الذنوب.. والمعاصي

الذنوب.. والمعاصي

من أكبر مظاهر انحراف المنهج السلفي عن المنهج القرآني التركيز على ذكر جواز الذنوب والمعاصي على الأنبياء، بل محاولة إثبات وقوعها منهم، عند الحديث عن العصمة، بدل الحديث عن أسباب العصمة ومظاهرها وكيفية الاستفادة منها، وبدل الحديث عن تلك المكانة الرفيعة للأنبياء عليهم السلام، والتي جعلتهم محلا للعناية الإلهية الخاصة أولا.. ثم محلا لأن يجعلهم الله تعالى مثلا أعلى يمكن للمسلم أن يحتذي بهم ليتحقق بالقرب الإلهي.

ولذلك نرى أن مجرد طرح السلفية لهذه المسألة، ومبالغتهم في شأنها بدعة خطيرة تخالف المنهج القرآني.. لأن القرآن الكريم كله تحبيب في الأنبياء وتمجيد لهم وذكر لمواقفهم الكريمة في الدعوة إلى الله والتضحية في سبيل ذلك.

لكنا إن غادرنا القرآن الكريم، وذهبنا إلى كتبهم ورواياتهم تتغير صورة الأنبياء تغيرا تاما كما سنرى النماذج الكثيرة على ذلك في هذا الكتاب.

وهذا الاختلال المنهجي هو نفسه الذي وقعوا فيه عند حديثهم عن الله تعالى، فبدل اقتصارهم على ما ذكره الله تعالى من أسمائه الحسنى مع ما فيها من قطعية وعقلانية وتوافق بين المسلمين جميعا، بل بين البشرية جميعا.. نجدهم يتركونها، ليسطروا آلاف الصفحات في صورة الله وساقه ويده ورجله.. وكيف ينزل، وكيف يقعد، وكيف يمشي ويهرول.. ونحو ذلك.. ثم يسطروا بعدها أحكامهم القاسية على منكر هذه البدع.

وهكذا الأمر في حديثهم عن عصمة الأنبياء، فهم يعتبرون من الفوارق الأساسية بين من يسمونهم سنة وبين غيرهم من أهل البدع هي عدم المبالغة في شأن العصمة، وقصرها فقط على العصمة في التبليغ، ولهذا ـ ومن دون مراعاة لحسن نية القائلين بالعصمة المطلقة ـ يعتبرونهم مبتدعة ومغالين، مثلما اعتبروا المنزهين لله جهمية ومعطلة.

وعندما نترك القرآن الكريم، وخلافهم لمنهجه في طرح القضية، ونعود إلى ما ذكروه لنرى الفرق بين النبي الذي جوزوا عليه كل شيء، وبين أي إمام من أئمتهم الذين يقدسونهم نجد الفرق الكبير، والبون الشاسع.

وكمثال على ذلك أننا نجدهم عند حديثهم عن ابن تيمية الذي يعتبرونه شيخ الإسلام يكادون يسجدون له، بل يكادون يذوبون فيه وجدا وشوقا، ونجدهم يكتبون آلاف الصفحات في ذكر مناقبه وفضله ودوره العظيم في خدمة الدين.. ومن تجرأ وتحدث عنه بمعشار ما يتحدثون به عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قامت قيامتهم عليه، واعتبروه مبتدعا ومنحرفا عن السنة، حتى أن الشيخ ابن عثيمين ـ مثله مثل سائر السلفية ـ اعتبر ابن تيمية قسيما للجنة والنار، حين ذكر أنه يشهد لابن تيمية بالجنة، ويشهد لأعدائه بالنار، فقال: (وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس على الثناء عليه إلا من شذ، والشاذ شذ في النار، يشهد له بالجنة على هذا الرأي)([1])

وكمثال بسيط على ذلك الوله الذي يصيبهم عند ذكر ابن تيمية، ولا نرى مثله عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الشيخ عائض القرني، الذي تواضع جدا أمام إمامه الأكبر ابن تيمية، فألف كتابا في فضائله ومناقبه التي لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك كله ذكر أنه في حديثه عنه لم يبحر في بحره، وإنما اقتصر على الوقوف على ساحله، ولهذا سمى كتابه (على ساحل ابن تيمية)

وقد أثبت فيه ـ كما يرى ـ أن ابن تيمية هو المربى والمفسر والمحدث والفقيه والمناظر والمجاهد والعابد، وأن مثله كمثل بحر لجى لكنه عذب، محيط هادر لكنه فرات، (وهل يستطيع المرء – ولو أجاد السباحة – أن يغوص فى أعماق البحر، أو أن يهبط إلى قعر المحيط؟ كلا لا يستطيع، ولكنه يستطيع أن يطل إطلالة)([2])

لن أتدخل في ما قال هذا السلفي حول إمامه الأكبر ابن تيمية، ولكني فقط وددنا لو أن أمثال هذه الكلمات وغيرها قيلت عند الحديث عن عصمة الأنبياء الذين مرغت كرامتهم كما مرغت أخلاقهم في كتب السلفية جميعا.

ففي الوقت الذي يذكرون فيه عن سليمان عليه السلام وأنه كان له مئات النساء، وكان منشغلا بهن انشغالا كبيرا.. ولم يكفينه حتى أرسل إلى ملكة سبأ ليتزوجها.. ويذكرون مع ذلك قصصه مع نسائه وولعه بهن.. ويروون في ذلك عن سلفهم من اليهود ما يملأون به كل تفاسيرهم وكتبهم المخصصة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

في نفس الوقت نجدهم عند حديثهم عن ابن تيمية، يذكرون شخصا مختلفا تماما.. حيث يذكرون رجلا زاهد إلى درجة أنه في حياته كلها لم يتسن له الوقت ليتزوج.. وكان فوق ذلك كله مشغولا بفكرته وعبادته لا يضيع دقيقة من عمره.. وهم لا يكتفون بقدراته العلمية، بل يضمون إليها قدراته الأخلاقية التي لا يمكن أن يساويها ـ في تصورهم ـ أو يدانيها ما سطروه عن أنبياء الله تعالى.

ففي الوقت الذي يذكرون فيه أن أنبياء الله في صغرهم وشبابهم يرتكبون الكبائر والصغائر، بل يقعون في الكفر والشرك، نجدهم يقولون عن ابن تيمية ـ بلسان القرني ـ: (كان ابن تيمية من الصغر في عناية الله عز وجل وفي رعايته، فلا تعلم له صبوة، ولا تحفظ له عثرة، لم تنقل له زلة ؛ لأنه عاش في بيت إمامه وعلم وصيانة وديانة، فقد رباه أبوه المفتي الحافظ عبدا لحليم، وكان أعمامه أيضاً من أهل الولاية لله عز وجل، فنشأ بين بيته الطاهر العفيف، وبيت الله العامر المبارك، وحفظ كتاب من الصغر، وتعلم السنة وأخذ الآداب الإسلامية من أهل العلم، وحفظه الله – الحافظ – عن تهور الشباب، وطيش الفتوة، ونزق الصبا، فعاش عفيفاً ديناً مقتصداً صيناً رزيناً عاقلاً محافظاً على الفرائض، معتنياً بالسنن، كثير الأذكار والأوراد،بعيداً عن اللهو وعن البذخ والسرف واللعب وكل ما يشين الرجال، وكل ما يخدش المروءة، وكل ما يذهب الوقار ؛ فصار محل العناية من الأكابر، حتى كان يعرف إذا مر فيقال هذا ابن تيمية ؛ لاشتهاره بين أقرانه بالجد والمثابرة وحب العلم والبراعة في التحصيل، وسرعة الحفظ والذكاء، وجودة الخاطر وسيلان الذهن وقوة المعرفة)([3])

وليت القرني وأمثاله من السلفية عندما يتحدثون عن الأنبياء عليهم السلام يتحدثون بهذه اللغة الممتلئة بالمشاعر.. والتي تجعل من الأنبياء قدوة في أذهان الناس كما أراد القرآن الكريم..

لكنا ـ للأسف الشديد ـ لا نرى ذلك في كتبهم.. لأنهم يخافون أن يقع الناس في الشرك إن أحبوا الأنبياء، وبالغوا في حبهم.. بينما لا يخافون عليهم الشرك إن أحبوا ابن تيمية، وبالغوا في حبه، كما قال القرني متحدثا عنه: (ولا نشكوا تقصيراً في حبه – رحمه الله – لكنا نستغفر الله إن غلونا في التعلق به، كيف ننسى أياديه البيضاء وكلما قلبنا سفراً فإذا هو بين صفحاته بعلمه وحكمته وفقهه واستنباطه، وكلما حضرنا حواراً فإذا اسمه تتقاذفه الألسن، يتقاسمه المتحاورون، كل فريق يقول: أنا أولى به؟!.. كيف لا نعيش معه وقد فرض علينا احترامه، وأمتعنا بحضوره، وآنسنا بذكره الطيب؟ كيف لا نحب من احب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف لا نتولى من تولى ربه؟، كيف لا نقدر من قدر الشرع؟ كيف لا نجل من أجل الوحي؟)([4])

وعندما خشي أن يتطاول أحد من الناس، ويقول له: ما حاجتنا لكتاب في مناقب ابن تيمية.. نحن في حاجة إلى كتب في مناقب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أمرنا بنص القرآن الكريم بالاهتداء بهديهم.. يرد على ذلك بقوله: (دوائر المعارف تترجم عن دول بصفحتين وثلاث، ولكنها تتحدث عن ابن تيمية بعشرين صفحة، المجامع العلمية تذكر المصطلحات في سطر، ولكنها تتكلم عن ابن تيمية في ثلاثين سطرا، ولسنا متفضلين على ابن تيمية إذا مدحناه أو ذكرنا مناقبه أو عددنا سجاياه، لكنه متفضل علينا – بعد الله – بفيض علمه، وغيث فهمه، وبركة إنتاجه، ونور آثاره..)([5])

ما ذكرناه من كلام القرني عن ابن تيمية هو مجرد نموذج عن موقف السلفية من أئمتهم، وتعظيمهم لهم في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه الحديث عن أنبياء الله بهذه الصفة بدعة من البدع.

والقرني ليس مبتدعا في ذلك المديح، لأن أول ما يتعلمه أي سلفي هو ذلك الفناء في شخص ابن تيمية بعد خلعه لغيره خلعا تاما..

ومن أمثلة سلف القرني في تعظيمهم لابن تيمية قول الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت744) في تعريفه بابن تيمية: (هو الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر وقريع الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، وعلامة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَمُ الزهاد، وأوحد العُبَّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين..صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها)([6])

وقال الذهبي: (هذا خط شيخنا الإمام، شيخ الاسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين.. وقرأ القرآن والفقه، وناظر، واستدل وهو دون البلوغ، برع في العلم والتفسير وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين، وصنف التصانيف وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجُمَع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يُلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلًا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرًا، ويدري جملة صالحة من اللغة وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يُضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس)([7])

بعد هذه المقدمة المنهجية التي تعجبنا فيها من حديث السلفية عن الأنبياء بتلك الصفة، وعن طرحهم لهذه المسألة، وبهذه الصورة، نذكر ما قالوه في العصمة، ونقارنه بما ورد في القرآن الكريمة، وما ذكره تلاميذه الذين اقتصر تلقيهم عنه.

وبما أن ابن تيمية هو منظر مذهب السلف بصورته النهائية، فسنكتفي بذكر ما قاله حول عصمة الأنبياء، ومبرراتهم في ذلك.

فقد حاول ابن تيمية في الكثير من كتبه اقتداء بسلفه أن ينتصر للقول بعدم عصمة الأنبياء، ولو بعد نبوتهم، وقد حشد لذلك ما يذكره عادة من اتفاق السلف والخلف، وأرباب الملل والنحل، يقول في (مجموع الفتاوى): (إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ولم ينقل عنهم ما يوافق القول وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين. وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقرون عليها ولا يقولون إنها لا تقع بحال وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل.. فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة، وقد يكفرون من ينكر القول بها، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والاثني عشرية)([8])

ونحب أن نذكر تعليقا على هذا بأن المغالطة الكبرى الموجودة في هذا الكلام هو عن مفهوم العصمة عند ابن تيمية وعند سلفه.. فإن كان هذا المفهوم قاصرا على ترك الكبائر، فإن الأمة جميعا إلا ما شذ منها معصوم.. ولا مزية في هذا.. بل إنهم في تراجمهم لمن يسمونهم أئمة السلف يذكرون تنزههم منذ صغرهم عن الصغائر، فكيف بالكبائر، في نفس الوقت الذي يجيزون فيه على الأنبياء الوقوع في الكبائر حال صغرهم.

فمن الأمثلة التي يوردونها كثيرا في خطبهم قوله: (قال البخاري: ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.. وقال الشافعي: لو أعلم أن الماء يفسد عليَّ مروءتي ما شربته.. وقالوا لمحمد بن واسع: ألا تتكيء، فقال: إنما يتكيء الآمن، وأنا لا زلت خائفاً.. وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.. ).. وهكذا نجد أمثال هذه الأوصاف عند ذكرهم لأئمتهم المعصومين.

 ولم يكتف ابن تيمية بما ذكره من اتفاق سلفه ومن شايعهم في هذه المسألة، بل يضيف إليه اعتبار ما قاله المنزهة من تنزيه الأنبياء تحريفا للدين، يقول في (منهاج السنة): (تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.. وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه)([9])

وهكذا أصبح تنزيه الأنبياء بدعة.. وأصبح رميهم بالكبائر والصغائر والموبقات عند ابن تيمية والسلفية سنة..

ولو أننا بحثنا جيدا في مصدر هذه المقولة لوجدناهم اليهود.. فاليهود الذين تتملذ عليهم أسلاف السلفية الأوائل هم الذين رووا تلك الروايات الكثيرة التي استند إليها السلفية في إثبات المعاصي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقد ورد في (سفر الملوك: إصحاح 8، عدد 46): (لأنه ليس إنسان لا يخطئ)، وورد في (سفر أيوب: إصحاح 15، عدد 14-16) (من هو الإنسان حتى يزكو، أو مولود المرأة حتى يتبرر؟. هوذا قديسوه لا يأتمنهم، والسماوات غير طاهرة بعينيه، فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء!)، وورد في (سفر المزامير، المزمور 14، 1:53، 2:53، 3:53) (فسدوا ورجسوا بأفعالهم، وليس من يعمل صلاحا، الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر: هل من فاهم طالب الله؟ كلهم قد ارتدوا معا، فسدوا. ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد)

وبناء على هذه النصوص وغيرها كثير يقصر اليهود العصمة على التبليغ، يقول ابن كمونه (وأما داود وسليمان فلم يكونا من المعصومين عن الخطأ لأنهما لم يكونا من المرسلين، وإنما يجب عصمة النبي المرسل فيما أرسل فيه، وفيما عدا ففي العصمة شك) ([10]).

وما ذكره ابن كمونة هو نفس ما يذكره السلفية الذين يقصرون العصمة على التبليغ، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: (قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – ولاسيما محمد صلى الله عليه وآله وسلم – معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل.. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله قولاً وعملاً وتقريراً، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم)([11])

وقال ابن تيمية: (فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقاً وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه)([12])

ولم يكتف السلفية بهذا الاقتباس من أهل الكتاب، بل راحوا في تفاصيل حديثهم عن الأنبياء يذكرون نفس ما يذكره أهل الكتاب، ويصورون الأنبياء بتلك الصورة المشوهة التي صور بها الأنبياء، مبتعدين عن الصورة الجميلة التي صورهم بها القرآن الكريم.

ومن باب الاستدلال على هذا، سنذكر نموذجا يمثل نبيا من أنبياء الله، وكيف صور في القرآن الكريم، وكيف صور في كتب السلفية التي يحثون العامة على قراءتها، وسنرى نماذج أخرى عن سائر الأنبياء وما رموا به من مثالب في الفصول اللاحقة.

والنموذج هو آدم عليه السلام، والذي نجده على ضوء القراءة القرآنية إنسانا كاملا آتاه الله أسماء كل شيء، وأسجد له ملائكته، وأدخله الجنة، وفي الجنة نهاه أن يأكل من الشجرة، كما قال الله تعالى: ]وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ[ (البقرة: 35-36)

وبفهم سطحي لهذه الآيات ـ وبتفسير لها من كتب أهل الكتاب ـ تعلق السلفية الذين لم يحاولوا أن يقرؤوا هذه الآيات قراءة تنزيهية مبنية على مكانة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما قرؤوها بتفسير إسرائيلي ممعن في المساس بكرامة الأنبياء، ولذلك راحوا يستخدمون نفس النصوص التي استخدمها اليهود في كتبهم للتعبير عن الحادثة.

ولا بأس من سوق بعض ما ذكروه هنا مع بشاعته، ثم نذكر بعده القراءة التنزيهية للآيات الكريمة كما فهمها تلاميذ القرآن الكريم.

فقد رووا عن ابن عباس قوله: (إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض: أيها تحمله حتى تدخل به الجنة حتى يكلم آدم وزوجه، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية، فقال لها: أمنعك من بني آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، فكلمهما من فمها وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله تعالى وجعلها تمشي على بطنها، قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، واخفروا ذمة عدو الله فيها)([13])

ورووا عن وهب بن منبه قوله: (.. فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمارها شوكا! قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في بطنك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك)([14])

ورووا عن سعيد بن المسيب قوله: (ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل منها فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنه وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى الأرض، فقال لهم ربهم: اهبطوا بعضكم لبعض عدو)([15])

وهكذا خالف سلفهم القرآن الكريم في ذكره أن سبب الوسوسة هو إبليس، وأنه وسوس لآدم مباشرة، ولكن هؤلاء يجعلون حواء وسيطا.

ولم يكتفوا بذلك الأثر المروي عن سعيد، بل رووا ما هو أبشع منه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورووه فوق ذلك في الصحيحين اللذين يعتبرونهما أصح من القرآن الكريم نفسه.

فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر)([16])

بل رووا أن آدم عليه السلام لم يتب إلى الله إلا بعد أن اشترط عليه أن يدخله الجنة، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]: (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم)([17])

وفي رواية عن ابن عباس في تفسير الآية الكريمة: (ققال آدم يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى، ونفخت في من روحكم؟ قيل له بلى، وعطست فقلت يرحمك الله وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له بلى، قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم)([18])

بل رووا أن آدم عليه السلام ـ والذي صور القرآن الكريم حزنه وألمه على الخروج من الجنة والنزول إلى الأرض ـ بصورة المتثاقل إلى الأرض، والحريص على البقاء فيها إلى الدرجة التي يجحد فيها وعدا وعده لربه، والمشكلة فوق هذا أن الرواية يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل يفسرون بها القرآن الكريم.

فقد رووا عن ابن عباس أنه قال: ( لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أول من جحد آدم، عليه السلام، أن الله لما خلق آدم، مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هو ابنك داود. قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عاما، قال: رب زد في عمره. قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عاما، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة)([19])

وهكذا نجد الروايات الكثيرة المنسوبة لمن يسميهم الطبري [السلف من أهل العلم]، التي لا تختلف عن الرواية الموجودة في سفر التكوين، إن لم تكن أبشع منها.

ففي (سفر التكوين، الإصحاح الثاني، إصحاح 2، 15-25): (وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت، وقال الرب الإله: ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره، وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية. وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره. فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم.. وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا! بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر. وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب، وإلى تراب تعود)

وبهذا النص التوراتي الذي رواه وهب بن منبه وكعب الأحبار وتلامذتهما بعد بعض التحوير يتعلق السلفية، بل يفسرون القرآن الكريم بذلك.

فقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36] (وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: (اهبطوا)، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به. فحدثنا سفيان بن وكيع.. عن أبي صالح، قال: (آدم وحواءُ وإبليس والحية).. وحدثنا ابن وكيع.. عن السُّدّيّ: (فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية)([20])

وهكذا يمضي يذكر الروايات الكثيرة والطويلة عمن يسميهم السلف، وكان في إمكانه لو أحضر نسخة من الكتاب المقدس، وفسر بها الآيات الكريمة لكان أجدى وأقل تعبا..

ومن هنا يظهر سر تلك العشرات والمئات بل الآلاف من الكتب التي يؤلفها السلفية، فليست سوى أمثال هذا الحشو الذي لا مبرر له.

ولو أنهم بدل كل ذلك الجهل الذي يسمونه علما استفرغوا جهدهم في فهم الآيات الكريمة على ضوء كرامة الأنبياء وعصمتهم، لفتح الله ببركة تنزيههم للأنبياء ما يجعلهم يقرؤون القرآن، وكأنه أنزل عليهم.

بعد هذه القراءة السلفية للآيات الكريمة المتعلقة بآدم عليه السلام، نحب أن نقرأ الآيات نفسها على ما يقوله المنزهة أو المصوبة الذين يعتقدون العصمة المطلقة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وسنكتفي بنموذج منها لعلم من أعلام الإمامية المعاصرين هو الشيخ جعفر السبحاني الذي تناول تلك الآيات بطريقة علمية منهجية تنزيهية انطلق فيها من (أن النهي ينقسم إلى قسمين: مولوي وإرشادي، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاًّ منهما صادر عن آمر عالٍ إلى مَن هو دونه، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة، فيأمر بما يجب أن يطاع، كما أنّه ينهى عمّـا يجب أن يُجتنب.. وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والإرشاد، والعظة والهداية، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر، الواجبة طاعته.. وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتّب على نفس العمل من آثار خاصّة، من دون أن تترتّب على ذات المخالفة أيّة تبعة) ([21])

ثم ضرب مثالا على ذلك بالطبيب الذي يصف دواءً لمريض ويأمره بتناوله، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال، تترتّب عليه الصحّة والعافية، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتّب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتّبة على نفس العمل ؛ وذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلاّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق.

وبناء على هذا ذكر السبحاني أن (مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تُعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي، لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية، لا مولوي حتى يترتّب عليه وراء تلك الآثار، عقاب المخالفة ومؤاخذة التمرّد)

ومن القرائن التي ذكرها على انطباق ذلك على قصة آدم عليه السلام([22]):

1 ـ لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والإنابة، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتّب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى الله سبحانه، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل، وكان النهي لغاية صيانة آدم عليه السلام عن هذه الآثار والعواقب، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

2 ـ إنّ الآيات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي، وتصرّح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدم عليه السلام عمّـا يترتّب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة، فقد قال سبحانه: { فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 117 – 119]، فإنّ قوله سبحانه: ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ) صريح في أنّ أثر امتثال النهى هو البقاء في الجنّة، ونيل السعادة.

3 ـ إنّه سبحانه ـ بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ـ ناداهما: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]، فإنّ هذا اللسان، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة، ولكنّه خالفه ولم يسمع قوله، فعندئذٍ يعود ويخاطبه بقوله: ألم أقل لك… ألم أنهك عن هذا الأمر؟

4 ـ إنّه سبحانه يبيّـن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلاّ لإبداء ما وُرى عنهما من سوءاتهما حيث يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا } [الأعراف: 20] وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدم عليه السلام بعدها لم يكن إلاّ إبداء ما وُري عنهما من السوأة، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه، وحرمانه عن قربه، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

5 ـ إنّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح والإرشاد حيث قال: ( وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً، وهذا واضح لمَن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

6 ـ أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي ( النهي عن الأكل من الشجرة ) لم يكن ظرف تكليف حتى تُعدّ مخالفته عصياناً لمقتضاه، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح، أمّا ذلك المحيط فكان مُعدّاً لتبصير الإنسان بأعدائه وأصدقائه، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة، أي ما يترتّب على قبول قوله سبحانه من السعادة، وما يترتّب على قبول قول إبليس من الشقاء، وفي مثل ذلك المحيط لا يُعدّ النهي ولا الأمر تكليفاً، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر وأُمّهم، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

فهذه القرائن التي ذكرها السبحاني وغيرها تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً، وكان الهدف تبقية آدم عليه السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء، وصار مستحقّاً لأن يخاطب بقوله سبحانه: ({اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]

أما ما ورد من قوله تعالى في حق آدم عليه السلام ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى )، فقد أجاب عنها ـ كما أجاب كل القائلين بالعصمة ـ على أن لفظة (عصى ) وإن كانت مستعملة في مصطلح المتشرّعة في الذنب والمخالفة للإرادة القطعية الملزمة، ولكنّه اصطلاح مختص بالمتشرّعة ولم يجر القرآن على ذلك المصطلح، بل ولا اللغة، فإنّ الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة، (وعلى ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً، وإذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح، ولأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثبات الذنب على آدم عليه السلام([23])

أمّا اللفظة الثانية ( فغوى ) فأجاب عنها بأن (المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم وخسرانه وحرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ والعرى، بل من المنغصات والمشقات، وليس كل خيبة تتوجّه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح.. ولو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد، لكن ليس كل ضلال معصية، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى: أي ضل، ولكنّه لا يلازم المعصية) ([24])

هذا نموذج عن كيفية قراءة النصوص المقدسة بما يتوافق مع عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي قراءة استفادها السبحاني كما استفادها غيره من تلك المعاني النبيلة التي كان ينشرها أولياء الله من أهل بيت النبوة في مواجهة ذلك الزحف من الروايات الإسرائيلية التي راحت تخترق الرسائل المقدسة التي جاء القرآن الكريم لينشرها.

وسأذكر هنا نموذجا عن ولي من أولياء الله وإمام من أئمة الدين اتفقت على ولايته الأمة جميعا، لكن منهم من اكتفى بحبه، ومنهم من راح ينهل من علمه، ويستفيد من منهجه.

وهذا الإمام هو الإمام علي الرضا، والذي رويت عنه مناظرة طويلة مع القائلين بالتخطئة، نسوقها هنا باختصار، فقد سئل ـ حسبما تنص الرواية ـ: يا ابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تقول في قول الله عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) وقوله عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه)، وقوله في يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)، وقوله في داود (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاه)، وقوله في نبيه محمد (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)

فقال الإمام الرضا مخاطبا مناظره: (اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تؤول كتاب الله برأيك، فان الله عز وجل يقول(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)

ثم راح يجيبه عن شبهاته، فقال: (واما قوله عز وجل فعصى آدم ربه فغوى فان الله عز وجل خلق آدم حجة في ارضه وخليفة في بلاده ولم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير امر الله عز وجل فلما اهبط إلى الأرض جعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين).

واما قوله عزّ وجلّ (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه) انما ظن أن الله عز وجل لا يضيق عليه الا تسمع قول الله عز وجل (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه) اي ضيق عليه ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.

واما قوله عز وجل في يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بدفعها ان أجبرته لعظم ما داخله.

وأما داود… إنما ظن أن الله لم يخلق خلقا هو اعلم منه فبعث الله إليه الملكين فتسوروا المحراب فقالا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب، فعجل داود على المدعي عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول ما يقول، فقال هذه خطيئة حكمه لا ما ذهبتم إليه الا تسمع قول الله عز وجل (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق)…وأما محمد وقول الله عز وجل (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) فإن الله عز وجل عرف نبيه أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين واحد من سمى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبدله لكيلا يقول أحد من المنافقين انه قال في امرأة في بيت رجل أنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين وخشي قول المنافقين قال الله عز وجل (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) وان الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة من علي عليه السلام)([25])

هذا مجرد نموذج عما ورد في القرآن في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقراءات المتعددة له، وسنرى في الفصول القادمة نماذج أكثر تفصيلا، ليتبين لنا من خلالها مدى انحراف السلفية عن المفهوم الذي عرضه القرآن الكريم للنبوة.


([1]) شرح رياض الصالحين 4/ 570 – 573.

([2]) على ساحل ابن تيمية، لعائض القرني، ص3، ببعض التصرف.

([3]) على ساحل ابن تيمية، ص5.

([4]) على ساحل ابن تيمية، ص3.

([5]) على ساحل ابن تيمية، ص3.

([6]) العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبد الهادي، نقلا عن الرد الوافر على من زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كافر، (63)

([7]) الرد الوافر، (69)

([8]) مجموع الفتاوى (4/ 319)

([9]) منهاج السنة النبوية (2/ 435)

([10]) ابن كمونه، سعد بن منصور، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، دار الأنصار، ص، 15-18 بتصرف.

([11]) فتاوى ابن باز ج6/371.

([12]) مجموع الفتاوى ج18 / 7.

([13]) تاريخ الطبري (1/ 107)

([14]) تاريخ الطبري 1: 54، ابن كثير 1: 143.

([15]) تاريخ الطبري 1: 55 – 56.

([16]) رواه البخاري 6 / 261، ومسلم رقم (1470).

([17]) تفسير ابن أبي حاتم (1/135)

([18]) المستدرك (2/545)

([19]) أحمد (1/251، 252)، وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 722)

([20]) تفسير الطبري (1/ 535).

([21]) عصمة الأنبياء ص 94.

([22]) عصمة الأنبياء ص 96، فما بعدها.

([23]) عصمة الأنبياء ص 94.

([24]) عصمة الأنبياء ص 94.

([25]) بحار الأنوار، ج‏11، ص: 72، وانظر: قصص الأنبياء عليهم السلام – الجزائري – ص 13 – 15..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *