الخاتمة

الخاتمة

بعد أن ذكر العلماء من المذاهب المختلفة ما لديهم من حجج وبينات على التهم التي اتهموا بها ابن تيمية، وقف القاضي، وقال: يكفيني ما أوردتم من الأدلة، وقد سجلتها جميعا، وأنا مقتنع بها تماما، لكن الحكم في مثل هذه المسائل يحتاج إلى تريث وهدوء، ويحتاج إلى بعض الاستشارات.. فلذلك موعدنا غدا.. فأحضروا من شئتم من العلماء أو غيرهم ليستمع للحكم، ولعله يورد علينا من الاعتراض ما نحتاج فيه إلى المراجعة والاستئناف.

قال ذلك، ثم انصرف، وانصرف العلماء.. وفي الغد اجتمع جمع كبير جدا من العلماء بمختلف مذاهبهم، ودخل القاضي قاعة المحكمة، ومعه جمع كبير من القضاة والمستشارين.

وفوق منصة المحكمة، وقف القاضي، وطلب من الجميع الهدوء، ثم راح يقول: بعد استماعي للأدلة والبينات على التهم الخطيرة التي اتهمتم بها الشخص المسمى [تقي الدين أبا العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني].. وبعد استشارتي للمختصين في المجالات العلمية المرتبطة به.. وبعد اطلاعي عن كثب على كتبه، وتأثيرها في المجتمعات الإسلامية على مدار التاريخ.. وبعد إدراكي لخطورتها وآثارها في تشويه جميع القيم الإسلامية الكريمة.. فإنني ومن مكاني هذا أنطق بالحكم الذي تقتضيه العدالة، ويقتضيه الحزم المرتبط بها..

اشرأبت الأعناق لسماع الحكم، وساد صمت عميق أرجاء القاعة.. لكن فجأة سمعنا ضجة كبيرة خارج القاعة.. وبعدها سمعنا من خلال مكبرات الصوت هذا النداء: أنتم محاصرون.. والقاعة كلها مفخخة، وبإشارة واحدة من شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن قائدنا خليفة المسلمين البغدادي، ستختلط لحومكم ودماؤكم بالخرسانة المسلحة.. فأعلنوا توبتكم وولاءكم لشيخ الإسلام، ولخليفة المسلمين، وإلا فالقتل نصيبكم، وجهنم موعدكم..

سأعد إلى ثلاثة.. فمن بقي منكم في القاعة، فسيفجر معها، ومن خرج إلينا، فقد أمن، بشرط واحد، وهو أن يكتب كتبا تمجد شيخ الإسلام، وترد على خصومه..

قال ذلك، ثم صاح بعد ثوان معدودة: واحد..

فرأيت جمعا كثيرا من القاعة من العلماء وغيرهم يسرع خارجها، وهو يرفع صوته ثناء على ابن تيمية، وعلى خليفته البغدادي.. ولم يبق في القاعة إلا القليل..

ثم صاح الصوت: اثنان.. فخرج جمع آخر.. وبقيت مترددا بين الخروج والبقاء.. فقد كنت مقتنعا بكل ما ذكروا، لكني كنت أيضا جبانا وخائفا من أن ينزل بي الموت قبل أن أهيئ نفسي لما بعده..

لكني ـ بعد جهد جهيد ـ استطعت أن أسيطر على نفسي، وأن أقنعها بأن هذه فرصة عظيمة للشهادة في سبيل الله.. وأن الله سيكافئني عليها، وسيعفو عن تقصيري..

وأخبرتها أنني إن خرجت مع الذين خرجوا فإن حالي لن يختلف عن حال القرني والخطيب والعفيف والتويجري، وسيصبح قلمي حينها صاروخا يدمر كل حي، ويقضي على كل شيء.

بعد أن خرج الجمع.. صاح الصوت: ثلاثة.. فرحت وكل من معي ننطق بالشهادتين.. وبعدها سمعت صوت انفجار عظيم.. لكني ـ للأسف ـ لم أمت ولم أستشهد، بل فتحت عيني، فرأيتني في فراشي، وفي بيتي.. وكان يجلس بجانبي صاحبي الوهابي التائب، فابتسم، وقال: لقد اخترت الخيار الصحيح.. وقد أمد الله في عمرك.. لتكتب كل ما رأيت وسمعت لينتفع به كل من غرقوا في أوحال ابن تيمية، أو سجنوا في سجونه.

قلت: أكنت معي في حلمي؟

قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [المائدة: 101]

قلت: لا بأس.. أأكتب كل شيء؟

قال: أجل..

قلت: فما أسميه؟

قال: سمه [شيخ الإسلام في قفص الاتهام]

قلت: لكن ابن تيمية لم يكن في قفص الاتهام.. بل كان كرسيه فارغا..

قال: ابن تيمية ليس جسدا ولا لحما ولا عظما.. ابن تيمية هو تلك السموم التي تجرعتها الأمة، فشوهتها وانحرفت بها كما انحرف السامري باليهود، وانحرف بولس بالنصارى.. وانحرف بكل دين دجال من الدجالين.

قلت: لكني لم أسمع حكم القاضي فيه.

قال: لقد جعل الله في عقل كل إنسان قاضيا يقضي بالحق، فاكتب التهم واكتب أدلتها كما سمعتها، واترك للقضاة الذين جعلهم الله في عقول خلقه ليتولوا الحكم بأنفسهم.. فحقيقة كل إنسان تنبع من الأحكام التي يحكم بها قضاة عقله.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *