الخاتمة

بعد أن تحدث هؤلاء وغيرهم بهذا وغيره.. قامت ضجة كبيرة بين الجيشين، وارتفعت أصواتهم بالبكاء، وفجأة رأيت قائدي كلا الجيشين يرمي سلاحه، ثم ينزل من على فرسه، ويسير نحو أخيه يعانقه ويقبله، ويحاول كل منهما أن يقبل جبهة الآخر.
سرت روحانية عظيمة في ذلك الحين، لم تقطعها إلا أصوات بعض من لم يضعوا سيوفهم، فقد قال أحدهم، وكان ذات مرتبة كبيرة في أحد الجيشين، بل كان بمثابة مستشاره الإعلامي: ويلكم يا قوم.. أتستسلمون لبعض كلمات قالها هؤلاء الجهلة المبتدعة الممتلئين بالضلالة.. ويلكم كيف تلاقون ربكم، وقد وضعتم سيوفكم قبل أن تغمدوها في صدور أعداء الدين؟.. ويلكم هل نسيتم سلفكم الصالح، وغيرتهم على الدين، وشدتهم على المبتدعة؟
قام آخر من الجيش الآخر، وهو يقول: أبعدوا عنكم وساوس الشياطين، وهلموا احملوا سيوفكم لتغمدوها في صدور أعدائكم.. فلا ينبغي لمن حمل السلاح أن يضعه، ولا لمن ثار غيرة دين الله أن يسكت صوت غيرته قبل أن يعيد لدين الله حرمته.
بقي هذان وغيرهما من كل الجيشين يصرخان من غير أن يلتفت لهما أحد.. وفجأة سار كلا القائدين إلى ربوة مرتفعة ليراهم الجميع، ويسمعهم، وهناك جرى هذا الحديث.
قال الأول: أيها الإخوان الفضلاء ممن كانوا معي أو كانوا مع أخي.. لست أدري ما أقول لكم، وكيف أعتذر لأني أخرجتكم من بين أهليكم وأولادكم لأزج بكم في هذه الفتنة العمياء..لقد غطى الران على قلبي بسبب بعض من استشرتهم من رجال الدين والدنيا.. فكلهم زينوا لي الجرائم التي حركتكم لها.. ودفعتكم إليها.. وأنا الآن تائب إلى الله تعالى.. وقد رميت سلاحي الذي كاد يصليني بالعذاب الأبدي والغضب الذي لا يطيقه أحد من الخلق.
وأنا أشكر هؤلاء الحكماء السبعة الذين جعلهم الله أنوارا نهتدي بها.. وشموسا تحرق كل ما في قلوبنا من غل وحقد وحسد.. وأنا الآن أشعر براحة عظيمة.. فكل الأثقال التي كانت تجثم على قلبي سقطت منذ سقط سيفي من يدي.
قال الثاني: بورك فيك يا أخي.. وأنا أعتذر لك.. ولكل من حملت في وجهه السلاح.. لقد كنت أسيرا للشيطان الرجيم.. وأسيرا لأولئك الذين يتاجرون بالدين في سبيل الدنيا، وفي سبيل أهوائهم.. وأنا الآن قد عزمت مع أخي على أن نجتث جذورهم، لا بالمشانق والسجون، وإنما بالعلم والحكمة والروحانية والتوجه الصادق إلى الله.
فلولا غفلتنا عن الله ما تسربت شياطين الإنس والجن لتكدر علينا صفونا، وتملأ حياتنا بالمآسي والآلام.. لو أننا عرفنا الله، وعرفنا عظمته ورحمته ولطفه بعباده لرأينا الكون أجمل بكثير وأعظم بكثير من تلك الصورة التي صورها لنا تجار الدين من أصحاب الأهواء.
ولو عرفنا أنبياءنا وورثتهم الطاهرين، وشربنا من بحارهم العذبة لتخلصنا من كل السموم التي اشتعلت في صدورنا.
قال الأول: لقد قررت أنا وأخي أن نجعل من الحكماء السبعة أئمة يهدوننا سواء السبيل، إليهم نرجع، وبهديهم نهتدي، وبسيرتهم نسير.. فهم الذين فهموا الدين، وفقهوا عن رب العالمين..
قال الثاني: وقد قررنا أن ننزل العقوبة على كل من يسعى للفتنة أو يشعلها بيننا.. وسنبدأ بهؤلاء الذين رفضوا أن يضعوا سيوفهم.. فالله تعالى أمرنا بالاجتماع على قتالهم، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]
فهم مخيرون بين أمرين: إما الاستسلام لما تقتضيه العدالة، ونحن لن نفعل بهم إلا ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ألد أعدائه.. وإما أن يعلنوا الحرب علينا جميعا، وحينها سنقاتلهم، بعد أن نعتذر لهم بأن ذلك لم يكن إلا بسببهم.
فجأة سقطت كل السيوف التي لم تسقط من قبل.. وقد أجرى كلا القائدين تحقيقا في أسباب الفتنة، فوجدوا أن أولئك الذين رفضوا وضع سيوفهم هم أول من بدأها.. ووجدوا بعد اقتحام بيوتهم أن لهم علاقة بدول أجنبية كانت تريد أن تستأصل بلدتنا بأكملها لا تفرق في ذلك بين جهة وجهة..
وقد توصلت التحقيقات إلى أن كل القتلى الذين قتلوا، واتهم فيها طرف من الأطرف قصد إشعال الفتنة لم يكن سببها إلا أولئك الخونة..
وتوصلت التحقيقات إلى العلاقة الحميمة التي كانت تربط مثيري الفتن في كلا الجهتين.. بل كان كلاهما يجتمعان، ويخططان لما يقول كل طرف، وما يجيبه الطرف الآخر.
بعد أن اكتشفت بلدتنا بمعونة حكمائها كل ذلك أقيمت محكمة عادلة، وطبقت العدالة على أولئك الشياطين الذين كادوا يستأصلون الأخضر واليابس..
وقد حضر الجميع تطبيق أحكام العدالة.. وانصرفوا جميعا بعدها إلى حياتهم إخوة متحابين متصافين، وكأنه لم يحدث بينهم كل ما حدث من الفتن.
وقد بارك الله في أولادهم وأرزاقهم وحياتهم.. فكانت النعم تهب عليهم من كل جهة.. وقد سمع أعداؤهم بما وقع لهم فازدادوا هيبة في أعينهم.. ولم يفكر أحد في الاقتراب منهم أو غزوهم..
بل إنه بسبب ذلك الرخاء الذي تحقق في البلدة صار كبار التجار والعلماء من الدول المجاورة يزوروننا ويستثمرون أموالهم وعلومهم في بلدتنا.. وقد أكسبنا ذلك قوة على قوة..
ولم يكن ذلك وحده ما بورك لنا فيه.. فقد كانت أعظم بركة هي تلك المشاعر الروحية التي كانت تجمع بين المؤمنين مع اختلاف مذاهبهم في المسجد الواحد.. وهم يصلون لله، ويتوجهون إليه بقلوب واحدة، وبألسن متعددة.. وبعدها يعودون إلى أعمالهم بقلوب صافية سليمة.