السلفية.. وتكفير المدارس الصوفية

السلفية.. وتكفير المدارس الصوفية

أخطر ما وصل إليه التكفير السلفي هو تكفيره للمدارس الصوفية بمشايخها وعلمائها ومريديها ومحبيها ومناصريها والمدافعين عنها.. فلم يسلم من سيف تكفيره بسببها إلا السلفية، وبعضهم ـ ممن هادن أو سكت ـ على خطر، كما سنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب.

وما ذكرناه ليس سهلا ولا بسيطا ولا محدودا، ذلك أن الطرق الصوفية، ولفترات طويلة من التاريخ الإسلامي كانت هي المسيطرة والمؤثرة في المجتمع، فلم تكن تخلو أسرة ولا بيت من مريد لطريقة من الطرق، ومن عداهم كانوا ينظرون إلى الطريقة باعتبارها محلا للصالحين، ومأوى للطاهرين الموحدين.. وكانوا جميعا يعظمون الأولياء ويتبركون بهم ويزرون قبورهم.. وكانوا جميعا يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به، ويكتبون القصائد في مدحه..

وكيف لا يكون الأمر كذلك، وأكثر الأمة أسلم بسبب رجال الطرق الصوفية ومريديها ومحبيها.. فقد كانوا هم مفتاحهم للإسلام، وهل يمكن لأحد أن يعرض عن المفتاح الذي فتح الله له به الهداية؟

بناء على هذا لن نبذل جهدا كبيرا في هذا الفصل في إثبات تكفير السلفية للطرق الصوفية إما تكفيرا مطلقا، أو تكفيرا معينا.. لأنهم هم أنفسهم كفونا ذلك ـ وخاصة في هذا العصر ـ حيث ألفوا الكتب الكثيرة، وأصدروا الفتاوى الطويلة في تكفير كل رجالا التصوف وطرقها والمؤيدين لها.

والمعاصرون من السلفيين قد تميزوا عن السابقين بتوسيع دائرة التكفير لتشمل الأوائل من الصوفية كالجنيد ورابعة وغيرهما، ممن كان سلفهم الأول ينظر إليهم بنوع من الاحترام والتقدير.

وقد ألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك.. والتي تحاول أن تعطي قاعدة مفادها: كل صوفي كافر.. ولا يهم في ذلك أن يكون متقدما أو متأخرا.. سلفيا أو خلفيا.. فمجرد نسبته للتصوف تطبعه بطابع الكفر، حتى لو برأه منه ابن تيمية وغيره.. فلا عبرة بذلك، لأن ابن تيمية ـ كما يقول هؤلاء السلفيون ـ لم يكن يدرك الحيل التي احتالوا بها عليه، ليبرئهم، ويسكت عنهم.

ومن باب المثال، أذكر هنا كتابا لقي إقبالا كبيرا من السلفيين منذ تأليفه إلى الآن، وهو مرجعهم الأكبر في هذا ـ بدل ابن تيمية ـ وهو كتاب (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) الذي يعتبر من أعظم الكتب التكفيرية التي كتبها السلفية، وخالفوا بها حتى مشايخهم الأوائل، وقد بدأ محمود عبد الرؤوف القاسم ـ صاحب الكتاب ـ كتابه هذا ببيان أن الصوفية جميعا شيء واحد، ويحملون فكرة واحدة، ولذلك فإن تكفير ابن تيمية أو غيره لأي واحد منهم، يجعل الجميع تحت طائلة التكفير.

يقول في ذلك: (لا يوجد إلا صوفية واحدة، غايتها واحدة، وحقيقتها واحدة (وسنرى أن طريقتها واحدة) منذ أن وجدت الصوفية حتى النهاية، وإن اختلفت الأسماء، وهذه براهين من أقوال عارفيهم (وصاحب البيت أدرى بما فيه)([1])

ونقل من نصوص الصوفية ما يدل على ذلك، كقول الجنيد (سيد الطائفة): (الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم)([2])، وقول أبي نصر السراج (صاحب اللمع): (لأن علم الحقائق ثمرة العلوم كلها، ونهاية جميع العلوم، وغاية جميع العلوم إلى علم الحقائق، إذا انتهى إليها وقع في بحر لا غاية له، وهو علم القلوب، وعلم المعارف، وعلم الأسرار، وعلم الباطن، وعلم التصوف، وعلم الأحوال، وعلم المعاملات، أي ذلك شئت فمعناه واحد)([3])، وقول أبي طالب المكي: (فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة؛ لأن المعروف بها واحد، والمتعرف عنها، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين أعلاها، وهي مقامات المقربين، وعمومهم أولها، وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين)([4])

وهكذا نص على هذا الصوفية المتأخرون من أمثال ابن عجيبة الذي قال: (..بخلاف مذهب الصوفية، فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك.. فمرجع كلام القوم في كل باب لأحوالهم، وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها، وذلك بخلاف مذهب غيرهم، والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة وإن اختلفت مسالكها، فالنهاية واحدة، والذوق واحد، وفي معنى ذلك قال قائلهم:

الطرق شتى وطريق([5]) الحق واحدة                   والسالكون طريق الحق أفراد

ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع، أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان، وهم متفقون فيه لأنه أمر ذوقي لا يختلف)([6])

وهكذا قال الشيخ عبد القادر عيسى: (وإن الطريق واحدة في حقيقتها، وإن تعددت المناهج العملية، وتنوعت أساليب السير والسلوك، تبعاً للاجتهاد وتبدل المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية، وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها واحدة)([7])

وهكذا قال الشيخ عبد الحليم محمود: (وفي الناس من يرى أن التصوف مذاهب وفرق وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إِلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام وإلى الفلسفة؛ ففي علم الكلام: أشاعرة ومعتزلة ومشبهة، وفي الفلسفة: أرسطيون وإِفلاطونيون وديكارتيون.. ولقد خلط الكاتبون بين هذه الدراسات والتصوف، فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقاً وطوائف ولو أمعنوا النظر، لعرفوا أن التصوف تجربة روحية، وليس نظراً عقلياً، وإذا كان النظر العقلي يفرق الناظرين إلى طوائف وفرق، فإن التجربة لا يختلف فيها اثنان.. وكما أنه لا يستساغ الخلط بين الوسائل والغايات في أي ميدان من الميادين، فإنه لا يجوز أن يستساغ الخلط بين طرق التصوف، وهي وسائل، وبين الغاية، وهي التصوف نفسه، فطرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من بعض، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة. التصوف إذن مذهب (بصيغة المفرد) لا مذهب (بصيغة الجمع)([8])

ومع كون ما ذكره هؤلاء الصوفية واضح لا حرج فيه، فالتجربة الصوفية تختلف عن الرؤى العقلية، ولذلك فإنها واحدة من حيث أهدافها لأنها جميعا تهدف إلى التعرف على الله والتواصل معه إلا أن الكاتب راح يستنتج منها ـ كعادة السلفية ـ أن إثبات كفر واحد من هؤلاء سيعمم النتيجة على الجميع، وتصبح المعادلة كالتالي: كل صوفي كافر، و(س) صوفي، إذن هو كافر..

وحينها لا نحتاج لإثبات كفر أي شخص إلا لإثبات ميوله الروحية، ومحبته للصالحين، أو قراءة كتبهم، فإن دعا الآخرين إلى ذلك صار كفره مضاعفا، لأنه سيتحمل وزر كل من كفر بسببه.

يقول في ذلك: (هذه أقوال لبعض كبار القوم، نخلص منها إلى أن للصوفية عقيدة واحدة يدين بها كل المتصوفة قديمهم وحديثهم، وأن الطرق الصوفية (كالشاذلية والرفاعية والقادرية والخلوتية والنقشبندية واليشرطية والمولوية والبكطاشية والتجانية وغيرها وغيرها، وإن اختلفت أسماؤها، فهي كلها تؤدي إلى هدف واحد هو العقيدة الصوفية الواحدة)([9])

وهو ـ كسائر السلفية في تعاملهم مع المخالفين لهم ـ يشق على قلوبهم، ويرميهم بالتقية إن دافعوا عن أنفسهم في وجه أي بهتان يصب عليهم.. ويصورهم بصورة المتآمرين على ذلك الإسلام السلفي النظيف، فيقول: (سيظن الكثيرون -بناء على ما تقدم- أنه يكفي لدراسة الصوفية أن ندرس عقيدة صوفي واحد، كالغزالي مثلاً، أَو ابن عربي، أو ابن عجيبة، أو غيره، ثم نطلق حكماً بكل ثقة واطمئنان على جميع المتصوفة، وإن حكمنا سيكون علمياً صحيحاً، فنقول: هذا صحيح كل الصحة من الناحية العلمية، ولكننا أمام جماعة باطنية لهم عقيدة سرية، استهوت عقولهم ونفوسهم واستحوذت عليها، فلا يهتدون سبيلًا إِلا سبيلها، وهم يدافعون عنها بكل ما لديهم من إِمكانيات وبالمراوغات والمغالطات واللف والدوران وجميع الأساليب اللاعلمية واللاأخلاقية)([10])

ثم يضرب مثلا على ذلك فيقول ـ بيقين ليس وراءه يقين ـ (وكمثل على ذلك: إِنهم يعلمون يقيناً وخاصة الواصلون منهم أن الصوفية هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة الإسلامية، ومع ذلك فهم يكتمون هذه الحقيقة ويشيعون بين الناس أن الصوفية هي قمة الإسلام والإيمان وهي منتهى التقى والورع، وهي مقام الِإحسان، وقد انطلت هذه الخدعة على الناس وصدقوها، حتى لو قلت لأحدهم: إِن الصوفية زندقة، لثار عليك واتهمك الاتهامات التي لا تخطر لك على بال، رغم أَنه ليس صوفيًّا، ولكنه اقتنع بالخدعة وانجرت عليه ذيولها)([11])

وهو ـ كسائر السلفية ـ لا يقبل من الصوفية ـ كما لا يقبل من غيرهم ـ إلا أن يخضعوا لكل ما ينسبونه لهم، فإن دافعوا عن أنفسهم بالحقائق العلمية القطعية اعتبروا مراوغين مخادعين يستعملون أساليب الباطنية، يقول في ذلك: (ومثل من مراوغاتهم المعتادة: لو جئتهم بدراسة عن صوفية ابن عربي مثلًا، لسمعت من يقول لك: هذا مدسوس عليه، أَو لسمعت من يقول: هذا شيء لا يدين به الباقون، أو لسمعت: هذا كان فيما مضى من الزمان، ولم يبق له أثر، أو تسمع من يقول: الصوفية الآن لا يعرفون هذه الأمور ولا يفهمونها، فأَكثرهم بسطاء وسذج، أو هذا يعرفه بعضهم ويجهله الآخرون، وإن كانت الدراسة حول صوفي غير مشهور، فسيكون الجواب: هذا مندس على الصوفية، مدع لها، والصوفية الحقة بريئة منه ومن أمثاله، والصوفية الحقة هي قمة الِإسلام والِإيمان..ولو أتيتهم بنصوص صوفية للغزالي مثلاً، وبرهنت لهم على صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها وأريتهم مواضع الضلال فيها، فالجواب الذي ستسمعه: هذا كلام له تأويل! أو يجب أن نؤوله! أو هذا كلام لا نفهمه، ومثل هذه الأجوبة، نسمعها أيضاً من غير المتصوفة من كثير من الناس، لأنهم سمعوها سابقاً من المتصوفة، وسمعوها وسمعوها كثيراً حتى اقتنعوا بها)([12])

وللأسف فإنهم هم أنفسهم ـ أي السلفية ـ تأتيهم بالبراهين القاطعة من كتبهم، فيذكرون لك أن فيها فلان، وهو ضعيف، وفلان لم يوثقه ابن حبان، أو تكلم فيه ابن أبي زرعة.. فإن ذكرت لهم شيئا مما قاله ابن تيمية أو غيره مما ينكرونه زعموا أنه مدسوس عليهم.. فإن ذكرت لهم رجلا من السلف الذي أثنى عليه ابن القيم كالهروي، ذكر لك أن ابن القيم انخدع فيه.. وهكذا يتيحون لأنفسهم ما يمنعون منه غيرهم.

حتى أنه في موضوعنا هذا المتعلق بالتكفير.. إذا نقلت لهم النصوص الكثيرة من تكفير سلفهم للأشاعرة أو غيرهم، يأتيك بنص قاله واحد من المتأخرين.. ثم يقول لك: نحن لا نقول بذلك، وها هو فلان أفتى بهذه الفتوى.. فيسمحون للواحد منهم أن ينسخ كل جرائم سلفه.. بينما يكلفون الصوفية أو غيرهم من مخالفيهم بأن يتحملوا أوزار أي واحد منهم.

وهذا يذكرنا بموقف السلفية من تحريف الشيعة للقرآن الكريم، حيث يلجأون إلى كتاب واحد ألفه رجل منهم، ليس له أي مكانة بينهم، ويتغافلون عن مئات الكتب والتصريحات والنصوص التي تؤكد أن قرآن الشيعة هو نفسه قرآن سائر المسلمين.

وهذا كله من التطفيف السلفي في الميزان الذي جعلهم يضعون مكاييل خاصة بهم، ومكاييل خاصة بغيرهم.

وأحب أن أبين هنا أن الصوفية وعلى مدار التاريخ كانوا من أكثر الناس تسامحا مع الأمة جميعا، بل مع البشر جميعا، ولهذا لم يحفظ عنهم أي إساءة أو أذى أو ممارسة عنف مع أي جهة من الجهات.. وهذا ما جعلهم ينتشرون في كثير من مناطق الإسلامي، وينشرون معهم الإسلام وسماحة الإسلام.

وقد قال الصوفي الكبير الأستاذ السيد محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية في كتابه المعنون بـ [أهل القبلة كلهم موحدون وكل مساجدهم مساجد التوحيد، ليس منهم كافر ولا مشرك ولا وثني ولا مرتد، وان قصر أو اخطأ أو تجاوز] يبين سماحة الصوفية مع كل مذاهب الأمة وطوائفها، وذلك تعليقا على الحديث الذي يتعلق به السلفية في تكفير سائر الأمة والحكم بهلاكها، فقد قال: (بقي الكلام عن الحديث الذي لا يزال يلغط به بعضهم، ابتغاء تطبيقه على الجماعات الصوفية بخاصة وليس إلا [هو يقصد في الفترة التي كتب فيها الكتاب حيث كانت الحرب حينها متوجهة للصوفية، أما الآن فهي متوجهة للشيعة].. ونحن على تقدير صحته، قد بينا لك من نصوص القرآن ثم من المسلمات البديهية أن تعدد السبل إلى المقصود الواحد أمر طبيعي وشرعي، فلا ينسحب عليه حكم (تعدد الفرق) لأن الذي يطلق عليها تجاوزا أو مجازا اسم(الفرق) الآن في الإسلام، كلها دائرة في فلك الكتاب والسنة، فهي على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه. فهى(مذاهب) أو (مشارب) أو(سبل) تبتدئ من الشهادتين، وتنتهي عندها حقهما وأثرهما. فهى واحدة).. فالسادة المالكية، والأحناف، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والظاهرية والإباظية والإمامية والهادوية والصوفية والسلفية، والأشعرية والما تريدية، بل والمعتزلة (المعتدلين) كل هؤلاء وأمثالهم يسيرون في طريق واحد على (أساليب) مختلفة من الفهم والاستنباط والمقارنة والبحث.. ويلحق بهؤلاء جميعا سائر الهيئات والجماعات الإسلامية السليمة المنتشرة في بقاع الأرض وهي ألوف لا تحصى)([13])

ثم بين موضع انطباق الحديث، فقال: (وإنما ينطبق الحديث (على فرض صحته) على غلاة الخوارج والباطنية والقرامطة والبهائية والتاديانية والجماعات المستحدثة من السلفية ونحو هؤلاء من الفرق التي ذكرها أصحاب كتب (الملل والنحل) ممن خالفوا الأصول عمدا، وأنكروا المعلوم من الدين بالضرورة، وليس في طوائف الصوفية خاصة وبقية الطوائف الاسلامية المعتدلة من خالف الاصول عمدا أو أنكر المعروف من الدين بالضرورة وإن تطرف أو غالى، ربما كان فيهم المقصرون، أو المخطئون، أو العصاة، وهذا لا يحرمهم من الدين ولا يسحب عليهم حكم الفرق الكافرة، فبعض الفرق أشد غلوا وانحرافا وتطرفا وانجرافا، ومع هذا فهى مسلمة، فالمعصية شيء، والردة والزندقة والشرك والكفر شيء آخر)([14])

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل أن نثبت بالأدلة القطعية تكفير السلفية للصوفية تكفيرا مطلقا أو تكفيرا معينا.

أولا ـ التكفير المطلق:

يضع السلفية الكثير من نواقض الإيمان المرتبطة بالتصوف، منها ما يرتبط بالعقائد والتصورات، ومنها ما يرتبط ببعض السلوكات العملية التي يدرجها السلفية ضمن نواقض توحيد الألوهية، وقد استقرأنا أقوالهم في ذلك ابتداء من السلف الأول إلى اليوم، فوجدنا أنه يمكن تصنيفها إلى أربعة نواقض كبرى:

1 ـ تهمة التنزيه المطلق للحضرة الإلهية: فالسلفية يتهمون الصوفية بالقول بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي الذي يجعل من الخالق والمخلوق شيئا واحدا، أو وحدة الموجود ـ كما يعبر بعضهم ـ أو تنزيه الله عن أن يوجد معه غيره كما يمكن أن يعبر..

2 ـ تهمة المواجيد والأشواق الروحية: أو وحدة الشهود والفناء والحلول والاتحاد.

3 ـ تهمة تعظيم الحضرة النبوية: بالتوسل والاستغاثة بها، وكتابة القصائد والزيارات والاحتفال بالمناسبات المختلفة..

4 ـ تهمة تقديس الولاية والأولياء: ومنها تعظيم آل بيت النبوة، واتهام الصوفية بالتشيع على أساس ذلك، أو بالقبورية والشرك نتيجة تعظيم مقامات الأولياء.

1 ـ تهمة التنزيه المطلق للحضرة الإلهية:

وهذه أكبر التهم، وقد اهتم بها ابن تيمية كثيرا، وعلى أساسها كفر كثيرا من مشايخ الصوفية المتأخرين.. والمعاصرون من السلفية يرمون بها كل الصوفية ابتداء من الجنيد إلى آخر صوفي.. وهم يقرؤون كل ما يقوله الصوفية من معان تحض على التوحيد إلى هذا المعنى.

ومن أمثلة ذلك قول صاحب كتاب [الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ] في فصل خصصه لوحدة الوجود عند الصوفية: (إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود)([15])

ثم راح يسوق الكثير من تلك النصوص الجميلة التي ذكرها الصوفية، والتي راحوا من خلالها يعمقون صلة المؤمنين بالله، ليجعلوا قبلة قلوبهم واحدة هي الله.. لكنها لم تكن جميلة عند السلفية، لأن لوثة الخوف من الشرك التي امتلأت بها عقولهم جعلتهم ينكرون كل شيء، ويشكون في كل شيء.. وليتهم إذ لم يفهموها، أو لم تعجبهم، سكتوا، بل إنهم شنوا حملة كبيرة عليها، واعتبروها زندقة وهرطقة، واعتبروا أولئك العارفين الذين نطقوا بها زنادقة منحرفين ضالين.

ومن أمثلة ذلك تلك النصوص الجميلة الممتلئة بتنزيه الله وتعظيمه، قول أبي حامد الغزالي: (..فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل)([16])

وقد علق صاحب الكتاب على هذا بقوله: (يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم)([17])

وينقل عن الغزالي قوله: (نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية. والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به…وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال…ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال)([18])

ومع أن هذا النص واضح في تنزيه الله وتعظيمه وأنه صاحب الوجود الحقيقي، وما عداه لا يملك هذا الوجود الأصلي، بل وجوده تبعي، فقد علق عليه الكاتب بقوله: (هذا النص مشحون ـ أي بوحدة الوجود ـ  لكن أهم ما فيه هو: 1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.. 2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).. 3- إعطاؤه لكلمة (الربوبية) معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.. 4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:(أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح). ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون).. 5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال)([19])

بهذه الطريقة يحلل السلفية كلام العارفين، وبقلوبهم المريضة يحولون تلك المعاني الرقيقة السامية إلى هذا المنحدر السحيق.. كل ذلك ليرضوا نزوة تكفير علم عظيم اتفقت الأمة على احترامه والاستفادة منه.

وهكذا ينقل قول الغزالي ـ وهو يتحدث عن إكرامات الله للسالكين إليه ـ: (ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية)؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله)([20])

وعلق على ذلك بتوضيح مراد الغزالي الحقيقي على حسب ما يفهم العقل السلفي، فقال: (نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم: (أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون)([21])

وهكذا ينقل هذه الدرر الجميلة من كلام الغزالي عن حقيقة تنزيه الصوفية المطلق لله، في قوله: (والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد)..والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد)([22])

ثم يجيب عن سر ذلك، فيقول: (فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع)؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ…وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز)([23])

ثم يعلق الكاتب على هذا التوحيد العرفاني السامي بقوله: (أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح، ويقول: (فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه)([24]))([25])

ومع وضوح هذا الكلام وجماله وروحانيته إلا أن السلفية لا يستفيدون منه إلا شيئا واحدا هو كفر صاحبه.. أما لو ذكر الغزالي بأن الله ليس سوى جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، وأن له بيتا في الجنة، وأنه يجلس ويستلقي ويجري ويهرول، فإنه حينها يصير موحدا ومسلما.

هذا مجرد مثال عن مواقف السلفية من كلام أبي حامد الغزالي في التوحيد السني التنزيهي، لا التوحيد السلفي الوثني.

ونحب أن نسوق هنا للدلالة على معنى وحدة الوجود عند الصوفية، والتي كفرهم ابن تيمية والسلفية جميعا بسببها، كلام عالمين جليلين نالا حظهما من الاهتمام من لدن الصوفية بمدارسها المختلفة، كما نالا حظهما من التكفير من المدارس السلفية المختلفة.

أما أولهما، فهو الشيخ عبد القادر عيسى، وهو شيخ طريقة له مريدوه، وشهادته لها أهميتها الكبرى، باعتبار علاقته العملية بالتصوف.. وأما الثاني فهو الشيخ عبد الحليم محمود، وهو باحث وأكاديمي ومطلع على الفلسفات المختلفة، بالإضافة لممارسته للتصوف.

 أما الأول، وهو الشيخ عبد القادر عيسى فقد عقد فصلا في كتابه العظيم [حقائق عن التصوف] لرد هذه الشبهة عن الصوفية قدم له بقوله: (اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال، وفهم كلامهم على غير المراد. ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر ورجع إِليهم ليعرف مرادهم. لأن هؤلاء العارفين مع توسعهم في هذه المسألة لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إِشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودوَّنوا لأنفسهم وتلاميذهم لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإِيضاح لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر)([26])

وبناء على هذا فقد راح ـ وهو الشيخ المربي صاحب الطريقة ـ يشرح المراد منها عند الصوفية، وأن معناها لا يعود إلا لتنزيه الله عن مشابهة مخلوقاته في أي شيء حتى في الوجود نفسه، فالله صاحب الوجود الحقيقي الواجب، وأما مخلوقاته، فوجودها تبعي لا ذاتي، وناقص لا كامل، فقال: (ونظراً لأن مسألة وحدة الوجود أخذت حظاً كبيراً من اهتمام بعض العلماء، وشغلت أذهان الكثير منهم، أردنا أن نزيد الموضوع إِيضاحاً وتبسيطاً خدمة للشريعة وتنويراً للأفهام فنقول:   إِن الوجود نوعان: وجود قديم أزلي؛ وهو واجب، وهو الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ذلِكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ} [الحج: 22]. أي الثابت الوجود، المحَقَّق، ووجود جائز عرضي ممكن، وهو وجود من عداه من المُحْدَثات)([27])

وبناء على هذه البديهية القرآنية والعقلية راح يميز بين الفهم الشرعي لوحدة الوجود كما يقول بها الصوفية، ووحدة الوجود الفلسفية، والتي يتوهم السلفية أنها من مقولات الصوفية.

فذكر أن وحدة الوجود الفلسفية والتي تعني (اتحاد الحق بالخلق، وأنه لا شيء في هذا الوجود سوى الحق، وأن الكل هو، وأنه هو الكل، وأنه عين الأشياء، وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه)([28])

وقد حكم على هذا النوع من الوحدة بأنه (كفر وزندقة وأشد ضلالة من أباطيل اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وقد شدَّد الصوفية النكير على قائله، وأفتَوْا بكفره، وحذَّروا الناس من مجالسته. قال العارف بالله أبو بكر محمد بناني: (فاحذر يا أخي كلَّ الحذر من الجلوس مع من يقول: ما ثَمَّ إِلا الله، ويسترسل مع الهوى، فإِن ذلك هو الزندقة المحضة، إِذ العارف المحقق إِذا صح قدمه في الشريعة، ورسخ في الحقيقة، وتَفَوَّهَ بقوله: ما ثَمَّ إِلا الله، لم يكن قصدهُ من هذه العبارة إِسقاطَ الشرائع وإِهمال التكاليف، حاش لله أن يكون هذا قصده)([29]))([30])

أما وحدة الوجود الثانية، والتي يقصدها الصوفية بتعبيراتهم المختلفة، فهي (وحدة الوجود القديم الأزلي، وهو الحق سبحانه، فهو لاشك واحد منزه عن التعدد. ولم يقصدوا بكلامهم الوجود العرضي المتعدد. وهو الكون الحادث، نظراً لأن وجوده مجازي، وفي أصله عَدَمِيٍّ لا يضر ولا ينفع. فالكون معدوم في نفسه، هالك فانٍ في كل لحظة. قال تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إلا وَجهَهُ} [القصص: 88]. وإِنما يُظهره الإِيجاد، ويُثْبتُه الإِمداد. الكائنات ثابتة بإِثباته، وممحوةٌ بأَحدِّيَة ذاته، وإِنما يُمْسكه سر القيومية فيه)([31])

وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى الإشاري المبثوث في ثنايا قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي أن وجوده قاصر على جهة ربه.

وربما يفيد سياق الآية هذا المعنى، فهو قد ورد في أثناء الدعوة إلى توحيد الله في الدعاء والعبادة، ليقول من جهة لا تتخذ أي ند تدعوه من دون الله فسيأتي اليوم الذي يهلك فيه، فلا يبقى شيء غير الله، وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي، فلذلك يكون من دعا غير الله، متوجها بالدعاء إلى الوهم، قال  تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]

ولا تنافي بين المعنيين، ولا تصادم بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر([32])، بل إن المعنى الأول مؤسس على المعنى الثاني.

وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته:وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال من ضمن دعاء التهجد:(أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق)([33])

ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب، فوجود الله هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، فهو معدوم باعتبار ذاته في كل الأحوال، كما قال الشيخ أبو مدين([34]):

الله قل وذر الوجود وما حوى
 
إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
  
فالكل دون الله أن حققته
 
عدم على التفصيل  والإجمال
  
واعلم بأنك  والعوالم  كلها
 
لولاه في محو وفي  اضمحلال
  
من لا وجود لذاته  من  ذاته
 
فوجوده   لولاه عين  محال
  
والعارفون بربهم لم  يشهدوا شيئاً
 
سوى   المتكبر   المتعال
  
ورأوا سواه على الحقيقة هالكــــــــاً      
 
في الحال والماضي والاستقبال
  

وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:

شغل المحب عن الهواء بسره
 
في حب من خلق الهواء وسخره
  
والعارفون عقولهم معقولة
 
عن كل كون ترتضيه مطهره
  
فهم لديه مكرمون وفي الورى
 
أحوالهم مجهولة ومستره
  

 وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كما ورد في الحديث كلمة لبيد([35]): ألا كل شيء ما خلا الله باطل([36]).

ومن هذا الباب جاءت أسماء الله تعالى التي نص عليها قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3]

فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.

وقد قال سيد قطب مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى:(وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3]

ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء:(الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)([37])  

ونحب أن نبين هنا أن سيد قطب على الرغم من عدم انتمائه لأي طريقة صوفية، ومع ذلك رمي بسبب هذه الكلمات بالقول بوحدة الوجود.. وكفر بسببها، وبأسباب أخرى سنراها في الفصل الخاص بتكفير السلفية للحركات الإسلامية.

وقد نبه الشيخ عبد القادر عيسى في نهاية بيانه لموقف الصوفية من وحدة الوجود إلى أن الصوفية يتواصون بينهم في عدم الحديث عن أمثال هذه المسائل، لأنها مسائل ذوقية، والعارف هو الذي يعيش الحقيقة لا الذي يجادل بها، فقال: (وعلى كلٌّ فالأَوْلى بالصوفي في هذا الزمان أن يبتعد عن الألفاظ والتعابير التي فيها إِيهام أو غموض أو اشتباه، لئلا يوقع الناس بسوء الظن به، أو تأويل كلامه على غير ما يقصده، ولأن كثيراً من الزنادقة والدخلاء على الصوفية قد تكلموا بمثل هذه العبارات الموهمة والألفاظ المتشابهة، لِيَظْهروا ما يُكِنُّونَه في قلوبهم من عقائد فاسدة، ولِيصلوا بذلك إِلى إِباحة المحرمات، ولِيبرِّرُوا ما يقعون فيه من المنكرات والفواحش، فاختلط الحق بالباطل، وأُخِذَ المؤمن الصادق بجريرة الفاسق المنحرف،  ولهذا سيَّجَ الصوفية بواطنهم وظواهرهم بالشريعة الغرَّاء، وأوْصَوْا تلامذتهم بالتمسك بها قولاً وعملاً وحالاً، فهي عندهم باب الدخول وسلم الوصول، ومَنْ حاد عنها كان من الهالكين)([38])

بعد أن عرفنا تفسير الشيخ عبد القادر عيسى لحقيقة وحدة الوجود ـ كما يفهمها الصوفية، لا كما يفهمها الفلاسفة ـ نذكر الآن تفسير الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق، والذي اهتم بالتصوف كثيرا، إلى جانبه اهتمامه بالفلسفة، وشهادته لها أهميتها الكبرى في هذا المجال.

وقد تعرض لها الشيخ عبد الحليم محمود في مواطن كثيرة من كتبه، وبين اتفاقها مع العقائد الإسلامية، وبعدها عن الفلسفات الإلحادية، ومن ذلك ما ذكره  في كتابه (أبو العباس المرسي) حيث قال: (نريد أن نبدأ مباشرة بملاحظة تزيل – بصورة غير متوقعة – حدة المناقشة في هذا الموضوع. وذلك أننا بصدد (وحدة الوجود) ولسنا بصدد وحدة الموجود. والموجود متعدد: سماء وأرضا. جبالا وبحارا. لونا ورائحة وطعما. متفاوت ثقلا وخفة.. ولم يقل أحد من الصوفية الحقيقيين – ومنهم ابن العربي والحلاج – بوحدة الموجود – وما كان للصوفية، وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا – وحاشاهم – بوحدة الموجود)([39])

وبعد أن بدأ هذه النتيجة المهمة التي توضح الفرق بين معنى وحدة الوجود عند الصوفية ومعناها عند الفلاسفة، أخذ يتحدث عن سبب إلصاق تهمة القول بوحدة الوجود الفلسفية بالصوفية، فقال: (وقد تتساءل: من أين اذن أتت الفكرة الخاطئة التي يعتقدها كثير من الناس. من أن الصوفية يقولون بوحدة الموجود؟! وتفسير ذلك لا عسر فيه: إن فريقا من الفلاسفة في الأزمنة القديمة، وفي الأزمنة الحديثة، يقولون بوحدة الموجود. بمعنى أن الله – سبحانه وتعالى عن إفكهم – هو والمخلوقات شيء واحد. قال بذلك هيراقليط في العهد اليوناني: والله عند نهار وليل صيف وشتاء، وفرة وقلة، جامد وسائل – أنه على حد تعبيره – كالنار المعطرة تسمى بإسم العطر الذي يفوح منها تقدس سبحانه وتنزه عما يقول، والله سبحانه وتعالى في رأي (شلي) في العصور الحديثة. هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل باسم. وهو هذه النسائم العليلة التي تنعشنا ساعة الأصيل. وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادي في ظلمات الليل، وهو هذه الوردة اليافعة تنفتح وكأنها ابتسامات شفاه جميلة. إنه الجمال إينما وجد، ولكنه أيضا – سبحانه وتعالى – القبح أينما كان. وكما يكون طفلا فيه نضرة، وفيه وسامة. يكون جثة ميت، ويكون دودة تتغذى من جسد ميت. ويكون قبرا يضم بين جدرانه هذه الجثة، وهذا الدود. أستغفرك ربي أوتوب اليك. ولوحدة الوجود – بمعنى وحدة الموجود – أنصار في كل زمان. ولما قال الصوفية.. بالوجود الواحد.. شرح خصومهم الوجود الواحد بالفكرة الفلسفية عن وحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود وفرق كبير بينهما. ولكن الخصومة كثيرا ما ترضى عن التزييف وعن الكذب في سبيل الوصول إلى هدم الخصم. والغاية تبرر الوسيلة كما يقولون)([40])

هذا هو السبب الأول، وهو مرتبط بالاشتراك اللفظي بين المصطلحين: الفلسفي والصوفي مع أن لكل منهما دلالته الخاصة.

وأما الثاني فمرتبط باشتراك لفظي آخر.. ليس بين الصوفية والفلاسفة.. وإنما بين الصوفية والمتكلمين، وقد وضحه الشيخ عبد الحليم محمود بقوله: (وشيء آخر في غاية الأهمية، كان له أثر كبير في الخطأ في فهم فكرة الصوفية عن الوجود الواحد، وهو أن الإمام الأشعري رأي في فلسفته الكلامية أن الوجود هو عين الموجود، ولم يوافقه الكثير من الصوفية على هذه الفكرة الفلسفية. ولم يوافقه الكثير من مفكري الإسلام وفلاسفته على رأيه. وهو رأي فلسفي يخطئ فيه أبو الحسن الأشعري أو يصيب، وما مثله في آرائه الفلسفية الا مثل غيره في هذا الميدان يخطئ تارة ويصيب أخرى، ورأى مخالفوه أن الوجود غير الموجود. وأنه ما به يكون وجود الموجود. ولما قال الصوفية بالوجود الواحد. شرح خصومهم فكرتهم في ضوء رأي الأشعري، دون أن يراعوا مذهبهم ولا رأيهم. ففسروا قولهم بالوجود الواحد على أنه قول بالموجود الواحد)([41])

ثم ذكر سببا ثالثا لذلك الخلط بين قول الصوفية وقول الفلاسفة ـ وهو الذي يتشبت به السلفية في العادة ـ وهو (هذه الكلمات التي تناثرت هنا وهناك مخترعة ملفقة مزيفة، ضالة في معناها، تافهة في قيمتها الفلسفية غريبة على الجو الإسلامي تنادي بصورتها ومعناها: أنها اخترعت تضليلا وافتياتا، إنها هذه الكلمات التي يعزونها الى الحلاج، أو الى غيره.. لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه.. لقد اخترعوها اختراعا ثم وضعوها أساسا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال. ويكفي أن يتشبث بها انسان فيكون في منطق البحث غير أهل الثقة)([42])

وبناء على هذا راح الشيخ عبد الحليم محمود يوضح مدى عقلانية وشرعية ما يطرحه الصوفية من معان حول وحدة الوجود، فقال: (الوجود الواحد: وهل في الوجود الواحد من شك؟ إنه وجود الله المستغني بذاته عن غيره، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن، وليس لكائن غيره سبحانه. الوجود من نفسه، انه سبحانه الحالق. وهو البارئ المصور.. وصلة الله بالإنسان إذن: هي أنه سبحانه يمنحه الوجود الذي يريده له في كل لحظة من اللحظات المتتابعة. فشكل حياته في كل بصورة أمده سبحانه وتعالى بها. وصلة الله بكل كائن: إنما هي على هذا النمط)([43])

ثم بين أن معنى وحدة الوجود في النصوص القرآنية هو نفسه معنى القيومية، فالله سبحانه وتعالى (قيوم السموات والأرض قائم على كل نفس بما كسبت، وقائم على كل ذرة من كل خلية وقائم على كل ما هو أصغر من ذلك وما هو أكبر، بحيث لا يعزب عن هيمنته وعن قيوميته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. هذه القيومية أخذ القرآن والسنة يتحدثان عنها في استفاضة مستفيضة ليهزا الإنسان هزة عنيفة، فلا يخلو على الأرض، ولا يتبع هواه، وانما يرتفع ببصره، ويستشرف بكاينه الى الملأ الأعلى مستخلصا نفسه من عبودية المادة ليوحد الله سبحانه وتعالى في عبودية خالصة، وفي إخلاص لا يشوبه شرك من هوى أو شرك من سيطرة المادة أو الغرائز)([44])

وبناء على هذا راح يستعرض آيات القرآن الكريم التي يستدل بها الصوفية عادة في إثبات وحدة الوجود القرآنية التي يؤمنون بها، ومنها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } [الواقعة: 58، 59]، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69]

ثم علق على هذه الآيات الكريمة وغيرها مبينا قيمة النظرة إلى الكون بهذه الصفة، بقوله: (هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتا، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما تدرك ولا تعقل، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين، إنما هو ملء البطن، أو كنز الذهب والفضة، أو النزاع على جاه، أو العمل لتثبيت سلطان. انهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها، وتحيط بهم آثاره، فلا ينظرون اليها، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه، فلا يوجههم ذلك الى الحمد لا الى الشكر. إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا في تفكيرهم ولا في بيئتهم، قليلا ولا كثيرا. والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذي انغمسوا حقا في محيط الإلهية. سبحوا في بحارها، واستشقوا نسائمها الندية، وغمرهم لألاؤها وضياؤها؛ لقد بدأوا بحمد الله وشكره على نعماه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم، فزادهم نعما وآلاء.. لقد اتقوا الله حق تقاته فعلمهم الله.. لقد اكتفوا بالله هاديا ونصيرا، فهداهم الله إلى صراطه المستقيم، ونصرهم على أنفسهم وعلى أعائدهم)([45])

وبناء على هذا فإن الشرك عند الصوفية ينطلق من هذه النظرة للكون، واعتقاد وجوده الذاتي القائم بنفسه، يقول عبد الحليم محمود مبينا مدى سمو الفهم الصوفي للتوحيد مقارنة بغيرهم: (.. وأخذوا شيئا فشيئا يحاولون تحقيق التوحيد: قولا وعقيدة، وذوقا وتحقيقا، وأخذوا يرون في [أشهد أن لا إله إلا الله] معاني لا يتطلع إليها غيرهم، وبدأ معنى الشرك يتضح لهم بصورة لا تخطر على بال اللاهين الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وبدأوا يحطمون الشرك يحطمون أصنامه وأوهامه. ومن النفس والهوى والشيطان، ومن الغرائز الحيوانية، والغرائز الإنسانية. وانهار الشرك حتى همسات الفؤاد لقد انهار الشرك الواضح، وانهار الشرك الخفي،  وثبت في أذواقهم واستقر في أحوالهم ومقاماتهم أن (لا إله إلا الله) وأنه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وأينما كانوا فالله معهم وهو أقرب اليهم من حبل الوريد. وهو أقرب اليهم من جلسائهم ومعاشريهم. انه يغمر كيانهم، فلا يرون غيره سبحانه، لا يرون غير قيوم السموات والأرض، ولا يرون غيره مصرفا لليسير من الأمور وللعظيم منها، ولا يرون غيره مالكا للملك.. لقد أصبحوا ربانيين، وأصبح الله في بصرهم وسمعهم وجوارحهم وفي قلوبهم من قبل ذلك ومن بعده. يشغله كله فلا يدع فيه مكانا للأغيار)([46])

وبناء على هذا كانت أساليب الصوفية في عرض الحقائق العقدية مختلفة عن سائر المناهج لأنهم في تعبيراتهم التي أساء السلفية فهمها، وكفروهم على أساسها (يشرحون أن الله سبحانه وتعالى الممد الوجود لكل موجود. إنه يمد القائم بالقيام، ويمد الماشيء بالمشي، والمتحرك بالحركة. إنه – على حد تعبير أهل السنة والأشاعرة ـ الذي يقطع، وليست السكين هي التي تقطع. وهو الذي يحرق وليست النار هي التي تحرق، وهو الذي حينما يريد، يقول للنار: كوني بردا وسلاما، فتكون بردا وسلاما، ومهما عبر الصوفية في هذا الميدان عن الوجود الواحد، فقالوا في ذلك فإنهم سوف لا يبلغون المدى الذي بلغته تلك الآية الكريمة، التي تمثل في روعة رائعة الهيمنة المهيمنة، والاستغراق القاهر، والجلال الشامل؛ والتي لا تعني وحدة متحدة، ولا اتحادا متطابقا بين الحالق وبين المخلوق، أو العابد والمعبود، والآية هي { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [الحديد: 3])([47])

هذه ـ ببساطة ـ مفاهيم الصوفية حول وحدة الوجود ـ كما يوضحها أعلامهم الكبار، بل كما يشير إليها القرآن الكريم نفسه، وكان الأجدى بالسلفية قبل أن يصدروا أحكامهم القاسية بتكفير كل من يقول بهذا المعنى أن يراجعوا هؤلاء، ليفهموا منهم معناها، فخير من يعبر عن المرء لسانه.

ولكنهم ـ حتى لو ذهبوا إليهم ـ فسيظلون على تكفيرهم لهم، لأن المشكلة عندهم ليست في هذا المعنى، وإنما المشكلة الكبرى في تنزيه الله وعدم القول بتجسيمه وتقييده وتحديده.. ولهذا فإنهم يضعون المنزهة جميعا بمدارسهم  الكلامية والصوفية في سلة واحدة، لأن أول العقيدة في الله عندهم هي أن الكون شطران: شطر يسكنه الله، وهو العرش وما علا.. وشطر يسكنه الخلق، وهو ما دون العرش إلى الأرض السفلى([48]).

2 ـ تهمة المواجيد والأشواق الروحية:

من المميزات التي تميز بها الصوفية عن سائر المدارس الإسلامية اهتمامهم الشديد بالصلة الروحية أو الوجدانية أو العاطفية بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولهذا كانت جميع الطرق الصوفية عبارة عن تجارب مختلفة تحاول أن تختصر للسالك والمريد الطريق إلى هذا التواصل.

فلا يكفي في التواصل الروحي مع الله ـ عند الصوفية ـ ممارسة الشعائر، ولا أداء التكاليف الظاهرة، فكل ذلك جميل، ولكنه لا يكفي.. بل الذي يجب قبل ذلك وبعده هو تلك المحبة والشوق والتطلع الروحي للتواصل مع الله.

وقد كان من أساليبهم في تربية المريدين على هذه المعاني السامية التعبير عنها بما يرغب فيها، وبما أن التعبير عن المعاني الوجدانية لا تجدي فيه طريقة المتكلمين ولا الفلاسفة، فقد كان المنهج الأسهل لذلك هو التعبير الشاعري عنها.

ذلك أنه بناء على صعوبة التعبير عن المعاني الوجدانية التي يتحقق بها  السالك، فإنه يلجأ إلى اللغة الرمزية أو القصصية أو الشعرية، كما فعل أكثر العرفاء المسلمون كابن الفارض وجلال الدين الرومي والأمير عبد القادر، والشيخ ابن عليوة، والشيخ أبو العزائم، وغيرهم من مشايخ الصوفية.

ومن الأمثلة على ذلك توظيفهم لاسم ليلى كتعبير رمزي للذات الإلهية، كما قال الشيخ ابن عليوة في موشحة المشهور والذي لا يزال تردد في الحضرات الصوفية (دنوت من حي ليلى)([49]):

دنوت من حي ليلى  ‍
يا له من صوت يحلو  ‍
رضت عني جذبتني  ‍
أنستني خاطبتني  ‍
قربت ذاتها مني  ‍
أدهشتني تيهتنـــــي
  لما سمعت نداها
  أودُّ لا يتناهى
  أدخلتني لحماها
  أجلستني بحذاها
  رفعت عني رداها
  حيرتني في بهاهـا

وليلي عنده ــ كما هي عند غيره من الصوفية ــ رمز للذات المقدسة، وكأن العاشق هو قيس ليصور لنا تعلقه وهيامه بها، بحيث يستحضر القارئ أو المستمع صورة (قيس) ذلك العاشق الولهان.

وقد نجح الشيخ ابن عليوة في نقل هذه المعاني الحسية من الغزل العادي إلى الغزل الإلهي، بحيث أضحت معاني روحية صرفة، فحب ليلى هو رمز الحضرة الإلهية، والقرب أو الدنو من ليلى هو القرب من ذات الله تعالى، ورفع الرداء رمز لانكشاف الحجاب، وكذا ألفاظ الأنس والحضور الغيبية، ليست إلا رموزا تعكس لنا بصدق، شوق الشاعر وتعلقه بالله وحده، وانقطاع قلبه عن كل شيء إلا عن محبته([50]).

بل إن الصوفية لا يعتبرون من ليلى ومثيلاتها مجرد رموز، بل إنهم يذكرون أن قيسا في الحقيقة لم يكن يحب مظهر ليلى، وإنما كان يحب الحقيقة المختفية وراءها، كما عبر جلال الدين الرومي عن ذلك بقوله: (إن كل ضروب الرغبة والميل والمحبة والشفقة التي يكنها الناس لأنواع الأشياء تعد ضروبا من محبة الحق والتوق إليه.. وتلك الأشياء جميعا حجب، وعندما يمضي الناس من هذا العالم ويرون ذلك الملك من دون هذه الحجب يعلمون أن هذه الأشياء جميعا لم تكن سوى حجب وأغظية، مطلوبهم على الحقيقة ذلك الأوحد)([51])

لكن هذه اللغة لم تعجب السلفية أو لم يفهموها، فلذلك راحوا يرمون الصوفية نتيجية لذلك بكل أنواع التهم كالحلول والاتحاد وغيرها.

ومن العجب أن بعضهم يجمع بين رمي الصوفية بالحلول والاتحاد وبين رميهم بوحدة الوجود بمفهومها الفلسفي، وهذا هو التناقض بعينه، ذلك أن الحلول والاتحاد يستلزم ذاتين منفصلتين يحلان ببعضهما، أو يتحدان، بينما وحدة الوجود تعنى وجود ذات واحدة.

وقد رد الصوفية على هذه التهم الموجهة لها بصنوف من الاستدلالات منها قول الشيخ عبد القادر عيسى عند عرضه لهذه الشبهة: (إِن من أهم ما يتحامل به المغرضون على السادة الصوفية اتهامهم جهلاً وزوراً بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد حلَّ في جميع أجزاء الكون؛ في البحار والجبال والصخور والأشجار والإِنسان والحيوان.. ولاشك أن هذا القول كفر صريح يخالف عقائد الأمة. وما كان للصوفية وهم المتحققون بالإِسلام والإِيمان والإِحسان أن ينزلقوا إِلى هذا الدرك من الضلال والكفر، وما ينبغي لمؤمن منصف أن يرميهم بهذا الكفر جزافاً دون تمحيص أو تثبت، ومن غير أن يفهم مرادهم، ويطلع على عقائدهم الحقة التي ذكروها صريحة واضحة في أُمهات كتبهم، كالفتوحات المكية، وإِحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية وغيرها)([52])

  وبناء على هذا راح يستعرض ردود الصوفية على هذه التهمة، ومن ذلك قول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: (ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى، فكيف يُظَن بأولياء الله تعالى أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم رضي الله تعالى عنهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط)([53])

  والمنطق العقلي يؤكد هذا المعنى فـ (الحلول والاتحاد لا يكون إِلا بالأجناس، والله تعالى ليس بجنس حتى يحلَّ بالأجناس، وكيف يحل القديم في الحادث، والخالق في المخلوق!؟ إِن كان حلولَ عَرَض في جوهر فالله تعالى ليس عرضاً، وإِن كان حلولَ جوهر في جوهر فليس الله تعالى جوهراً، وبما أن الحلول والاتحاد بين المخلوقات محال؛ إِذ لا يمكن أن يصير رجلان رجلاً واحداً لتباينهما في الذات؛ فالتباين بين الخالق والمخلوق، وبين الصانع والصنعة، وبين الواجب الوجود والممكن الحادث أعظم وأولى لتباين الحقيقتين)([54])

  ولهذا فقد نص الصوفية جميعا باختلاف مناهجهم على استحالة الحلول والاتحاد، كما قال الشيخ محي الدين بن عربي في عقيدته الصغرى: (تعالى الحق أن تحله الحوادث أو يحلها)([55])

وقال في عقيدته الوسطى: (اعلم أن الله تعالى واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد في شيء)([56])

  وقال في باب الأسرار: (لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا القول حاشاه، إِنما يقول: أنا العبد الذليل في المسير والمقيل)([57])

وقال في باب الأسرار: (من قال بالحلول فهو معلول، فإِن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول)([58]

وقال: (لو صحَّ أن يرقى الإِنسان عن إِنسانيته، والمَلكُ عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصحَّ انقلاب الحقائق، وخرج الإِله عن كونه إِلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إِلى قلب الحقائق أبداً)([59])

وقد عبر عن ذلك شعرا، فقال:

ودعْ مقالةَ قوم قال عالمُهم  ‍
الاتحادُ مُحُالٌ لا يقول به  ‍
وعن حقيقتِه وعن شريعتِه
  بأنَّه بالإِله الواحد اتحَدا
  إِلا جهولٌ به عن عقلهِ شَرَدَا
  فاعبدْ إِلهَك لا تشركْ به أَحَدا

واستدل على ذلك عقلا بقوله: (من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلاً أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إِليه بذاتها، وإِنما كان القمر محلاً لها، فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه)([60])

والصوفية يردون على خصومهم من السلفية عند ذكرهم لهذه التهمة بأقوال ابن تيمية الكثيرة التي ينفي فيها عن الصوفية هذه التهمة رغم مخاصمته الشديدة لهم، كما قال في فتاويه: (ليس أحد من أهل المعرفة بالله، يعتقد حلول الرب تعالى به أو بغيره من المخلوقات، ولا اتحاده به، وإِن سُمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية، الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية)([61])

وقال: (كل المشايخ الذين يُقتدَى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات. وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إِفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا)([62])

بل إن ابن تيمية يذكر ما يورده خصوم السلفية من قول بعضهم: (أنا مَنْ أهوى    ومَنْ أهوى أنا) بقوله: (فهذا إِنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبّين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل؛ وهذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إِذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:غبتُ بكَ عنِّي    فظننْتُ أنَّك أنِّي.. فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ)([63]

وهكذا تولى ابن تيمية نفسه الدفاع عن الصوفية في هذا رغم خصومته الشديدة لهم، ولكن السلفية ـ للأسف ـ لا يقبلون من ابن تيمية هذا، بل يتمنون لو أنه لم يكتبه كما سنرى ذلك لاحقا.

3 ـ تهمة تعظيم الحضرة النبوية:

من العجائب التي وقع فيها العقل والتراث السلفي هو ذلك الهجوم الشديد على تلك القلوب الطاهرة والأرواح السامية الممتلئة حبا لنبيها صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تمثل صدق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)([64])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية – يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([65])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله)([66])

لكن السلفية أولوا كل هذه النصوص، فاعتبروا المحبة مجرد الاتباع، وقصروا الاتباع على بعض الظواهر التي يخالفون فيها سائر المسلمين.. ولهذا صار الحب عندهم قاصرا على ما يسمونه تطبيق السنة.. وتطبيق السنة عندهم قاصر على تلك الظواهر التي ترتبط بهندامهم وحركاتهم وأكلهم وشربهم.. أما الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعلق به والحنين إليه، فيحذرون منه خشية أن يجر إلى الشرك..

ومن هذا الباب.. باب التعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتقاد منزلته عند الله، توجهت الأمة منذ عصورها الأولى إلى الاستشفاع والتوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم كلما احتاجت إلى ذلك.. ذلك أن الله تعالى أخبر أن من حكمته وسنته في خلقه قبول شفاعة الشافعين من المقربين إليه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أولى بهذه الشفاعة من غيره، وفي أكثر المواقف حساسية، وهو ذلك الموقف العظيم يوم القيامة.. فمن شفع يوم القيامة لا يحال عليه أن يشفع في الدنيا.. لأن الدنيا والآخرة مرتبتان فقط، والقوانين الجارية فيهما واحدة.. فإن كانت الاستغاثة والتوسل شركا في الدنيا، فهي كذلك في الآخرة.. وإن لم تكن شركا في الآخرة ـ كما ورد في الأحاديث الشريفة ـ فلن تكون أيضا شركا في الدنيا.

بالإضافة إلى ذلك فإن موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغاير حياته إلا في ناحية واحدة، وهي انقطاع الوحي، أما ما عداه فإن حياته صلى الله عليه وآله وسلم لاشك فيها، بل تدل عليها كل الأدلة.. فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال تعالى:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169)، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم)([67])

فإن شك في هذا الحديث، فقد قال تعالى:{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)

فإن قيل: بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة، فنقول: إن كان الله تعالى أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7)، فإن كان هذا مع حملة العرش، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)([68])

فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال تعالى:{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6)

بالإضافة إلى هذا كله، فإن الشرك الحقيقي هو اعتقاد التأثير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته، وعدم التأثير بعد موته.. لأن المؤمن يدرك أن الله هو الفاعل والمؤثر مطلقا.. وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوساطة.. أي أنه وسيلة للفضل الإلهي.. ولذلك فإن هذه اللفظة وحدها [الوسيلة] تدل كل عاقل على التوحيد الحقيقي الذي تدل عليه السنة النبوية.. لا التوحيد الذي يدعو إليه السلفية، والذي يختلط بالوثنية والمنطق الوثني.

وهكذا كان ذلك التعظيم للحضرة النبوية المقدسة هو الدافع للمؤمنين لزيارة القبر الشريف الذي هو أطهر بقعة وأعظم بقعة على الأرض، والذي وقف منه السلفية موقفا متشددا خالفوا به سائر المسلمين، فاعتبروا الزيارة التي تحن لها القلوب شركا، فأصبح المشتاقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتحدثون إليه بأشواقهم مشركين.

وبناء على هذه كله ظهر ما يسمى بأدب المديح، وهو جزء بسيط من حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، فالأمة التي لا تمدح نبيها ولا تعظمه ولا تملأ قلوب أجيالها شوقا إليه، أمة لا خير فيها.. لأن ذلك المديح لا تعود فائدته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم وأكرم.. ولكن فائدته لهذه الأمة جميعا، حتى تربى أجيالها على محبته والشوق إليه والارتباط به، لأن ذلك هو الدين الحقيقي.. لا دين المظاهر والطقوس.

لكن السلفية للأسف، والذين سكتوا على أولئك الشعراء الذين مدحوا السلاطين الذين يعظمونهم، فلم ينبسوا تجاههم ببنت كلمة، ولم يبدعوهم ولم يكفروهم تجرأوا على تكفير كل من يقول قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يسمعها متأثرا بها وقابلا لها.. ولا يعفون من الكفر إلا من سمعها وأنكرها وكفر صاحبها وحذر منها.

وسنذكر هنا نموذجين عن مواقف السلفية من شاعرين كبيرين اختصا بالمديح النبوي، وانتشرت أشعارهما، فكانت تنشد في المجالس المختلفة، وتقبلها الأمة جميعا بمذاهبها المختلفة، ما عدا الفئة الباغية التي لم تكتف بأن تصم آذانها عن سماعها، بل راحت تحذر منها، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، بل راحت تضيف إلى ذلك تكفير الشاعر وتكفير المنشد وتكفير كل من استمع ورضي.. ثم يقولون بعد ذلك: نحن لسنا مكفرين.. ولو أنه لم يكن من قوانين تكفيرهم إلا هذا لشمل الأمة جميعا.

النموذج الأول: البوصيري ومدحه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

يعتبر الشاعر الكبير محمد بن سعيد البوصيري (توفي 695هـ) من أكبر شعراء المديح النبوي المشهورين، والذين سنوا سنة حسنة في الشعر تبعتها أجيال كثيرة من المسلمين الذين تركوا تلك الأغراض الشعرية القديمة كالمدح والرثاء والغزل وغيرها. ليحولوا قبلة شعرهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

وقد تلقت الأمة ذلك بقبول كبير بين العوام والخواص، وفي جميع المناطق المحافظة، ولفترة طويلة في التاريخ الإسلامية، وفي مساحة واسعة منه ـ حتى صارت قصائده ـ وخاصة البردة ـ تحفظ وتنشد في كل المجالس والمناسبات.. لا لجمالها الشاعري فقط، لأنه يوجد ما هو أكثر جمالا وشاعرية منها، وإنما لكونها تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي لذلك اكتسبت قيمتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولقيت القبول في الأمة لأجل هذا المعنى.

إلا السلفية الذين خالفوا سائر المسلمين في كل شيء، وخالفوهم في هذا أيضا، فراحوا يفتون بكفر البردة، وصاحبها وكل من ارتبط بها.. اللهم إلا إذا أنكر على صاحبها، وكفره، وكفر كل من رضي عن قصيدته.

وحتى لا يكون كلامنا مجرد دعوى، فسأنقل هنا من فتاوى كبار أعلام السلفية ما يجعل من قصيدة البردة أكبر وسيلة من الوسائل التي يستعملها السلفية في التكفير.. وكأن البردة بالنسبة للسلفية فيروس يصيب كل من أصابه بمرض الكفر الذي لا شفاء له.

ونبدأ تلك الفتاوى بفتوى للشيخ محمد بن عبدالوهاب في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]  فقد قال: (فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعني والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا)([69]) من قول صاحب البردة:

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

  اذا الكريم تجلي باسم منتقم

فإن لي ذمة منه بتسميتي

  محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي

  فضلاً وإلا فقل يازلة القدم

فليـتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.. هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19].. لا والله، لا والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان)([70])

ثم قال متأسفا على حال الأمة التي أوقعتها هذه القصيدة في الشرك الجلي: (فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة ومن فتن بها، عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة، واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال؛ بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]، وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14])([71])  

ويقول في بعض رسائلهِ الشخصية: (وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها؛ وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك)([72])

وهذا النص واضح في تكفيره للعلماء الذين قبلوا البردة أو شرحوها.. وكأنه يقول لهم: لن تغني عنكم كل علومكم وتصانيفكم ما دمتم استحسنتم البردة أو شرحتموها.

وهكذا قال علامتهم المجدد عبد الرحمن بن حسن في قول البوصيري:

يا أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به
 
سِوَاكَ عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ
  
ولَن يَضِيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي
 
اذا الكريمُ تَجَلَّى باسمِ مُنتَقِمِ
  

فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (فناقضوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقشة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم، في قالب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص، الذي بعثه الله به في قالب تنقصه. وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا فى تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته. فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله، ولارضوا بحكمه ولاسلموا له، وأنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعظيم أمره ونهيه. وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلَّغ به الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وآله وسلم فعاملوه بما نهاهم عنه: من الشرك بالله، والتعلق على غير الله)([73])

وهكذا قال علامتهم المحدث سليمان بن عبدالله، والذي علق على الأبيات السابقة وغيرها بقوله: (فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.. منها: أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.. الثاني: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية.. الثالث: سؤاله منه أن يشفع له، وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء.. تناقض عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً، وإلا فيا هلاكه. فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه أن يتفضل عليك، فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟ فهلا سألتها من له الشفاعة جيمعاً، الذي له ملك السموات والأرض، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله)([74])  

وهكذا علق على قول البوصيري:

فإن من جودك الدنيا وضرتها    ومن علومك علم اللوح والقلم

بقوله: (فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين)([75])

وهكذا قال علامتهم عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين في الأبيات السابقة، فقد علق عليها بقوله: (مقتضى هذه الأبيات، إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده، وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الشدائد، ورجاه لكشفها، وهو الآخذ بيده في الآخرة، وإنقاذه من عذاب الله؛ وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام. وإن لم يقل هؤلاء إن محمدا هو الله، أو ابن الله، ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)([76])، والإطراء هو المبالغة في المدح، حتى يؤول إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية)([77])

ثم أورد ما يذكره الصوفية من كون البوصيري وغيره من مداح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصدوا بذلك إلا طلب الشفاعة، ثم رد عليه بقوله: (أولا: هذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك… أي: وإلا فأنا هالك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (لا ملجأ منك إلا إليك)([78]).. وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ؟ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف (أو) في قوله: أو شافعا لي، صريح في مغايرة ما بعدها لما قبلها، وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة، فإن لم يكن فبالشفاعة)([79])

وهكذا راح يطلب من الشاعر أن يغير كل ما ذكره من محسنات بديعية وجماليات تعبيرية تعارفت عليها الشعوب لتنسجم مع توحيدهم، وإلا فهو مشرك شركا جليا.. هو وكل من استحسن شعره أو رضي عنه.. أو سمعه ولم ينكر عليه.

 وهكذا علق على أبيات جميلة للبوصيري يقول فيها مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

الأمان الأمان إن فؤادي  ‍
فهذه علتي وأنت طبيبي
  من ذنوب أتيتهن هواء
  وليس يخفى عليك في القلب داء

فقد قال: (والناظم آل به المبالغة في الإطراء، الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الغلو، والوقوع في هذه الزلقة العظيمة.فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغفرة ذنبه، وصلاح قلبه؛ ثم صرح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء، أي: فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب)([80])

وهكذا قال علامتهم محمد بن صالح بن عثيمين تعليقا على الأبيات السابقة: (وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أوعيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق.. وهذا من أعظم الشرك لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقتضاهُ أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.. وقال -أي: البوصيري – [ومن علومك علم اللوح والقلم]، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ)([81])  

وهكذا قال علامتهم صالح بن فوزان الفوزان تعليقا على الأبيات السابقة: (هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلا الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان)([82])  

وقال: (.. فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المديح، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يُغلي في حقَّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب ويغفر الذنوب، وأنه يستغاث به ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم (البردة) للبوصيري، وما قيل على نسجها من المخرفين، فهذا غلو أوقع في الشرك، كما قال البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به.. فهذا غلوٌّ – والعياذ بالله – أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا والآخرة للرسول، علم اللوح والقلم للرسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرسول، إذاً ما بقي لله عز وجل، وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد، وكذلك غيرُها من الأشعار، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم.. وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإطراء.. ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وآله وسلم: إحياء المولد كل سنة، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى)([83])

هذا قليل من كثير من فتاوى علماء السلفية في اعتبار ما تضمنته البردة من معاني سامية، ومشاعر متدفقة رفيعه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. شركا جليا، وكفرا بواحا..

وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة التي تحجر على كل لسان يغرد بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حتى صار حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعبير عن الشوق إليه جريمة أكبر من جريمة القتل والفاحشة وغيرها.. لأنهم يتساهلون في تلك الجرائم، بينما يتشددون في هذا.

النموذج الثاني: البرعي ومدحه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مثلما وقف السلفية موقفا سلبيا من البوصيري، فقد وقفوا نفس الموقف من الشاعر الكبير المشهور في الدوائر الصوفية المتأخرة الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ محمد وقيع الله البرعي أحد أبرز شيوخ الصوفية العاملين في السودان والعالم الإسلامي.

فمن الكتب التي ألفت لتكفير الشاعر نتيجة مشاعرة الجياشة نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب بعنوان [شــعر البــرعي فـي  ميزان الكتاب والسنة] لمؤلفه عمر بن التهامي بن عبد الرحمن، والذي قدم له وقرظه وشجعه الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان.

وقد قال في تقديمه للكتاب: (فإنَّ الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ورضىَ لنا الإسلام ديناً، ومن ثمار ذلك الإكمال والتمام والرضى بيان أبواب الخير والحثّ عليها والترغيب في ولوجها. وبيان أبواب الشرِّ والتحذير منها والترهيب من قُربها، وكان من ضمن أبواب الشرِّ المحذَّر منها: الأئمة المضلون.. ذلك لأنَّ ضرر أُولئك الأئمَّة يتعدى إلى شريحةٍ كثيرةٍ من الناس ممن يسمع منهم أو عنهم فيُخْدع بهم وبخاصةٍ أتباعهم ومن سار في ركابهم، ويزيد شرُّ أولئك الأئمَّة ويعظُمُ خطرهم وضررهُم إذا كان ضلالهم عقائدياً، وفي هذه الرسالة سترى بياناً وردّاً لأنواع من الضلال العقدي: مِن وصف الله تعالى بالنقائص، ومن إسباغ بعض صفات الخالق على بعض المخلوقين، ومن تعليق فلاح الناس ونجاحهم باتباع بعض الناس دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن تقرير وحدة الوجود،والحلول والاتحاد، كل هذه الضلالات وغيرها سترى بياناً شافياً وردَّاً مُفحماً مُلزِماً قام به الشيخ عمر التهامي. بعد ما تتبَّع بعض الأشعار التي تضمَّنت هدم التوحيد وبناء الشرك)([84])

ونحب ـ قبل أن نتطرق إلى ما ذكره من تكفير للبرعي وشعره ـ أن ننقل مقدمته للكتاب لنرى الحقد والضغائن والعدوانية والتكفير، وهي تتحدث جميعا بلسان فصيح، لتخرج الأمة بكل مدارسها من الإسلام، حتى لا يبقى فيه إلا التهامي وسلفه.

يقول التهامي في مقدمة كتابه: (فاعلم رحمك الله أنّ كثيراً من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم يعتقدون  اعتقادات فاسدة منها ما هو كفر صريح بالله، ومنها ما هو دون ذلك. فمن الاعتقادات الكفرية التي يعتقدونها والتي تخرج صاحبها من الإسلام، اعتقادهم أنَّ الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً يتصرّفون في هذا الكون، وينوبون عن الله في تدبيره، فيرزقون العباد، ويُحيون ويُميتون، ويُسعدون، ويُشقون، ويُعزُّون، ويُذلُّون، وأنهم يعلمون الغيب.. هذا بعض فسادهم في الاعتقاد، وأما فسادهم في العبادة فهو أكثر من أن يُحصر، فهم يعبدون الصالحين في غيابهم وبعد موتهم فيدعونهم ويستغيثون بهم في جميع أحوالهم سواءً في الرخاء، أو الشدة، بل في الشدائد لا يلجأون إلاَّ إليهم. ويذبحون وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم، ويتبرَّكون بها، ويُعفِّرون وجوههم في ترابها، ويبكون عندها، ويتذللون لأصحابها، ويخشعون عندهم أكثر من خشوعهم لله، ويخافون منهم وهم أموات أشد من خوفهم من الله، لذلك قد يحلف أحدهم بالله كاذباً، ولا يحلف بشيخه إلاَّ وهو صادق. ويثنون على الصالحين أكثر من ثنائهم على الله، ويلهجون بذكرهم، وإذا عبدوا الله عبدوه  بالبدع المحدثات والأمور المنكرات، فتجد أحدهم يرقص الليل كلّه ويستمع الدفوف والألحان ظناً منه أنها تقربه من الله، بل تجد أحدهم يذكر الله آلاف المرات بذكر مبتدع ما أنزل الله به من سلطان، فصاروا بهذه الاعتقادات والأعمال والأقوال من أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس على الإطلاق)([85])

وهكذا صار الصوفية بل الأمة جميعا من من (أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس) لا لشيء إلا لكونهم لم يستأذنوا ابن تيمية ولا ابن عثيمين ولا السدحان في أي ذكر يريدون أن يذكروا الله به، أو في أي بيت شعر يريدون قراءته أو سماعه.

ثم قال ـ مبينا سبب اختياره للبرعي ـ: (ومِن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الموحِّدين، والاستهزاء بهم، والتنفير منهم، والدعوة لهذا الفساد العظيم والشرّ الجسيم، صوفي يُدعى عبد الرحيم البرعي.. فهو من الشعراء الذين يُكثرون من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء  الصالحين، لكنَّه مع ذلك ما ترك معتقداً كفرياً فاسداً يعتقده غلاة المتصوفة، إلا وصرّح به في هذا المديح، فبدا جلياً خبث منهجه، وسوء معتقده، وهو وأتباعه على شفا هلكة، وعلى خطر عظيم، إن لم يرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه مما يعتقدونه ويدعون إليه من الكفر القبيح، والشرك الصريح.. وفي هذه الرسالة المختصرة نستعرض معكم بعض الأبيات من أشعاره، في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء الصالحين، لتروا بوضوح تام الاعتقادات الكفرية البيّنة في شعره، ولتروا الخطر العظيم على قارئها المعجب بها، إذا لم يكن عنده شيء من العلم بالتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة، خاصة وأن قصائده وأشعاره انتشرت انتشاراً واسعاً في السودان، وفي جميع الأوساط بين العامة والخاصة، والكبار والصغار، والرجال والنساء)([86])

وقد عقد فصلا في كتابه هذا سماه [بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه النَّاس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب]، قدم له بقوله: (اعلم رحمك الله تعالى أن البرعي يرى أن إشراك الصالحين مع الله في الدعاء والإستغاثة لا حرج فيه بل هو مستحب، فهو وكثير من المتصوفة يتقرَّبون إلى الله بالشرك ويرونه من الأدب والتَّعظيم لله، تماماً كما كان يظن مشركو مكة فإنهم كانوا يدعون الصالحين كاللات وغيره  ويظنّون أنّ ذلك الفعل من الأمور التي تقرِّبهم إلى الله)([87])

ثم ذكر أبياتا جميلة للبرعي يقول فيها:

شددت رحال عزمي يا نديمي

   على نجب الرّجا نحو اْلكريم

رسول الله مصباح اْلبرايا

   أب الضّعفاء كفّال اْليتيم

أتيت إليه من فجٍّ عميقٍ

   أجوب اْلوادي في اللّيل اْلبهيم

إلى أن قال:

أغثني يا رسول الله إني

   مريض الجسم ذو قلب سليم

وقل لاتخش مهما عشت ضيمًا

   ولا هضمًا أيا عبد الرحيم

ثم علق عليها بقوله: (في هذه الأبيات يُصرِّح البرعي بإستغاثته بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويشركه مع الله في الدعاء والإستغاثه، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخرج صاحبه من المِلَّة؛ لأنّ الله – سبحانه وتعالى – نَهى عن دعاء غيره فقال جلَّ وعلا: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18])([88])

بل إنه يتهمه بأنه أعظم شركا من مشركي قريش أنفسهم، بسبب قوله:

إليك رسول الله أشكو مصائباً

   فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي

وأنت لنا غوث وعون وملجاء

   وأنت لمرضانا شفاء ورحمة

فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (وهذا من أعظم المحاداة لله والإشراك به، لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه هو وحده الذي يجيب دعوة المُضطر.. بل إنّ هذا الشرك الذي وقع فيه البرعي وأمر به ودعا إليه، ما كان يفعله مشركو مكة؛ لأنهم كانوا إذا أصابتهم شِدَّة لجأوا إلى الله وحده ونسوا كل ما سواه.. فإذا علمت أن مشركي مكة كانوا لا يلجؤون في الشدائد إلا إلى الله، تبيَّن لك أن شرك عبدالرحيم البرعي أعظم من شركهم واشدّ، وأن البرعي من أكثر الناس وأعظمهم محاربة لتوحيد رب العالمين ومعاداة له، وأن أساس دعوته ولُبُّها هو الإشراك بالله وهدم التوحيد والدين الصحيح نسأل الله العافية)([89])

هذا مجرد مثال عن موقف السلفية من أبيات شعر بسيطة يخاطب فيها الشاعر بشوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره ولي أمره الأول، وأنه أولى به من نفسه.. ولكن السلفية لا يعجبهم هذا، لأنهم لا يريدون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزاحم شيوخهم وسلفهم الذين يعظمونهم.

4 ـ تهمة تقديس الولاية والأولياء:

وهذه التهمة وحدها كافية في إثبات شمولية التكفير السلفي لكل المسلمين، بل حتى أحباب سلفهم الأول منهم، بل حتى أحباب ابن تيمية نفسه، لأنهم جميعا، وفي كل العصور، وفي كل الأماكن يعظمون من يعتقدون ولايته، وإذا مات يبنون على قبره ضريحا، ويظلون يزورونه، وقد يقيمون المناسبات التي تسمى الموالد تذكيرا به.

وقد أشار الشيخ علي بن أحمد الحداد إلى هذا، فقال: (ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين)([90])

وهو يشير بهذا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه الذين كفروا جميع المسلمين بسبب تعظيمهم للأولياء، وبنائهم على قبورهم، فاعتبروهم مشركين شركا جليا لا يختلف عن شرك أهل الجاهلية، بل قد يفوقه.

فقد وضع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (نواقض الإسلام) ما يجعل من جميع المسلمين مشركين.. وأكثرها يعود إلى تعظيم الأولياء وتقديسهم واحترامهم، فمن تلك النواقض (1 ـ الشرك في عبادة الله تعالى.. ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر، أو للقباب.. 2ـ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم كفر إجماعا.. 3ـ من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر..)

ثم ختم القول على هذه النواقض بقوله: (لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً)([91])

فهذا ما يتصوره الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه من نواقض الإسلام، والأخطر مما ذكرنا من المكفرات هو ما ورد فيها من عبارات غامضة وأحكام مطلقة، تجعل لكل من يشاء أن يكفر أحدا أن يستخدمها بسهولة، ولعله لأجل هذا خرجت الحركات التكفيرية من رحم الوهابية.

وكمثال على ذلك نرى الشيخ ابن عبد الوهاب يربط بين الذبح الذي لا يقصد به إشراك أحد في عبادة غير الله، بالشرك بالله مع أنه قد يكون عادة جرت أن يذبح في مكان ولي للبركة، وليس للتعبد، ثم يوزع لحم الذبيحة على الفقراء، وهذا ما جرى به العمل في العالم الإسلامي، بما فيها الجزائر، والتي كانت تسمى (زردة)، ولقبها علماء الجمعية بـ (أعراس الشيطان)

وهكذا الأمر بالنسبة لما ذكره في الناقض الثاني، فهو يعتبر (الواسطيّة) وكأنها شرك يزاحم الله تعالى، مع أن المسلم إنما يرجو نيل شفاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، كما في أحاديث مستفيضة عن شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم للعصاة من أمته يوم القيامة، وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } [النساء: 64]، فالآية الكريمة لا تقف عند المعنى الظاهر في {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64]، لوجود آية أخرى صريحة: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران: 135]، ولكن ضمّ استغفار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للقوم الذين أرادوا التوبة رجاء لقبولها من الله. وهناك مواقف عديدة لجأ فيها الصحابة لبعضهم في مواقف شديدة طلباً لتحقيق أمر أو نزول بركة أو رحمة من الله، وكما فُعل مع العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد رد الصوفية مدافعين عن أنفسهم منذ ظهرت هذه المقولات عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في العالم الإسلامي، وتركزت ردودهم على تفنيد ما يزعمه الوهابيون من أن تعظيم الصوفية للصالحين أو لأضرحتهم أو توسلهم بهم إلى الله لا يعني الشرك، ولا علاقة له بما كان يفعله أهل الجاهلية.

 فهذا الشيخ القباني يخاطب الشيخ ابن عبد الوهاب قائلا: (فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..)([92])

ويذكر (الحداد) عن أتباعه أنهم (مهما عظموا الأنبياء والأولياء، فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه)([93])

ويقرر (دحلان) ما قرره سائر المسلمون في جميع العصور قبل مجيئ الوهابية، وهو أن الشرك في حقيقته ليس سوى اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول في ذلك: (فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله.. ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى)([94])

وهذا نرى (الزهاوي) يؤكد مثل من سبقه على أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم)([95])

ويرد (العاملي) على ابن عبد الوهاب في ادعائه أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله – كما ذكر ذلك ابن عبد الوهاب في رسالتيه: (كشف الشبهات)، و(أربع قواعد) – فيقول: (لا شيء يدلنا على أنهم – أي مشركي العرب – لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثير بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر)([96])

ويذكر الشطي في معتقد الوهابية في الاستغاثة، فيقول: (فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال …)([97])

ويرد على ذلك بأن ما يفعله العوام لا يرقى إلى هذه الدرجة، فبذكر حكاية مهمة لجده تبين دوافع العوام فيما يفعلونه من التعلق بالأولياء والصالحين، فقال: (ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول: يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه)([98])  

ويرد ابن عفالق على كل ما يذكره الوهابية من مكفرات، بل يعتبر أنها في أشد أحوالها ليست سوى ذنوب ومعاص لا ترقى لحد الكفر، فقد قال – في معرض نفيه أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً -: (فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله)([99])  

بل إن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وهو الأخ الشقيق لمحمد بن عبد الوهاب يستنكر استنكارا شديدا موقف أخيه من تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من تكفير من دعا غير الله فيقول: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه)([100])

ويضيف في موضع آخر: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..)([101])

وهكذا بالنسبة للاستغاثة، فالشيخ محمد بن محمد القادري لا يرى في الاستغاثة بغير الله – ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده شركا – يقول في تقرير ذلك: (وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..)([102])  

ومثل ذلك النذر للأولياء، فهو عندهم من الشرك الذي لم ينص عليه غير الوهابية، فيقول:

(وأما نص النجدي بمنع النذر مطلقاً للأكابر، فمن افترائه على كتب الشريعة وجهله المركب)([103])  

وبناء على هذه فإن هذه النواقض العشرة التي تبناها الوهابية، وتبناها أتباعهم في العالم الإسلامي تعتبر – كما يذكر بعض الباحثين- (المدخل الذي يرد منه كل من أراد الترويج لثقافة التكفير، على قاعدة أن من لم يكفّر كافراً فهو كافر، ومن شكّ في كفره فهو كافر، الأمر الذي يشجّع الناس على الإنغماس في عقائد بعضهم، فيخرجون من يشاءون من الدين ويدخلون إليه من يشاءون، ويعقدون نادياً للتداول فيما انعقدت عليه قلوب المؤمنين، فهذا مؤمن، وذاك كافر، وذلك منافق، وقد يصدرون أحكاماً بقتل فلان بتهمة الردّة عن الدين، لمجرد أنه يختلف مع المذهب الرسمي، وتطال آخر تهمة الإنحراف عن العقيدة، والضلال، ويتكفّل رسل الموت من أهل الدعوة بإيصال رسائل التهديد للكتّاب كما فعل الفوزان)([104])

وكمثال على انتشار التكفير في العالم الإسلامي بسبب تلك التعاليم المتشددة، ما حصل في الجزائر إبان الاستعمار من تكفير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعوام الجزائر بسبب تعظيمهم للأولياء، وزيارتهم لأضرحتهم، وإحيائهم للمناسبات المرتبطة بهم.

وكمثال على ذلك نرى الشيخ مبارك الميلي الذي استنسخ المنهج الوهابي كاملا غير منقوص، وخاصة في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره) الذي حكم به على شرك جميع الجزائريين، بل على شرك جميع المسلمين الذين يزورون الأضرحة أو يتوسلون بأصحابها.

بل إنه يعتقد ما كان يعتقد الشيخ ابن عبد الوهاب من عودة الجاهلية الأولى، بل إنه يرى أن الجاهلية الآخرة أشد، فيقول: (ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي، فانتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضا؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!!)([105])

ويخاطب الذي يشكك في كون المسلمين تحولوا إلى مشركين لا يختلفون عن أبي جهل وأبي لهب، إن لم يكونوا أشد منهم شركا، فيقول: (ألست ترى في أوساطهم قبابا تبذل في تشييدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟! أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؛! أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان تشترى ضمانتها بالأثمان؛! أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟! أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين؟! هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات، أو تحت ستار الاعتقادات والدعوة إلى أوضاع مبتدعة صدت الناس عن اتباع السنة المطهرة.. والخبير بحياة أهل عصره، العالم بأصول دينه، لا يتردد في ظهور الشرك وانتشاره، وتعدد مظاهره وآثاره، والعامي الفطري لو سألته وأفهمته؛ لوجدت عنده الخبر اليقين لإثبات أن أمثاله- وما أكثرهم- في ضلال مبين)([106])

والشيخ مبارك الميلي كالشيخ البشير الإبراهيمي يفتي بحرمة الطعام الذي يقدم في تلك المحال، لأنه في تصوره مما أهل به لغير الله، على الرغم من أن الذابحين لتلك الأنعام يذكرون اسم الله عليها، ويطبقون فيها ما يذكره الفقهاء من أحكام الذبائح، فيقول: (هذه الزردة يذكرون اسم الله على ذبيحتها، ونيتهم الذبح للصالح عندهم، فأعمل الجامدون من الطلبة جانب اللفظ، ورأوا إباحة أكلها، وهم يقرؤون قول خليل في نية المصلي ولفظه: (وإن تخالفا، فالعقد)؛ يريد أن العبرة عند اختلاف القلب واللسان بما يعقده القلب لا بما يلفظه اللسان، وهي قاعدة عامة في جميع الطاعات)([107])

ولسنا ندري كيف اطلع الشيخ على نية الذابح، وهي باطنة لا يمكن لأحد الاطلاع عليها إلا ربها أو صاحبها، ولكنه مع ذلك يصر على أنهم يريدون بها غير وجه الله، ويعتبر أن المخالف في ذلك جامد ومغرض، فيقول: (وقد يقول الجامدون والمغرضون: إنا نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، وقد ظهر من حال الذابح أنه ذكر اسم الله، فلا نبحث عن نيته الباطنة! فنقول لهم: أولا: إن المفتي لا يقتصر دائما على الظواهر؛ ففي الأيمان والطلاق مسائل تنبني على النية والقصد، ويختلف حكمها باختلاف النية مع اتحاد اللفظ، بل تقدم قريبا الاستناد إلى النية في حكم الذبائح عن علي وغيره.. وثانيا: إن من السرائر ما تحف به قرائن تجعل الحكم للنية ولا تقبل معه الظواهر.. وذبائح الزردة من هذا القبيل؛ فإن كل من خالط العامة يجزم بأن قصدهم بها التقرب من صاحب المزار)([108])

ثم اعتبر من القرائن الدالة على أن الذبح فيها لغير الله، وهي لذلك محرمة، والأخطر من ذلك الحكم على فاعل ذلك بالشرك الجلي، لأنه قدم القرابين لغير الله، فيذكر([109]):

الأول:ـ أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار؛ فيقولون: زردة سيدي فلان، أو: طعام سيدي عبد القادر، مثلا.

ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره وفي جواره، ولا يرضون لها مكانا آخر.

ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها نسبوا إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه وتعويلهم عليه.

رابعها: أنهم إن نهوا عن فعلها في المكان الخاص، غضبوا ورموا الناهي بضعف الدين أو بالإلحاد، وقد يجاوزون الجهر بالسوء من القول إلى مد الأيدي بالإذاية.

خامسها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة نكسوا على رؤوسهم وقالوا: إن وليهم غضب عليهم لتقصيرهم في جانبه.

ثم علق على هذه القرائن بقوله: (فهذه دلائل من أحوال الناس وأفعالهم وأقوالهم التي لم يلقنها لهم المكابرون المتسترون وراء التأويل تريك أن ذبائح الزردة مما ذبح على النصب وأهل به لغير الله وإن ذكر عليها اسمه)([110])

بل حكم عليها بأنها من (من الشرك، فيجب على العلماء تحذير الأمة منها والنصح باجتنابها، ويجب على الأمة الاتباع والمبادرة إلى الإقلاع)([111])

واستدل لذلك بـ (مشابهتها في المعنى لعتائر الجاهلية وقرابينها واجتماعاتها على أنصابها وأصنامها، وتقدم حكم الشرع في ذلك، ومشابهتها في الصورة لعقر الجاهلية على قبور أجاودهم)([112])

ثم عاد كرجال الجمعية جميعا إلى الشاطبي ليستند إليه في الدلالة على أن ما يقوم به المسلمون البسطاء أمام أضرحة من يعظمونهم من الصالحين شرك جلي لا يختلف عن شرك الجاهلية، فيقول: (كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد؛ يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره؛ لتأكلها السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته… ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه، حشر راجلا)([113])

ولسنا ندري العلاقة بين ما ذكره الشاطبي عن أهل الجاهلية وبين ما يفعله المسلمون أمام أضرحة من يصومون ويصلون ويذكرون الله ذكرا كثيرا.

وهكذا يسترسل الشيخ مبارك الميلي في النقول والاستدلالات المبنية جميعا على أساس أن أولئك البسطاء الذين اجتمعوا قصدوا بذبحهم غير الله، وبالتالي صار حكمهم حكم المشركين، وهو الكفر البواح.

وعلى هذا المنوال نجد الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أعلن حربا شديدة على تلك المناسبات التي تجمع الجزائريين وتوحد قلوبهم، ومن ذلك ما كتبه في البصائر([114]) تحت عنوان (أعراس الشيطان)([115])، استهله على طريقته في تغليب الأدب على العلم، والبيان على البرهان، فهو بدأ بذكر الشيطان وتأثيراته المختلفة بطريقته تهكمية ساخرة، فقال: (كنا نفهم أن الشيطان يطوف ما يطوف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزين لها معصية الله، ويحركها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنا نعلم أن للشيطان مراج خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في (العمالة الوهرانية)، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها… وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزين قلما يجدها في غيرهم من رعاياه، وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزل إلا على كل أفاك أثيم)([116])

بعد هذا الاستهلال الذي خصصه للشيطان مع أن الحديث مرتبط بالموالد، أخذ يربط بين الشيطان والموالد، فقال – بأسلوبه التعميمي الذي لا يحب الاستثناء-: (هذه (الزرد) التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكل ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكل داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان)([117])

ثم ذكر المبررات الداعية إلى هذا الحكم الشديد، فقال: (ألم تر إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كل ذلك مما يأمر به الشيطان البدوي، وكل ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبين لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه)([118])

ولم يذكر الشيخ أي دليل على هذا القذف العام لكل الموالد من دون استثناء، وكأنها جميعا مناسبات للمنكرات والفواحش، ولا حظ فيه لعبادة أو دين أو علم.

ولم يكتف الشيخ بهذا القذف العام لجميع المجتمع الجزائري، وإنما راح يشهر سلاح التكفير والرمي بالشرك الأكبر الذي تلقفه من شيخه محمد بن عبد الوهاب، فقال: (كلما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوله لهم الشيطان وليا صالحا، بل يصوره لهم إلها متصرفا في الكون، متصرفا في النفع والضر والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلا صالحا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيا وكان صالحا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فاءوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كل ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثقل الدين وألح الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار!)([119])

بعد هذا الحكم القاسي الشديد المفتقر إلى اللغة العلمية والحكمة في معالجة الظواهر، راح يعتبر ذلك التقديس الذي جبل عليه الجزائريون للأولياء والصالحين نفخة من نفخات الشيطان أو كيد من كيد الاستعمار، وأنه لا علاقة له بحب الصلاح والولاية والتدين، فلا يحب الصالحين إلا من يحب الصلاح نفسه، ولا يعظم أهل الدين إلا من سبق تعظيمهم لهم تعظيم الدين نفسه.

يقول الإبراهيمي: (سر ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تر القباب البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسل تجد القليل منها منسوبا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقل مجهولا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يبني قبة أو قبتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة، ويستغني عن الحراس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محب في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها)([120])

ثم بين أثر الحركة الإصلاحية في قلع هذه العادات، ويقر في نفس الوقت بأنه لم يمض عليها زمن حتى عادت من جديد من غير أن يبحث في سر عودتها، فقال: (ولقد ماتت هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه)([121])

ثم ختم مقاله بفتاوى خطيرة تفتقر إلى لغة الفقهاء، فقال: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن)([122])

وقد استمر – للأسف – منهج خلف الجمعية على درب سلفها في هذه المواقف الخطيرة المفتقرة إلى اللغة العلمية، والمتسرعة في الحكم بالتكفير، حيث نجد الشيخ أحمد حماني الرجل المتساهل في الكثير من الفتاوى يتكلم بنفس تلك اللغة التي تكلم بها الإبراهيمي والميلي، فيقول – متأسفا-:(وفي الجزائر ينادي كل قوم برجلهم: أهل الغرب بسيدي بومدين وسيدي الهواري وفي الوسط سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد وسيدي منصور، وأهل الشرق سيدي الخير وسيدي راشد، وسيدي عبد القادر للجميع للجميع،وقد كانت الدعوة الإصلاحية قضت على معظم هذه البدع ورجعت بالناس إلى ذكر الله وحده، ولكننا عدنا إلى سماع هذا حتى في إذاعتنا ووسائل إعلامنا، وما كان يجوز هذا في أمة موحدة وإنما يذكر عندنا اسم الله وحده،فإننا أمة وحدها الإسلام)([123])

ولسنا ندري ما الحرج في أن تشتهر المناطق المختلفة بأسماء الأولياء والصالحين، بل نرى في ذلك تشجيعا للصلاح والتقوى التي أهلت أولئك ليتبوؤوا تلك المكانة الرفيعة في المجتمع.

ولكن الجمعية للأسف، والتي بالغت في تقديس أعضائها لم ترض للناس أن يقدسوا أحدا غيرهم، وهي تعلم أن المجتمع إن لم يرفع الصالحين فسيرفع غيرهم لا محالة، فهي سنة اجتماعية، فلكل مجتمع أبطاله ورجاله وأهل القدوة فيه، فإذا ما ضربوا ضربت هوية المجتمع معهم، وللأسف فقد استبدل الناس بعد أولئك الصالحين – بغض النظر عن حقيقة صلاحهم ومدى صدقهم فيه- بمطربين ومهرجين ولاعبين وسياسيين.. ولم نجد أحدا ينكر ذلك.

والأخطر من هذا أن الشيخ أحمد حماني الذي أتيحت له فرص كثيرة بعد الاستقلال ضيعها جميعا، ولم يجد شيئا ينكره إلا هذه العادات ليقتلعها من جذورها من غير أن يضع أي بديل صالح لها، وكمثال على ذلك أنه طرح عليه في الإذاعة الوطنية هذا السؤال: (عادة موروثة كانت منتشرة فينا ورثناها عن الأجداد وهي إقامة حفلات الزردة، يتهيأ لها الناس…ويجتمعون بمكان ولي فينحرون البقر ويذبحون الشياه…وتقام الاحتفالات بالحضرة والآلات والتهوال ويضرع للأولياء والصالحين فيمدونهم بالبركات والخيرات،اختفت هذه العادة أيام الثورة لكنها عادت بعد 1962 وكان الناس فيها قسمان مؤيد ومعارض)([124])

فأجاب عن هذا السؤال بنفس الحمية التي كان ينطق بها الشيخ الإبراهيمي والتبسي والميلي، فذكر أن آخر زردة كانت في قسنطينة سنة 1937 لأن إقامتها ليست من الإسلام في شيء لما فيها من مظاهر الشرك ودعاء للأولياء والذبح لغير الله،زيادة على أنها من مظاهر التخلف ووراءها الاستعمار وقد اختفت هذه البدع بعد الاستقلال حتى عادت للظهور من جديد في الثمانينيات، ووجه حماني لومه للمذيع والإذاعة الوطنية أنه لو احترم نفسه كصحافي صادق لقدم لأمته الحقائق لتتمسك بها بما يفيدها وتهجر القبيح الذي يضرها([125]).

ولسنا ندرى لم لم ينكر الشيخ تلك الاحتفالات الكبرى أو أنواع الزردة التي تقام في ملاعب كرة القدم، والتي استبدل بها المجتمع احترامه وتعظيمه للصالحين بتعظيمه للاعبين، فحصد نتيجة ذلك صراعات كبرى بين أهل المناطق المختلفة من أجل هدف أو لاعب أو حكم، ولم يكن للشيخ أحمد حماني في ذلك الوقت – للأسف- إلا أن ينضم إلى قائمة المشجعين، فيشجع فريقا على حساب فريق.

بل إن الشيخ لم يكتف بالتبشير في الإذاعة التي هي ملك للجزائريين جميعا بهذه التصريحات الخطيرة، بل راح في كل النوادي يبشر بها، وكأنها قضية الساعة، فقد وردت إليه استفتاء([126]) حول الزردة، فأجاب بلغة لا تختلف عن لغة الوهابيين التكفييريين، نجتزئ منها – من باب الاختصار- هذه العبارات المفرقة الدالة على المنهج الفكري للشيخ وللجمعية جميعا.

فقد ذكر أن المقصودين بالزيارة (كانوا عاطلين عن كلّ ما يؤهّلهم للزيارة ! فلا علم ولا زهد ولا صلاح ولكن نسب مرتاب في صحّته)

وذكر أن الممارسات التي تؤدى عند الأضرحة ممارسات شركية، فقال: (إنّ مثل هذا التمسّح نوع من الشرك ولا يكون إلاّ للحجر الأسود بالكعبة فقط مع التوحيد الخالص لله وقد قال له عمر يخاطبه: (والله ما أنت إلا حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، فإن كنت مع الحجر الأسود كما قال عمر فلا بأس أن تقبّله، أمّا غيره فلا يجوز لك التمسّح به فإنّ التمسّح به وتقبيله شرك يتنَزّه عنه المؤمن الموحّد)

ثم إنه حكم بالشرك حتى على التوسل الذي لم ير الشيخ ابن باديس فيه أي حرج، فقال: (إنّ التوسّل الشائع بين الناس وهو الدعاء – الدعاء هو مخ العبادة – شرك محض، فالتوحيد أن تدعو الله الذي خلقك – ولو عظمت ذنوبك – فإنه معك يسمع دعاءك فإن كان لا بدّ من التوسّل فتوسّل بصالح أعمالك كما فعل الثلاثة اصحاب الغار حينما نزلت عليهم الصخرة وسدّته عليهم، فاستجاب لهم من يعلم شدّتهم. هذا هو التوسّل الصحيح وغيره قد يوقع صاحبه في الشرك، فلا تحم حوله)

ثم اعتبر كالوهابيين جميعا أن الأضرحة ليست غير أصنام لا تختلف عن أصنام الجاهلية، فقال: (وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ(سيدي سعيد) في تبسة، و(سيدي راشد) في قسنطينة و(سيدي الخير) بسطيف و(سيدي بن حملاوي) بالتلاغمة، و(سيدي الزين) بسكيكدة و(سيدي منصور) بولاية تيزي وزو و(سيدي محمد الكبير) في البليدة، و(سيدي بن يوسف) بمليانة و(سيدي الهواري) بوهران و(سيدي عابد) بغليزان و(سيدي بومدين) بتلمسان و(سيدي عبد الرحمن) بالجزائر، ويزاحمه (سيدي امحمد)، وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف، ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور، أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟)

ثم أفتى بأن (الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن على حرمة أكله فإنه سبحانه وتعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [المائدة: 3] فاللحم من القسم الرابع أي مما أهل لغير الله، أي ذبح لغير الله بل للمشايخ، فزردة (سيدي عابد) أقيمت له وهكذا (سيدي أحمد بن عودة) و(سيدي بومدبن).. أقيمت له الزردة ليرضى وينفع ويدفع الضّر، وتقول إنّ هذه الذبائح قد ذكر اسم الله عليها، فأقول: ولو ذكر اسم الله فإنَّ النّية الأولى وهي تقديمها إلى صاحب المقام، يجعلها لغير الله)

ونحب أن نختم هذا العنوان بما حصل من تعظيم تلاميذ ابن تيمية وأتباعه الأوائل له، والذي لا ينطبق عليه ـ بالمقاييس السلفية والوهابية خصوصا ـ إلا حكم الشرك الجلي.

فقد ورد في كتاب [البداية والنهاية] لابن كثير تلميذ ابن تيمية النجيب قوله في أحداث سنة 728 هـ:(وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ بالجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة.. ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن يصلي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر)([127])

ويذكر أنه بعد دفنه: (شرب جماع الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما)([128])

ولم يقتصر التبرك بابن تيمية وتعظيمه على ذلك اليوم، بل استمر بين أتباعه ومحبيه حتى أنهم كانوا يستشفون بتراب قبره، فقد جاء في كتاب (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر) في الحادثة التي حصلت مع البطائحي المزي، وراوها لابن حجي  قال: كنت شابا، وكانت لي بنت حصل لها رمد، وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية، وكان صاحب والدي، ويأتي إلينا ويزور والدي، فقلت في نفسي: لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به، فإنه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل، فجئت إلى القبر، فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا، فقلت: ما تصنع بهذا، قال: أخذته لوجع الرمد، أكحل به أولادا لي، فقلت: وهل ينفع ذلك؟ فقال: نعم.. وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته، فأخذت منه، فكحلتها وهي نائمة، فبرئت، قال: وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل أبي عمر المقدسي، وكان يأتي الينا، فأعجبه ذلك، وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه، ويعجبه ذلك([129]).

ثانيا ـ التكفير المعين:

بناء على ما سبق من تصريحات أعلام السلفية المتقدمين والمتأخرين بتكفير كل من يقع في أحد المكفرات التي ذكرناها في المبحث السابق، فإننا نحاول هنا أن ننظر في تطبيقاتهم لتلك التكفيرات على الصوفية بأعلامها وطرقها ومن يواليها ومن يتودد إليها أو يقبل سلوكاتها أو لا يقف في وجهها..

فإن هؤلاء جميعا كفار عند السلفية باعتبارات مختلفة، فمنهم من يكفر بسبب مواقفه العقدية، ومنهم من يكفر بسبب سلوكاته العملية، ومنهم من يكفر بسبب نقضه للولاء والبراء الذي يتطلب منه أن يكفرهم، لأن من لا يكفر الكافر كافر.. وهكذا نجدهم يكفرون كل من اقترب من الصوفية بأي شكل من الأشكال، أو في أي بعد من الأبعاد.

بل إن السلفية كفروا دولا قائمة بذاتها ـ كالدولة العثمانية ـ بناء على رعايتها للصوفية، وتأييدها لهم، وأطلقوا بناء على ذلك أحكامهم الكثيرة التي تجعل ذلك الحكم أعم من أن يخص دولة بعينها.

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل، ومن خلال التراث السلفي القديم والحديث أن نذكر الأدلة والوثائق المثبتة لهذا التكفير.. وقد قسمنا المبحث إلى أربعة أقسام:

1 ـ تكفير أعلام الصوفية، ومفكريها في القديم والحديث.

2 ـ تكفير أنصار الصوفية ومؤيديها من العلماء والعامة.

3 ـ تكفير الطرق الصوفية.

4 ـ تكفير الدول الراعية للصوفية.

1 ـ تكفير أعلام الصوفية، ومفكريها في القديم والحديث.

من المفارقات العجيبة التي تدل على غلبة المزاجية على العقل السلفي ذلك الموقف المتناقض من كثير من أعلام التصوف المتقدمين وغيرهم.. فبينما نراهم يعظمون ابن تيمية في كل شيء، ولا يكادون يخرجون عن كلمة من كلماته، أو موقف من مواقفه.. لكنهم في الموقف من كثير من أعلام التصوف خصوصا نجدهم يخرقون هذه القاعدة، ويتصورون، ولأول مرة، أن ابن تيمية قد أخطأ في تعامله معهم، وأنه كان لينا مع الكثير منهم، وأن الأجدر به لو تعامل معهم كما تعامل مع الجهمية وغيرهم من الفرق التي سلط عليها سيف تكفيره.

بناء على هذا سنتحدث هنا عن هذا الخلاف بين السلفية المتأخرين والسلفية المتقدمين في الموقف من أعلام الصوفية.

موقف متقدمي السلفية من تكفير أعلام الصوفية:

ذكرنا في الفصل السابق أن الكثير من أعلام الحنابلة والكرامية ـ الذين يشكلون لبنة من لبنات العقيدة السلفية ـ كانوا ذوي ميول صوفية، وأنهم كانوا يمزجون بينها وبين تشددهم مع المتكلمين والمنزهين، ورميهم بالتجهم والتعطيل، وذكرنا مثالا على ذلك بالشيخ الهروي الذي يطلقون عليه لقب [شيخ الإسلام]

وبناء على هذا، فقد كانت موقف ابن تيمية ـ مثلا ـ مع الصوفية الحنابلة أو الصوفية الأوائل مواقف لينة جدا مقارنة بغيرهم.. فهو يدافع عنهم، ويؤول ما ورد عنهم من كلمات، ولا يحملها على ظاهرها، بل يجد لها من المسوغات والمبررات ما يجعلها مقبولة عندهم.

وهكذا نجده في مواقفه من الكثير من المصطلحات الصوفية التي شنع عليها المتأخرون، وكفروا كل من يتحدث بها أو عنها من أمثال الفناء والبقاء والجمعية وغيرها.

وقد كان ذلك مدعاة لانتقادات المتأخرين مثلما فعل الشيخ محمد جميل غازي حين قدم لكتاب [الصوفية والفقراء] لابن تيمية، فاستنكر أشياء عليه كذكر ابن تيمية أن الصوفية يريدون مقام الصديقية ([130])، فراح ينتقده في ذلك انتقادا شديدا مبينا أنهم ليسوا كذلك وأنهم أنهم  أهل الزندقة، والحلول والاتحاد، ووصفهم بأنهم أهل المروق والفرقة والبدعة.

ومن أمثلة هذه المواقف اللينة التي أطلقها ابن تيمية تجاه أعلام الصوفية ـ وخصوصا المتقدمين منهم ـ قوله في [مجموع الفتاوى]: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإِبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوِّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف وهذا كثير في كلامهم)([131])

وقال: (وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء من أعظم الناس لزوماً للأمروالنهي وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرا من المشي مع القدر كما مشى أصاحبهم أولئك وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على إتباع المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقاً تخالف ذلك أصلا، لاهو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون إتباع الأمر)([132]).

وقال مثنيا على الشيخ عبدالقادر الجيلاني: (قلت: (ولهذا يقول الشيخ عبد القادر – قدس الله روحه- كثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والرجل من يكون منازعا لقدر لا موافقا له وهو – رضي الله عنه – كان يعظم الأمر والنهي ويوصي باتباع ذلك وينهى عن الاحتجاج بالقدر)([133])

وقال عنه: (والشيخ عبد القادر من أعظم شيوخ زمانه مأمرا بالتزام الشرع والأمر والنهى وتقديمه على الذوق، ومن أعظم المشائخ أمرا بترك الهوى والاراده النفسية)([134])

وهكذا أثنى على الجنيد كثيرا، وفي مواضع مختلفة من كتبه، كقوله: (والجنيد وأمثاله أئمة هدى، ومن خالفه في ذلك فهو ضال. وكذلك غير الجنيد من الشيوخ تكلموا فيما يعرض للسالكين وفيما يرونه في قلوبهم من الأنوار وغير ذلك؛ وحذروهم أن يظنوا أن ذلك هو ذات الله تعالى)([135])

وقال: (فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد)([136])

وهكذا سمى الكثير منهم واعتبرهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى، فقال: (أنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري.. وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي.. وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة. إلى مثل المتأخرين: مثل الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، ومن بعدهم ـ إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق، ومصر والمغرب وخراسان، من الأولين والآخرين)([137])

بل إن ابن تيمية يمتدح الصوفية الذين ذكروا في الكتب المؤرخة للتصوف، وإن كان يعتب عليها إهمالها للصحابة والتابعين، فقد قال: (وكذلك من صنف في التصوف و الزهد جعل الأصل ما روي عن متأخري الزهاد – وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين كما فعل صاحب الرسالة أبو القاسم القشيري وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي وابن خميس الموصلي في مناقب الأبرار ؛ وأبو عبد الرحمن السلمي في تاريخ الصوفية لكن أبو عبد الرحمن صنف أيضا سير السلف  من الأولياء والصالحين. وسير الصالحين من السلف كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم من ذكرهم لأخبار أهل الزهد والأحوال من بعد القرون الثلاثة من عند إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي ومن بعدهم وإعراضهم عن حال الصحابة والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم والثناء عليهم والرضوان عنهم. وكان أحسن من هذا أن يفعلوا كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في الحلية من ذكره للمتقدمين والمتأخرين. وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في صفوة الصفوة وكذلك أبو القاسم التيمي في سير السلف، وكذلك ابن أسد بن موسى إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد الله بن المبارك. وأحمد بن حنبل. وهناد بن السري وغيرهم في كتبهم في الزهد)([138])

وهكذا نجده يدافع عما نسب لهم من أشياء تخالف الشريعة كقوله في السيدة رابعة العدوية: (وأما ما ذُكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، وهو كذب فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها)([139])  

وهكذا نراه لا يكفر بسبب الكثير من المصطلحات التي يغرم المتأخرون بتكفير أصحابها، بل يعذرهم في استعمالها، فقد قال في [مجموع الفتاوى]: (واعلم أن لفظ الصوفية وعلومهم تختلف فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم ومرموزات واشارات تجرى فيما بينهم فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسىء وحسير)([140])

بل إن ابن تيمية يقر الصوفية على ما يذكرونه من وحدة الشهود والفناء، والذي يحكم المتأخرون بتكفير قائله ـ كما فعلوا مع سيد قطب ـ: (وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين؛ فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد؛ لا يخطر بقلوبهم غير الله؛ بل ولا يشعرون؛ كما قيل في قوله: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقي قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه؛ بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره. فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها. وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه كما يذكر: أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال: غبت بك عني فظننت أنك أني)([141])

بل إن ابن تيمية مع تشدده في الكثير من المسائل يتساهل مع ما روي من شطحات من الصوفية الأوائل، فقد قال في [مجموع الفتاوى]: (وفي هذا الفناء قد يقول: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، إذا فني بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكور عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه. كما يحكون أن رجلاً كان مستغرقا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال: غبت بك عني فظننت إنك أني. وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور. وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحاله حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم: انصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع؛ وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وأن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو من يعين كافرا أو ظالما بحاله ويعلم أنه مغلوب عليه. ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرا محرما)([142])

ولو أننا أخذنا هذا النص، ونسبناه إلى أي شخص، ثم استفتينا أي عالم من علماء السلفية المعاصرين ابتداء من هيئة كبار العلماء إلى صغارهم، فإنهم لا محالة يحكمون بكفر قائله.. اللهم إلا إذا وجدنا منهم من طالع كتب ابن تيمية، وقرأ هذا النصوص خصوصا، فإنه يكتفي بتخطئته وانتقاده دون تكفيره.

وهكذا نرى ابن القيم في تعامله مع الصوفية، فهو يثني على الكثير من أعلامها، وينقل كلامهم، ويشرحه، ويبين قيمته، ويبرر ما أسيء فهمه.. وهذا ما لقي نوعا من النفور من المتأخرين الذين تمنوا لو أنه اكتفى بتكفير الجهمية والمعطلة وغيرهم، ولم يفعل هذا.

ومن أمثلة ذلك قوله في [مدارج السالكين] في تعريف التصوف: (الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وكذلك التصوف قال الكتاني: التصوف: هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف)([143])

وقال معلقا على قول الجنيد: (المريد الصادق غنى من العلماء)، وقوله: (إذا أراد الله بالمريد خيرا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء): (قلت: إذا صدق المريد وصح عقد صدقه مع الله،  فتح الله على قلبه ببركة الصدق وحسن المعاملة مع الله ما يغنيه عن العلوم التى هي نتائج أفكار الناس وآرائهم وعن العلوم التى هى فضله ليست من زاد القبر)([144])

وقال معلقا على قول الشافعي: (صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون: الوقت سيف فان قطعته وإلا قطعك،  ونفسك أن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل): (قلت: يا لهما من كلمتين، ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته، ويكفي في هذا ثناء الشافعي علي طائفة هذا قدر كلماتهم)([145])

وهكذا نرى الذهبي يثني على الكثير من الصوفية أثناء ترجمته لهم، بل يعتبرهم من أهل الحديث، ومن ذلك قوله في (ابن الإعرابى): (الإمام الحافظ الزاهد شيخ الحرم أبو سعيد احمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي صاحب التصانيف وكان ثقة ثبتا عارفا ربانيا كبير القدر بعد الصيت)([146])

وقال في (غندر): (وإما غندر الثالث فهو صوفي محدث جوال، لقي الجنيد وطبقته وكتب الحديث وسكن مصر)([147])

وقال في (الماليني): (الحافظ العالم الزاهد أبو سعد احمد بن محمد بن احمد ابن عبد الله ابن حفص الأنصارى الهروي المالينى الصوفي، ويعرف أيضا بطاووس الفقراء.. وجمع وحصل من المسانيد الكبار شيئا كثيرا، وكان ثقة متقنا صاحب حديث ومن كبار الصوفية)([148])

وقال في (الكتاني): (الإمام المحدث مفيد دمشق ومحدثها أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد علي التميمي الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وجمع فأوعى)([149])

هذه مجرد نماذج بسيطة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وهي كلها تدل على الموقف اللين الذي انتهجه متقدمو السلفية مقارنة بالموقف الذي انتهجه المتأخرون، وخاصة في الفترة التي جاء فيها محمد بن عبد الوهاب، والذي كفر جميع صوفية زمانه حتى الحنابلة منهم، كما رأينا سابقا، وقد زاد ذلك التكفير في عصرنا على كل العصور السابقة كما أشرنا إلى ذلك.

موقف متأخري السلفية من تكفير أعلام الصوفية:

على عكس ذلك الموقف اللين الذي وقفه كبار منظري ومحققي المدرسة السلفية نجد المتأخرين الذين تشددوا في كل أعلام الصوفية أوائلهم وأواخرهم، ورموهم جميعا بالقول بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي.

ومن أمثلة ذلك موقف صاحب كتاب [الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ]، والذي يقدسه السلفية المعاصرون كثيرا، ويعتبرون صاحبه صاحب اكتشاف مهم غاب عن كل متقدمي السلفية الذين أحسنوا الظن بالصوفية بسب ما كانوا يرونه من عبادة وتقوى.

فقد قال في كتابه هذا مشيرا إلى أن الصوفية جميعا قائلون بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي: (أمام هذا الوضع، لا يكفي تقديم دراسة عن صوفي واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة! لذلك ستكون الفصول الآتية أقوالاً لأكبر عدد يمكن للكتاب أن يستوعبه من أئمتهم وكبرائهم، منذ الجنيد وأقرانه حتى أصحاب الطرق في أيامنا الحاضرة، بحيث لا يبقى مجال لأولئك المدافعين، ولا يبقى مكان لحججهم.ويجب أن نتذكر دائماً، وأن لا ننسى أبداً أن التصوف مذهب واحد، كما يقرره أصحاب هذا المذهب العارفون الواصلون)([150])

ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الجنيد الذي رأينا ثناء ابن تيمية وابن القيم عليه، ومثلهما الكثير من المحدثين كابن رجب والذهبي وغيرهما.. لكن كل ذلك لم يعجبه، بل راح يتهم الجنيد بما لم يجرؤ سلفه على اتهامه به.

بل راح يتهم ابن تيمية في ثنائه عليه، بسب عدم فهمه لمقاصده، فقد نقل ما قال ابن تيمية في كتاب (دقائق التفسير)، وهو قوله: (..وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم مع مشاهدة المشيئة العامة، لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه، وهو الفرق بين ما يحبهُ وما يبغضه، وبين ذلك لهم الجنيد، كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم)([151])

ثم علق على ذلك بقوله: (أقول: رحم الله ابن تيمية، لم يكلف نفسه دراسة اللغة الصوفية وعباراتها، فانزلق مثل هذا الانزلاق، وأظن أن عبارة الجنيد (مشاهدة المشيئة العامة) هي الآن واضحة المدلول، أما العبارتان: (ما يأمر الله به، وما ينهى عنه) فقد تغيب الإشارة فيهما عن القارئ الذي لم يتمرس بعد باللغة الصوفية، فإلى ماذا تشيران؟)([152])

ثم راح يشرح لابن تيمية ما لم يفهمه من كلام الجنيد، فقال: (مر معنا في صفحات سابقة، وسيمر فيما يأتي من فصول أنهم يقولون بالِإسلام والِإيمان والِإحسان الذي جاء في الحديث الشريف، وأنهم يفسرون (الِإحسان) أنه الفناء في الذات، أو استشعار الألوهية وتذوقها، وبالتالي معرفة وحدة الوجود استشعاراً وذوقاً وتحققاً. ومر معنا- وسيمر- أنهم يجعلون معنى كلمة (الفاحشة، أو الفواحش) الواردة في القرآن الكريم هو البوح بالسر، ولنتذكر أيضاً تفسيرهم للآية الكريمة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، وغيرها. من هنا تتوضح الِإشارة في قول الجنيد (ما يأمر الله به) التي تشير إلى الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، وكذلك الِإشارة في قوله: (وما ينهى عنه) التي تشير إلى الآية الكريمة: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}[النحل:90]. أي إن عبارة الجنيد: (ما أمر الله به) تشير إلى (الِإحسان) الذي يأْمر الله به، والذي هو عندهم معرفة وحدة الوجود؛ وعبارته: (وما ينهى عنه) تشير إلى (الفحشاء) التي ينهى الله سبحانه عنها، والتي هي عندهم البوح بالسر، وبذلك تكون العبارة: (لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه) لها نفس معنى عبارة الشاذلي: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً) ونفس معنى عبارة الجيلاني (فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارة وإلى جماله تارةً أخرى)، ونفس معنى عبارة ابن عجيبة: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)([153])

وهكذا يقع السلفية في الطعن في ابن تيمية إن لم يوافق هواهم.. فهم معه كل شيء، وخاصة إن وافق نفوسهم الممتلئة بالأحقاد، ليغذيها بغذاء التكفير الذي يشتهونه.. لكنه إن قصر في ذلك، فهم يكملون ما قصر فيه.

ولهذا نجدهم يتمنون لو أنهم استطاعوا أن يحرقوا كل ما كتبه عن التصوف هو وابن القيم وابن رجب وغيرهم.. مثلما فعل أسلافهم بكتب الغزالي والفلاسفة.

وهكذا راح ينقل كلمات الجنيد في السلوك والمعرفة، ويطبق عليها كل الأحكام الجزافية التي وضعها، فقد نقل عن الجنيد قوله للشبلي: (نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رءوس الملإ! فقال: أنا أقول، وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟)، ثم علق عليه بقوله: (يهمنا في هذا النص قول الجنيد فقط. إِنه يخبر عن علم حبره هو تحبيراً، (أي: وضع قواعده وأصوله)، ثم خبأه في السراديب! فما هو هذا العلم المخبأ؟! ولم خبأه في السراديب؟!)([154])

وهكذا يسأل نفسه، ويجيب نفسه، ثم يحكم في الأخير بنفسه، فهو القاضي وهو المدعي وهو السجان وهو السياف.. ولا يحل لأحد من الناس أن يوضح له مقصود الجنيد حتى لو كان ابن تيمية نفسه.

وهكذا نراه في موقفه من الشيخ عبد القادر  الجيلاني، والذي أثنى ابن تيمية عليه كثيرا في كتبه، كما رأينا بعض النماذج على ذلك سابقا، لكن ابن تيمية ـ كما يصور هذا السلفي المعاصر ـ لم يفهم هذا الشيخ الجليل، لأن حيل الباطنية الصوفية انطلت عليه.

ولهذا يوضحها له في كشفه الذي حصل لأول مرة في التاريخ، وتلقاه السلفية بكل أريحية، ولم يبالوا بطعن ابن تيمية ولا غيره من أسلافهم.

ومن تلك الأدلة التي استدل بها على تكفيره بسبب قوله بوحدة الوجود الفلسفية هذه النصوص الروحية العميقة: (الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية)([155])

وقوله: (..ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره)([156])

وقوله: (فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما)([157])

وقوله: (بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك)([158])

ثم يعلق على هذا النص بقوله: (يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي إلى قلوب المريدين. إذاً فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله التي مرت معنا آنفاً)([159])

وقوله تعليقا على قول الشيخ عبد القادر الجيلاني: (قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك)([160]): (يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته، ونستطيع أن نرجع إليها حالاً، لتكون تذكرة وتعيها أذن واعية)([161])

وهكذا نراه ينقل النصوص الكثيرة من كتب الشيخ عبد القادر المختلفة، ويحللها كما يشاء، ويحكم عليها بسيف تكفيره.

ومثل ذلك نجد علما آخر من أعلام السلفية المعاصرين أعطى جهدا كبيرا في تكفير الصوفية والتحذير منهم، وهو د. محمد جميل غازي، والذي عقد في كتابه [الصوفية والوجه الآخر] فصلا خاصا برابعة العدوية التي أثنى عليها ابن تيمة، والتي هي محل احترام من جميع المسلمين.

وقد عنون فصله بهذا العنوان المثير: [رابعة العدوية: الشخصية والأسطورة]، وقد ذكر أن الذي دفعه إلى كتابته [مجلة التوعية الإسلامية]، نظرا لـ (اتساع شهرتها بين المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير.. فقد امتلأت كتبهم بآلاف الصفحات التي كتبت عنها)([162])

وقد بدأ حديثه الممتلئ بالحقد عليها، بسب تلك الشهرة بالصلاح والتقوى التي نالتها بقوله: (رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجا في العقيدة، ومنهجا في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلول، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على أربعة بالذات وما قالته، وما نسبه إليها، وما نسج حول شخصيتها من خرافات وأوهام)([163])

وانطلاقا من هذا راح يحلل ما قالته رابعة بنفس المحاليل التي يحلل بها السلفية ما لا يعجبهم من الأفكار، وقد بدأ ذلك بتساؤل طرحه، هو (لماذا نعبد الله؟)، ثم أجاب عليه بقوله: (الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة صوفيا وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم ابن تيمية في رسالته عن الصوفية والفقراء، فقال: نحن أولى بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هدي عيسى بن مريم ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الصوف يلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلا أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئا غير الصوف.. ورابعة العدوية كما قلت هي واحدة من هذه المدرسة. وحينما تقول إنها لا تعبد الله خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تماما.. فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفا من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها. مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه.. فكيف يتأتى لواحدة كرابعة العدوية قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلاما كثيرا، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمرا في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن تسبق رسل الله جميعا في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟)([164])

ثم ساق أبياتها التي هي محل إعجاب من المؤمنين جميعا، وهي قولها:

أحبك حبين حب الهـــوى       ‍
فأما الذي هو حب الهوى  ‍
وأما الذي أنت أهل لـــــه
  وحبا لأنك أهل لذاكا
  فشغلي بذاتك عمن سواكا
  فكشفك لي الحجب حتى أراكا

وعلق عليها بقوله: (ما هي هذه الحجب التي تنتظر رابعة أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام حينما قال له: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143]، ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى)([165])

ثم راح لتلك الأحاديث الجميلة التي رويت عن رابعة في محبة الله ليقضي عليها بفهمه الممتلئ بالعنف والغلظة، فقال: (رابعة العدوية، ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقا، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقا كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنيا على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى)([166])

ثم يتساءل: (ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه رابعة العدوية، ونسيت الدنيا، وما فيها وكرهت العالم جميعا، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع رابعة عن الزواج كما يقولون.. أتزعم رابعة العدوية أنها متفوقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تزوج النساء وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده مخرج من الملة والعياذ بالله سبحانه وتعالى)([167])

هذه نماذج عن اللغة التي تحدث بها هذا السلفي عن هذه المرأة التي اعتبرها المسلمون والمسلمات مثالا من أمثلة الصلاح والتقوى والمحبة الإلهية.. والسلفية لا يعجبهم أن يثنى على أحد من الناس اللهم إلا على أولئك الذين حفظوا عشرات ومئات الآلاف من الأحاديث.. أما من عداهم، فلا يستحق أن تذكر له مكرمة، ولا أن يشاد به، حتى لا تصير الإشادة به حجابا بين الأمة وبين سلفها.

2 ـ تكفير أنصار الصوفية ومؤيديها والمتأثرين بها.

لا يكتفي السلفية بتكفير مشايخ الصوفية الكبار، كما أشرنا إلى ذلك في العنوان السابق، بل إنهم يضمون إليهم تحت عناوين مختلفة كل من له صلة بالتصوف من قريب أو بعيد.

وهم يكفرونه على أسس مختلفة: منها ما يرتبط برميه بوحدة الوجود، أو رميه بالشرك الجلي نتيجة قوله بالتوسل والاستغاثة والتبرك، أو رميه بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا.

وكتطبيق على ذلك سأسوق هنا بعض النماذج على من يشملهم التكفير العيني السلفي بسبب تأثرهم بالتصوف، أو انتمائهم لطرقه.

وأول هؤلاء جميع مشايخ الأزهر الشريف ابتداء من أول شيخ فيه إلى آخرهم.. فكلهم كفار عند السلفية ليس بالاعتبار العقدي فقط.. لأنهم جميعا منزهة.. وإنما بالاعتبار الصوفي أيضا.. فهم كفار كفرا مضاعفا.

فمن مشايخ الأزهر الشيخ الإمام ابراهيم بن محمد بن شهاب الدين البرماوي الازهري الشافعي الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1106 هجرية الموافق 1695 م، فقد كان ذا نزعة صوفية ظاهرة في كتبه، بالإضافة لما طبع عليه الصوفية من حب آل البيت وتعظيمهم، ولهذا كان من أشهر كتبه (تراجم جماعة من آل البيت) وهو مصنف يترجم لعدد كبير من آل البيت ويدخل للتصوف من خلال محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطهرين([168]).

ومن مؤلفاته التي يكفي الواحد منها لتكفيره عند السلفية ([169]): (رسالة في التوسل بالأولياء والصالحين بعد الممات)، و(رسالة في قواعد التصوف)

ومنهم الإمام أحمد بن عبد المنعم بن صيام الدمنهوري ([170])، الذي ولي مشيخة الأزهر عام 1182 هجرية، وقد أخذ التصوف من عدد من كبار شيوخ التصوف في عصره، ومن مؤلفاته فيه رسالة حول تحقيق معنى وحدة الوجود عند الصوفية، وكتاب [الزايرجة]، وهو شرح لكتاب (كشف الران عن وجه البيان) لمحي الدين ابن عربي، وكتاب [حلية الأبرار فيما في اسم على من الأسرار]، وكتاب [إرشاد الماهر إلى كنز الجواهر] (في أمراض القلوب وأعمالها)

ومنهم الشيخ أحمد العروسي([171])الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1192 هجرية، وقد كان من كبار متصوفة عصره، وقد تتلمذ على يدي الشيخ الصوفي الكبير مصطفى البكري، ومن مؤلفاته في التصوف التي تكفي لتكفير عند السلفية: (شرح نظم التنوير في اسقاط التدبير للشيخ الملوي (في التصوف)

ومنهم الشيخ عبد الله بن حجازي بن ابراهيم الشافعي الشرقاوي، وقد تلقى مبادئ الطريقة الخلوتية على الإمام الشيخ الحفني، ويذكر مترجموه أنه (استولى عليه التدله والذهول والهيام مما يسميه الصوفية بالجذب، وثاب إلى نفسه بعد أيام، ثم اتصل بالصوفي الشهير العارف بالله الشيخ محمود الكردي، ولازمه فرباه وأرشده وقطع به مدارج الطريق ولقنه أسراره، فأصبح في مقدمة المريدين وطليعتهم)([172])

ومن مؤلفاته في التصوف التي تكفي لتكفيره عند السلفية: ثبت الشرقاوي في الأحزاب والأوراد، وشرح حكم ابن عطاء الله السكندري، وشرح مختصر لعلم التصوف، وشرح الحكم والوصايا الكردية،  وشرح ورد السحر للبكري.

ومنهم الشيخ مصطفى العروسي([173])، الذي ولي مشيخة الأزهر كما وليها أبوه وجده من قبله، ومن مؤلفاته في التصوف: حاشية على شرح الشيخ زكريا الأنصاري للرسالة القشيرية في التصوف، وكشف الغمة وتقييد معاني أدعية سيد الأمة، والهداية بالولاية.

ومنهم الشيخ مصطفى عبد الرازق ([174])، وكان من تلاميذ الشيخ محمد عبده الذين يحضرون دروسه حيث قرأ عليهم رسالة (الجامي في الصفات) وهي رسالة فلسفية صوفية، ومن مؤلفاته في التصوف: أصول التصوف، وفصول في الأدب والأخلاق (في آداب التصوف)

ومنهم الشيخ عبد الحليم محمود، الذي تدور معظم كتبه حول نصرة التصوف بمدارسه وطرقه المختلفة، وهو ما لقي إنكارا شديدا من السلفية الذين يحملون عليه بشدة، ويلحقونه بابن عربي وبمن يسمونهم ملاحدة الصوفية.

ومن أهم ما قام به تحقيقه الجيد لأمهات كتب التصوف، من أمثال: الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، واللمع للطوسي، وتفسير التستري، والطريق إلى الله أو كتاب الصدق للخراز، والرسالة القشيرية، والمنقذ من الضلال، للغزالي، وعوارف المعارف للسهروردي، وشرح حكم بن عطاء الله، للشيخ زروق، وغيث الواهب في شرح الحكم العطائية لابن عباد، ولطائف المنن لابن عطاء الله السكندري.

بالإضافة إلى كتبه الكثيرة الممتلئة بالنفحات الصوفية من أمثال: الفيلسوف المسلم دينييه (عبد الواحد يحيى)، والتصوف عند ابن سينا، والتصوف الاسلامي شحصيات ونصوص، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، وأبو البركات سيدي أحمد الدرديري، وأبو العباس المرسي، والسيد أحمد البدوي، وذو النون المصري، وأبو مدين الغوث، وأبو اليزيد البسطامي، وغيرها من الكتب التي لقيت شهرة كبيرة في الأوساط الصوفية خصوصا.

هذه مجرد نماذج عن مشايخ الأزهر الكبار الذين تأثروا بالتصوف، وألفوا فيه، وهو يدل على أن الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية الكبرى كانت تتبنى التصوف في السلوك كما تتبنى المدرسة الأشعرية أو غيرها من المدارس التنزيهية في العقيدة.. وكل ذلك مما ليس له من حكم عند السلفية إلا الكفر.

وهكذا الحال بالنسبة للمدارس الفقهية.. فأكثر أعلامها نجده إما صوفيا بحتا، أو نجد للصوفية أثرها فيه، بل إن الكثير من أعلام السلفية الذين يستندون إليهم ويجلونهم، لو طبقنا عليهم مقاييس السلفية وخصوصا بفرعها الوهابي، فإنه لا ينطبق عليها إلا حكم الشرك الجلي.

وسأسوق هنا باختصار شديد أسماء بعض القبوريين من السلف ـ على حد تعبير السلفية ـ مع المصادر الموثوقة التي وردت فيها([175]) والذين ندعو السلفية إلى ضمهم إلى إخوانهم من القبوريين من سائر المسلمين، فلا يصح أن يحكموا بالشرك الجلي على قوم، ويتركوا الحكم به على آخرين.. فمن تلك الأسماء:

1-الحافظ إبراهيم الحربى: الذي روى عنه الخطيب البغدادي في تاريخه قوله: (قبر معروف الترياق المجرب)([176])، وقال أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه طبقات الصوفية في ترجمة معروف الكرخي: (سمعت أبا الحسن بن مقسم المقرئ ببغداد يقول: سمعت أبا علي الصفار يقول: سمعت إبراهيم بن الجزري يقول معروف الترياق المجرب)([177])

2 ـ الحافظ أبو الربيع بن سالم، الذي قال عنه الذهبي في [سير أعلام النبلاء]: (قال الأبار كان غاية في الورع والصلاح والعدالة ولي خطابة المرية ودعي إلى القضاء فأبى ولما تغلب العدو نزح إلى مرسية وضاقت حاله فتحول إلى فاس ثم إلى سبتة فتصدر بها وبعد صيته ورحل إليه الناس وطلب إلى السلطان بمراكش ليأخذ عنه فبقي بها مدة ورجع حدثنا عنه عالم من الجلة سمعت أبا الربيع بن سالم يقول صادف وقت وفاته قحط فلما وضعت جنازته توسلوا به إلى الله فسقوا وما اختلف الناس إلى قبره مد الأسبوع إلا في الوحل)، وروى عنه أنه أنه توسل بقبر محمد بن عبيد الله الحجري ([178]).

3- الحافظ أبو الشيخ الأصبهانى: الذي ذكر له الذهبي قصة لو حصلت لغيره لما ترددوا في رميه بالشرك الجلي، فقد روى عن أبي بكر بن أبي علي: قال كان ابن المقرئ يقول كنت انا والطبراني وأبو الشيخ بالمدينه فضاق بنا الوقت فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت القبر، وقلت: يا رسول الله الجوع، فقال لي الطبراني: اجلس فإما ان يكون الرزق او الموت، فقمت أنا وأبو الشيخ، فحضر الباب علوي ففتحنا له، فإذا معه غلامان بقفتين فيهما شيء كثير، وقال شكوتموني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأيته في النوم فأمرني بحمل شيء اليكم ([179])))

4 ـ الحافظ أبو زرعة الرازى: الذي ذكر له المناوي هذه القصة: (.. أن عليا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء، وقد شق بها السوق، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة الرازي وابن أسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث من لا يحصى، فقالا: أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون، ورويت لنا حديثا عن آبائك عن جدك نذكرك به، فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلائق برؤية طلعته، فكانت له ذؤابتان متدليتان على عاتقه، والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصاخ ومتمرغ في التراب ومقبل لحافر بغلته، وعلا الضجيج، فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس انصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم، وكان المستملي أبو زرعة والطوسي، فقال الرضا: حدثنا أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين عن أبيه شهيد كربلاء عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله قال حدثني جبريل عليه السلام قال حدثني رب العزة سبحانه يقول كلمة لا إله إلا الله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي، ثم أرخى الستر على القبة وسار، فعد أهل المحابر والدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا)([180])

5 ـ المحدث أبو على الخلال: قال الخطيب البغدادي: (أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال، يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب)([181])

6 ـ الحافظ ابن القيسرانى: قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (قال أبو الربيع بن سالم الحافظ كان وقت وفاة أبي محمد بن عبيد الله قحط مضر فلما وضع على شفير القبر توسلوا به إلى الله في إغاثتهم فسقوا في تلك الليلة مطرا وابلا وما اختلف الناس إلى قبره مدة الاسبوع الا في الوحل والطين)([182])

7 ـ الحافظ ابن حبان: الذي قال في كتابه [الثقات]: (وقبره ـ أي قبر الإمام علي الرضا ـ بسنا باذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد قد زرته مرارا كثيرة، وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة، وهذا شئ جربته مرارا، فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وعليهم أجمعين)([183])

8- الحافظ ابن حجر العسقلانى: وله كلام كثير فى فتح البارى وغيره في هذا، من ذلك قوله، وهو يشرح حديث التوسل بدعاء العباس في الاستسقاء قال: (ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة)([184])

9 ـ الإمام أحمد: الذي قال فى منسكه الذى كتبه للمـروذى: (إنه يتوسـل بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم فى دعائه)، فمع أن النص واضح في التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسها، لكن ابن تيمية تكلف، فأول ذلك إلى التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته، فقد نقل ابن مفلح قول الإمام أحمد وتفسير ابن تيمية له مقررا له لا، فقال: (وقيل: يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره، وجعلها شيخنا كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلموبدعائه وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله وأفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35])([185])

10 ـ أحمد بن حرب: فقد روى عنه الحافظ ابن الجوزي هذه القصة: (.. عن زكريا بن أبي دلويه يقول‏:‏ (رأيت أحمد بن حرب بعد وفاته بشهر في المنام فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك قال‏:‏ غفر لي وفرق المغفرة ‏.‏ قلت ‏:‏ وما فوق المغفرة قال‏:‏ أكرمني بأن يستجيب دعوات المسلمين إذا توسلوا بقبري)([186])

11 ـ الحافظ ابن خزيمة الذي يسميه ابن تيمية وغيره [إمام الأئمة]، فقد ذكره الحافظ ابن حجر في التهذيب، وذكر أن الحاكم قال في تاريخ نيسابور: وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: (خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضي بطوس قال فرأيت من تعظيمه يعني بن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا)([187])، وقال الحاكم: (سمعت أبا علي النيسابوري يقول كنت في غم شديد فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام كأنه يقول لي صر إلى قبر يحيى بن يحيى واستغفر وسل تقض حاجتك فأصبحت ففعلت ذلك فقضيت حاجتي)([188])

12 ـ الحافظ الخطيب البغدادى: الذي روى في باب [دعاء لحفظ القرآن والحديث وأصناف العلوم] هذا الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أراد أن يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل ثم يغسله بماء مطر يأخذه قبل أن يقع إلى الأرض ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام فانه يحفظ بإذن الله: (اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك أسألك بحق محمد رسولك ونبيك وإبراهيم خليلك وصفيك وموسى كليمك ونجيك وعيسى كلمتك وروحك…)([189]) وقد أنكر بعض السلفية هذا بحجة أن الحديث موضوع، ونحن لم ننقله هنا من باب كونه حديثا، وإنما من باب إقرار الخطيب له، واعتباره له، وهذا يدل على قوله به.

13 ـ الحافظ الدارمى: الذي روى في سننه في [باب ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم] عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كووا إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال:  ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق ([190]).

14 ـ الحافظ الطبراني، الذي روى عنه الذهبي توسله عند القبر والشكوى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع ([191])، كما أنه صحح حديث التوسل بعد وفاة النبى صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه مجرد نماذج عن قبورية الحفاظ وأهل الحديث، والأمثلة غيرها كثير، والسلفية مدعوون إما إلى حذف التوسل والاستغاثة والتبرك ونحوها من نواقض الإيمان، واعتبارها من المسائل المختلف فيها، أو رمي سلفهم بتهمة التكفير، مثلهم مثل سائر الناس، لأن القضية خطيرة وهي مرتبطة بالتوحيد ولا محاباة فيه، و{اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]

3 ـ تكفير الطرق الصوفية

كما ذكرنا سابقا، فإن تكفير مشايخ الطرق الصوفية ومريديها ومناصريها وكل من يرتبط بها، بل من كل من لم يكفرها، بديهة من البديهيات السلفية التي ابتدأت ـ خصوصا ـ من الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى اليوم، وفتاواه وفتاوى تلاميذه وأتباعه منتشرة مشتهرة، وقد أيدتها الهيئات الرسمية الكبرى في السعودية، وأيدها مفتوها الكبار، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة، والتي تعتبر الطرق الصوفية أشد كفرا من اليهود والنصارى ومشركي قريش.

فمن ذلك ما ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية إجابة عن سؤال يقول صاحبه: (ما هي حقيقة هذه الطرق الكثيرة عندنا مثل: الشاذلية، والأحمدية، والسعدية، والبرهانية، وغيرها..)

وقد أجابت اللجنة الرسمية الممثلة للدولة السعودية بهذا الجواب الخطير: (طريقة الشاذلية والأحمدية والسعدية والبرهانية ونحوها من الطرق طرق ضلال، لا يجوز للمسلم أن يتبع واحدة منها)([192])

وهكذا قال الشيخ ابن جبرين: (أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقا، وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف، ونحو ذلك من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، ومحادون لله ورسوله، فلا نعرف لهم فضلا ولا كرامة)([193])

وقال الشيخ الفوزان: (.. ومن ذلك الطرق الصوفية فإنها طرق مبتدعة محدثة ليست من دين الإسلام بل هي من دس أعداء الإسلام وتلقفها كثير من الجهال أو من الضلال الذين يريدون أن يحتالوا بها على الناس ويتزعموا بها على الناس بالباطل‏‏ فالطرق الصوفية طرق محدثة وطرق فاسدة وطرق ضالة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن ذلك الطريقة التيجانية فإنها من أضل الطرق الصوفية وأفسدها ولها عقائد كفرية وقد أنقذ الله منها بعض معتنقيها فردوا عليها وكتبوا في بيان كفرها وضلالها الكتابات الطيبة المفيدة وهي مطبوعة ومتداولة ولله الحمد)([194])

هذه مجرد أمثلة عن أقوال كبار مشايخ السلفية المعاصرين، والتي تبدو ـ في ظاهرها ـ لينة نوعا ما بسبب المكانة الرسمية التي يتبوأها هؤلاء.. أما من عداهم، فنلاحظ لغة أكثر خشونة، وأعظم تكفيرا.

وسأسوق هنا نماذج عن تكفير أعيان الطرق الصوفية من كاتب سلفي أكاديمي وأستاذ جامعي، لكنه للأسف يفتقر لكل أدوات البحث العلمي.

وهذا الكتاب بعنوان [الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها] لمؤلفه عبدالله بن دجين بن علي السهلي، وفيه عرض لنماذج للطرق الصوفية الكبرى، وتكفيره لها، وبيان أسباب ذلك.

وقد بدأ مسلسل تكفيره بالطريقة القادرية المنسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني (المتوفى 561هـ)، والتي تنتشر في اليمن والصومال ومصر والهند والمغرب والسودان الغربي، ومن فروعها: اليافعية، والنابلسية، والرومية، والعروسية([195]).

وقد استعرض هذا الأستاذ السلفي الأكاديمي أسباب تكفيره لها، بقوله: (أما أتباع الطريقة القادرية، فقد ابتعدوا عن هذا المنهج ولم يتمسكوا في طريقتهم بالكتاب والسنة ولا بقول شيخهم، فذهبوا إلى ما ذهب إليه كثير من الصوفية من الربط بين العقائد الكلامية والتصوف، كما نسبوا للشيخ كثيراً من الكرامات والأقوال التي فيها غلو كبير، والتي تصل إلى الشرك في توحيد الربوبية وفي توحيد العبادة، ونسبوا له قصائد شركية فيها دعوى الربوبية، ونسبوا إليه القول بالحقيقة المحمدية، ونسبوا للشيخ الورد المسمى: صلوات الكبريت الأحمر، وهو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والباز الأشهب، والقصيدة العينية، وقد تضمنت عبارات تدل على وحدة الوجود، وكذلك ورد الجلالة ودعاء الجلالة وتضمنا دعاء أسماء أعجمية يظهر أنها أسماء جن، والسؤال بحقها، وعبارات تدل على وحدة الوجود، وصرح عبدالغني النابلسي من القادرية بوحدة الوجود وملأ بها كتبه.. فهذه الأقوال المخالفة للكتاب والسنة قال بها القادرية ممن ينتسبون إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني)([196])

ولنفس الأسباب حكم بتكفير الطريقة الشاذلية([197]) التي تنتسب لأبي الحسن الشاذلي، والتي ينتسب لها كبار أعلام التصوف من أمثال أبي العباس المرسي (توفي 686هـ)، وابن عطاء الله الإسكندري (توفي 709هـ) صاحب الحكم وغيرها، وهي تنتشر في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وينتسب لها كبار العلماء.

وقد ذكرهم الباحث السلفي الأكاديمي ـ مكفرا لهم جميعا ـ بقوله: (ومن أعلامها الكبار الشيخ عبد الوهاب الشعراني (ت 707هـ)، ويوسف النبهاني ت(1350هـ)، اللذان صرحا بالشر ك الأكبر في كتبهما، وللشاذلي شعر ونثر فيه متشابهات وعبارات يتكلف له في الاعتذار عنها، كما قال الذهبي، أما ابن عطاء الله فقد جاء في الحكم ما يثبت قوله بوحدة الوجود، وهذا ما أشار إليه شراحها، كما قال ابن عطاء بالأنوار كثيرا، التي هي الفلسفة الإشراقية، واعتقاد الشاذلية الظاهر على مذهب الأشعرية الكلابية، ويدعون أن الأولياء  يعلمون الغيب، كما زعم شيخهم أن حزبه الكبير كتب بإذن من الله ورسوله  صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدعون مثل كل الصوفية رؤية الله ـ تعالى ـ في الدنيا، والحقيقة المحمدية والنور المحمدي، ويحثون على اللباس الحسن وترك المرقعات)([198])

وهكذا راح يكفر الطريقة الرفاعية التي تنسب إلى الشيخ أحمد بن علي الرفاعي المغربي، (المتوفى 578هـ)، فقد قال عنها: (وقد انتشر الشرك الأكبر عند الرفاعية مثل غيرهم من الصوفية.. وللصيادي [بوارق الحقائق] كله استعانة واستغاثة وتوجه للقبور، وعقيدتهم الظاهرة يتابعون فيها الأشعرية المتأخرة، في تعريف التوحيد، ونفي العلو، وأن القرآن قديم وغير ذلك،كما تتابع الصوفية المتأخرة في المشي مع القدر، وفي الحقيقة المحمدية والنور المحمدي، وذكر الرفاعي ما يشير إلى الحلول أو الوحدة، ووافق متأخروهم أهل وحدة الوجود، ودافعوا عنهم. كما يوافق الرفاعية الصوفية في الخلوة، والفقر، وذم الفقهاء، وقد ورد عن الرفاعي)([199])

وهكذا راح يكفر الطريقة النقشبندية التي تنسب للشيخ محمد بن بهاء الدين النقشبندي المعروف بشاه نقشبند، (توفي 791هـ)، لها فروع في الصين وتركيا، وبعض بلدان أسيا الوسطى، والهند، وجاوه، ومن فروعها: الصديقية، وخوجكانية.

 وقد صرح الأستاذ السلفي الأكاديمي بتكفيرهم، فقال: (.. ويصرحون بالشرك الأكبر في توحيد الربوبية  والألوهية، وظاهر جليا أن النقشبندية ممن يقولون بوحدة الوجود أو يميل إليها كثير منهم، وقد كثرت شروحهم لكتب ابن عربي وغيره من القائلين بوحدة الوجود،ولا يخفى أن النقشبندية ظهرت في القرن الثامن الهجري وما بعده والذي يعتبر تفريعاً وشرحاً لكتب ابن عربي وأتباعه، ودفاعاً عنهم. وقد ذكر النقشبندية  مثل غيرهم من الصوفية: أن الولي يقول للشيء كن فيكون، والحقيقة المحمدية، ورؤية الله ـ تعالى ـ في اليقظة، وخطابه ـ سبحانه وتعالى عما يقولون ـ، والنقشبندية تتفق مع الطرق الصوفية الأخرى في الخلوة، والفقر، وغير ذلك)([200])

وهكذا راح يكفر الطريقة الختمية التي تنسب للشيخ محمد عثمان بن محمد الميرغني المحجوب، وتنتشر في شمال السودان وشرقه، وجنوب مصر، والحجاز.

وقد صرح الأستاذ السلفي الأكاديمي بتكفيره لها بقوله: (لاتختلف الختمية عن الطرق الصوفية الأخرى فقد ذكر محمد عثمان الميرغني أنها خلاصة الطرق الصوفية الخمس السابقة ذكرها، والغالب عليها الطريقة النقشنبدية، ويتابع الختمية ابن عربي ويعظمونه وأهل نحلته، ويقولون بوحدة الوجود، وقد قالوا بالشرك الأكبر، فزعموا أن شيوخهم يغيثون من يلتجئ بهم، ويزيلون الكربات،وأنهم وسيلة النجاة، ويزعمون ما مفاده استمرار الوحي، وأنهم يتلقون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد زعموا أن كل كتبهم هي من إملاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم تلقوا أسس طريقتهم وأورادها وتعاليمها من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا بالحقيقة المحمدية،وسائر عقائد الصوفية. ويدعى شيوخ الختمية النسب الشريف مثل كل الطرق الصوفية، وإن كان في نسبهم أسماء أعجمية، وقد تابعوا الرافضة في دعوى ولاية أهل البيت،وتابعهم الختمية في سب الصحابة صلى الله عليه وآله وسلم، واتهامهم بكتم ولاية علي صلى الله عليه وآله وسلملكنهم يثبتون ولاية الخلفاء الراشدين، ويعتبرون أنفسهم امتداداً لولاية أهل البيت، لذلك يدعون للتقارب مع الرافضة، ومناصرتهم والدعوة لهم، ومما اشتهر به الختمية السحر واستخدام الجن)([201])

وهكذا راح يكفر الطريقة البكتاشية التي تنسب إلى بكتاش ولي، وقد انتشرت في تركيا، وكردستان وآسيا الصغرى، وفي ألبانيا، غالب السكان على هذه الطريقة.

وقد صرح الكاتب السلفي بتكفيره لهم بقوله: (هي طريقة صوفية في الأصل، وحتى الآن يعتبرها أتباعها طريقة صوفية، إلا أن فيها عقائد نصرانية، ورافضية فيغلون في آل البيت، خاصة جعفر الصادق، وأحلوا علي بن أبي طالب مكان عيسى عليه السلام، ويحتفلون بما يشبه العشاء الرباني عند النصارى، وعلى رؤوسهم قلنسوات أسطوانية ذات 12 طيَّة، إشارة إلى الأئمة الاثني عشر، أئمة الشيعة.. ومن عقائدها الشرك الأكبر في دعاء الأولياء، وتأليه علي بن أبي طالب  ويعترفون بخطاياهم لشيخهم ويغفرها لهم، ويقولون بوحدة الأديان)([202])

وهكذا راح يكفر الطريقة التجانية، المنتسبة لأبي العباس أحمد التجاني(ت 1239 هـ)، وهي تنتشر في شمال إفريقيا وغربها.

وقد صرح الكاتب السلفي بتكفيرهم لهم بقوله: (أهم عقائدهم: الشرك الأكبر في شيوخهم، فيحجون إلى فاس حيث قبر شيخهم قبل توجههم للحج إلى مكة، والشرك في الربوبية،  والقول بوحدة الوجود، واستمرار النبوة والوحي لشيوخهم،  فزعموا أن كتبهم من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقولون بالحقيقة المحمدية، والنور المحمدي، وأن صلاة الفاتح أفضل من القرآن الكريم، وباقي عقائدهم مثل بقية الطرق الصوفية الأخرى)([203])

هذا نموذج عن تكفيرات أستاذ جامعي للأمة جميعا عبر تكفيره لأهم مقوم من مقوماتها، وركن من أركانها.

وحتى نؤكد هذا، ونبين مدى الإجحاف الذي يمارسه السلفية تجاه الطرق الصوفية، سنذكر هنا نموذجا عن الإجحاف الكبير الذي سلطه السلفية على الطريقة التيجانية، التي يتبعها الكثير في بلاد المغرب والسودان الغربي (السنغال) ونيجيريا وشمالي إفريقيا ومصر والسودان وغيرها من أفريقيا، وقدر بعضهم عدد التيجانية في عام 1401هـ ـ 1981م في نيجيريا وحدها بما يزيد على عشرة ملايين.

وقد ألف السلفية الكثير من الكتب في تكفير أصحاب هذه الطريقة بدءا من مؤسسها، ومنها: الهداية الهادية إلى الطائفة التيجانية، للدكتور محمد تقي الدين الهلالي، ومشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التيجاني الجاني، لمحمد الخضر الجكني الشنقطي، والأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية، لعبد الرحمن بن يوسف الأفريقي.

وقد أصدروا كذلك الكثير من الفتاوى في تكفيرها، وتكفير المؤيدين لها، ومن تلك الفتاوى فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز، والتي جاء فيها: (الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفراً وضلالاً وابتداعاً في الدين لما لم يشرعه الله. وسبق أن سئلت اللجنة الدائمة عنهم وكتبت بحثاً في كثير من بدعهم وضلالاتهم الدالة على ذلك)([204])

ومن المكفرين لهذه الطريقة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي تأثر هو وجمعيته بالعقل السلفي والتراث السلفي، فراح يكفر هذه الطريقة مع علمه بأن أتباعها في الجزائر في ذلك الحين كبير جدا، ولها علماء كثيرون.

وقد انطلق في فتواه من مسألة بسيطة جدا تتعلق بصلاة الفاتح([205]) التي يرددها التيجانيون، ويعتقدون لها فضلا خاصا، وهي فتوى لا تزال تجد صداها مع خطورتها، ولذلك نرى أن ندرسها على ما يقتضيه المنهج العلمي، وخاصة أن لازم قوله فيها كفر أكبر تجمع إسلامي في العالم، وهو التجمع التيجاني المنتشر في جميع أنحاء العالم، وخاصة إفريقيا.

ونص السؤال هو حكم بعض الدعاوى المنسوبة للتيجانية، وهي أنهم:

1- يعتقدون أن قراءة (صلاة الفاتح) أفضل من تلاوة القرآن ستة آلاف مرة متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن.

2- أن (صلاة الفاتح) من كلام الله القديم، ولا يترتب عليها ثوابها إلا لمن اعتقد ذلك.

3- وأن (صلاة الفاتح) علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الطريقة ولم يعلمها لغيره.

4- وأن مؤسس الطريقة التيجانية أفضل الأولياء.

5- وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات.

ومع خطورة المسألة، ومع الانتشار الكثيف للتيجانية في الجزائر، وخصوصا الجنوب الجزائري، لم يتحرز ابن باديس، ولم يستفسر عن مدى صحة هذه الدعاوى، بل راح يطلق الأحكام التي يخرج منها قارئها لا بتصديق الاتهامات فقط، وإنما بكفر معتقدها أيضا.

وسنذكر هنا باختصار بعض ما أجاب به، وما يستنتج منه الحكم بالكفر:

1 ــ القرآن كلام الله و(صلاة الفاتح) من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر، ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله نداً فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق.. هذا إذا كانت الأفضلية في الذات فأما إذا كانت الأفضلية في النفع فإن الأدلة النظرية والأثرية قاضية بأفضلية القرآن على جميع الأذكار وهو مذهب الأئمة من السلف والخلف([206]).

2- أن من زعم – متأولا لتلك الأفضلية الباطلة – بأن (صلاة الفاتح) خير لعامة الناس من تلاوة القرآن لأن ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه، واستدلوا على هذا بقول أنس الذي تحسبه العامة حديثاً: (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)([207]) فهو زعم باطل لأنه مخالف لما قاله أئمة السف والخلف من أن القرآن أفضل الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة ولا بين مطيع وعاص، ومخالف لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن([208]).

3- ليس عندنا من كلام الله إلا القرآن العظيم، هذا إجماع المسلمين حتى أن ما يلقيه جبريل – عليه السلام – في روع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه الأئمة بالحديث القدسي، وفرقوا بينه وبين القرآن العظيم ولم يقولوا فيه كلام الله، ومن الضروري عند المسلمين أن كلام الله هو القرآن وآيات القرآن، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) من كلام الله فقد خالف الإجماع في أمر ضروري من الدين وذلك موجب للتكفير([209]).

4- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معلما، وعاش معلما آخر لحظة من حياته، وقد أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وانقطع الوحي وانتهى التبليغ والتعليم، وهذا كله مجمع عند المسلمين، وقطعي في الدين، فمن زعم أن محمداً مات وقد بقي شيء لم يعلمه للناس في حياته فقد أعظم على الله الفرية وقدح في تبليغ الرسالة، وذلك كفر، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الطريقة التيجانية دون غيره، كان مقتضى اعتقاده هذا أنه مات ولم يبلغ وذلك كفر، فإن زعم أنه علمه إياها في المنام فالإجماع على أنه لا يؤخذ شيء من الدين في المنام مع ما فيه من الكتم وعدم التبليغ المتقدم([210]).

ومن مقتضى الاعتقاد الباطل المتقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتم عن أفضل أمته ما هو الأفضل وحرم منه قرونا من أمته وهو الأمين على الوحي وتبليغه، الحريص على هداية الخلق وتمكينهم من كل كمال وخير، فمن قال عليه ما يقتضي خلاف هذا فقد كذب عليه وكذب ما جاء به، ومن رجح صلاته على ما علمه هو صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بوحي من الله واختيار منه تعالى فقد دخل في وعد: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا))[الأحزاب:36].

5- لا تثبت الأفضلية الشرعية إلا بدليل شرعي ومن أدعاها لشيء بدون دليل فقد تجرأ على الله وقفا ما ليس به علم وقد أجمعت الأمة على تفضيل القرون المشهود لها بالخيرية من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام فاعتقاد أفضلية صاحب الطريقة التيجانية تزكية على الله بغير علم وخرق للإجماع، موجب للتبديع والتضليل([211]).

6- عقيدة الحساب والجزاء على الأعمال قطيعة الثبوت ضرورية العلم، فمن اعتقد أنه يدخل الجنة بغير حساب فقد كفر([212]).

وبناء على هذه الأدلة التي ساقها ابن باديس، خرج بنتيجة عبر عنها بقوله: (فالمندمج في الطريقة التيجانية على هذه العقائد ضال كافر، والمندمج فيها دون هذا العقائد عليه أثم من كثر سواد البدعة والضلال)([213])

ثم نقل من كلام الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي وزير معارف الحكومة المغربية مقرا له قوله: (لهذه وغيره نقول أن الطريقة التيجانية ليست كسائر الطرق في بدعها.. بل هي طريقة موضوعة لهدم الإسلام تحت اسم الإسلام)([214])

وقد علق ابن باديس على هذا بذكر مضار هذه الطريقة، والتي تؤهلها كما يرى لكفر المنتسب لها، فقال: (فبهذا صارت الطريقة التيجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرر ضد الإسلام، فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهو يقولون في الشيخ التيجاني هو الختم وهو لبنة التمام للأولياء فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة، وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا إن التيجاني رجله على رقبة كل ولي لله، بهذه العبارة الجافة من كل أدب الجارحة لعواطف كل مسلم لأن الولي في عرفهم يشمل النبي إذ يقولون أن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب، ولم يكن عندهم بشارة بالنجاة منهما، إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.. دعاء الإسلام إلى الجد ومحاسبة النفس والعمل على الخوف والرجاء في جميع نواحي الحياة الدنيا على أن يكون ذلك على السداد والإخلاص ليكون ذخراً لسعادة الأخرى فجاءت عقيدة ضمان الشيخ ودخول الجنة بلا حساب)([215])

هذا ما ذكره وما نقله ابن باديس في فتواه، ولم ينقل أي نص من كتب التيجانية المعتمدة، أو من شيوخهم المعتبرين في ذلك الحين، والذين زار بعضهم الجزائر، وصرح بخلاف التصريحات التي نقلت لابن باديس.

بل إن الدليل الذي ذكره هو ما تعود السلفية على الاستدلال به من الحكايات والقصص، فقد حكى عن الحجوري المغربي قوله: (حكي لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلا في البادية، وقد تقصيت أخبار الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون على الحقوق، وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعاً تيجانيون، فبقيت متحيرا حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب يترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم)([216])

وقد علق ابن باديس على هذه الحكاية بقوله: (هذا في العدول وهم من أهل العلم فكيف بالعامة؟ فهذه الطريقة ما وضعت إلا لهدم الإسلام، ولا أجزم بأن صاحبها هو الذي وضعها هذا الوضع فقد يكون فيمن أتصل به من كاد هذا الكيد، ودسّ، وليس مثل هذا الكيد جديداً على الإسلام)([217])

وقد كان الأجدى بابن باديس مع مكانته الاجتماعية أن يتصل بمشايخ وعلماء التيجانية الكثيرين، ليستوضح منهم حقيقة ما ينسب إليهم، ولا يرجع في ذلك إلى استفتاء أو إلى كتب لا ندري من طبعها، خاصة إذا أنكرها علماء التيجانية([218])، وتبرأوا مما فيها.

ولو أنه رجع في هذا إلى كثير من علماء التيجانية لوجدهم يردون هذه الشبهة، ويصرحون بأنها لا تمت إلى الواقع بصلة، بل لو أنه رجع إلى شيخ الطريقة التيجانية في ذلك الحين، وهو الشيخ محمد الحافظ المصري الذي زار الجزائر في ذلك الوقت لوجده يتبرأ من تلك الشبهة.

وللأسف فإن هذه الشبهة لا تزال تطرح على الرغم من المؤلفات الكثيرة التي ألفها التيجانيون في الرد عليها، مع أن المسائل المرتبطة بالردة يكفي فيها مجرد تصريح الشخص بتراجعه أو براءته أو عدم فهم المخالف له لتنفى عنه التهمة.

ولخطورة المسألة لتعلقها بإسلام مئات الملايين من المسلمين نعرض هنا ما ذكره الشيخ محمد الحافظ شيخ الطريقة التيجانية في ذلك الحين، فقد كتب خطابا نشرته مجلة الفتح الصادرة في القاهرة العدد 418 بتاريخ: الخميس 16 رجب 1353، جاء فيه بعد الحمد والصلاة والسلام على رسول الله: (إني أعلن أننا لا نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتم شيئاً مما أمِرَ بتبليغه، ومستحيل أن يُؤمَر بتبليغ ورد أو صلاة الفاتح أو غيرها أو بيانِ فضلها فيكتم شيئاً من ذلك، ومن أعتقد ذلك فهو كافر بالله ورسوله لا يُقبل منه صرف ولا عدل، ولا أدري كيف يعقل أن يكون قد كتم الورد وهو الاستغفار والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بأي صيغة ولا إله إلا الله. وصلاة الفاتح موجودة قبل الشيخ (أي أبي العباس التيجاني) مشهورة فلا يصح بحالٍ كونـُها ادّخِرَت له، ولم يثبت ذلك عنه)([219])

ورد على شبهة بقاء التشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يرميهم بها خصومهم، فقال: (ولا نعتقد أن هنالك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشريعاً بأي وجه من الوجوه، وما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم مستحيل أن ينسخ شيء منه أو يزاد شيء عليه، ومن زعم ذلك فهو كافر خارج على الإسلام)([220])

وبين المراد من التلقي المباشر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وإننا وإن قلنا بجواز أن يرى الوليُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة إلا أننا نعتبر حكمها حكم رؤية النوم الصحيحة سواء بسواء، ولا يعوّل فيها إلا على ما وافق شرعه صلى الله عليه وآله وسلم، وليست مشاهد الأولياء بحجة وإنما الحجة هي الشريعة المحمدية. أما تلك فمبشرات مقيدة بشرعه الشريف: ما قبـِله منها قبلناه وما لم يقبله فمذهبنا فيه حسن الظن فنحكم عليها حكم الرؤيا المؤولة، ولا نشك أن معظم الرؤيا يحتاج إلى التأويل. وإنما رجحنا حسن الظن لأن المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شحيح بدينه حريص على متابعته نستبعد عليه أن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ واليقظة في ذلك كالنوم ـ وهو يقرأ قوله عليه الصلاة والسلام: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)([221])، ولا نخص واحداً من الصالحين بذلك بل هو عندنا عام في كل ما ينقل عنهم، وكم نقِلَ عن الشيوخ من الموهمات والشطحات سواء في ذلك طريقة مولانا الشيخ عبد القادر وغيرها. وقد اعتذر لهم العلماء وردوا الوجهَ المخالف. ولا تخلو كتب أي طريقة من موهماتٍ وشطحٍ كلها مؤول)([222])

وبين حقيقة ما تريده التيجانية من تأثير العلاقة بين المريدين والمشايخ، فقال: (ولا نعتقد أن مجرد رؤية أحد من الصالحين كافية في نجاة المرء وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ونرى أن الاجتماع بالصالحين مع صدق المحبة يجر إلى الصلاح غالباً ولذلك حث الشرع على صحبتهم وبيّن أنها من أسباب التوبة، وحديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم طلب التوبة فدله حبرٌ على بعض الصالحين ليصحبهم فأدركه الموت قبل أن يصل إليهم فرحمه الله وقبـِله، ثابتٌ في الصحيح. وحديث الجليس الصالح كذلك)([223])

وبين أن صلاة الفاتح التي قامت عليها كل تلك الضجة، مجرد أوهام عارية من الصحة، فقال معبرا عن عقائد التيجانية في هذا: (ونعتقد أن من أعظم الكفر أن يعتقد أحد أن صلاة الفاتح أو غيرها من الصلوات عليه صلى الله عليه وآله وسلم تعادل في الفضل أية آية من القرءان، فكيف تفضلها؟! فكيف بسورة؟! فكيف به كله؟! ولا نعتقد أنها من القرءان كما زعم من زعم، ولا من الحديث القدسي ولا من أي قسم من وحي النبوة، فإن ذلك قد انقطع بلحوقه صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى. والمذكور عندنا أنها من الإلهام الثابت للأولياء، ولا نعتقد أنها تساوي الكلمة الشريفة (لا إله إلا الله)، وحاشا الشيخ أن يقول بنسخ الذكر بالأسماء فذلك باطل، فنحن ولله الحمد نذكر الله عز وجل بأسمائه ونحافظ على التسبيح والتحميد وقيام الليل وسائر النوافل والأذكار الواردة في الشريعة ونحث عليها)([224])

وبين التصور التيجاني للورد، وعدم تعارضه مع الالتزام الشرعي، فقال: (ولا نعتقد أن مجرد أخذ الورد يُدخلُ أحداً الجنة بحسابٍ أو بغير حساب فإن شرطَه المحافظة على الأوامر الشرعية كلها علماً وعملاً. وما هو الورد: استغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا إله إلا الله بعد القيام بالواجبات التي أوجبها الله تبارك وتعالى)([225])

ورد على الشبهة التي ترفع الشيخ التيجاني أو أتباعه إلى مقامات عالية فوق جميع الصالحين، فقال: (.. ولا أن الشيخ التيجاني ولا أحداً من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ مرتبة أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم. فكيف بالأنبياء عليهم السلام فكيف بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، والولي مهما سمت رتبته مستحيل أن يبلغ في العلوم الإلهية مبلغَ أي نبي، ومن زعم ذلك فهو ضال مضل. ونعتقد أن من الضلال أن يأمن العبد مكر الله تبارك وتعالى مهما توالت عليه المبشرات، ومن اتكل على عمله أو نسبته إلى أي شخص وترك العمل فذلك ءاية الخسران المبين والعياذ بالله تعالى)([226])

ورد على الشبهة المرتبطة باعتقاد تصرف الأولياء، فقال: (ونعتقد أن من أشنع الشرك أن يعتقد أحد أن لأي أحدٍ كان مع الله تصرفاً، أو من دونه سبحانه وتعالى. وإنما نقول أن العبد قد يصل إلى مكانة من المحبوبية لدى ربه عز وجل بحيث يتصرف الحقُ فيه فيربط على قلبه فلا يسأله إلا ما سبقت به إرادته الأزلية سبحانه، وهذا الذي نفهمه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرّه)([227]) وفي الحديث القدسي (وإن سألني لأعطينه)([228]) وهذا غالباً، وإلا فقد يسأل ربَه عز وجل ولا يعطيه لأن ما شاء الله كان لا ما شاء غيره)([229])

ورد على تهمة الحلول والاتحاد التي يرمي بها السلفيون ومن بينهم جميعة العلماء الطرق الصوفية، فقال: (وإن من اعتقد في الله عز وجل حلولاً أو اتحاداً أو اعتقد أن مخلوقاً هو ذات الله أو فيه صفة من صفاته أو شبهه بخلقه أو شبّه خلقه به أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو أوّله إلى صورة تخالفه كمن يقول بتناسخ الأرواح ويزعم أنه البعث، أو اتبع رأياً من ءاراء المبتدعة فهو ضال مضل)([230])

ثم ذكر خلاصة عقيدة التيجانية، والتي تنسجم مع سائر عقائد المسلمين، فقال: (وخلاصة عقيدتنا في الأصول ما عليه السلف الصالح والخلف من أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين والصوفية وما عليه الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهم في الفروع. ونسلم للسادة الصوفية قاطبة مع وزن أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم بالشريعة، فما وافقها أقررناه وما كان يحتمل الموافقة والمخالفة حسّنـّا للظن فيهم وحملنا حالهم على الوجه الموافق ووكلنا أمرهم إلى الله العليم بما في القلوب، وقد نُقلت عنهم شطحات لا يتابَعون عليها ولا يُقتدى بهم فيها. وما لا يحتمل رددناه فإنه لا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشريع)([231])

وهكذا يستمر الشيخ الذي هو مرجع التيجانية الأكبر في بيان عقائد التيجانية، وأنها لا تختلف عن سائر عقائد المسلمين، وكان في إمكان الشيخ ابن باديس وغيره من أعضاء الجمعية، ومن بعدهم من المكفرة أن يقرؤوا مثل هذه النصوص الصادرة من الناطقين الرسميين باسم الطريقة، ويتراجعوا عن تلك الأحكام الخطيرة التي أصدروها، ولكن ذلك للأسف لم يحصل، لسبب بسيط وهو الافتقار إلى المنهج العلمي، وإلى بعض الأمراض النفسية التي تجعل من الشخص لا يحب أن يدخل الجنة إلا وحده أو مع طائفته.

ولو أنهم رجعوا إلى مصادر التيجانية لعلموا أن الشيخ التيجاني يخبر أنه سيكذب عليه كما كذب على غيره، وأنه في هذه الحالة ينبغي العودة إلى المصادر الشرعية، فقد روي أنه سئل: هل يُكذَب عليك؟ قال: نعم، إذا سمعتم عني شيئاً فزنوه بميزان الشرع فما وافق فاعملوا به وما خالف فاتركوه)

وبناء على هذا يخير الشيخ محمد الحافظ، وهو مرجع من مراجع التيجانية الكبار في عهد الجمعية وبعدها أنه (ما من فرد في هذه الطريقة كبيراً كان أو صغيراً إلا وهو يعلن براءته من تلك الأباطيل. وقد تلقينا عن مشايخ هذه الطريق ـ وهو المنصوص عليه عن صاحبها نفسه ـ أن كل ما ينسب إلى الشيخ بفرض صحة نسبته إليه سواء وُجد في كتبه أو لم يوجد وكان ظاهره مخالفاً لنص الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة المحمدية فهو مؤول ويحرم الأخذ بظاهره، ويجب حمله على وجه يلتئم مع الشريعة. وقد قام علماء الطريق ببيان تأويله الموافق للشريعة حتى لا يضل أحد بحمله على الوجه المخالف. وما لم تصح نسبته إليه فلا يعول على شيء منه بحال. وقد بلغنا أن بعض خلفاء الطريق أحرق بعض ما ينسب للشيخ من الفضائل المختلفة التي تتنافى مع السنة المحمدية وأمر بإحراقها حيثما وجدت. وهل من منصف يستطيع أن يبين لنا معنى لتتبع تلك الموهمات ـ حتى كأنه ليس في الطريق غيرها مع أنه لا خلاف بين أهل الطريق في أنها مؤولة ـ وترك الصريح البيّن من الدعوة إلى الله عز وجل والعمل بالكتاب والسنة والتمسك الشديد بهما وهو الذي عليه العمل وحده عند كل فرد من أهل الطريقة؟ وحيث أن تلك العقائد المخالفة بحذافيرها لا خلاف بيننا في بطلانها ونحن متفقون على البراءة من كل من يعتقدها كلها أو بعضها، فلم تبق إلا الخلافات الشخصية وليست خلافاً جوهرياً.. فإن كان هذا النكير غيرةً على الدين حقيقة فلا يوجد أحد ـ فيما نعلم ـ يعتقد تلك العقائد من التيجانيين فهو جهاد في غير عدو. ومن نسب إلى الطريقة التيجانية أي عقيدة من تلك العقائد أو غيرها مما ينافي العقيدة الإسلامية فهو كاذب. وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أكفر رجلٌ رجلاً إلا باء أحدهما بها إن كان كافراً وإلا يكفر بتكفيره)([232]))([233])

4 ـ تكفير الدول الراعية للصوفية.

لم يكتف السلفية بكل تلك التكفيرات التي ارتبطت بالصوفية، وإنما شملت تكفيراتهم أيضا كل دولة تؤيد هذه الطرق، أو تنتشر بينها هذه الطرق.. وبذلك يصبح التكفير ـ لأول مرة ـ مرتبطا بالجغرافيا.. ولذلك لا عجب أن يسمي السلفية السعودية [بلاد التوحيد]، لأنهم يعتقدون أن غيرها من البلاد بلاد شرك.

وقد أشار ابن غنام إلى هذا الموقف في تأريخه للدعوة الوهابية، فقال: (كان غالب الناس في زمانه – أي الشيخ محمد بن عبدالوهاب – متضمخين بالأرجاس متلطخين بوضر الأنجاس حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنة بالأرماس… فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الأحياء منهم والأموات، وكثير يعتقد النفع والضر في الجمادات)([234])، ثم ذكر صور الشرك في نجد والحجاز والعراق والشام ومصر وغيرها.

ويقول سعود بن عبدالعزيز (ت1229هـ) في رسالة له إلى والي العراق العثماني واصفاً حال دولتهم: (فشعائر الكفر بالله والشرك هي الظاهرة عندكم مثل بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها وتعليق الستور عليها وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله واتخاذها عيداً وسؤال أصحابها قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الدين التي أمر الله بإقامتها من الصلوات الخمس وغيرها فمن أراد الصلاة صلى حده ومن تركها لم ينكر عليه وكذلك الزكاة وهذا أمر قد شاع وذاع وملأ الأسماع في كثير من بلاد: الشام والعراق ومصر وغير ذلك من البلدان)([235])

وقال فيها: (وحالكم وحال ائمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك – أي في ادعائهم الإسلام – وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام (اثنين وعشرين) رسالة لسلطانكم (سليم) أرسلها ابن عمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء، وفيها من الذل والخضوع والخشوع ما يشهد بكذبكم، وأولها: (من عُبَيْدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله قد نالنا الضر ونزل بنا المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عبّاد الصلبان على عبّاد الرحمن !! نسألك النصر عليهم والعون عليهم) وذكر كلاماً كثيراً هذا حاصله ومعناه، فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد أخلصوا لخالق البريات)([236])

ولهذا لما غزا الأتراك مواطن الوهابية ألف الشيخ سليمان بن عبدا لله (توفي 1233هـ) كتاباً – سُميَ بالدلائل – على ردة وكفر من أعان هؤلاء وظاهروهم وإن كان ليس على دينهم – في الشرك – وذكر فيه أكثر من عشرين دليلاً على ذلك، وسمي الجيش الغازي (جنود القباب والشرك)([237])

وسئل الشيخ عبدالله بن عبداللطيف (1339هـ) عن من لم يكفر الدولة – أي العثمانية – ومن جرهم على المسلمين واختار ولايتهم وأنه يلزمه الجهاد معهم، والآخر لا يرى ذلك كله بل الدولة ومن جرهم بغاة ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة وإن ما يغنم منهم من الأعراب حرام، فأجاب: (من لم يعرف كفر الدولة ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة مسلمون فهو أشد وأعظم وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله وأِرك به، ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة)([238])

أما الشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349هـ)، فقد قال في قصيدة له ([239]):

وما قال في الأتراك من وصف كفرهم  ‍
وأعداهم للمسلمين وشرهم  ‍
ومن يتول الكافرين فمثلهم  ‍
ومن قد يواليهم ويركن نحوهـــــــــم
  فحق فهم من أكفر الناس في النحل
  ينوف ويربو في الضلال على المللْ
  ولا شك في تكفيره عند من عقلْ
  فلا شك في تفسيقه وهو في وجـــلْ

ولعل هذا الموقف هو الذي جعل ابن باديس المتأثر بالوهابية لدرجة كبيرة جدا، يختلف مع أكثر علماء الأمة في الموقف من كمال أتاتورك حين أثنى عليه حيا وميتا، فقد رثاه بعد موته بهذه الكلمات التي لم يرث بمثلها غيره، فقد قال: (في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو)([240])

وقد برر ابن باديس هذا الموقف بقوله: (إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك (أبي الترك) مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف فمن هم هؤلاء المسؤلون؟… المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به)([241])

ثم يحدد هؤلاء، والذين اعتبر أتاتورك بالرغم من توجهه العلماني أو الإلحادي أفضل منهم، فذكر أنهم (خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها)([242])

ولم يكتف السلفية بذلك التكفير العام للدولة العثمانية، بل راحوا يكفرون سلاطينها ـ لا بسبب استبدادهم وظلمهم ـ وإنما بسبب انتمائهم للطرق الصوفية.

فمن سلاطين العثمانيين الذين كفروهم: السلطان أورخان الأول (ت 761 هـ)، وهو السلطان الثاني لهذه الدولة بعد أبيه عثمان (عثمان الأول ت 726 هـ)، وسبب تكفيرهم له هو أنه كان صوفياً على الطريقة البكتاشية([243]).

ومنهم السلطان محمد الثاني (الفاتح)(ت 886 هـ)، وسبب تكفيرهم له أنه (بعد فتحه للقسطنطينية سنة 857 هـ، كشف موقع قبر (أبي أيوب الأنصاري) وبنى عليه ضريحاً، وبنى بجانبه مسجداً وزين المسجد بالرخام الأبيض وبنى على ضريح أبي أيوب قبة، فكانت عادة العثمانيين في تقليدهم للسلاطين أنهم كانوا يأتون في موكب حافل إلى هذا المسجد ثم يدخل السلطان الجديد إلى هذا الضريح ثم يتسلم سيف السلطان (عثمان الأول) من شيخ (الطريقة المولوية)([244])  

ومنهم السلطان سليمان القانوني (ت 974 هـ)، وهو من أشهر سلاطين الدولة العثمانية، وحكم 46 سنة تقريباً، وسبب تكفيرهم له أنه (لما دخل (بغداد) بنى ضريح أبي حنيفة وبنى عليه قبة، وزار مقدسات الرافضة في (النجف) و(كربلاء) وبنى منها ما تهدم)([245])

ومنهم السلطان سليم خان الثالث (ت 1223 هـ)، والذي قاله فيه الإمام سعود بن عبد العزيز في رسالته لوالي بغداد – والتي سبق ذكرها-: (وحالكم وحال أئمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك – أي في ادعائهم الإسلام – وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام (اثنين وعشرين) رسالة لسلطانكم (سليم) أرسلها ابن عمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء، وفيها من الذل والخضوع والخشوع ما يشهد بكذبكم)([246])

ومنهم السلطان عبد الحميد الثاني (1327 هـ)، وقد كفروه بسبب انتمائه للطريقة (الشاذلية)، ويذكرون في مبررات تكفيرهم له رسالة له إلى شيخ الطريقة الشاذلية في وقته يقول فيها: (الحمد لله….أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، وإلى مفيض الروح والحياة، شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات وأقبل يديه المباركتين، راجياً دعواته الصالحات، سيدي: إنني بتوفيق الله تعالى أدوام على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً، وأعرض أنني لا زالت محتاجاً لدعواتكم القلبية بصورة دائمة)([247])


([1]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص5

([2]) الرسالة القشيرية (ص:127)

([3]) اللمع (ص:457)

([4]) قوت القلوب: (2/79)

([5]) ليستقيم البيت يجب أن يكون (الطرق شتى ودرب الحق…)

([6]) الفتوحات الإلهية، (ص:101) وما بعدها.

([7]) حقائق عن التصوف، (ص:272)

([8]) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:12، 13)

([9]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص8.

([10]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص8.

([11]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص9.

([12]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص10.

([13]) أهل القبلة كلهم موحدون، ص24.

([14]) أهل القبلة كلهم موحدون، ص25.

([15]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص75.

([16]) إحياء علوم الدين: (1/254)

([17]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص91.

([18]) إحياء علوم الدين: (3/243)

([19]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص85.

([20]) إحياء علوم الدين: (3/13)

([21]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص86.

([22]) إحياء علوم الدين: (4/212)

([23]) الِإحياء: (4/213)

([24]) الإِحياء: (4/276)

([25]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص86.

([26]) حقائق عن التصوف، ص543.

([27]) حقائق عن التصوف، ص544.

([28]) حقائق عن التصوف، ص544.

([29]) مدارج السلوك إِلى ملك الملوك للعارف الكبير محمد بناني المتوفى 1284هـ.

([30]) حقائق عن التصوف، ص544.

([31]) حقائق عن التصوف، ص545.

([32]) وقد أنكر ابن تيمية هذا التفسير بوجوه من الإنكار قال في التقديم لها: وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه بعضها يشير إلى الرجحان وبعضها يشير إلى البطلان. انظر: مجموع الفتاوى:2/28.

([33]) صحيح البخاري (2/ 61)

([34]) أبو مدين، الديوان، ص57.

([35]) وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.

([36]) صحيح البخاري (5/ 53)، صحيح مسلم (7/ 49)

([37]) سيد قطب (5/ 3161)

([38]) حقائق عن التصوف، ص546.

([39]) أبو العباس المرسي، ص 132.

([40]) أبو العباس المرسي، ص 133.

([41]) أبو العباس المرسي، ص134.

([42]) أبو العباس المرسي، ص 135.

([43]) أبو العباس المرسي، ص 136.

([44]) أبو العباس المرسي، ص 137.

([45]) أبو العباس المرسي، ص 138.

([46]) أبو العباس المرسي، ص 139.

([47]) أبو العباس المرسي، ص 140.

([48]) انظر الأدلة على قول السلفية بهذا في كتابنا [السلفية والوثنية المقدسة]

([49]) العلاوي، الديوان، ص 36.

([50]) انظر: الشارف لطروش، الشيخ بن مصطفى العلاوي، رائد الحركة الصوفية في القرن العشرين، ص7.

([51]) جلال الدين الرومي، فيه ما فيه، دمشق: دار الفكر، ص71.

([52]) حقائق عن التصوف، ص531.

([53]) اليواقيت والجواهر، ج1 ص83.

([54]) حقائق عن التصوف، ص531.

([55]) الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، نقلا عن اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([56]) اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([57]) اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([58]) اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([59]) اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([60]) اليواقيت والجواهر ج1. ص80-81.

([61]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج11. ص74 -75.

([62]) مجموع فتاوى ابن تيمية ج10. ص223.

([63]) مجموع رسائل ابن تيمية ص52.

([64]) أحمد (2/417) . ومسلم (8/145)

([65]) أحمد 5/170.

([66]) أحمد (2/313) ، ومسلم (7/96)

([67]) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 24): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.

([68]) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 327): رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

([69]) البخاري رقم: 2753.

([70]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 294)

([71]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 294)

([72]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 65)

([73]) فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد: (1 / 381)

([74]) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 621)

([75]) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 621)

([76]) البخاري: 3445 ، وأحمد 1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55..

([77]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 145)

([78]) البخاري: 6311 ،6313 ،6.

([79]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 145)

([80]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 160)

([81]) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/218)

([82]) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1 / 241)

([83]) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2 / 312)

([84])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص3.

([85])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص5.

([86])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص7.

([87])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص43.

([88])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص43.

([89])   شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص44.

([90]) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص7.

([91]) موسوعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص  385 ـ 387.

([92]) نقلا عن: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص233.

([93]) مصباح الأنام، ص5.

([94]) مصباح الأنام ، ص 234.

([95]) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق، ص 51.

([96]) كشف الارتياب، ص 170.

([97]) نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص237.

([98]) النقول الشرعية، ص 100.

([99]) نقلا عن: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص234.

([100]) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، ص 6.

([101]) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية،  ص 7.

([102]) نقلا عن: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص237.

([103]) مصباح الأنام، ص 44.

([104]) سعد الشريف، الوهابية مذهب الكراهية، مشايخ التكفير، الجزء الخامس ـ 2، مجلة الحجاز الإلكترونية.

([105]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 162)

([106]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 164)

([107]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 379)

([108]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)

([109]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)

([110]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)

([111]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)

([112]) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)

([113]) رسالة الشرك ومظاهره، ص: 382.

([114]) في العدد 95 من جريدة «البصائر»، 14 نوفمبر سنة 1949.

([115]) انظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)

([116]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)

([117]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)

([118]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)

([119]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)

([120]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)

([121]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)

([122]) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 322)

([123]) أحمد حماني: حياة وآثار،شهادات ومواقف، ص 123.

([124]) أحمد حماني: الفتاوى، 3/ 312.

([125]) أحمد حماني: الفتاوى، 3/ 312.

([126]) جريدة الشعب الجزائرية الصادرة بتاريخ 18 /11 / 1991 الصفحة 9.

([127]) البداية والنهاية (14/ 156)

([128]) البداية والنهاية (14/ 157)

([129]) الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر 129-130.

([130]) انظر الصوفية والفقراء (8-10)

([131]) مجموع الفتاوى ،ج10. ص516 ـ517.

([132]) مجموع الفتاوى ،ص369/8 .

([133]) مجموع الفتاوي ، 8/303.

([134]) مجموع الفتاوى ،ج10 – ص 884.

([135]) مجموع فتاوي ابن تيمية ،ج5 ص321.

([136]) مجموع الفتاوى ، جزء 14 – صفحة 355 .

([137]) مجموع الفتاوي ،ج2 ص452،

([138]) مجموع الفتاوى (10/ 367)

([139]) مجموع الفتاوى (2/ 288)

([140]) مجموع الفتاوى ،جزء 5 – صفحة 79.

([141]) مجموع الفتاوى (10/ 219)

([142]) مجموع الفتاوى: 16/ 402.

([143]) مدارج السالكين: 2/ 307..

([144]) مدارج السالكين: 2/ 366.

([145]) مدارج السالكين: 3/128.

([146]) تذكرة الحفاظ، 3/852.

([147]) تذكرة الحفاظ، 3/961..

([148]) تذكرة الحفاظ، 3/ 1070.

([149]) تذكرة الحفاظ، 3/ 1170.

([150]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص9.

([151]) دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/426)

([152]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص93.

([153]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص94.

([154]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص96.

([155]) الفيوضات الربانية، (ص:41)

([156]) الفيوضات الربانية، (ص:5) وتبرز هنا ملحوظة هامة، هي أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.

([157]) الفتح الرباني، (ص:217)

([158]) الفتح الرباني، (ص:360)

([159]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص73.

([160]) الفتح الرباني، (ص:367)

([161]) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ،  ص75.

([162]) الصوفية والوجه الآخر، ص39.

([163]) الصوفية والوجه الآخر، ص39.

([164]) الصوفية والوجه الآخر، ص40.

([165]) الصوفية والوجه الآخر، ص41.

([166]) الصوفية والوجه الآخر، ص42.

([167]) الصوفية والوجه الآخر، ص43.

([168]) الجبرتي، عجائب الىثار في التراجم والاخبار، ج3، ص 34.

([169]) خير الدين الزركلي، الأعلام، ج1، 42.

([170]) علي عبد العظيم، مشيخة الأزهر، ج1 ص 131.

([171]) د. محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام، ص72..

([172]) الجبرتي، مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس، ص125.

([173]) الجبرتي، عجائب الآثار، ص 92.

([174]) على عبد العظيم، مشيخة الأزهر، ج3، ص 684.

([175]) اقتبستها من كتاب [أسماء أشهر علماء ألامه الإسلامية المتوسلين، فهل هؤلاء وقعوا في الشرك]، بالإضافة إلى ما كتبه الدكتور محمود صبيح في الموضوع.

([176]) تاريخ بغـداد (1 / 122)

([177]) طبقات الصوفية، ص 81.

([178]) سير أعلام النبلاء)(21 / 251 -253)

([179]) سير أعلام النبلاء (16 / 400)

([180]) فيض القدير، 4/ 489.

([181]) تاريخ بغداد (1/ 442)

([182]) تذكرة الحفاظ، 4/ 1371.

([183]) الثقات (8 / 457)

([184]) فتح الباري: 2/497.

([185]) الفروع: 3/ 229.

([186]) المنتظم ص 211 / 11.

([187]) التهذيب: 7/339.

([188]) تهذيب التذهيب: 11/ 260.

([189]) الجامع لأخلاق الراوى والسامع (2 / 261)

([190]) سنن الدارمى، ح92.

([191]) سير أعلام النبلاء (16 / 400)

([192]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: 3/ 141.

([193]) مجلة البحوث الإسلامية (9/ 171)

([194]) مؤلفات الفوزان، 24/88.

([195]) انظر: الموسوعة الصوفية د. عبدالمنعم الحنفي ص269.

([196]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص50.

([197]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص51.

([198]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص51.

([199]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص53.

([200]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص55.

([201]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص56.

([202]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص58.

([203]) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص59.

([204]) فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (2/ 324)

([205]) نص صلاة الفاتح هي: (اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخـاتم لما سبق، ناصـر الحق بالحق، الهـادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم)

([206]) آثار ابن باديس (3/ 143)

([207]) ذكره الغزالي في الإحياء(1/324) بدون سند، وذكر نحوه عن بعض السلف، وأقرب ما حديث إليه ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ج:6 ص:2017) عن ميمون بن مهران قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول(﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]) وإنه لظالم.

([208]) آثار ابن باديس (3/ 144)

([209]) آثار ابن باديس (3/ 146)

([210]) آثار ابن باديس (3/ 147)

([211]) آثار ابن باديس (3/ 147)

([212]) آثار ابن باديس (3/ 148)

([213]) آثار ابن باديس (3/ 148)

([214]) آثار ابن باديس (3/ 148)

([215]) آثار ابن باديس (3/ 149)

([216]) آثار ابن باديس (3/ 149)

([217]) آثار ابن باديس (3/ 150)

([218]) سنرى الوثائق الدالة على إنكار التيجانية لمثل هذه العقائد في محلها.

([219]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة،ص3.

([220]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص3.

([221]) صحيح البخاري (1/ 38)، صحيح مسلم (1/ 8)

([222]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص4.

([223]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص4.

([224]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص5.

([225]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص5.

([226]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص6.

([227]) صحيح البخاري (3/ 243)، وصحيح مسلم (5/ 105)

([228]) نص الحديث كما في البخاري: (إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته) (صحيح البخاري (8/ 131)

([229]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص6.

([230]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص7.

([231]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص7.

([232]) نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، (ص: 44)

([233]) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص7.

([234]) حسين بن غنام (روضة الأفكار) ص5.

([235]) الدرر السنية، 1/382.

([236]) الدرر السنية، ص 160، (تاريخ الدولة العلية) ص 177وص 198 ومابعدها.

([237]) الدرر السنية،  7/ 57ـ 69.

([238]) الدرر السنية،  8/242.

([239]) (ديوان ابن سحمان) ص 191..

([240]) آثار ابن باديس:4/213.

([241]) آثار ابن باديس:4/213.

([242]) آثار ابن باديس:4/213.

([243]) انظر (تاريخ الدولة العلية العثمانية) ص 123، و(الفكر الصوفي) ص 411.

([244]) الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) 1/64..

([245]) الدولة العثمانية دولة إسلامية) 1/ 25.

([246]) الدرر السنية، ص 160.

([247]) انظر (إمام التوحيد) لأحمد القطان ومحمد الزين ص 148.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *