الرواية.. لا الدراية

الرواية.. لا الدراية

الركن الثالث الذي يقوم عليه بنيان العقل السلفي هو [الرواية]، أو هو حكاية الأقوال والنصوص وترديدها وحفظها.. وهو بسبب مهارته في هذا الجانب، وإغفاله لأدوات التحليل والمناقشة والنقد، أو إغفاله لأدوات الدراية أصبحت هذه الأدوات ضامرة عنده، وإن استعملها فهو يستعملها ليقبل ما يشاء من الروايات، أو يرفض ما يشاء منها.

والعقل السلفي بسبب امتلاكه لهذه الأداة يتصور أنه امتلك كل شيء، ولهذا نرى فيه ذلك التعالي على جميع طوائف الأمة وعلمائها.. بسبب توهمه أنه ما دامت الرواية له، فالحديث له..

وبما أن الحديث هو المصدر الأساسي للدين بعد القرآن الكريم أو مع القرآن الكريم.. فلذلك صار شطر الدين له بهذا الاعتبار..

أو ربما صار كل الدين له، لأن الحديث يمثله رسول الله k.. ورسول الله k ـ في العقل السلفي ـ ليس سوى أقواله وأفعاله وتقريراته، ولذلك فإن من يرويها هو الأحق برسول الله k.. ولذلك نراهم يحتكرون رسول الله k لأنفسهم باحتكار الرواية عنه.

وبناء على ذلك نرى ذلك التعالي الذي تنضح به كتبهم على سائر الأمة، بل إنهم وضعوا كتبا خاصة تمجدهم، وطالبوا الأمة بالإيمان بها، فمن لم يؤمن بأهل الحديث لم يؤمن بالحديث، ومن لم يؤمن بالحديث لم يؤمن برسول الله k.

ولهذا نرى سلفهم وخلفهم يرددون ما يردد شيخ إسلامهم ابن تيمية حين يقول في استعلاء وكبرياء كل حين: (وبهذا يتبيّن أنّ أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنّة الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلا رسول الله k، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمّتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعٌ لها: تصديقًا وعملاً وحبًّا وموالاةً لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يَرُدون المقالات المجملةَ إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا يُنَصِّبُون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجُمل كلامهم إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسول k بل يجعلون ما بعث به الرسول k من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه)([1])

وقبله قال ابن قتيبة (المتوفى سنة 276 هـ) بعد أن ذكر التوجهات المختلفة التي توجهها علماء الأمة وعامتها:(.. فأما أصحاب الحديث، فإنهم التمسوا الحق من وجهته وتتبعوه من مظانه وتقربوا من اللّه تعالى باتباعهم سنن رسول اللّه k وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً، وشرقا وغربا، يرحل الواحد منهم راجلا مقويا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة، ثم لا يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي، فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا، وبسق بعد أن كان دارسا، واجتمع بعد أن كان متفرقا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه لها من كان عنها غافلا، وحُكِمَ بقول رسول اللّه k بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان، وإن كان فيه خلاف على رسول اللّه k)([2])

وبعده قال أبو حاتم محمد بن حبان التميمي (المتوفى سنة 354) مثنيا على أهل الحديث سلف السلفية: (.. ثم اختار طائفة لصفوته وهداهم للزوم طاعته من اتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه، واتباع سنن نبيه، بالدّؤُب في الرحل والأسفار وفراق الأهل والأوطار في جمع السنن ورفض الأهواء والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وذاكروا به ونشروه وتفقهوا فيه وأصلوه وفرعوا عليه وبذلوه وبينوا المرسل من المتصل والموقوف من المنفصل والناسخ من المنسوخ والمحكم من المفسوخ والمفسر من المجمل والمستعمل من المهمل والمختصر من المتقصىَّ والملزوق من المتفصىَّ والعموم من الخصوص والدليل من المنصوص والمباح من المزجور والغريب من المشهور والغرض من الإرشاد والحتم من الايعاد والعدول من المجروحين والضعفاء من المتروكين وكيفية المعمول من المجهول وما حرف عن المخزول وقلب من المنحول من مخايل التدليس وما فيه التلبيس حتى حفظ اللّه بهم الدين على المسلمين وصانه من ثلب القادحين، جعلهم عند التنازع أئمة الهدى وفي النوازل مصابيح الدجى، فهم ورثة الأنبياء ومأنس الأصفياء)([3])

ومثله قال أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (المتوفى سنة 360 هـ) دفاعا على أهل الحديث، وبيان مكانتهم:(اعترضت طائفة ممن يشنأ الحديث ويبغض أهله، فقالوا بنقص أصحاب الحديث والإزراء بهم وأسرفوا في ذمهم والتقول عليهم وقد شرف اللّه الحديث وفضل أهله وأعلى منزلته وحكمه على كل نحلة وقدمه على كل علم، ورفع من ذكر من حمله وعنى به، فهم بيضة الدين ومنار الحجة وكيف لا يستوجبون الفضيلة ولا يستحقون الرتبة الرفيعة وهم الذين حفظوا على الأمة هذا الدين، وأخبروا عن أنباء التنزيل، وأثبتوا ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وما عظمه اللّه عز وجل به من شأن الرسول k، فنقلوا شرائعه ودونوا مشاهده وصنفوا أعلامه ودلائله وحققوا مناقب عترته ومآثر آبائه وعشيرته وجاءوا بسير الأنبياء ومقامات الأولياء وأخبار الشهداء والصديقين وعبروا عن جميع فعل النبي k في سفره وحضره وظعنه وإقامته وسائر أحواله من منام ويقظة وإشارة وتصريح وصمت ونطق ونهوض وقعود ومأكل ومشرب وملبس ومركب وما كان سبيله في حال الرضا والسخط والإنكار والقبول حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها، والنخاعة من فيه أين كان وجهتها، وما كان يقوله عند كل فعل يحدثه ويفعله، وعند كل موقف ومشهد يشهده تعظيما له k ومعرفة بأقدار ما ذكر عنه وأسند إليه، فمن عرف للإسلام حقه وأوجب للرسول حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم اللّه شأنه وأعلى مكانه وأظهر حجته وأبان فضيلته ولم يرتق بطبيعته إلى حزب الرسول واتباع الوحي وأوعية الدين، ونقلة الأحكام والقرآن، الذين ذكرهم اللّه عز وجل في التنزيل فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، فإنك إن أردت التوصل إلى معرفة هذا القرن، لم يذكرهم لك إلا راو للحديث، متحقق به، أو داخل في حيز أهله، ومن سوى ذلك فربك بهم أعلم.. وكفى بالمحدث شرفا أن يكون اسمه مقرونا باسم النبي k متصلا بذكره وذكر أهل بيته وأصحابه، ولذلك قيل لبعض الأشراف: نراك تشتهي أن تحدث فقال: أولا أحب أن يجتمع اسمي واسم النبي k في سطر واحد)([4])

وهكذا قال الحافظ أبو عبد اللّه الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 هـ)، فقد أورد قوله k: (لا يزال ناس من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)([5])، ثم روى عن أحمد بن حنبل قوله جوابا لمن سأله عن معنى هذا الحديث فقال: (إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم؟)([6])

ثم علق عليه بقوله: (فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، إن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف الماضين، ودفعوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله أجمعين من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الدمن والأوطان، وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة العلم والإخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار، قد تركوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ، جعلوا المساجد بيوتهم وأساطينها تكاهم وبواريها فرشهم) ([7])

ثم روى عن عمر بن حفص بن غياث قوله: (سمعت أبي وقيل له: ألا تنظر إلى أصحاب الحديث وما هم فيه. قال: هم خير أهل الدنيا)، وعن أبي بكر بن عياش قوله: (إني لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس، يقيم أحدهم ببابي، وقد كتب عني فلو شاء أن يرجع ويقول: حدثني أبو بكر جميع حديثه فعل ولكنهم لا يكذبون)([8])

ثم علق عليهما بقوله: (ولقد صدقا جميعا أن أصحاب الحديث خير الناس، وكيف لا يكونون كذلك، وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة وسمرهم المعارضة واسترواحهم المذاكرة، وخلوقهم المداد، ونومهم السهاد، واصطلاءهم الضياء، وتوسدهم الحصى فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، قلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلم السنن سرورهم، ومجالس العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم)([9])

ثم روى عن محمد ابن إسماعيل الترمذي قوله: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد اللّه ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء. فقام أبو عبد اللّه وهو ينفض ثوبه فقال: (زنديق زنديق زنديق ودخل البيت)([10])

وروى عن أحمد بن سنان القطان قوله: (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه)، وروى عن أحمد بن سلام الفقيه قوله: (ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد)([11])

ثم علق عليه بقوله: (وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة، ويسميها الحشوية، سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه وهو يناظر رجلا، فقال: الشيخ: حدثنا فلان، فقال له الرجل: دعنا من حدثنا، إلى متى حدثنا، فقال له الشيخ: (قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا)، ثم التفت إلينا، فقال: (ما قلت قط لأحد لا تدخل داري إلا لهذا)([12])

وهكذا قال أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463) الذي ألف كتابا في فضلهم سماه (شرف أصحاب الحديث)، روى فيه عن يزيد بن زريع قوله: (أصحاب الرأي أعداء السنة)، ثم عليه بقوله: (ولو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء والمحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه، لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول k، وسراياه وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه. وذكر فضائلهم ومآثرهم. وشرح أخبارهم) ومناقبهم (، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم. وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبإ والذكر الحكيم. وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين. وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة. فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي kوأمته، والمجتهدون في حفظ ملته. أنوارهم زاهرة وفضائلهم سائره، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته. إذا اختلف في حديث، كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع. ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم. وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله. لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير وإن الله على نصرهم لقدير)([13])

وقد عقد فصلا في كتابه عنونه [كون أصحاب الحديث أمناء الرسول k لحفظهم السنن وتمييزهم لها]، روى فيه عن أبي حاتم الرازي قوله: (لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة) فقال: له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثا لا أصل له ولا يصح؟ فقال: (علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها، ثم قال: (رحم الله أبا زرعة، كان والله مجتهدا في حفظ آثار رسول الله ))([14])

وروى عن كهمس الهمذاني قوله: (من لم يتحقق أن أهل الحديث حفظة الدين، فإنه يعد في ضعفاء المساكين الذين لا يدينون الله بدين، يقول الله تعالى لنبيه k: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [الزمر: 23]، ويقول رسول الله k حدثني جبرائيل عن الله عز وجل)([15])

وهكذا نجد فصولا كثيرة تبين المكانة الرفيعة لأصحاب الحديث، منها فصل عن [كون أصحاب الحديث حماة الدين بذبهم عن السنن]، روى فيه الثوري قوله: (الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض)، وقول يزيد بن زريع: (لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد)([16])

وعقد فصلا بعنوان [كون أصحاب الحديث ورثة الرسولk فيما خلفه من السنة وأنواع الحكمة] روى فيه عن الشافعي قوله: (إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأني رأيت النبيk حيا)([17])

وعقد فصلا بعنوان [من قال: لولا أصحاب الحديث لاندرس الإسلام] روى فيه عن حفص بن غياث، قوله: (لولا أن الله جعل الحرص في قلوب هؤلاء يعني طلبة العلم لدرس هذا الشأن)، وعن أبي داود قوله: (لولا هذه العصابة لاندرس الإسلام يعني أصحاب الحديث الذين يكتبون الآثار)([18])

وعقد فصلا بعنوان [من قال: إن الحق مع أصحاب الحديث] روى فيه عن هارون الرشيد، قوله: (طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث)([19])

وعقد فصلا بعنوان [كون أصحاب الحديث أولى الناس بالنجاة في الآخرة وأسبق الخلق إلى الجنة] روى فيه عن أبي جعفر النفيلي، قوله: (إن كان على ظهر الأرض أحد ينجو، فهؤلاء الذين يطلبون الحديث)، وروى عن ابن المبارك قوله: (أثبت الناس على الصراط أصحاب الحديث)، وروى عن الحسن بن علي التميمي، قوله: (كنت في الطواف فهجس في سري: من المقدم يوم القيامة؟ فإذا هاتف ينادي: أصحاب الحديث)([20])

وهكذا نجد الفصول الكثيرة في هذا الكتاب وغيره تعقد لبيان فضل أهل الحديث، وفضل الرواية، هي التي يتعلق بها السلفية في بيان فضلهم على سائر الأمة، واعتبار الحق المطلق معهم، والباطل المطلق مع مخالفيهم.

وهي السبب كذلك في تلك الكبرياء التي يمارسها العقل السلفي عندما يحتك مع غيره من العقول، أو يتحاور معها، فهو يتحاور من برجه العاجي الذي بناه له سلفه ممن لقبوا أنفسهم بأهل الحديث.

ونحن لا ننكر ما يذكرونه عن أنفسهم من الجهد والرحلة والحفظ وتلك المعاناة الطويلة في جمع الأسانيد والمتون وحشو الكتب والمصنفات بها.

ولا ننكر عليهم صدقهم وإخلاصهم، والذي قد لا يخدش فيه كونه مشوبا أحيانا بحب تلك المكانة الرفيعة وذلك الجاه العريض الذي توليه السلطات بمختلف أصنافها للمحدثين، بالإضافة لتلك المحابر الكثيرة التي تجتمع لديهم، ويجتمع معها كثير من الحظوظ التي يعجلها الله لهم في الدنيا قبل الآخرة.

ولكننا ننكر عليهم ذلك التعالي وتلك الكبرياء، التي جعلتهم يلغون الأمة جميعا بمختلف علمائها وطوائفها، كما أشار السمعاني (ت 489 ھ) ـ وهو من أعلامهم الكبار ـ في كتابه [الانتصار لأصحاب الحديث] إلى ذلك، فقال: (فإن قال قائل: إنكم سميتم أنفسكم أهل السنة، وما نراكم في ذلك إلا مدعين، لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل اتباع السنة وتنسب من خالفها إلى الهوى، وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق فكلها في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون، ولستم أولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة أو من إجماع أو معقول)([21])

ثم أجاب على ذلك بقوله: (قولكم: إنه لا يجوز لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو دلالة ظاهرة من الكتاب والسنة هما لنا قائمتان بحمد الله ومنه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، فأمرنا باتباعه وطاعته فيما سن وأمر ونهى وحكم وعلم.. فوجدنا سنته وعرفناها بهذه الآثار المشهورة التي رويت بالأسانيد الصحاح المتصلة التي نقلها حفاظ العلماء بعضهم عن بعض، ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب وفيها أرغب ولها أجمع ولصحاحها أتبع فعلمنا يقينا أنهم أهلها دون من سواهم من جميع الفرق.. ورأينا أصحاب الحديث رحمهم الله قديما وحديثا هم الذين رحلوا في طلب هذه الآثار التي تدل على سنن رسول الله k فأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها وعابوا من خالفها وكثرت عندهم وفي أيديهم حتى اشتهروا بها كما اشتهر البزاز ببزه والتمار بتمره والعطار بعطره)([22])

وهكذا لا يجد المحاور مع هذا العقل سوى أمثال هذه النصوص، لأنه لو أدلى له بجميع حجج الدنيا، فإنه لن يرضخ لها، بل إنه يتصور أنه ينسفها جميعا برواية يرويها أو أثر ينقله.

والعقدة التي سببت كل ذلك هو توهمه أن كل رواية يرويها عن رسول الله k هي حقيقة قطعية لا شك فيها.. ولذلك فإن المنكر للرواية مكذب لرسول الله k.. ولا حظ لمن كذب رسول الله k في الدين.

وهذا كله غير صحيح.. ذلك أن المنهج الذي اعتمده أهل الحديث في الرواية كان سببا لكل ما حصل في الأمة من الفتن.. فلو أنهم تعاملوا مع الحديث ـ كما تعاملت الأمة مع القرآن الكريم ـ فلم يرفعوا لرسول الله k إلا ما استوثقوا من صحته، وتأكدوا منه تأكدا تاما ما حصل ما حصل.

لكن بسبب اشتغالهم بالحشو والكثرة، صاروا يجمعون كل شيء، ثم يدونونه في كتبهم ومعه الأسانيد التي وصلوا بها إليه.. ثم ينشرونه في الأمة بعد ذلك.. غير مدركين الآثار الخطيرة التي قد يتركها حديث مكذوب واحد.

وقد أشار ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) إلى هذا المعنى، فقال: (.. كتبت إليَّ تُعْلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث)([23])

وقال: (وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف وطلبهم الغرائب، وفي الغريب الداء. ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقا، بل جمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم ليميزوا بينهما ويدلوا عليهما وقد فعلوا ذلك)([24])

لكن السلفية عندما ترد عليهم أمثال هذه التساؤلات نجدهم ـ بعد فرارهم منها بالطعن في صاحب التساؤل ـ يذكرون أن أسلافهم وضعوا علوما كثيرة، كعلم الرجال، والجرح والتعديل، والعلل وغيرها كثير.. وأنهم بواسطها استطاعوا أن يميزوا بين الضعيف والصحيح..والمقبول والمرفوض.

وذلك غير صحيح.. لأنه لا يوجد علم في الدنيا وقع فيه الخلاف كما يوجد في علم الحديث، فهم يختلفون في الرواة قبولا ورفضا، ويختلفون في شروط القبول، ويختلفون في تطبيق الشروط، ويختلفون في اشتراط الاتصال وعدم الاتصال.. وهكذا نجد اختلافهم في كل جزئية من أجزاء السند.. فكيف بعد هذا يتصورون أنهم قد استطاعوا تمييز الصحيح من الضعيف.

والشيء الوحيد الذي استفادوه من كثرة تلك العلوم التي ربطوها بالحديث هو احتكار الحديث لأنفسهم، حيث راحوا يعقدون مسائله، ومصطلحاته، وطرق التعامل معه، حتى لا يبقى في الحلبة غيرهم، فإذا ما نوقشوا في مسألة أوردوا حديثا، راحوا يتكلمون في سنده، ويتصورون أنهم بإثباتهم لصحته ـ على حسب المنهج الذي اعتمدوه ـ يكونون قد قضوا على حجة المخالف لهم.

وهم يمارسون في ذلك كل أنواع التضليل والمغالطات، بل إننا لو دققنا في طريقة تعاملهم مع الرجال والأسانيد، وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، لوجدنا هذا العلم هو الأداة التي يمارسون بها الاحتيال لتصحيح ما يشتهون، وتضعيف ما يشتهون.

فمن أكبر المغالطات المرتبطة بالسند، والتي كانت سببا في اختلاط حديث رسول الله k مع أحاديث الكذابين والوضاعين والخرافيين والدجالين هو ذلك الاحتقار الذي مارسه العقل السلفي مع شروط الرواية، مقارنة بالشروط التي جمع بها القرآن الكريم، مع أن كليهما واحد من جهة الدور الذي يؤديه، فالقرآن يعطينا عقائد وفقها، وكذلك السنة المطهرة..

لكن السلفية مع اعتقادهم بهذا، بل اعتقادهم بأن السنة حاكمة على القرآن، إلا أنهم تساهلوا في الشروط المرتبطة بها، فاعتبروا أحاديث الآحاد الغريبة في إثبات كل شيء، حتى لو خالفت تلك الأحاديث القرآن والعقل والفطرة وكل حقائق الوجود.

وهذا يعني أنه يمكن لأي شخص حاقد على الدين أن يضع في الدين ما يشاء من العقائد والأحكام، وليس عليه فقط، سوى أن يتظاهر بالعدالة أمام رواة الحديث، ويتقن بعض اللغة العربية، ثم يصب كل ترهاته في قالب حديثي، يضيف إليه سندا مناسبا.

وبعد أن يفعل هذا، قد يفطن بعض الأذكياء من المباحث الحديثية في التعرف على كون الراوي غير ثقة، وأنه مجرد محتال.. ولذلك يصنفونه ضمن الرواة المشبوهين..

ولكن اكتشاف بعضهم له لا يقضي عليه، لأن هناك من انخدع فيه، واعتبره راوية ثقة، وهنا يحصل الخلاف بين المحدثين في اعتباره ثقة أو غير ثقة.. وهنا يقع الخلاف أيضا في كل الأحاديث التي أوردها.. ولا يبعد أن يجد من يدافع عنه، وخاصة إن كانت أحاديثه تتناسب مع مزاج حديثي معين.

ليس هذا فقط، بل للمذهب والطائفة دورها الكبير في انتقاء المحدثين لأنواع الرواة، فمن كان معهم قبلوه ووثقوه حتى لو كان كاذبا.. ومن كان مخالفا لهم بدعوه وكذبوه حتى لو كان صادقا.

وهكذا نجد أمثال هذه الثغرات التي تملأ علم الحديث، والتي بواسطتها تمكن الشيطان من تحريف الدين، ونشر ما يشاء من العقائد والأحكام.

ولو أن هؤلاء احتاطوا في أمر الحديث، وتركوا شهوة الرواية، وانشغلوا بالدراية والتحقيق لما وقع ما وقع.

بناء على هذا سنحاول هنا أن نذكر أدلة أو أمثلة على بعض هذه الثغرات([25])، ونحن نعلم مسبقا أننا سنتهم بمثل ما يتهم به عادة كل ناقد لهذا المنهج الذي يعتمد عليه العقل السلفي في إثبات تسلطه على سائر الأمة.

أولا ـ التساهل في طرق الرواية:

مع أن القرآن الكريم ذكر خطورة الشهادة في مسائل وفروع بسيطة تتعلق بآحاد الناس، فشرط العدد في الشهود، بالإضافة للعدالة ونحوها حتى لا يتهم البريء وينجو المجرم.. لكنا نجد المحدثين سلكوا مع الحديث منهجا أيسر وأسهل حتى يتاح التحديث لآحاد الناس، ليطرح كل واحد ما يشاء من غير أن يحتاج لمن يشهد معه، أو يقف بجنبه.

مع انه الأجدر بهم أن يجعلوا شروط رواة الحديث أعظم، وعددهم أكثر، لأن القضية لا تتعلق بفرد واحد من الناس، وإنما تتعلق بأمة كاملة، وبدين كامل.

لكن المحدثين لم يهتموا بهذا، ولم يعطوه الأهمية التي يستحقها، بل إننا نجدهم يجعلون شروط الشهادة أخطر من شروط الرواية([26])، وكأن الدين الذي تتعلق به تلك الروايات صار أهون من الحد الذي لا يصيب صاحبه سوى ببعض العقوبات البسيطة.

وهم في موقفهم ذلك يخالفون من يدعون الانتساب إليهم من الصحابة، فقد كانوا يتشددون في شروط الرواية مع كون المسافة بينهم وبين رسول الله k قصيرة جدا، فقد روى قبيص بن ذؤيب أنَّ الجدّة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أنْ تورث، فقال لها: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أنَّ رسول الله k ذكر لك شيئاً، ثم سأل النَّاس، فقام المغيرة فقال: سمعت رسول الله e يعطيها السُّدس، فقال: هل معك أحد؟ وشهد محمد بن سلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها([27]).

ومثل ذلك روي عن أبي سعيد الخدريّ قال: (كنتُ جالساً في مجلس الأنصار إذ أبو موسى كأنَّه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله k: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له؛ فليرجع)، فقال: والله لتقيمنَّ عليه ببيّنة، أَمنْكمْ أحدٌ سمعه من النَّبيّ k؟ فقال أُبي بن كعب: (والله لا يقوم معك إلاَّ أصغر القوم)، فكنت أصغر القوم، فقمتُ معه، فأخبرت عمر أنَّ النَّبيّ k قال ذلك) ([28]).   

وهكذا روي عن الإمام عليّ أنه كان لا يقبل خبر الآحاد ولا يعمل به إلاَّ إذا استحلف الرَّاوي باليمين أنَّه سمع الحديث عن رسول الله k ([29]).

لكن العقل السلفي الانتقائي لا يقبل بهذا، لأنه لو قبله لارتفعت حجية الكثير من العقائد التي فرضها على الأمة فرضا، ولزالت معها تلك المجلدات الكثيرة التي جمعها، ولذهب معها كذلك تلك الآلاف وعشرات الآلاف من الأحاديث التي حفظها ليتميز بها عن سائر الناس.

ولهذا نراهم يجتهدون في إثبات خبر الواحد بأي سبيل من السبل، وأولها تلك التشديدات التي لا يتقن سلفهم غيرها، فقد اعتبروا الطاعن في حجية خبر الواحد في المسائل العقدية مبتدعا ومنحرفا، بل طاعنا في السنة النبوية نفسها، بل مكذبا لرسول الله k.

قال ابن عبد البر مبينا موقف سلف السلفية من المتشدد في قبول خبر الواحد: (مذهب الأئمة، أهل الفقه والأثر.. كلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، وعلي ذلك جماعة من أهل السنة)([30])

وقال أبو المظفر السمعاني في (الانتصار لأصحاب الحديث) مبينا الحجج الحجج القوية التي أوردها المتكلمون، بل كل طوائف المسلمين: (وقد سلك أهل الكلام في رد الناس من الأحاديث إلى المعقولات طريقا شبهوا بها على عامة الناس قالوا: إن أمر الدين أمر لابد فيه من وقوع العلم ليصح الاعتقاد فيه، فإن المصيب في ذلك عند اختلاف المختلفين واحد والمخالف في أمر من أمور الدين الذي مرجعه إلى الاعتقاد إما كافر أو مبتدع، وما كان أمره على هذا الوجه، فلابد في ثبوته من طريق توجب العلم حتى لا يتداخل من حصل له العلم بذلك شبهة وشك بوجه من الوجوه، والأخبار التي يرويها أهل الحديث في أمور الدين أخبار آحاد وهي غير موجبة للعلم وإنما توجب الإعمال في الأحكام خاصة، وإذا سقط الرجوع إلى الأخبار فلابد من الرجوع إلى دليل العقل وما يوجبه النظر والاعتبار فهذا من أعظم شبههم في الإعراض عن الأحاديث والآثار)([31])

ثم قال ـ بهذه البساطة ـ ردا عليها: (إن خبر الواحد إذ صح عن رسول الله k ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلي رسول الله وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين علي السنة)([32])

أما ابن تيمية، فكعادته في حكاية الإجماع، فقد ذكر أن الأمة مجمعة على أن خبر الواحد يعمل به في كل شيء ابتداء من العقائد، قال: (.. فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد k من الأولين والآخرين ؛ أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)([33])

وحكاية الإجماع في هذه المسألة وغيرها من ابن تيمية تدل على أن الأمة عنده مختصرة في السلفية، فلذلك إذا اتفق قولهم في مسألة عده إجماعا للمسلمين جميعا، لأنه لا مسلمين غيرهم.

ومثل ذلك قول ابن القيم ـ حاكيا الإجماع في المسألة ـ:(ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها؛ كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطَّلَبِيَّة بها، فما الفرق بين باب الطَّلَب وباب الخبر، بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تَزَل تحتج بهذه الأحاديث في الخَبَرِيَّات، كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما الأحكام العملية: تتضمَّن الخبر عن الله بأنه شَرَّع كذا، وأوجبه ورضيه دينًا، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأهل الحديث، والسنة، يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات، والقدر، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جَوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟)([34])

وهو يحكي قول المخالفين، ويتهمهم بما يتهمهم به السلفية من الإعراض الله ورسوله، لا بكونهم محتاطين خائفين أن يقولوا الله ورسوله k ما لم يقولا، يقول ابن القيم: (نعم سلفهم بعض مُتأخِّري المتكلمين، الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرينِ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعًا عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وهذا عادة أهل الكلام، يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل أئمة المسلمين على خلافه) ([35])

وخطورة القول بحجية خبر الواحد هي أن هذا النوع من الأخبار كان هو البوابة التي دخل منها تحريف الدين بعقائده وأحكامه.. ذلك أن المقصود بخبر الواحد أن يتوقف الحديث في أي مرحلة من مراحل السند على شخص واحد.

وهنا الثغرة الكبرى لعلم الحديث.. فأي علم هذا الذي يجعل من حديث رسول الله k الذي هو الدين نفسه مركبا سهلا لكل من يريد أن يضيف حكما جديدا، أو ينسخ حكما ثابثا، لأنه لن يكلفه سوى أن يظهر بمظهر الصلاح، أو يكلف من يظهر بمظهر الصلاح، ثم يأتي المسجد، ويجمع حوله بعض التلاميذ، ثم يروح يعنعن الحديث بعد أن يكون قد أحكم صياغته اللغوية، ووضع بعض المشاهد التي ترغب في حفظه.

وقد ذكرنا الأمثلة الكثيرة على ذلك في كتابينا [السلفية والوثنية المقدسة]، و[السلفية والنبوة المدنسة]، وكيف استطاعت أمثال تلك الأحاديث أن تنشر تصورات عقدية بديلة عن العقائد القرآنية المتعلقة بالله وبأنبياء الله.

وهكذا يقال في الأحكام، فمن السهل أن تروى الأحاديث التي تنسخ ما ورد في القرآن الكريم من السماحة مع المخالف، فليس على من يريد أن يرفع هذا الحكم من الشريعة ومن القرآن الكريم سوى أن يذهب إلى أي شخص ويملي عليه أي حديث أو أحاديث لتتبخر معها السماحة القرآنية النبوية، ويحل بدلها العنف الذي وفر له السلفية سبيل الدخول إلى هذا الدين.

ثانيا ـ التساهل في شروط الرواة:

لم يكتف سلف السلفية بذلك التساهل في شروط الرواة من حيث عددهم، بل إنهم راحوا يتساهلون أيضا فيهم من حيث صفاتهم.. وذلك لتسهيل رواية أكبر عدد من الأحاديث، فالتشدد في الشروط سيحرمهم من ذلك الحشو الذي حشوا به مصنفاتهم وشغلوا به الأمة عن دينها ودنياها.

وهم على الرغم من أنهم في شروطهم للرواة يذكرون أمثال هذه المقولة للإمام مالك:  (لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك،لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه وان كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه، وان كان لا يهتم أن يكذب على رسول الله k، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث)([36])

فهذه الشروط التي ذكرها مالك لو طبقناها على الكثير من الرواة الذين يبالغ السلفية في توثيقهم والدفاع عنهم، لوجدناها متخلفة، ولكنهم مع ذلك يظلون يدافعون عنهم.

وكمثال بسيط تقريبي على ذلك فإنهم ـ وباتفقاهم جميعا ـ يذكرون عن كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من اليهود أو تلاميذهم ـ أنهم يوردون في كلامهم ما ليس صحيحا، وما يمكن اعتباره كذبا، ومع ذلك لا يجرؤون على توهينهم أو تضعيفهم، لأنهم إن فعلوا ذلك فسيسقطون كثيرا من الروايات التي يتعلقون بها في إثبات عقائدهم.

ومن أمثلة ذلك موقفهم من حديث أبي هريرة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي،فقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس،وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) ([37])

فلو أن أهل الحديث كانوا صادقين مع أنفسهم، وكانوا حريصين على سلامة الدين من التحريف لاتهموا كل من يحتمل وضعه لهذا الحديث ابتداء من أبي هريرة وانتهاء بمسلم.

لكنهم لا يفعلون ذلك، وخصوصا مع أبي هريرة، فلكل من رأى رسول الله k عندهم مكانة خاصة، وعدالة خاصة وحصانة لا يمكن لأي أحد أن يخرقها.

ومن عجيب مخالفاتهم في هذا أنهم لا يوهنون الصحابي، ولا يتركون الرواية عنه حتى لو ارتكب ما ارتكب من الجرائم، بحجة أنه لا يجرؤ على الكذب على رسول الله k، ولست أدري كيف وثقوا في ذلك، مع أن رسول الله k نفسه قال لأصحابه محذرا: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعدهُ من النار)([38])

ولست أدري كيف تصوروا أن الذي هانت عليه جميع الأحكام الشرعية، فراح يعبث فيها كما يشاء، كيف لا يهون عليه الكذب على رسول الله k.. خاصة مع تلك الأحاديث الإرجائية الكثيرة التي ينشرونها، والتي تجعل الله ـ كما رأينا ذلك سابقا ـ يحثي بكفيه من خلقه إلى الجنة من غير حساب ولا عدد.

ولم يكتف السلفية بهذا أيضا، بل راحوا يكتفون من الرواة مجرد إعلانهم للإسلام، مع عدم ظهور الفسق، مع حسن الظاهر، مع بعض الوقار الذي لا يهم فيه أن يكون متكلفا أو صحيحا، والذي عبروا عنه بالمروءة.. مع شرط آخر أساسي، وهو أن يكون من أحباب المحدثين، لا من أهل الأهواء، قال الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ): (وأصل عدالة المسلم المحدث أن يكون مسلما لا يدعو إلى بدعة، ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط عدالته)([39])

وقال الخطيب البغدادي (ت 436هـ): (العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه وسلام مذهبه وسلامته من الفسق وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل للعدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها والواجب أن يقال في جميع صفات العدالة، وقد علم مع ذلك أنه لا يكاد يسلم المكلف من البشر من كل ذنب)([40])

وقال السيوطي (ت849هـ): (يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه وفسر العدل بأن يكون مسلما بالغا عاقلا فلا يقبل كافر أومجنون مطبق بالإجماع ومن تقطع جنونه وأثر في زمن إفاقته.. ولا صغير على الأصح يقبل المميز ان لم يجرب عليه الكذب سليما من أسباب الفسق وخوارم المروءة)([41])

وهكذا نجدهم متفقون على أن أي شخص بهذه المواصفات البسيطة في أي بلد من بلاد الإسلام يمكنه أن يروي ما يشاء، وتصبح روايته بعد ذلك حديثا لرسول الله k أو أثرا موقوفا.. ومهما يكن فإنها ستصبح دينا تكلف الأمة على بكرة أبيها بالتدين به حتى لو خالف قرآنها وعقلها وكل القيم التي تؤمن بها.

ولا يستغرب من السلفية أن يقولوا هذا، وهم أنفسهم الذين جوزوا المعاصي بل الكفر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهل يمكن أن يشترطوا في الراوي من الشروط ما لم يشترطوه في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

ولهذا فإنهم نصوا على قبول رواية الفاسق الذي تاب من فسقه.. أو الكافر الذي غير دينه، وتحول إلى الإسلام.. بشرط واحد فقط، وهو أن تكون له علاقة طيبة بأهل الحديث، وأن يكون بعيدا عن التجهم والجهميين، بعيدا عن أي معارضة تقوم ضد السلطة.

ولهذا نرى في واقعنا كيف يتحول الفاسق عند السلفية من مدمن مخدرات، ومرتكب لأبشع الجرائم بمجرد توبته وإطالة لحيته وتقصير قميصه إلى علم من أعلام الدين ورمز من رموز السنة، تكال له كل مكاييل الثناء المادية والمعنوية.

وهكذا خُدع أسلاف السلفية بأمثال هؤلاء الذين يزينون ظاهرهم بما يتناسب مع أهواء المحدثين، ثم يخترعون أي فكرة، ويضعون أي قصة، ثم يضعون معها إسنادا مناسبا ليفسروا به القرآن والدين والحياة.

بل إن المحدثين ـ وحرصا على التشجيع على كثرة الرواية ـ تساهلوا في الكثير من الشروط التي وضعوها، يقول العراقي (ت806هـ): (.. الذين لم يشترطوا على الإسلام مزيداً لم يشترطوا ثبوت العدالة ظاهرا، بل اكتفوا بعدم ثبوت ما ينافي العدالة فمن ظهر منه ما ينافي العدالة لم يقبلوا شهادته ولا روايته، وأما من اشترط العدالة وهم أكثر العلماء فاشترطوا في العدالة المروءة)([42])

وقال ابن عبد البر(ت463هـ): (كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى تبين جرحه)([43])

وقال ابن حبان: (العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح عنهم وإنما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم)([44])

وقال الخطيب: (العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به، وتوقي ما نهي عنه، وتجنب الفواحش المسقطة، وتحرى الحق والواجب في أفعاله ومعاملاته، والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة، فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه، ومعروف بالصدق في حديثه)([45])

بل إنه اعترض على بعضهم عندما عرف العدالة بقوله: (إنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة)([46])، بأن ذلك غير صحيح لكونه (تشديدا لايتم وجوده إلا في حق المرسلين المعصومين، وإن هذا ليس معنى العدالة لغة.. وأن العدل: هو المتوسط في الأمور، الذي يغلب خيره على شره، ويطمئن القلب إلى خبره)([47])

ومن عجائب الاستدلالات على هذا التيسير والتخفيف استدلالاهم بقوله: (الله سبحانه وتعالى وصف أمه محمد k بالوساطة وهي العدالة، فصار المسلم عدلا لا يحتاج الى سؤال عنه عملا بنص القرآن، كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، فقد فهموا من الآية الكريمة أن أمر الله تعالى بالتثبت مشروط بالفسق، فما لم يظهر لا يجب التثبت فيه)([48])

واستدلوا على ذلك بالإجماع القائم على أن (الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق الظاهر)([49])

واستدلوا على ذلك بأن (الأصل في الإسلام البراءة والعدالة، إذ الفسق طارئ عليه، فيحمل على السلامة ما دام مسلما، وصدقه حينئذ أرجح من كذبه، فيؤخذ به، مع أن الفقهاء قد أجمعوا على ان الصبي إذا بلغ، بلغ عدلا، لأنه لا تكليف عليه في الصغر، ويقبلون قول المسلم إذا أخبر عن الماء بأنه طاهر، واللحم بأنه مذكى، وإذا عرض سلعة للبيع، وقال: إنها ملكة، أو أم الناس وأخبر أنه متوضئ، ففي كل هذه الأخبار يصدق بدون بحث اكتفاءً بظاهر إسلامه))([50])

واستدلوا على ذلك بأنه (أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبرا من غير مهلة،فمع إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه، يمتنع رد روايته، وإذا قبلت روايته حال إسلامه، فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده)([51])

واستدلوا على ذلك بأنه لو تشددوا في الشروط، فستضيع الكثير من الثروة الحديثية التي جمعوها، فقد حدث عبدالله بن أحمد بن حنبل قال:(سألت أبي، متى يجوز سماع الصبي في الحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط، قلت: فإنه بلغني عن رجل – سميته- أنه قال: لايجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة، لأن النبي k رد البراء وابن عمر استصغرهم يوم بدر، فأنكر قوله هذا، وقال: بئس القول ؛ يجوز سماعه إذا عقل.فكيف يُصنع بسيفان بن عيينة ووكيع، وذكر أيضا قوما)([52])

وهذا يبين أن من الأسباب النفسية التي تجعل المحدثين يتساهلون في الشروط هو أنهم لو تشددوا فيها، فسينقص عدد الرواة، وتنقص عدد الأحاديث بذلك، وهم لا يريدونها أن تنقص.

وفوق ذلك التساهل كله، تساهلوا مع من يزكي الرواة، ويبين للمحدث وثاقتهم، ذلك أن المحدث مشغول الوقت بالحفظ المراجعة والكتابة والرحلة، ولذلك يصعب عليه أن يخالط الناس حتى يميز الثقة من غير الثقة.. فلذلك نصوا على أنه (تثبت عدالة الراوي بتنصيص عالمين عليها)([53])، وقال ابن الصلاح تثبت بعدلين.. ثم عَدَل عن ذلك، فقال (تثبت بمعدِلٍ واحد)([54])

وقد نقل الخطيب البغدادي إجماع المحدثين على ذلك، فقال: (أجمع أهل العلم على أنه لا يقبل إلا خبر العدل كما أنه لا تقبل إلا شهادة العدل، ولما ثبت ذلك وجب متى لم تعرف عدالة المخبر والشاهد أن يسأل عنهما أو يستخبر عن أحوالهما أهل المعرفة بهما، إذ لا سبيل إلى العلم بما هما عليه إلا بالرجوع إلى قول من كان بهما عارفا في تزكيتهما فدل على انه لابد منه)([55])

وقد نص الآمدي على أدلتهم على ذلك، فقال: (الذي عليه الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة، وهو أشبه، وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة، يدل على تعيين أحد هذه المذاهب، فلم يبق غير التشبيه والقياس، ولا يخفى إن العدالة شرط في قبول الشهادة والرواية، والشرط لا يزيد على مشروطه، وقد اعتبروا العدد في قبول الشهادة دون الرواية)([56])

ثالثا ـ التساهل مع المدلسين:

من أخطر الظواهر التي أصابت علم الحديث في مقاتل لم يجد لها حلا ولا علاجا ظاهرة التدليس([57])، والتي جعلته يتساهل في الحكم على أصحابها خشية أن تضيع كل جهود المحدثين سدى.. ذلك أنه ـ بإقرار المحدثين ـ لم يكد ينجو من التدليس أحد من الرواة، بل حتى من كبارهم.

وتكمن خطورة التدليس في أن له علاقة بأهم وأدق علوم الحديث: علم الرجال، وعلم العلل، وعلم المصطلح.. بالإضافة إلى كونه سببا غامضا خفيا يصعب تحديده بدقة.. بالإضافة إلى اختلاف العلماء في تحديد مراتبه وتعريفها وبيان ضوابطها، واختلافهم فيمن يتصف بها من الرواة..

والأخطر من ذلك كله أن أكثر رجال البخاري ومسلم ـ وهم الذين يعتبرهم المحدثون في أعلى درجات الوثاقة ـ ذكروا في المدلسين.. فكيف بغيرهم؟

ولذلك فقد استعمل المحدثون كل ما أوتوا من حيلة لتبرير التدليسات التي وقع فيها رجالهم، وخاصة من يعتبرونهم من الثقاة، كما صنع الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى 852 هـ) في كتابه (تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس)، والذي جمع فيه من رواة الكتب الستة وغيرهم، وقسمهم على مراتب خمس ؛ لكل واحدة منها ضابط ووصف.

وحتى نفهم خطورة المسألة، ودورها في القضاء على كل تلك المفاخر التي يزعمها السلفية لأنفسهم ولأسلافهم، فسننقل هنا من كلامهم ما يبين أنواع التدليس والأضرار الناتجة عنها، لنكتشف من خلال ذلك الثغرات الخطيرة التي تكمن في علم الرواية.

فمن أقسام التدليس ما سموه [تدليس الشيوخ]، وقد عرفه الخطيب بقوله: (.. أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فيغير اسمه، أو كنيته، أو نسبه، أو حاله المشهور من أمره ؛ لئلا يعرف) ([58])

وعرفه ابن الصلاح بقوله: (هو أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه ؛ فيسميه أو يكنيه بما لا يُعرف به كي لا يُعرف)([59])

ومن الأمثلة التي يوردها المحدثون للدلالة على صعوبة التعرف على التدليس ما ورووا أنه اجتمع أصحاب هشيم ؛ فقالوا: لا نكتب عنه شيئا مما يُدَلِّسُه ؛ ففطن لذلك، فلما جلس قال: حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ؛ فحدث بعده أحاديث، فلما فرغ قال: هل دلست عليكم شيئا؟ قالوا: لا.فقال: بلى كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي، ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئاً([60]).

ويكفي هذان لإدراك خطورة هذا النوع من التدليس، لأن قيام علم الحديث على الرجال، والتعمية وتعمد إخفاء الضعفاء، بمثابة التستر على المجرمين، وكان الأصل بالمحدثين أن يتعاملوا مع المتسترين على الرواة الكذابين والضعفاء، بمثل ما تتعامل به القوانين مع المتسترين على المجرمين، لكنا للأسف لم نرى ذلك.. وكأن الكذب على رسول الله k أقل جرما من غيره من الجرائم.

والقسم الثاني من التدليس هو تدليس الإسناد، وقد عرفه أبو بكر بن البزار بقوله: (هو أن يروي عمن قد سمع منه مالم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه)([61]).

وعرفه ابن حجر بأنه: (.. أن يروي عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغه محتملة، ويلتحق به من رآه ولم يجالسه… وإذا روى عمن عاصره، ولم يثبت لقيه له شيئاً بصيغه محتمله ؛ فهو الإرسال الخفي) ([62])

  وقال: (والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم أن التدليس مختص باللقي ؛ فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل: قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي k من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس)([63])

والتأمل في هذه التعاريف وحدها كاف في بيان خطورة التدليس الذي لم يكد ينجو منه أحد.. ولهذا نجد مشايخ السلف يعتذرون لأنفسهم إن اكتشف تدليسهم بأن لهم أسوة في ذلك بمن سبقهم من المحدثين الثقاة، قال ابن المبارك: (قلت لهشيم: لِمَ تُدَلِّس، وأنت كثير الحديث؟ فقال: كبيراك قد دَلَّسا الأعمش وسفيان) ([64])

بل يذكرون بأن أول من سن سنة التدليس الصحابة، كما قال الذهبي تعليقا على قول شعبة: (كان أبو هريرة يدلس): (قلت [أي الذهبي]: تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم والصحابة كلهم عدول)([65])

لكن لست أدري كيف يستقيم هذا مع أن أبا هريرة لا يروي فقط أقوالا بل يضيف إليها مواقف حصلت له، مع أنها لم تحصل.. فهو يصدر معظم رواياته بقوله: قال رسول الله k أو سمعت، أو حدثني دون أن يكون سمع من النبي k أو تحدث معه.. بل إنه فوق ذلك روى مشاهد كثيرة لم يحضرها، كحديثه عن فتح خيبر، وحديث دخوله على رقية زوجة عثمان، التي توفيت في الثانية من الهجرة، رغم أنه أسلم بعد فتح خيبر سنة سبع من الهجرة.. وأنه أفتى بفطر من أصبح جنبا في رمضان قبل الغسل، ولما بلغه عن عائشة وأم سلمة خلاف ذلك، قال: إنه لم يسمعه من النبي k وإنما أخبره به الفضل بن عباس.

لكن المحدثين وجدوا مبررات تنفي هذا الغموض، وتستر هذه الثغرة، فذكروا أن قول أبي هريرة: (سمعت، أو حدثني، أو قال فلان، أو قال رسول الله k) حتى ولو لم يحصل ذلك كله، فإنه مرسل من الصحابة.. والصحابة كلهم عدول.

واعتذروا لذلك أيضا بما قال ابن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم…)([66])

وهذا تبرير أخطر، لأنه يدل على أن الأمر كان قبل ذلك سائبا يحدث من شاء بما شاء، من غير أن يطالب بأي بينة.

وقد رووا في ذلك عن حميد قوله: (كنا مع أنس بن مالك، فقال: والله ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله k، ولكن كان يحدث بعضنا بعضا ولا يتهم بعضنا بعضا)([67])

وعن البراء، قال: (ما كل الحديث سمعناه من رسول الله k كان يحدثنا أصحابنا عنه، بل كانت تشغلنا عنه رعية الإبل)([68])

وقال: (ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله k إذ كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون – يومئذ – فيحدث الشاهد الغائب)([69])

وهذا عجيب.. ويدل على سذاجة كبيرة، فمنذ متى كان الناس لا يكذبون.. وهل هناك عصر من العصور تقاعد فيه الشيطان عن الوسوسة إلى الناس، بل كيف يدعون هذا، وهم يرمون أنبياء الله، بل يرمون خليله عليه السلام بكونه كذب ثلاث مرات.

لكن ما أسهل أن يجد المحدثون مصطلحا معينا، ويضعوا معه قانونا استثنائيا حتى لا ترمى روايات أبي هريرة أو غيره من المدلسين، يقول ابن الصلاح: (ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله k ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول)([70]).. و(الصحابة جميعا عدول مرضيين، فإن الجهل بأسمائهم في السند لا يضر، وعليه فإن العلم بهم والجهل سواء، وأن السند متصل غير منقطع، ويكون – حينئذ – حجة يلزم العمل بها)([71])

ويقول السيوطي ـ معبرا عن وجهة نظر المحدثين في ذلك ـ: (أما مرسل الصحابي كإخباره عن شيء فعله النبي k أو نحوه، مما يعلم أنه لم يحضره لصغر سنه أو تأخر إسلامه، فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بضعف المرسل، وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى؛ لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة وكلهم عدول، ورواياتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها وبينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليست أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات)([72])

وما ذكره السيوطي خطير جدا، فهو يذكر أن في الصحيحين من ذلك ما لا يحصى.. ثم بعد ذلك يتهمون كل من طعن في حديث من الصحيحين بسبب مخالفته للقرآن الكريم أو للعقل أو للقيم الإنسانية بأنه زنديق وضال مضل..

رابعا ـ الذاتية في قبول الرواة:

تعتبر الذاتية أبشع مظهر من مظاهر الاحتيال على الحقائق، ذلك أن الباحث بسببها لا يبحث عن الحقيقة كما هي في الواقع، وإنما يبحث في كيفية إقناع الآخرين بتصوره هو للحقيقة.

وقد كان علم الحديث ـ بسبب الاصطلاحات التي اصطلح عليها أهله ـ أكبر مصدر من المصادر التي تخول للمحدث أن يصحح ما يشاء من الأحاديث، ويضعف ما يشاء منها، فالأمر سهل يسير، والقواعد الحديثية والخلافات الواقعة فيه تيسر على المحدث أن يتعامل بهذه الطريقة.

ولهذا نجد المحدثين يراعون آراءهم العقدية في الحكم على صحة الحديث أكثر مما يراعون البحث عن حقيقة قول رسول الله k له أو عدم قوله.

ومن الأمثلة على ذلك موقف المحدثين من حديث تجسيمي رواه البخاري بسنده عن شريك بن عبد الله أنه قال سمعت أنس بن مالك ـ ثم ذكر حديث الإسراء، وفيه: (.. ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات…)([73])

فمدار هذا الحديث الخطير الذي يثبت الحركة والتنقل لله، على الراوي (شريك)، وهو المتهم بالتعبير بهذه الألفاظ التجسيمية، ذلك أنه روى هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يذكر هذه الألفاظ الخطيرة.

لكن السلفية قبلوا هذا الحديث على الرغم من أن الذهبي قال عنه: (شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني تابعي صدوق.وقال ابن معين لا بأس به. وقال هو والنسائي ليس بالقوي)([74])، وقال ابن حجر: (صدوق يخطىء)([75])

والسبب في ذلك أن الحديث متوافق مع قولهم بجواز الحركة على الله.. بل العجيب أن ابن القيم احتج بخبر شريك في هذه المسألة العقدية الخطيرة، فقال في قصيدته النونية التي نظمها في العقيدة:(فقدرت من قربه من ربه قوسان)([76])

في نفس الوقت الذي رفض روايته في أمر فرعي بسيط يتعلق بالسيرة، فقال في زاد المعاد: (.. وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه فهذا مما عد من أغلاط شريك الثمانية وسوء حفظه لحديث الإسراء)([77])

هذا مجرد مثال عن الذاتية في الحكم على الرواة، وانطلاقا منها يكون الحكم على الحديث، وهم في ذلك يشبهون أولئك المحامون التجار الذين يدافعون عمن يدفع لهم بغض النظر عن حقانية قضيته أو عدم حقانيتها، استغلالا منهم للثغرات القانونية، وهكذا فعل المحدثون استغلالا للثغرات الحديثية الكثيرة.

ومن أمثلتها الاختلاف في الحكم على الرواة قبولا أو رفضا.. وهو أيسر مجال وأخصبه للدفاع عن الحديث أو رده، ذلك أن المحدثين اختلفوا في أكثر الرواة، كما رأينا اختلافهم في شريك.. ومن أمثلة ذلك اختلافهم في أسامة بن زيد الليثي مولاهم أبو زيد المدني (ت153ﻫ)([78])، والذي قال فيه أبو العرب محمد بن أحمد القيرواني (ت 333ﻫ): (اختلفوا فيه، وقيل: ثقة، وقيل: غير ثقة)([79])

ولهذا فإن من يريد أن يصحح حديثا يرد فيه هذا الراوي، فإنه سيؤكد تصحيحه بما يقوله الموثقون له، فيذكر عن ابن الجنيد إبراهيم بن عبد الله الختلي (ت260ﻫ) قوله: (مديني صالح)([80]). وقال في رواية الدارمي (ت 280ﻫ): (ليس به بأس)([81])، ويذكر عن الذهبي قوله: (وقد روى عباس عن يحيى: ثقة، وروى أحمد بن أبي مريم عن يحيى: ثقة حجة، فابن معين حسن الرأي في أسامة)([82])

وإن لم يعجبه الحديث وأراد تضعيفه، فإنه سيذكر أن النسائي (ت 303ﻫ) قال عنه: (ليس بثقة)([83])، وقال أيضاً: (ليس بالقوي)([84])، ويذكر أن عبد الله بن أحمد روى عن أبيه: (روى أسامة بن زيد عن نافع أحاديث مناكير. قلت له: إن أسامة حسن الحديث. قال: إن تدبرت حديثه فستعرف النكرة فيها)([85])، ويذكر أن عبد الله قال: (سئل أبي عنه فقال: هو دونه، وَحرَّك يَدَهُ)([86])

ويضيف لهذا قوله ـ من باب تأكيد التوثيق ـ: والحافظ الذهبي من النقاد المتأخرين، وقد شهد الحافظ ابن حجر له بأنه: من أهل الاستقراء التام في الرجال.

وهكذا يمكن أن يستغل أمثال هذه الثغرات الكثيرة، ليصحح ما يشاء، ويضعف ما يشاء.. بل إن الروايات ـ أحيانا كثيرة ـ تختلف عن أحدهم في توثيق الراوي الواحد، فتارة يعدله، وتارة يجرحه، وهنا يجد المحدث مجالا خصبا لإبراز مهاراته في الانتقاء بحسب مزاجه الحديثي.

ومن أمثلة ذلك موقف الإمام أحمد بن حنبل (ت 241ﻫ) من الراوي (إسماعيل بن زكريا بن مُرَّة الخُلقاني الأسدي (ت 194ﻫ)، فقد قال عنه في رواية عبد الله: (حديثه حديث مقارب)([87])، وقال عنه في رواية عبد الملك الميموني (ت 274ﻫ): (أما الأحاديث المشهورة التي يرويها فهو فيها مقارب الحديث، صالح، ولكنه ليس ينشرح الصدر له، ليس يعرف هكذا يريد بالطلب)([88])، وقال عنه في رواية أحمد بن ثابت أبو يحيى: (ضعيف الحديث)([89])، وقال عنه في رواية أبي داود: (ما كان به بأس)([90])

وهكذا موقفه من حفص بن سليمان الأسدي البزاز الكوفي الغاضري (ت 180ﻫ)([91])، فقد قال في رواية عبد الله، وحنبل بن إسحاق: متروك الحديث([92])، وقال عنه في رواية عبد الله: صالح([93])، وقال عنه في رواية حنبل بن إسحاق: ما كان به بأس([94]).

ومثل ذلك أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي (ت 264ﻫ)، فقد تناقضت الأقوال عنه في (الحكم بن عبدالله بن إسحاق بن الأعرج البصري)، حيث سئل عنه فقال: بصري ثقة([95])، وقال مرة أخرى: فيه لين([96]).

ومثل ذلك موقفه من خطاب بن القاسم الحراني، فقد سئل عنه فقال: قاضي حران ثقة([97])، وقال عنه: منكر الحديث يقال إنه اختلط قبل موته([98]).

ومثل ذلك موقف أحمد بن شعيب النسائي (ت 303ﻫ)، من سماك بن حرب بن أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي (ت 123ﻫ)، فقد قال عنه: سماك ليس بالقوي وكان يقبل التلقين([99])، وقال عنه: ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث؛ لأنه كان يقبل التلقين([100])، وقال عنه: ليس به بأس، وفي حديثه شيء([101]).

وهكذا نجد الأمثلة الكثيرة في تناقضات الروايات عن المحدث الواحد، وحول الراوي الواحد، بل إن الأمر يصل أحيانا إلى التناقض في الحكم على الراوي الواحد من المحدث الواحد، بل في الجملة الواحدة، وهنا تتوقف كل العقول إلا العقل السلفي الذي يسهل عليه تقبل المتناقضات، بل يجتهد في تبريرها، بل في تفعيلها، فإن أعجبه الحديث غلب جانب القبول، وإن لم يعجبه غلب جانب الرد.

ومن أمثلة ذلك قول يعقوب بن شيبة (ت262ﻫ) في الراوي الربيع بن صبيح، فقد قال عنه: (رجل صالح، صدوق ثقة، ضعيف جداً)([102])

ومثل ذلك قول يعقوب بن سفيان (ت277ﻫ) في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري: (ثقة عدل، في حديثه بعض المقال، لَيِّن الحديث عندهم) ([103])

ومثل ذلك قوله أبي حاتم الرازي (ت 277ﻫ) في محمد بن الحسن بن زبالة: (واهي الحديث، ضعيف الحديث، ذاهب الحديث، منكر الحديث، عنده مناكير، وليس بمتروك الحديث) ([104])

ومثل ذلك قول أبي زرعة الرازي (ت 264ﻫ) في عمر بن عطاء بن وراز: (ثقة لَيِّن)([105])

ولا يتوقف الأمر على الخلاف في آحاد الرواة، بل نجد اختلافهم حتى في تقييم كبار المحدثين من أصحاب المصنفات الحديثية الكبرى.. ولهذا نجد السلفية إذا ما روى أحدهم حديثا مخالفا لهم، ولم يتمكنوا من رده سندا، اتهموا صاحب المصنف الذي نقل عنه.. وما أسهل أن يجدوا من جرحه.

ومن أمثلة ذلك اتهامهم للحاكم بالتشيع بسبب روايته لأحاديث في فضل الإمام علي وآل البيت كتصحيحه لحديث الطير، وقوله عنه: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.وقد رواه عن أنس جماعةٌ من أصحابه، زيادة على ثلاثين نفسًا، ثم صحَّت الروايةُ عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري وسفينة)([106])

قال الخطيب: (وكان ابن البيِّـع ـ الحاكم ـ يميلُ إلى التشيُّع ؛ فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي، بنيسابور، وكان شيخًا صالحًا فاضلًا عالمًا، قال: جمع الحاكمُ أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاحٌ على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما، منها: حديث الطائر، ومن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك، ولم يلتفتوا فيه إلى قوله، ولا صوَّبوه في فعله)([107])

لكنهم إن كان التجريح مرتبطا بمن يقبلون حديثهم حملوا ذلك على ما يسمونه [تجريح الأقران]، وأنه لا يضر، وقد عقد ابن عبد البر في كتاب العلم بابا للأقران والمتعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرح بعضهم بعض إن كانوا متعاصرين([108]).

 وينقلون عن ابن دقيق العيد في ذلك قوله: (الوجوه التي تدخل منها الآفة خمسة أحدها الهوى والغرض وهو شرها وفي تواريخ المتأخرين كثيرة والثاني المخالفة في العقائد والثالث الاختلاف بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة، فوقع تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض، والرابع الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين، والخامس: الأخذ بالذم مع عدم الورع([109]).

ولهذا نرى الذهبي لا يقبل قول الجارح إذا كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد وقال: (ان الحاذق اذا تأمل أبي اسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى انه أخذ الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية)([110])

ولكنه في نفس الوقت نراه يحذر عن الأخذ بجرح الجوزجاني بينما يترجم له في نفس الكتاب ويعتبره أحد أئمة الجرح والتعديل، ويقول عنه: (الجوزجاني إبراهيم بن يعقوب الثقة الحافظ، أحد أئمة الجرح والتعديل، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي رضي الله عنه)([111])

وهكذا نجد اختلافهم في الشروط التي وضعوها لقبول الأحاديث أو رفضها، فهي مختلفة اختلافا بينا، بل متناقضا شديدا يمكن استغلاله والعبور منه لتصحيح ما يشاءون تصحيحه، وتضعيف ما يشاءون تضعيفه.

ومن الأمثلة على ذلك اختلافهم في حكم خبر المستور، وهو الراوي الذي روى عنه اثنان فصاعداً، ولم يصدر في حقه جرح ولا تعديل([112]).. فمن المحدثين من يعتبر المستور عدلاً إذا كان في القرون الثلاثة الأولى، فيقبل روايته، بناء على أن الأصل في المسلم العدالة.. بينما يرى آخرون عدم الأخذ بروايته احتياطاً.. كما قال السرخسي: (أما المستور فقد نص محمد في كتاب الاستحسان: على أن خبره كخبر الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة، أنه بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة ظاهراً، بالحديث المروي عن رسول الله k، وعن عمر: (المسلمون عدول بعضهم على بعض).. ولكن ما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا، فإن الفسوق غالب في أهل هذا الزمان، فلا تعتمد رواية المستور ما لم تتبين عدالته، كما لم تعتمد شهادته في القضاء قبل أن تظهر عدالته..)([113])

وهذا الاختلاف بالإضافة لدخوله في التساهل في شروط الرواة يدخل هنا من حيث كونه سلما لتحقيق ذاتية المحدث، فإن ورد الحديث للمحدث وأعجبه، صحح الحديث، ودافع عن كون الراوي مستورا بالحجج التي يدلي بها من يجيز روايته، وإن لم يعجبه الحديث ضعفه، واستدل بحجج من يرى تضعيفه.

وهكذا نراهم يستغلون الحديث المرسل.. وهو (ما رفعه التابعي خاصة إلى النبي k)([114]) كما قال السرخسي: (فأما مراسيل القرن الثاني والثالث حجة في قول علمائنا، وقال الشافعي: لا يكون حجة إلا إذا تأيد بآية أو سنة مشهورة، أو اشتهر العمل به من السلف، أو اتصل من وجه آخر، قال –أي الشافعي-: ولهذا جعلت مراسيل سعيد بن المسيب حجة لأني اتبعتها فوجدتها مسانيد)([115])

وهكذا نرى استغلالهم للمسألة التي يطلقون عليها [إنكار الراوي للحديث الذي رواه]، فقد اختلفوا أيضا، فقال بعضهم: لا يعمل به. وقال آخرون: بل يعمل به، كما قال السرخسي: (وبيان هذا فيما رواه ربيعة عن سهيل بن أبي صالح من حديث: (القضاء بالشاهد واليمين)، ثم قيل لسهيل: إن ربيعة يروي عنك هذا الحديث فلم يذكره، وجعل يروي ويقول: حدثني ربيعة عني وهو ثقة…ثم قال السرخسي: وقد عمل الشافعي بالحديث مع إنكار الراوي، ولم يعمل به علماؤنا، وذكر سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل…الحديث).. ثم روي أن ابن جريح سأل الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه، ثم عمل به محمد والشافعي مع إنكار الراوي، ولم يعمل به أبو حنيفة وأبو يوسف لإنكار الراوي إياه…)([116])

هذه نماذج عن المغالطات التي يستعملها السلفية في تصحيحهم للأحاديث وتضعيفها، ولهذا نراهم ينكرون على غيرهم الكلام في الحديث تصحيحا أو تضعيفا، لأنهم يتصورون أنه لا يحق لأحد أن يتحدث في الرواية إلا إذا كان صاحب عقل سلفي.


([1])   مجموع الفتاوى (٣٤٧/٣)

([2])   تأويل مختلف الحديث (ص: 127)

([3])   انظر الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان (1/20-23)

([4])   المحدث الفاصل (ص:2)

([5])   أحمد (3/436و5/35) والترمذي (2192)

([6])   معرفة علوم الحديث (ص:2)

([7])   معرفة علوم الحديث (ص: 2)

([8])   معرفة علوم الحديث (ص: 3)

([9])   معرفة علوم الحديث (ص: 3)

([10])   معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)

([11])   معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)

([12])   معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)

([13])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 7)

([14])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 43)

([15])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 43)

([16])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 44)

([17])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 46)

([18])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 52)

([19])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 55)

([20])   شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي (ص: 57)

([21])   الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 52)

([22])   الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 52)

([23])   تأويل مختلف الحديث (ص: 47)

([24])   تأويل مختلف الحديث (ص: 128)

([25])   خصصنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا بكتابنا [سنة بلا مذاهب]

([26])   من أمثلة الفروق التي ذكرها المحدثون بين الشهادة والرواية، والتي تدل على أن خطر الشهادة عندهم أعظم من خطر الرواية:

1  ـ العدد غير مشروط في الرواية بخلاف الشهادة فلابد فيها من نصابها فتنقل رواية الآحاد من الرجال والنساء، أما الشهادة فيشترط فيها العدد، فيشترط أربعة في الزنا ورجلان أو رجل وامرأتان في غيره. 

2 ـ لا يشترط الحرية في الرواية بخلاف الشهادة فالحرية مطلوبة عند بعض الفقهاء.

3 ـ في شهادة الفروع للأصول والعكس والأقارب لبعضهم خلاف في قبولها بسبب تهمة القرابة، ولا يوجد شيء من ذلك في الرواية.

4 ـ تقبل في الرواية النقل عن شخص آخر (حدثني فلان عن فلا ن)، ولا يقبل في الشهادة إلا الأصالة.

5 ـ تقبل رواية الصبي على رأي البعض، أما الشهادة فلا تقبل إلا من بالغ.

(انظر: انظر: السيوطي: تدريب الراوي، 1/ 331 ـ334، مقدمة ابن الصلاح، 104، الكفاية للخطيب البغدادي، 1/104)

([27])   أبو داود رقم 2877.

([28]) البخاري، 5/2305، مسلم، 3/1694.

([29]) الباجي: إحكام الفصول في أحكام الأصول، 1/254.

([30])   التمهيد (1/8)

([31])   الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 5)

([32])   الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 34)

([33])   نقلا عن: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 561)

([34])   الصواعق المرسلة لابن القيم: ج 2 / 412 – 417.

([35])   الصواعق المرسلة لابن القيم: ج 2 / 412 – 417.

([36]) )  الخطيب البغدادي : الكفاية في علم الرواية،144.

([37])     صحيح مسلم (4/ 2149)

([38])   المعجم الكبير للطبرانى: 8/379. وغيره.

([39]) ) الحاكم النيسابوري : معرفة علوم الحديث، ص53.

([40]) ) الخطيب البغدادي : الكفاية في علم الرواية، ص 103 .

([41]) ) السيوطي : عبد الرحمن بن أبي بكر،تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي،، 1/300.

([42]) ) التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح،1/136.

([43]) ) التقييد والإيضاح، ص114.

([44]) ابن حبان: الثقات، 1/ 11 ـ 13.

([45])  الكفاية ص 102 – 103 .

([46]) ذكره ابن حجر في نزهة النظر ص 25.

([47])  شرح بغية الأمل ص 111-112.

([48])  الآمدي : الإحكام،2/82

([49])  الآمدي: الإحكام، 2/82

([50])  الر ازي : المحصول في علم الأصول، 2/ 199.

([51])  الآمدي : الإحكام في أصول الأحكام، 2/ 81.

([52]) – أخرجه الخطيب في الكفاية ص 80-81 .

([53])  السيوطي: تدريب الراوي، 1/ 301.

([54])  ابن الصلاح، مقدمة ابن ا لصلاح،160

([55])  الخطيب البغدادي: الكفاية، 1/ 34.

([56]) الآمدي: الإحكام، 2/ 316.

([57]) قال ابن حجر  في تعريفه:واشتقاقه من الدَلَسَ بالتحريك، وهو اختلاط الظلام بالنور ؛ سمي بذلك لاشتراكهما في الخفاء)، نزهة النظر شرح نخبة الفكر (ص 39)

([58]) الكفاية للخطيب البغدادي (ص 365)

([59]) مقدمة ابن الصلاح (ص167)

([60]) معرفة علوم الحديث (ص 105)

([61]) التقييد والإيضاح للعراقي (ص 96، 7 9( 

([62]) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (ص 68-69) 

([63]) النكت على كتاب بن الصلاح (2/623)

([64]) تهذيب التهذيب (4/281)

([65])   سير النبلاء 2/608.

([66])   صحيح مسلم (بشرح النووي) (1/173)

([67])   الجامع لأخلاق الراوي، (1/174، 175)

([68])   أحمد، رقم (18516)

([69])   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، (1/174)

([70])   علوم الحديث، ابن الصلاح، ص50، 51.

([71])   التأصيل الشرعي لقواعد المحدثين، د. عبد الله شعبان، ص470.

([72])   تدريب الراوي، (1/ 207)

([73]) صحيح البخاري 6/370 (7079)

([74])   ميزان الإعتدال للذهبي 3/372  .

([75])   تقريب التهذيب266.

([76]) انظر شرح قصيدة ابن القيم1/198

([77]) زاد المعاد : 1/99

([78]) سير أعلام النبلاء 6/342.

([79]) إكمال مغلطاي 2/58.

([80]) سؤالات ابن الجنيد ص402 رقم (547)

([81]) تاريخ الدارمي ص66 رقم (118)

([82]) سير أعلام النبلاء 6/343.

([83]) الضعفاء للنسائي رقم (53)

([84]) الكامل 1/385، والضعفاء للعقيلي 1/96.

([85])  العلل (1428) وأيضا (503)، الجرح والتعديل 2/284 (1031)

([86]) العلل رقم (1472)، (1473)

([87]) تهذيب الكمال 3/93.

([88]) سؤالات الميموني رقم (475)

([89]) تهذيب التهذيب 1/298.

([90]) تهذيب الكمال 3/94.

([91]) التقريب رقم (1405)

([92]) تهذيب التهذيب 2/700.

([93]) تاريخ بغداد 8/187.

([94]) تاريخ بغداد 8/187

([95]) الجرح والتعديل 2/120.

([96]) الجرح والتعديل 2/120.

([97]) الجرح والتعديل 2/120.

([98]) تهذيب التهذيب 3/146.

([99]) السنن الصغرى 8/319 رقم (5677)

([100]) السنن الكبرى 3/368 رقم (3295) وسير أعلام النبلاء 5/248.

([101]) تهذيب الكمال 12/120، وسير أعلام النبلاء 5/247، وتهذيب التهذيب 6/234.

([102])   التقريب رقم (1895)

([103]) التقريب رقم (6081)

([104])  التقريب، رقم (5815)

([105])   التقريب رقم (4949)

([106])   المستدرك  ( 3 /130، 131 )

([107])   التاريخ  ( 5 / 435 )

([108]) انظر: القاري: شرح نخبة الفكر، 1/ 741.

([109]) انظر: القاري:شرح نخبة الفكر، 1/ 741..

([110]) انظر: الذهبي: لسان الميزان، 1/ 17.

([111])  انظر: الذهبي: لسان الميزان، 1/ 35 ـ 36..

([112])   أصول الحديث للدكتور محمد عجاج الخطيب ص271.

([113])   أصول السرخسي (27:1)

([114])   أصول الحديث للدكتور محمد عجاج الخطيب ص334-335.

([115])   أصول السرخسي (360:1)

([116])   أصول السرخسي(3:2)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *