لكل طوائف الأمة ـ ما عدا طائفته. وسننقله كما هو، ونريد من الذين يتشبثون ببعض فتاواه الدبلوماسية أن يضموا إليها هذه الفتوى أيضا، والتي يوجد أمثالها في كتبه وفتاواه:
قال ابن باز: هذا معروف، أهل السنة يكفرون من قال بخلق القرآن، لأن معناه الله ما يتكلم، معناه أن القرءان ليس كلام الله، معناه وصف الله بأنه لا يتكلم، ساكت.
فقال أحد الحضور: ما لهم شبهة يل شيخ؟
فقال ابن باز: كفر… لا.. نخرجه من الملة.. الله عز وجل له كلامه، وصفوه بأنه أبكم ما يتكلم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ } [الفتح: 15]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)
قال أحد الحضور:هل يكفر المعتزلة؟
قال ابن باز: ما في شك، من قال بخلق القرآن فهو كافر.
قال أحد الحضور: أحمد بن أبي دؤاد يكفر؟
فقال بن باز: كل من قال بخلق القرآن فهو كافر.
فقال أحد الحضور: عينا يا شيخ؟
فقال الإمام بن باز: عينا إذا ثبت عليه ذلك.
فقال أحد الحضور: الذهبي في السير يا شيخ ذكر أحمد بن دؤاد قال: هذا وليس الرجل بكافر، فهو يشهد أن لا إله إلا الله، ويومن بالله.
فقال بن باز: الذهبي ليس من أهل الفقه والبصيرة، الذهبي عالم من الوسط، يعتني بمصطلح الحديث.
فقال أحد الحضور: حمل المأمون الناس على القول بذلك أليس كفرا؟
فقال الإمام بن باز: كفر، المأمون وغير المأمون ([203]).
ولم يكتف السلفية المتأخرون جدا بالاقتصار على مسائل الجهة والصفات وخلق القرآن ونحوها.. بل أضافوا إليها الكثير من الإضافات، ليشملوا بتكفيرهم كل من يستعمل عقله، لأنهم رأوا أن سبب المشكلة التي وقع فيها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم هي استعمالهم لعقولهم، وعدم جلوسهم مع كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما ليأخذو دينهم.
وكنموذج لهذا التكفير الجماعي للمفكرين والباحثين أحب أن أذكر هنا كتابا ينتشر بكثرة على النت يحمل عنوان [المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد] من تأليف فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب، وهو كتاب يبحث عن نواحي الشبه بين مقولات المعتزلة الأوائل ومقولات المفكرين المحدثين أمثال الغزالي ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.. ليطبق عليهم جميعا سنة التجريح التي سنها سلفه، لأنه لكل عصر جهميته ومعتزليته.
وقد ذكر لذلك الكثير من المآخذ والمعايير التي على أساسها يكون الحكم على المفكر المعاصر بكونه معتزليا.. وطبعا يكفي وصمه بالاعتزال عند السلفية عن رميه بالكفر.. لأن مصطلح [المعتزلة] عندهم مساو تماما ومن كل الوجوه لمصطلح [الكفرة]
وسنقتصر على المآخذ الثلاثة التالية:
المأخذ الأول: تقديس العقل وتقديمه على النقل
وأول تلك المآخذ ـ كما يرى الشلهوب ـ تقديس العقل وتقديمه على النقل([204]).. ومن النصوص التي ذكرها عن سلفه، والتي اعتبرها معايير للحكم على المخالفين لها، قول ابن القيم: (فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح، ورمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحطت حيث حطها الله وأصحابها)([205])، وقول عبد الرحمن الوكيل: (والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل)([206])
وفي مقابل هذا الفكر السلفي النير ينقل الكاتب تلك الطامات التي وقع فيها المعتزلة القدامى والمعتزلة الجدد.
أما المعتزلة القدامى، فقد نقل عن الزمخشري قوله: (امش في دينك تحت راية السلطان [ ويعني بالسلطان: العقل] ولا تقنع بالراوية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأل-[أي: الريح الباردة]- البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل، ومن تبع في أصول الدين تقليده، فقد ضيع وراء الباب المرتج إقليده [أقليده: المفتاح])([207])
ومثله قول النظام: (إن المكلف – قبل ورود السمع – إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال)([208])
وقد سار على منوالهم كما يذكر الشلهوب المعتزلة الجدد من رجال المدرسة العقلية الحديثة، والذي عبر الشيخ محمد عبده على لسانهم، فقال: (ورفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع)([209])
فقد اعتبر الشلهوب هذا النص الواضح والذي يدل على حقيقة وظيفة العقل إدانة كبرى للشيخ محمد عبده، واعتباره بذلك من المعتزلة.. وما أدراك ما المعتزلة في العقل السلفي.
ومثله قوله: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل)([210])
وقد علق الشلهوب على هذا النص بقوله: (وفي حكاية هذا الاتفاق نظر، ولعله يقصد بأهل الملة الإسلامية: المعتزلة والأشاعرة ومن سلك طريقهم. وكثير من أئمة الدين المرضيين عند الموافق والمخالف لا يقدمون عقولهم على كلام نبيهم كأمثال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، والدارمي، وغيرهم كثير يصعب حصرهم. فبطل بذا الاتفاق المزعوم)([211])
بل إن الشلهوب لم يرحم الشيخ محمد رشيد رضا مع كونه من أهل الحديث، ويثني على السلفية، بل حتى الوهابية منها، لأنه تكلم بما يدل على قيمة العقل، فقد نقل قوله: (ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون من أهل السنة وغيرهم من الفرق المعتد بإسلامهم أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما يخالفه فالعمل بالدليل القطعي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تدرس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها)([212])
وقد علق عليه الشلهوب بقوله: (ما ذكره رشيد رضا ليس هو الذي عليه أهل السنة عند التحقيق، ومراده بأهل السنة هنا الأشاعرة –بلا شك- ومن لف لفهم. وقوله: (من الفرق المعتد بإسلامهم) فيه مجازفة كبيرة، فعلى كلامه فالسلف الذين يقدمون الدليل السمعي على العقلي عند التعارض، هم من الذين لا يعتد بإسلامهم، وعند النظر نجد أنه لا تعارض بين دليل سمعي صحيح وبين عقل صريح، كما قرره المحققون من أهل العلم)([213])
وينقل عن فهمي هويدي ـ المعتزلي الجديد ـ قوله: (.. أن الوثنية ليست عبادة الأصنام فقط، ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز، وفي عبادة النصوص والطقوس)([214])
ثم يعقب عليه بقوله: (متى كان الاعتصام بالكتاب والسنة وتقديمهما على آراء الرجال وثنية وعبادة أصنام؟!، أ فنقدم كلام هويدي على كلام نبينا صلى الله عليه وآله وسلم)([215])
المأخذ الثاني: تفسير القرآن مخالفاً لتفسير السلف.
ومن المآخذ الكبرى والخطيرة التي وصم بها الشلهوب المعتزلة القدامى والجدد ما سماه [تفسير القرآن مخالفاً لتفسير السلف] ([216]) وكأن القرآن الكريم أنزل ومعه جميع قيود السلف، فمن لم يتقيد بها لم يفهم القرآن الكريم.
ومن النصوص التي ذكرها عن سلفه، واعتبرها معايير للحكم على المخالفين لها ما نقله عن ابن تيمية ـ إمامهم المقدس ـ من قوله: (إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح.. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد ابن جبر، فإنه كان آية في التفسير.. فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام)([217])
ثم علق على هذا بقوله: (والعقلانيون القدماء، وأصحاب المدرسة الحديثة، والعقلانيون الجدد سلكوا في تفسير القرآن خلاف منهج السلف وطريقتهم، فقدموا عقولهم واعتقدوا أولاً، ثم ذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه تارة، ويلوون أعناق النصوص تارة أخرى حتى توافق ما اعتقدوه بعقولهم وآرائهم)([218])
ثم استند في هذا التعليق بهذا النص المقدس من كلام ابن تيمية في المعتزلة الأوائل: (والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة)([219])
ومن النماذج التي ضربها للتفسير المعتزلي الأول، والبعيد عن منهج السلف في تصوره ما فسر به المعتزلة قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] إلى أن النظر يكون بذلك إلى الثواب لا إلى الله عز وجل، (أي منتظرة ثواب ربها)([220]) وهو مع كونه معنى صحيح في اللغة العربية، وقال به أئمة اللغة كالزمخشري، إلا أنه لمخالفته للسلف لم يقبله السلفية.
وهكذا نقل عن ابن تيمية تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] فقد قال: (وحرفوا كلام الله في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] فقالوا: استوى: أي استولى وملك وقهر)([221])
ومن النماذج التي ضربها للمعتزلة الجدد ما فسر به الشيخ محمد عبده قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ } [الفجر: 10]، فقد قال: (وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام، وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض، بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة !، يبتديء القسم عريضاً وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين)([222])
ومع أن هذا التفسير مجرد رأي، ولم يسقه الشيخ محمد عبده على أنه تفسير نهائي، وهو في النهاية أفضل بكثير من تلك الخرافات التي فسر بها سلف السلفية القرآن الكريم.. إلا أن السلفية لم يعجبهم هذا.. ولو أن كعب الأحبار هو الذي قال هذا لهشوا له وبشوا، ونقلوه في كل تفاسيرهم.. ولكن المشكلة أن محمد عبده لم يكن هو ولا أبوه يهوديا حتى ينال تلك المرتبة العظيمة في الوثاقة بما يقول.
وقد علق الشلهوب على ذلك الرأي الذي قاله الشيخ محمد عبده بقوله: (لا شك أن القرآن تكلم عن بعض الظواهر الكونية، فهذه نثبتها لأن القرآن أشار لها وتكلم عنها؛ لكن أن نتكلف في ربط آيات القرآن بما نشاهده في عالمنا أو بما يستجد من مخترعات، فهذا خطأ شنيع يرتكب في حق تفسير كلام الله، وكون المرء يقول المراد بالأوتاد هي الأهرامات، كأنه يقول ربنا جل في علاه يقصد هذا ويريد هذا، فالكلام في التفسير دقيقٌ جداً وخطرٌ جداً. وقد جنح لمثل ذلك بعض المفسرين من المتأخرين فأصبحوا يتكلفون في ربط القرآن بالظواهر الكونية والطبيعية والمخترعات الحديثة، وفاتهم أن المقصود الأعظم من الكتاب العزيز أنه كتاب هداية، وتشريع، لا كتاب فلك)([223])
وما دمتم تؤمنون بهذا ـ يا معشر السلفية ـ فلم تملؤون تفاسيركم بتلك الأقوال الشنيعة من كلام سلفكم.. وهي لا تتناقض فقط مع جلالة القرآن، وإنما تتناقض أيضا مع كل العقول، وكل العلوم؟
المأخذ الثالث: رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة.
ومن المآخذ الكبرى والخطيرة التي وصم بها الشلهوب المعتزلة القدامى والجدد ما سماه [رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة]، ذلك أن المستند الأكبر لكل البنيان السلفي هو أولئك الرجال الذين قدموهم على كل شيء.. على العقل والنقل وكل شيء.. وأعطوهم حصانة خاصة، فلذلك يشكل نقدهم أو التعرض لهم أكبر مهدد للبنيان السلفي.. ولهذا وقفوا بشدة مع كل من تسول له نفسه استعمال العقل والمنطق في تحليل أمثال تلك الشخصيات، أو وزنها بالموازين الشرعية، لأن الموازين الشرعية خاصة بالخلف لا بالسلف.
وقد ذكر الشلهوب أنواع التحريفات التي فعلها سلفه بالحديث وألصقها كما هي بمن يسميهم المعتزلة القدامى والجدد([224])، فقال: (وقف (أهل الأهواء) العقلانيون –قديماً وحديثاً- من السنة النبوية الصحيحة موقفاً مشيناً، وذلك لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة تقتلع أصولهم من جذورها، وتفسد عليهم منهجهم الذي أصلوه وبنوا عليه طريقتهم. ولذلك سلكوا في رد الأحاديث الصحيحة التي خالفتها عقولهم المريضة طرقاً مختلفة، فأول شيءٍ يؤولون الحديث بما يوافق أهوائهم وعقولهم، فإن أعياهم تأويل الحديث ولم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لجئوا إلى رد الحديث، فإن كان غير متواتر استراحوا وقالوا: هذا خبر آحاد ظني لا نقبله مطلقاً، وهؤلاء هم المعتزلة القدماء، والمعتزلة الحديثة والمعاصرة، قصروا قبول خبر الآحاد على الأحكام دون العقائد، وليس لديهم على هذا التفريق دليل صحيح، وهم مع ذلك تراهم لا يلتزمون بهذا التأصيل الذي أصلوه في خبر الآحاد، فحتى الأحكام يردون بعض الأحاديث الظنية ! فعاد الأمر إلى الهوى وتحكم العقل، ولا يعنيهم بعد ذلك أن يكون في الصحيحين أو في غيرهما من كتب الحديث، وإن كان متواتراً بحثوا في سنده، فإن كان أحد رواته قد روى شيئاً من الإسرائيليات ردوا حديثه لأنه قد يكون مأخوذاً من التوراة، أو بحثوا في سيرة رواته علّهم يجدون قشة يتعلقون بها للطعن بهم حتى يردوا الحديث. وقد تطاول العقلانيون قديماً وحديثاً على الصحابة وخصوصاً رواة الأحاديث، ونالوا من عرضهم وكذبوهم، معرضين بذلك عن تزكية الله لهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. وهم – أي العقلانيين- سلكوا هذا السبيل لكي يسهل عليهم رد الحديث، فإذا طُعن في الراوي في أمانته وصدقه وعدله، كان ذلك مدخلاً لرد مروياته)([225])
ومن العجيب أن كل هذه الممارسات التي ذكرها مارسها سلفه الصالح، فتلاعبوا بالحديث كما شاءوا.. لكن إن تدخل أحد من العقلاء، فأول حديثا أو رده قامت عليه القيامة.
لكنهم يتصورون أن ذلك حق لهم وحدهم دون سائر الناس، أو كما نقل الشلهوب عن ابن تيمية قوله: (ومن المعلوم: أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه. فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم كما قال بعض السلف: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل)، فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان أو اليد والسنان. وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام. والمقصود: التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث فهو – إن كان من المؤمنين بالرسل – فهو جاهل فيه شعبة قوية من شعب النفاق وإلا فهو منافق خالص من الذين {إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]، وقد يكون من {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } [غافر: 35]، ومن {الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه – وإن كان ذلك ظاهرا بالفطرة لكل سليم الفطرة – فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولا وحالا: لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق)([226])
وهذا الكلام الخطير من ابن تيمية، والذي ادعى فيه احتكار أهل الحديث للسنة النبوية، بل اعتبرهم الفرقة الناجية الوحيدة، هو نص في تكفير كل المخالفين.. وقوله (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل) وحده كاف في بيان تكفير ابن تيمية الجماعي للأمة جميعا ما عدا سلفه.
ومن النماذج التي ساقها الشلهوب للمعتزلة القدامى موقفهم من الحديث الذي يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها)([227])
فقد قال الزمخشري تعقيبا عليه: (وما يروى من الحديث ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما.. واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه.. وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه)([228])
فهذا الكلام العقلاني الجميل والممتلئ بالأدب لم يعجب السلفية، بل اعتبروا صاحبه طاعنا في السنة، لأنه يقضي على ذلك الدجل والشعوذة والخرافة التي فتحوا بها عياداتهم في الرقية التي يصفونها بالشرعية.
ومن النماذج التي ساقها للمعتزلة الجدد، إنكار الشيخ محمد عبده لحديث سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: (وعلي أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل)([229])
فمع كون الشيخ محمد عبده عرض الحديث على القرآن، فرأى مخالفته له، فأنكره، لكون القرآن الكريم أقوى ثبوتا، وأوضح دلالة.. لكن السلفية لا يعجبهم هذا.. لأنهم مستعدون لضرب القرآن الكريم.. ولو بحديث واحد يرويه من كان، وكيف كان.
ولهذا، فقد عقب عليه بقوله: (رد الأحاديث والاقتصار على القرآن موافق لما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)([230])
وهكذا ينقل عن الشيخ محمد رشيد رضا ـ متهما إياه بالاعتزال والعقلانية ـ قوله: (وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز، ليست من أصول الدين ولا فروعه.. وأنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري، مهما يكن موضوعه)([231])
وينقل موقفه من كعب الأحبار مجرما له، لكونه سماه: (بركان الخرافات)، وقال فيه: (كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه)([232])
وعقب على هذا بغضب قائلا: (قلت: كعب الأحبار أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في كتبهم، واتهامه بتعمد الكذب يطعن في نقل أئمة الحديث عنه.. فكيف يصح لنا بعد ذلك أن نأخذ عنهم وهم يروون عن كذابين يتعمدون الكذب، لا نظن بهم ذلك إلا أن يذكروا في رواية –حاشا مسلم- تكون للاعتضاد، فهذا قد تجده)([233])
وبسبب هذا الموقف اتهم الشيخ محمد الغزالي بالعصرانية، والعقلانية والاعتزال، ونقل عنه ليثبت ذلك قوله: (إن ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لا بسها، كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح، حتى يكشفوا الوهم عن معناه، إذا كان هذا الوهم موهماً، مثل حديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) إن طوائف من البطالين والفاشلين، وقفت عند ظاهره المرفوض)([234])
هذا
مجرد نموذج عن القمع الفكري الذي يمارسه السلفية على كل باحث ومفكر وعاقل، وصدق
نصر حامد أبو زيد حينما سمى كتابه [التفكير في زمن التكفير]، ذلك لأن الموازين
السلفية في التكفير تدعو المؤمن إلى إلغاء عقله وتفكيره وكل قدراته التحليلية
ليحافظ على الإيمان، وإلا فإنه سيقع في التجهم والاعتزال والعقلانية والعصرانية..
وكل ذلك عندهم كفر وضلال.
([1]) مجموع الفتاوى، 6/354.
([2]) مختصر العلو، ص 187.
([3]) الإبانة، 3/ 136.
([4]) فتح البر بترتيب التمهيد، 2/ 7.
([5]) فتح البر بترتيب التمهيد، 2/48.
([6]) انظر: درء تعارض العقل والنقل 6/ 264.
([7]) درء تعارض العقل والنقل، (7/27)
([8]) مجموع الفتاوى، (5/138)
([9]) كشف الشبهتين ص: 31.
([10]) تمييز الحق والمين ، ص 139وما بعدها.
([11]) تمييز الحق والمين ، ص144.
([12]) إبطال التأويلات، ص: 387.
([13]) الطبري في التفسير، 6/29.
([14]) إبطال التأويلات (ص: 387)
([15]) الرد على الجهمية والزنادقة (ص132)
([16]) طبقات الحنابلة (2/296)
([17]) طبقات الحنابلة (1/ 13)
([18]) طبقات الحنابلة (1/ 13)
([19]) طبقات الحنابلة (1/ 13)
([20]) طبقات الحنابلة (1/ 13)
([21]) رواه عبد الله في السنة (1/280-281)
([22]) نقله ابن تيمية في شرح الأصفهانية (64) وفي درء تعارض العقل والنقل (2/39) وفي الفتاوى الكبرى (5/165)
([23]) شرح السنة (ص90)
([24]) معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي، 1/ 337.
([25]) السنة لحرب الكرماني، 375.
([26]) الإبانة ، 257.
([27]) السنة لعبدالله بن أحمد 25.
([28]) طبقات الحنابلة 1/173.
([29]) شرح أصول الاعتقاد 321.
([30]) السنة 66 – 67 – 68 – 69.
([31]) الشرح والإبانة 251.
([32]) الحجة في بيان المحجة 1/424.
([33]) الرد على الجهمية (ص: 91)
([34]) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن ( 7)
([35]) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (6)
([36]) العلو للعلي الغفار (ص: 244)
([37]) الرد على الجهمية (ص: 179)
([38]) الرد على الجهمية (ص: 179)
([39]) الرد على الجهمية (ص: 180)
([40]) الرد على الجهمية (ص: 182)
([41]) درء تعارض العقل والنقل، 1/205.
([42]) مجموع الفتاوى، 5/34.
([43]) المحاضرات السنية، 1/67.
([44]) انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 187)، فما بعدها، والرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص10، فما بعدها، فقد ذكر فيه الأقوال الكثيرة لأعلام السلف في هذا، ومنه أخذنا هذه الأقوال.
([45]) شرحه على النونية (2-453)
([46]) مختصر العلو للعلي العظيم (ص: 15)
([47]) شرح السنة للبربهاري، 1/453.
([48]) ألفها إبراهيم بن رجا بن شقاحي الشمري، وهي في موقعه على النت.
([49]) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص3.
([50]) مجموع فتاوى ابن باز ، (9/ 315)
([51]) الموقع الرسمي لصالح الفوزان تحت عنوان: إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى.
([52]) صدرت هذه الفتوى تحت توقيع كل من: العضو:عبد الله بن قعود… العضو:عبد الله بن غديان…نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي… الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز. انظر: فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (1/ 515)
([53]) الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة : الفائدة 8.
([54]) محمد أمان الجامي في محاضرة مفرغه بعنوان [ الرد على الأشاعرة والمعتزلة ].
([55]) درء تعارض العقل والنقل (2/96)
([56]) مجموع الفتاوى (3/ 173)
([57]) بيان تلبيس الجهمية 2/434.
([58]) بيان تلبيس الجهمية ، 6/359 .
([59]) شرح قصيدة ابن القيم 2/203.
([60]) شرح قصيدة ابن القيم 2/320.
([61]) اجتماع الجيوش الإسلامية 154 ، وانظر الصواعق المرسلة 4/1333.
([62]) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1382)
([63]) انظر نونية القحطاني، 50 .
([64]) المناظرة على القرآن، ص50.
([65]) انظر الأشعري في المقالات 2/257، وقد ذكر الشهرستاني عن الأشعري أنه يقول ببعض ما ذكر. انظر: الملل 1/96..
([66]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 154)
([67]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 154)
([68]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/405)
([69]) ذم الكلام 1315.
([70]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 364)
([71]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 385)
([72]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 386)
([73]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 3/ 219.
([74]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 3/ 220.
([75]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/ 210)
([76]) رسائل وفتاوى أبا بطين (ص: 177)
([77]) تكفير الأشاعرة، ص3.
([78]) تكفير الأشاعرة، ص3.
([79]) طبقات الحنابلة 2/553.
([80]) تكفير الأشاعرة، ص3.
([81]) تكفير الأشاعرة، ص4.
([82]) تكفير الأشاعرة، ص5.
([83]) شرح السنة، 73.
([84]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 409)
([85]) الدرر السنية 10/63.
([86]) الرسائل 1/657.
([87]) الإبانة، 129..
([88]) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص:54.
([89]) الدرر السنية 9/291.
([90]) الدرر السنية 8/160..
([91]) تكفير الأشاعرة، ص12.
([92]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([93]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([94]) درء تعارض النقل والعقل 7/26..
([95]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([96]) بيان تلبيس الجهمية 3/522.
([97]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([98]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([99]) التعليق مني.
([100]) التعليق مني.
([101]) تأكيد المسلمات السلفية، ص8.
([102]) تأكيد المسلمات السلفية، ص3.
([103]) تأكيد المسلمات السلفية، ص5.
([104]) الاستقامة (1/105)
([105]) سير أعلام النبلاء(14/380)
([106]) شرح الأصفهانية (ص107-108)
([107]) درء تعارض العقل والنقل (7/97)، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية ص207.
([108]) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص100-101)
([109]) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص222- 223)
([110]) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص177-178)
([111]) جامع بيان العلم وفضله (2/96)
([112]) المناظرة في القرآن ص35.
([113]) درء تعارض العقل والنقل (2/96)
([114]) الإصفهانية، 58.
([115]) مجموع الفتاوى(14/354)
([116]) تأكيد المسلمات السلفية، ص19.
([117]) تأكيد المسلمات السلفية، ص20.
([118]) تأكيد المسلمات السلفية، ص20.
([119]) مجموع الفتاوى (4/ 155)
([120]) منهاج السنة (2/221)
([121]) تأكيد المسلمات السلفية، ص22.
([122]) هذه الكتب التي استند إليها المؤلف في هذا: الفتاوى الكبرى (5/68)(5/239) وانظر من كتب الأشاعرة الإرشاد للجويني ص156 .
([123]) تأكيد المسلمات السلفية، ص22.
([124]) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، (175-176)
([125]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص113.
([126]) تأكيد المسلمات السلفية، ص28.
([127]) كتاب السنة (1/130)
([128]) الماتريدية النشأة والمنهج للدكتور كمال الدين نور الدين مرجوني.
([129]) انظر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 262.
([130]) تاريخ المذاهب الاسلامية: ج ١ ص ١٩٩.
([131]) مقدمة تبيين كذب المفتري: ص ١٩.
([132]) اصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص ٢٤٢.
([133]) المواقف: ص ٢٨.
([134]) اشارات المرام، ص ٥٣..
([135]) اشارات المرام، ص ٥٤..
([136]) اشارات المرام: ص ٥٤.
([137]) التوحيد: ص ٢٦٦..
([138]) اشارات المرام: ص ٥٤.
([139]) العقائد النسفية: ص ٧٦.
([140]) التوحيد: ص ٦٩ و٧٠..
([141]) التوحيد: ص ٦٩ و٧٠..
([142]) التوحيد: ص ٦٩ و٧٤..
([143]) تكفير الأشاعرة، ص23.
([144]) شرح العقائد النسفية، (ص 58)
([145]) النبراس، ص 223)
([146]) شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 61).
([147]) (شرح العقائد النسفية)) (ص 61)
([148]) بحر الكلام، ص29.
([149]) بحر الكلام، ص29.
([150]) التأويلات، 1/ل 977.
([151]) تبصرة الأدلة، 77، 78.
([152]) تبصرة الأدلة، ل110، 111،113،)
([153]) شرح المقاصد، 2/ 50.
([154]) التوحيد للماتريدي: ص ٧٤.
([155]) شرح المواقف، 8/ 110 – 111.
([156]) شرح المواقف، 2/ 56 – 57.
([157]) اصول الدين: ص ٢٥ ـ ٢٨..
([158]) اصول الدين: ص ٢٥ ـ ٢٨..
([159]) التوحيد للماتريدي: ص ٨٥..
([160]) تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص ١٤٩ ـ ١٥٠..
([161]) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن باز ص 16.
([162]) منهاج السنة النبوية (2/ 604)
([163]) مجموع الفتاوى (6/359)
([164]) مجموع الفتاوى (8/227)
([165]) الفتاوى الكبرى (5/325)
([166]) سير أعلام النبلاء، 5/ 464.
([167]) السنة لعبدالله بن أحمد، برقم 833.
([168]) ابن أبي عاصم: (198)
([169]) السنة لابن أبي عاصم برقم (199)
([170]) السنة، لعبدالله برقم (29.
([171]) السنة، لعبدالله برقم (839)
([172]) ابن حبان، المجروحين، 2/ 71.
([173]) ميزان الاعتدال، 3/ 274.
([174]) السنة، لعبدالله برقم (983)
([175]) سير أعلام النبلاء، 3/ 273.
([176]) الضعفاء، 3/ 285).
([177]) العقيلي، الضعفاء، 3/ 281، 282.
([178]) العقيلي، الضعفاء، 3/ 281، 282.
([179]) ابن حبان، المجروحين، 2/ 71.
([180]) أخرجها أبو نعيم في الحلية 5/346-353.
([181]) ذكرها الذهبي في السير 16/11.
([182]) مناقب الامام أحمد: ص 375 ـ 385.
([183]) الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 256)
([184]) نقلا عن الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 256)
([185]) تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 368.
([186]) تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 367.
([187]) تاريخ بغداد: 3/ 285.
([188]) من مقال بعنوان [لسان حال السلطة: اعطوهم من هذا الدين حتى يشبعوا وينسوكم: المتوكل ناصر السنة] موقع الشيخ حسن بن فرحان المالكي.
([189]) المرجع السابق.
([190]) المرجع السابق.
([191]) ذكرت القصة النجوم الزاهرة لابن تغري بردى (2/ 285) – عن ابن السكيت – قال له (المتوكل) يوما: أيّما أحبّ إليك: ولداى المؤيد والمعتزّ أم الحسن والحسين أولاد علىّ؟ فقال ابن السكيت: والله إنّ قنبرا خادم علىّ خير منك ومن ولديك؛ فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات من ساعته.. وقد اعترف بهذا معظم المؤرخين؛ ومنهم الحنابلة المعتدلون – كابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (3/ 204)
([192]) لسان حال السلطة: اعطوهم من هذا الدين حتى يشبعوا وينسوكم.
([193]) تاريخ بغداد (15/ 389)
([194]) البداية والنهاية: ج12 ص6..
([195]) تاريخ بغداد: ج 4، ص 37 و38..
([196]) الكامل: ج 7، حوادث سنة 420..
([197]) البداية والنهاية: الجزء 12، ص 91.
([198]) البداية والنهاية: الجزء 12، ص98.
([199]) البداية والنهاية: الجزء 12، ص98.
([200]) البداية والنهاية: الجزء 12، ص98.
([201]) فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (1/ 129)
([202]) الأسئلة اليامية عن العقيدة الإسماعيلية السؤال:17.
([203]) من شريط الدمعة البازية، وانظر مقالا بعنوان: (الدمعة البازيـــة صورةٌ من التجرد للحق والثبات عليه)، ويمكن تحميل الحوار والمحاضرة المرتبطة به من النت، وهي منتشرة بكثرة.
([204]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص11.
([205]) مختصر الصواعق المرسلة ص82-83.
([206]) مقدمة كتاب: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/21)
([207]) أطواق الذهب في المواعظ والخطب، مقالة37 ص28.
([208]) الملل والنحل (1/60)
([209]) رسالة التوحيد، ص25.
([210]) الإسلام والنصرانية، ص 56.
([211]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص13.
([212]) شببهات النصارى وحجج الإسلام: محمد رشيد رضا ص71-72.
([213]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص13.
([214]) نقلاً من العصرانيون ص178.
([215]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص13.
([216]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص14.
([217]) فتاوى ابن تيمية (13/363-370)
([218]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص14.
([219]) الفتاوى (13/358)
([220]) تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 662)
([221]) فتاوى ابن تيمية (5/143)
([222]) تفسير جزء عم: محمد عبده ص84.
([223]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص15.
([224]) كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتابي [هكذا يفكر العقل السلفي]، و[التراث السلفي تحت المجهر]
([225]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص20.
([226]) الفتاوى (4/140)
([227]) البخاري (4/199)
([228]) تفسير الكشاف: (1/ 385-386)
([229]) تفسير جزء عم: محمد عبده ص 186.
([230]) رواه أبو داود: 4604.
([231]) مجلة المنار: مجلد (29) ص 104.
([232]) تفسير المنار مجلد (27) ص 697.
([233]) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص22.
([234]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص119.