التهمة الثانية.. النصب والعداوة

التهمة الثانية.. النصب والعداوة

كان اليوم الثاني من المحاكمة خاصا بالتهمة التي اتفق عليها كل من انتقد ابن تيمية وخاصة من الصوفية والإمامية والزيدية، بل وأتباع المذاهب الأربعة الذين مال أكثر متأخريهم إلى التصوف.

وهذه التهمة هي (تهمة النصب والعداوة)، وقد جرى له بسببها في عصره بعض المحاكمات، وسجن بسبب بعض ما يرتبط بها، بل اتهم – كما يذكر ابن حجر – بسببها بالكفر والنفاق([1]).

ومع ذلك، فقد رأيت من أصحاب ابن تيمية من يدافع عنه بشأنها، ويبين أنه بريء منها، وأن كل ما ذكره المخالفون كذب عليه، وأن علاقة ابن تيمية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة علاقة محبة ومودة، وأنه لم يشهر سيف حقده على أحد من الناس إلا على من ظهرت بدعتهم.

وقد كان هذا الاختلاف سببا في شوقي لسماع الأدلة عن كثب ومناقشتها.

عقدت الجلسة، وقعد القاضي على كرسي كبير في أعلى مكان في المحكمة.. وبعد أن استقرت القاعة بمن فيها، قلب القاضي بعض الأوراق التي كانت بجانبه، ثم قال: التهمة التي سنبحث فيها اليوم هي تهمة (النصب والعداوة).. وأنا أريد من المدعين على ابن تيمية أن يوضحوا لي مرادهم منها قبل أن يذكروا الأدلة المثبتة لدعاواهم.

تقدم الإسكندري، وقال: بعد أن عرفت – سيدي القاضي – ما شوه به ابن تيمية العقيدة في الله بخلطها بالتشبيه والتجسيم، ونصرته لكل من شبه وجسم، وإعراضه عما ورد من تنزيه الله وتقديسه في القرآن الكريم، وفي السنة الصحيحة، وفي الآثار الواردة عن وارثي النبوة من أئمة الهدى، فإنا نريد أن نعرض عليك اليوم وفي هذا المجلس ما شوه به النبوة، وكل ما يرتبط بها.

قال القاضي: أتريدون بالنصب والعداوة النصب والعداوة للنبوة؟

قال الإسكندري: أجل – سيدي – فابن تيمية لم يكتف بتلك الأطروحات التشويهية لجلال الله وقدسه، بل راح يعمل بكل ما أوتي من حيلة ليشوه النبوة، وكل ما يرتبط بها.

قال القاضي: فهمت القضية.. لكني أحتاج إلى الأدلة القوية المثبتة للدعوى.

قال الإسكندري: لقد رجعت مع أصحابي إلى كتب ابن تيمية، وقرأناها بتفصيل وتدقيق وتمعن، واستخرجنا منها أربعة أدلة، كل دليل منها كاف لإدانة ابن تيمية في هذه المسألة.. وسيتقدم أصحابي واحدا واحدا لإيرادها عليك.

قال القاضي: قبل ذلك أريد أن توضح لي وجه المنطقية فيها.

قال الإسكندري:  أرأيت لو أن شخصا راح يذم ويشنع على كل من يقول بعصمة الأنبياء وتنزيههم من الخطايا.. بل ويرميهم بالبدعة بسبب ذلك، ويحذر كل من يتبعهم في هذا بالبدعة.. ولم يكتف بذلك، بل راح يؤيده، ويشوه النصوص ليبرهن على أقوالهم، ولم يكتف بذلك، بل راح يتهم الأنبياء بالعظائم، بل بالكفر ذاته.. ألا يكفي هذا لإدانته؟

قال القاضي: إن ما تقوله خطير.. فهل لديكم أدلة تثبته؟

قال الإسكندري: أجل.. ومعاذ الله أن نتكلم بغير علم.

قال القاضي: أهذا هو الدليل الأول؟

قال الإسكندري: أجل.

قال القاضي: فما الدليل الثاني؟

قال الإسكندري: الدليل الثاني هو أن ابن تيمية لم يكتف بتشويه مقام النبوة، وتحقير الأنبياء، وتشويه سيرهم.. بل راح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء، وخاتمهم، يكذب عليه، ويكذبه، ويرسم له صورة تتناسب مع مزاجه وأهوائه، ويلتمس لذلك بتصحيح كل ضعيف، وتكذيب كل صحيح ليفصل نبيا يتناسب مع فهمه للنبوة، كما فصل لله لباسا يتناسب مع تجسيمه وتشبيهه.

قال القاضي: إن أثبتم هذا فقد أدنتموه إدانة عظمى.

قال الإسكندري: ليس ذلك فقط سيدي ما فعله ابن تيميه.. لقد راح إلى تلك العلاقة الروحانية العميقة التي تصل الأمة بنبيها يحاول بكل الوسائل، وكل الأسلحة لقطعها.. بل ويعتبر من لم يقطعها مبتدعا ضالا مشركا.

قال القاضي: إن أثبتم هذا، فقد أثبتم التهمة بكل وجوهها.

قال الإسكندري: فإذا ذهب هذا الرجل إلى عترة النبي وآله الذين أوصى بهم، وحث على المودة لهم، فراح يكذب عليهم، ويكذب ما ورد في فضلهم، ويشوه سيرتهم، ويقدم غيرهم عليهم، ويسويهم مع أعدائهم..

قال القاضي: حينذاك يكون قد بلغ القمة في نصبه وعداوته، ولم يذر شيئا.

قال الإسكندري: فهذه أدلتنا على ما نقول.. فهل تأذن لنا سيدي القاضي في البدء في إيرادها واحدا واحدا.

قال القاضي: أجل.. ولو أثبتم هذا وفق المنهج العلمي تكونون قد أثبتم التهمة حقيقة..

قال الإسكندري: لك ذلك سيدي القاضي.. ومحامي المتهم بين أيدينا، وهو يرد علينا إن وجد أننا ننقل نصا من كتبه لم يقله..

قلت: ليس ذلك فقط.. بل حتى لو بترتم النص عن سياقه، فإنني سأتدخل.. الشهادة لله تقتضي مني أن أكون صادقا معه، كما أكون صادقا معكم.

أولا ـ الانتصار لعدم عصمة الأنبياء عليهم السلام

تقدم الصنعاني، وقال: ليسمح لي سيدي القاضي أن أذكر الدليل الأول.. وهو انتصار ابن تيمية لعدم عصمة الأنبياء عليهم السلام.. ولي على ذلك أربعة شهود.

قال القاضي: فما الشاهد الأول منها؟

قال الصنعاني: الشاهد الأول هو إنكار ابن تيمية الشديد على من يقول بالعصمة المطلقة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان في إمكانه ان يتجاوز عن ذلك حتى لو أخطأوا انطلاقا من حسن نيتهم.

قال القاضي: وما الشاهد الثاني؟

قال الصنعاني: في مقابل تشدده مع المنزهة نجده يبالغ في الثناء على المشوهين للأنبياء الموردين للطامات حولهم.

قال القاضي: أنت تذكرني بموقف ابن تيمية من أهل التنزيه والتجسيم.

قال الصنعاني: أجل – سيدي – فقاعدته الرمي بالبدعة لكل من نزه الله ورسله، والثناء بالسنة على كل من جسم الله أو شوه أنبياءه.

قال القاضي: فما الشاهد الثالث؟

قال الصنعاني: الشاهد الثالث – سيدي – هو رمي ابن تيمية للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصنوف المعاصي، ودفاعه عن ذلك.

 قال القاضي: إن ما تقوله خطير.

قال الصنعاني: وهناك ما هو أخطر منه، وهو الشاهد الرابع، والمتمثل في تقريرات وتصريحات ابن تيمية على إمكانية كفر الأنبياء وارتكابهم الكبائر.

قال القاضي: إن أثبتم هذا تكون قد أثبتم أن ابن تيمية يقف من الأنبياء وطهارتهم وعصمتهم، ومن النبوة ومقامها الرفيع موقفا لا يقل عن موقفه من الله وتنزيهه.

قال الصنعاني: سنثبت لك ذلك – سيدي – من خلال كتبه وتصريحاته، وأمامك محاميه الذي يفتح كل كتاب نذكره ليتأكد من صحة نقلنا.

1 ـ تبديع ابن تيمية للمنزهة

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الصنعاني: الدارس لكتب ابن تيمية – سيدي القاضي – يلاحظ أنه مع ثنائه المبالغ فيه على الكتب التي تشوه الأنبياء، وتنقل ما ورد في الإسرائيليات حولهم – كما سنبرهن لكم على ذلك في الشاهد الثاني– نراه يبدع كل من يقول بالعصمة المطلقة للأنبياء، ويؤول ما ورد في النصوص من ذلك ليتناسب مع مقامهم الرفيع، ومنزلتهم العالية.

قال القاضي: هذه دعوى.. فما دليلها؟

قال الصنعاني: اسمع – سيدي القاضي- إلى ما قاله ابن تيمية في  (مجموع الفتاوى).. لقد قال: (إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ولم ينقل عنهم ما يوافق القول وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين. وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقرون عليها ولا يقولون إنها لا تقع بحال وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل.. فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة، وقد يكفرون من ينكر القول بها، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والاثني عشرية)([2])

بل إنه لم يكتف بهذا، بل راح يتهم كل من اقتنع بهذا القول بالخروج عن السنة، يقول في ذلك: (ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا المتكلمين – المنتسبين إلى السنة المشهورين – كأصحاب أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وأبي عبد الله محمد بن كرام وغير هؤلاء. ولا أئمة التفسير ولا الحديث ولا التصوف. ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلاء فالمكفر بمثل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا إلا أن يظهر منه ما يقتضي كفره وزندقته فيكون حكمه حكم أمثاله. وكذلك المفسق بمثل هذا القول يجب أن يعزر بعد إقامة الحجة عليه؛ فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام. وأما التصويب والتخطئة في ذلك فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة)([3])

بل إنه اعتبر ما قاله المنزهة من تنزيه الأنبياء تحريفا للدين، يقول في (منهاج السنة): (تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.. وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه)([4])

القاضي: الكلام الذي ذكرته واضح.. لكن ما دافعه إلى ذلك؟

قال الصنعاني: ابن تيمية ينطلق من السنة المذهبية في مواقفه جميعا، ولهذا تراه يعظم الصحابة أكثر من تعظيمه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل إنه يتهم الشيعة بكونهم يقولون بالعصمة المطلقة للأنبياء قدحا في الصحابة.

يقول في (منهاج السنة): (وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير، وكذلك الأئمة، فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف.. ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر لكونهما أسلما بعد الكفر، ويدعون أن عليا لم يزل مؤمنا، وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط، وكذلك تمام الاثني عشر. وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم، ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع. ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة، وإما في هذه المقدمة)([5]

2 ـ ثناء ابن تيمية الشديد على المخطئة

قال القاضي: وعيت هذا.. فهلم بالشاهد الثاني.

قام الحنبلي، وقال: الشاهد الثاني – سيدي القاضي – هو ثناء ابن تيمية الشديد على كل الكتب التي تمتلئ بالقصص والأساطير التي تشوه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وترميهم بالعظائم، بل هو فوق ذلك يعتبرها من كتب السنة، وأنها في هذا الموضوع بالذات أعرف بالأنبياء من كتب المنزهة.

قال القاضي: فهلا أوردت لنا من تصريحاته ما يفيد هذا.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. فقد صرح بذلك في مواضع كثيرة من كتبه.. ومن ذلك قوله:  (.. من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة، كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جرير الطبري، ومحمد بن أسلم الطوسي، وابن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم من العلماء الأكابر، الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير)([6])

وقوله دفاعا عن الإسرائيليات الكثيرة الواردة في تلك الكتب، والتي شوهت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أيما تشويه: (ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء، لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.)([7])

أرأيت سيدي القاضي كيف يعتبر الروايات المشوهة لجمال وعصمة الأنبياء سنة، وكيف يعتبر تنزيه الأنبياء والقول بطهارتهم تحريفا؟

قال القاضي: هذا كلام مجمل.. ومن الصعب الحكم من خلاله، فهلا ذكرت لي أمثلة تؤكد أن هذه التفاسير التي أثنى عليها تتضمن أي إساءة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. سأذكر لك أربعة أمثلة تؤكد لك ما أقول.. وإن شئت الزيادة زدتك.

قال القاضي: اذكر لي هذه الأربع، فإن رأيتها كافية اكتفيت بها، وإلا طلبت المزيد..

المثال الأول:

قال الحنبلي: المثال الأول – سيدي القاضي – يتعلق بتفسير من التفاسير التي لقيت عناية كبيرة من ابن تيمية، فهو يذكره كل حين، ويثني عليه وعلى صاحبه، وهو تفسير ابن جرير الطبري، فلا يوجد مجلد من (مجموع الفتاوى) أو (منهاج السنة)،  أو (درء تعارض العقل والنقل)،  أو (الصارم المسلول)، أو (اقتضاء الصراط المستقيم  وغيرها، إلا وفيه ذكر لتفسير ابن جرير الطبري.

بل إنه يعتبره من (أهل العلم والسنة)([8]) ، وقد أجاب في (مجموع الفتاوى) من سأله عن أحسن التفاسير بقوله: (أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري،  فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي)([9])

وقال عنه: (تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير المأثورة، وأعظمها قدراً)([10])

قال القاضي: تكفي هذه النصوص في بيان موقف ابن تيمية من ابن جرير الطبري وتفسيره.. ولكن هل حقا تفسير ابن جرير فيه ما يسيئ للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

قال الحنبلي: أجل – سيدي القاضي- فقد أسرف الطبري في تفسيره في نقل الروايات المأخوذة من القصص الإسرائيلي يرويها عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه أو عبد الله بن سلام أو عبد الملك ابن جريج وغيرهم حتى أن بعضهم أحصاها فوجدها قد بلغت ما يقرب من ألفين وخمسمائة رواية في تفسيره من الإٍسرائيليات والخرافات والأساطير اليهودية الأولى ([11]).

وهو مع سرده لها لا يميز صحيحها أو ضعيفها.. بل يترك ذلك كله للقارئ ليتلقى منه كل أنواع التشويهات والتحريفات سواء المتعلقة بالله وتجسيمه وتشبيهه، أو المتعلقة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورميهم بالموبقات.

قال القاضي: فهلا ضربت لي مثالا منها لأطمئن.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. سأضرب لك مثالا يتعلق بتفسيره لقوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 23، 24]، فمع أن المنزهة أوردوا الكثير من الأدلة التي تدل على المراد منها، وأنه يتناسب مع عظمة النبي وعفافه وأخلاقه الرفيعة.. لكن الطبري وغيره من المفسرين الذين أثنى عليهم ابن تيمية استغلوا هذه الآية ليرموا هذا النبي الكريم بالعظائم.

فمما رواه الطبري في تفسير الآية الكريمة هذه الرواية: (استلقت له وجلس بين رجليها وحل ثيابه أو ثيابها)([12])

ومنها هذه الرواية عن ابن أبي مليكة – وهو من سلفهم الصالح – قال: بلغني أن يوسف لما جلس بين رجلي المرأة، فهو يحل هميانه – ثيابه – نودي: يا يوسف بن يعقوب لا تزنِ، فإن الطير إذا زنى تناثر ريشه، فأعرض، ثم نودي فأعرض، فتمثل له يعقوب عاضاً على أصبعه، فقام) ([13])

ومنها هذه الرواية في المراد من: ﴿ لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24] (رأى صورة – أو تمثال- وجه يعقوب عاضاً على إصبعه، فخرجت شهوته من أنامله)([14])

ومنها (البرهان الذي رأى يوسف فصرف عنه السوء والفحشاء: يعقوب عاضاً على إصبعه، فما رآه انكشف هارباً، ويقول بعضهم: إنما هو خيال إطفير سيده حين دنا من الباب وذلك أنه لما هرب منها وأتبعته ألفياه لدى الباب)([15])

وهكذا حولوا من قصة هذا النبي العفيف الذي ضرب الله به المثل في الإحسان والصديقية إلى رجل شهواني لا يرتدع إلا بعد أن تحصل المعجزات التي تثنيه عن همه.

ومع ذلك يعتبر ابن تيمية هذه الروايات والقائلين بها سنة، والمنزهين ليوسف عليه السلام والمبينين سمو أخلاقه مبتدعة.

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا، فهات المثال الثاني.

قال الحنبلي: المثال الثاني سيدي القاضي يتعلق بتفسير أثنى عليه ابن تيمية كثيرا، واعتبره من تفاسير السنة، وهو تفسير ابن أبي حاتم، فقد عده في مجموع الفتاوى (من أهل العلم والسنة)([16]) ، وعده في منهاج السنة من (من أئمة التفسير)([17]) ، و(من أهل العلم الكبار)([18])

وقال عنه في مجموع الفتاوى: (.. وابن أبي حاتم قد ذكر في أو كتابه في التفسير أنه طلب منه إخراج تفسير القرآن مختصراً بأصح الأسانيد، وأنه تحرى إخراجه بأصح الأخبار إسناداً، وأشبعها متناً، وذكر إسناده عن كل من نقل عنه شيئاً)([19])

قال القاضي: يكفيني هذا.. فهلا ضربت لي مثالا من كتابه لأطمئن.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. فمن ذلك قوله في تشويه نبي الله آدم عليه السلام، وزوجه حواء، وأنهما وقعا في الشرك، وذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: 190]، فقد قال: (الله هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها آدم حملت آتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن لها قرني إبل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما سمياه عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا، ثم حملت يعني الثانية فأتاهما أيضا فقال: أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن أو لأفعلن ولأفعلن يخوفهما فأبيا أن يطيعانه فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث)([20])

المثال الثالث:

قال القاضي: وعيت هذا، فهات المثال الثالث.

قال الحنبلي: المثال الثالث سيدي القاضي يتعلق بتفسير أثنى عليه ابن تيمية كثيرا، واعتبره من تفاسير السنة، وهو تفسير ابن عطية، وقد قال عنه في مجموع الفتاوى:(وتفسير ابن عطية وأمثاله: أتبع للسنة والجماعة، واسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير المأثورة، وأعظمها قدراً. ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف، ولا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة، من أهل الكلام، الذين قرروا اصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب فإن الصحابة، والتابعين، والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة، والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة، وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا)([21])

انظر – سيدي القاضي – كيف أنه لا يرد على ما فيه من إسرائيليات، بل يرد على ما فيه من كلام عقلي ومنطقي استفاده من المتكلمين.. بل هو يدعوه إلى أن يكون كابن جرير الطبري يأخذ الغث والسمين من غير تحقيق ولا بيان.

ويقول في مجموع الفتاوى عندما سئل عن مجموعة من التفاسير: (وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها)([22])

والبدع المشار إليها ليس تشويه الأنبياء، وإنما ما فيه من رؤى علمية منطقية تستند إلى أقوال المتكلمين.

قال القاضي: يكفيني هذا.. فهلا ضربت لي مثالا من كتابه لأطمئن.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. فمن ذلك قوله عن داود عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21]: (أخذ داود يوما في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائرا حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزال مطمعا له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظرا جميلا فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعا بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانا يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.. ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم. وقالت فرقة: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. وقال آخرون: إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة)([23])

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا، فهات المثال الرابع.

قال الحنبلي: المثال الرابع سيدي القاضي يتعلق بتفسير أثنى عليه ابن تيمية كثيرا، واعتبره من تفاسير السنة، وهو تفسير البغوي، فقد سئل عنه في مجموع الفتاوى السؤال التالي: أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة الزمخشري، أم القرطبي أم البغوي، أم غير هؤلاء؟ فأجاب بقوله: (أما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها فأسلمها من البدعة، والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحدث منه الأسانيد، والأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك)([24])

وقال عنه في (منهاج السنة): (ولهذا لما اختصره أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، وكان أعلم بالحديث والفقه منه: والثعلبي أعلم بأقوال المفسرين، والنحاة، وقصص الأنبياء، فهذه الأمور نقلها البغوي عن الثعلبي، وأما الأحاديث فلم يذكر في تفسيره شيئاً من الموضوعات التي رواها الثعلبي، بل يذكر الصحيح منها، ويعزوه إلى البخاري وغيره، فإنه مصنف كتاب (شرح السنة)، وكتاب (المصابيح)، وذكر ما في الصحيحين والسنن، ولم يذكر الأحاديث التي تظهر لعلماء الحديث أنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسرين  كالواحدي صاحب الثعلبي، وهو أعلم بالعربية منه، وكالزمخشري وغيرهم من المفسرين الذين يذكرون من الأحاديث ما يعلم أهل الحديث أنه موضوع)([25])

قال القاضي: يكفيني هذا.. فهلا ضربت لي مثالا من كتابه لأطمئن.

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. فمن ذلك قوله عن يوسف عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24]: (ولقد همت به وهم بها، والهم هو المقاربة من الشيء من غير دخول فيه، فهمها: عزمها على المعصية والزنا، وأما همه: فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعن مجاهد قال: حل سراويله وجعل يعالج ثيابه. وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير والحسن. وقال الضحاك: جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما)([26])

والخطر ليس في هذه الرواية، فقد أوردها كل من امتدحهم ابن تيمية من السلف وأثنى عليهم، ولكن الخطر في تعقيبه على هذه الرواية بقوله: (قال أبو عبيد القاسم بن سلام: قد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم) ([27])

ثم أورد ردودا أخرى على تلك الروايات، تنزيها لمقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكنه رد عليها بقوله: (وزعم بعض المتأخرين: أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، وقال: تم الكلام عند قوله: ولقد همت به، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، على التقديم والتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه رأى البرهان فلم يهم.. وقيل: همت بيوسف أن يفترشها، وهم بها يوسف أي: تمنى أن تكون له زوجة. وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين أخذ عنهم الدين والعلم)([28])

هل رأيت سيدي القاضي كيف أصبحت مقولات المتقدمين من سلفهم دينا يتعبد الله به حتى لو كان فيه مساس بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتحريف للقرآن الكريم.

ثم إنه راح يبرر ما ورد في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أمثال هذه العظائم، ومن ذلك هذا التبرير البارد: (إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر، والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام)

ومنها ما نقله عن الحسن البصري من قوله: (إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم، ولئلا ييأس أحد من رحمته)

ومنها (إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية)

ومنها (ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة وترك الإياس من المغفرة والعفو)

وقد استفاد ابن تيمية من كل هذه التبريرات في تقريره لعدم عصمة الأنبياء في غير شؤون التبليغ، ودفاعه المستميت عن ذلك.

3 ـ دفاع ابن تيمية عن المخطئة

قال القاضي: وعيت هذا.. فهلم بالشاهد الثالث.

قام الميلاني، وقال: الشاهد الثاني – سيدي القاضي – هو دفاع ابن تيمية المستميت على ما أورده سلفه من المخطئة في تفاسيرهم وكتبهم حول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد جعله ذلك يدافع عن رمي الأنبياء بأنواع الخطايا، بل يحاول أن يبين أنها كمال في حقهم.

انظر إلى هذا النص من كتابه النبوات، والذي يحاول فيه أن يختصر العصمة في التبليغ عن الله فقط، يقول فيه: (وما أنبأ به النبي عن الله لا يطابق كذباً؛ لا خطأً، ولا عمداً، فلا بُدّ أن يكون صادقاً فيما يخبر به عن الله؛ يُطابق خَبَرَهُ مَخْبَرَهُ، لا تكون فيه مخالفة؛ لا عمداً، ولا خطأً، وهذا معنى قول من قال: هم معصومون فيما يبلغونه عن الله، لكن لفظ الصادق، وأنّ النبيّ صادق مصدوق: نطق به القرآن، وهو مدلول الآيات والبراهين، ولفظ العصمة في القرآن، جاء في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]؛ أي من أذاهم، فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأً وعمداً. وقد يكون معصوماً على لغة القرآن: بمعنى أن الله عصمه من الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، وأن يُغيّروا ما بُعث به، أو يمنعوه عن تبليغه؛ فلا يكتم، ولا يكذب؛ كما قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴾ [الجن: 26 – 28]؛ فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه. وهذا في معنى عصمته من الناس؛ فهو المؤيّد، المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن، حتى يبلغ رسالات ربّه كما أمر، فلا يكون فيها كذب ولا كتمان)([29])

لا يكتفي ابن تيمية بهذا التمليح.. بل يمارس التصريح بكل أنواعه ليبين لأتباعه أنهم لن يظفروا بلقب (السنة) حتى يرموا الأنبياء بما رماهم به سلفه من الخطايا.

يقول في ذلك – أثناء رده على المنزهة -: (ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة، وإما في هذه المقدمة.. أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه، بل هذا مفضل عظيم مكرم، وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه، وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته، كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة – وهم السابقون الأولون – يبين صحة هذا الأصل)([30]

هل رأيت سيدي الدافع الذي جعل ابن تيمية يحطم كل تلك المكانة الرفيعة التي نالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قلوب الناس بسبب طهارتهم وعصمتهم؟

إنه فقط مبالغته في شأن الصحابة.. هو لا يريد أن يتهمهم الناس بالنقص لكونهم أسلموا بعد كفر، وأطاعوا بعد معصية، فلم يجد إلا أن يلحق الأنبياء بهم، بل جعله يماري في القطعيات، فيحاول بكل الوسائل أن يقنع أتباعه بدور المعصية في تحقيق الكمال.

يقول في ذلك: (والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال، فلا ينظر إلى نقص البداية، ولكن ينظر إلى كمال النهاية، فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة، إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم.. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله، وإذا لم يكن في ذلك نقص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبني على أن ذلك نقص، وهو نقص إذا لم يتب منه، أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله، فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله، وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه)([31])

بل إنه فوق ذلك كله يعتبر تنزيه الأنبياء عن المعاصي غضا من مرتبتهم، وسلبا للدرجة التي أعطاهم الله، يقول في ذلك: (وجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة)([32])

وهو يعود ليستدل بالصحابة الذين من أجلهم شوه الأنبياء، بل شوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ليحفظ مكانتهم التي يتصورها لهم، يقول في ذلك: (ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه، فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام! فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام! وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له)([33])

4 ـ تجويز ابن تيمية لكفر الأنبياء

قال القاضي: وعيت هذا.. فهلم بالشاهد الرابع.

قام الخليلي، وقال: الشاهد الرابع – سيدي القاضي – هو تصريحات ابن تيمية الخطيرة بإمكانية كفر الأنبياء، بل بكونهم كانوا قبل نبوتهم يمارسون ما يمارسه قومهم من أنواع الكفر.

وقد قدم لذلك بمقدمة عقدية تصور أنها كافية، وهي أن الله يفعل ما يشاء، وبالتالي يمكنه أن يختار أي كافر، بل أي مجرم ليتولى هذا المنصب الخطير، يقول في ذلك: (ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها، فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالى إذا كان جعل الشخص نبياً رسولاً من أفعال الله تعالى فمن نفى الحِكَم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقةً بمحض المشيئة، وجوَّز عليه فعل كل ممكن، ولم ينزهه عن فعل من الأفعال، كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالأشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر، فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف! والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه! والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه! والنبوة عندهم صفة ثبوتية ولامستلزمة لصفة يختص بها، بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون، مثل ذلك في الأحكام الشرعية)([34])

وهو – كعادته في الاحتيال – يحاول أن يحكي مذهبه هذا، ويدافع عنه لا بقوله هو، بل بقول من يراهم ألد أعدائه، فهو يعاديهم إن خالفوه في تجسيم الله وتشبيهه، ويصادقهم إن وافقوه في تشويه الأنبياء والقول بعدم عصمتهم، يقول في ذلك: (وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما، ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لايوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة، فإن هذا هو مدلول المعجزة! وما سوى ذلك إن دل السمع عليه، وإلا لم تجب عصمته منه.. وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة، والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم! وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت مايثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع، لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع، وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب التنفير ونحو ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه، قالوا هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين ونحن نقول لايجب على الله شئ ويحسن منه كل شئ! وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضاً، كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك، ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لايفعل ذلك، ونحو ذلك، وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لايفضل شخصاً على شخص إلا بعمله، يقول إن النبوة أو الرسالة جزاءٌ على عمل متقدم فالنبي فَعَل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة، وهؤلاء القدرية في شق، وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق)([35])

ويقول في موضع آخر: (أما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا: والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع.. والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا، والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول)([36])

أرأيت سيدي أبلغ من هذا التصريح.. إنه يجوز عليهم كل أنواع الذنوب.. وهي تشمل الصغائر والكبائر حتى الكفر نفسه.

قال القاضي: أنا معك في كون الذنوب تشمل الصغائر والكبائر.. لكني أريد دليلا أصرح في رميه الأنبياء بالكفر قبل نزول الوحي عليهم.

قال الخليلي: لقد صرح بذلك في مواضع من كتبه، منها ما ورد في مجموع الفتاوى، والتي قدم لها بقوله: (هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها، ومنها قوله: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88] الآية وما في معناها)([37])

ثم راح يبرز قدراته الاستنباطية في هذا الجانب، فقال: (التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع، وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به.. قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر: 15]) ([38])

ومثلما دافع عن المعصية، وكونها كمال في حق الأنبياء، راح يدافع عن كفرهم، مبينا أن ذلك أيضا كمال في حقهم، فقال: (والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم)([39])

التفت القاضي إلي، وقال: إن ما يقوله خطير.. فهل تأكدت من جميع النصوص التي أوردها؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. بل إن هذا مشهور عندهم، وأمامي كتاب شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ، المسمى بـ (إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل)، وهو يقول فيه: (القسم الثاني، من جهة الذنوب: الذنوب أقسام: فمنها الكفر وجائز في حق الأنبياء والرسل أنْ يكونوا على غير التوحيد قبل الرسالة والنبوة.. والثاني من جهة الذنوب، فالذنوب قسمان كبائر وصغائر: والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تَقَحَّمَها عليهم الصلاة والسلام بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع)([40])

وسئل هذا السؤال: (أشكل عليَّ قولك: النبي قد يكون على غير التوحيد قبل الرسالة؟)، فأجاب بقوله: (نعم النبي قد يكون على غير ذلك، فيصطفيه الله – عز وجل – وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك، قد يكون غافلا)([41])

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهل طبقه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الخليلي: أنت تعرف الصعوبة التي سيلقاها ابن تيمية لو صرح بذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن لو تأملت كلامه ونقوله في هذا لوجدته لا يستثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة وأنه مهد لذلك بكون الكمال فيه.

قال القاضي: هلا أوردت لي أمثلة على ذلك.

قال الخليلي: من الأمثلة على ذلك أنه يردد كثيرا حديثا يدل بظاهره على أن زيدا بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب كان أكثر ورعا عن الشرك وأسبابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) وغيره من كتبه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرة في لحم. فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه)([42])

بل ويضيف إليها كل الروايات التي ورد بها الحديث ليؤكد المعنى، فيقول: (وفي رواية له: وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟!) إنكارا لذلك وإعظاما له) ([43])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟.. هل صحيح ما ذكره؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. وقد ذكره في مواضع كثيرة من كتبه، وفصل فيه تفصيلا طويلا.. بل إني رأيت في كتابه (الفتاوى الكبرى) دفاعه عن وقوع الشرك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، فقد قال: (وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.. ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان. والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت: قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا. وقالوا في قوله: ﴿إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته﴾ [الحج: 52] هو حديث النفس. وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم﴾ [الحج: 52] ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد – وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾ [الحج: 53 – 54]. فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير، والحديث، والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ)([44])

أرأيت سيدي القاضي كيف يعتبر نطق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالشرك قول السلف وأنه السنة، بل إنه يراه من كمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن أدلة صدقه، فيقول معقبا على كلامه السابق: (وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق)([45])

ثانيا ـ  التعامل المزاجي مع البلاغ النبوي

بعد أن ساق العلماء ما ساقوا من البينات والشواهد على انتصار ابن تيمية للمخطئة، وتأييده الكامل لهم، بل تأييده لصدور الجرائم والكبائر وأنواع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تقدم الهندي، وقال: بعد أن تبين لكم – سيدي القاضي – من خلال الدليل الأول تصور ابن تيمية لمقام النبوة، واختصاره لها في العصمة في التبليغ، سنبين لك في هذا الدليل تلاعب ابن تيمية بالتبليغ نفسه.. فهو يؤيد ما يتناسب مع مزاجه، ويرفض ما لا يتناسب معه.

إنه باختصار يفصل رسولا على مزاجه من خلاله تلاعبه بقبول الأحاديث ورفضها، وتأويله للنصوص أو أخذه بظاهرها.

قال القاضي: إن ما تقوله خطير جدا.. فما شهودكم عليه.

قال الهندي: شهودنا عليه كل تراث ابن تيمية وكتبه.. فهو يمارس من خلالها أدواره التضليلة ليفصل نبيا يتناسب مع بني أمية والطلقاء والبغاة وكل من ناصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العداء.

قال القاضي: هلا وضحت لنا أكثر.

قال الهندي: لقد نذر ابن تيمية حياته جميعا للتنظير للإسلام الأموي، وهو إسلام يقوم على أربعة أسس.. أولها: تشبيه الله وتجسيمه حتى يكون رب المسلمين قريبا من الرب الذي كانت تعبده قريش.. وثانيها: العداء لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن بني أمية لم يكونوا يرتاحون لهم.. وثالثها: إحداث الصراع في الأمة، وإثارة الفتن بينها، لأن سوق بني أمية لا تقوم إلا في ظلال الصراع والفتن.. ورابعها: تعليم الأتباع المنهج الذي من خلاله يمارسون أدوار التضليل والتحريف والتلاعب بالدين حتى لا يموت بموت ابن تيمية.

قال القاضي: إن ما تقوله خطير جدا.. إن هذا دور الشيطان لا دور الإنسان.

قال الهندي: هذا هو الواقع..

قال القاضي: فهل برهنت لنا عليه؟

قال الهندي: كل محكاماتنا لابن تيمية برهان عليه.

قال القاضي: لكن لابد لكم من بينات وشهود، وإلا رفضت اعتبار دليلكم هذا..

قال الهندي: سأذكر لك شاهدين مختصرين، وإن أردت تفصيلهما يمكنك العودة إلى جميع الأدلة الأخرى.

قال القاضي: لا بأس.. فما هما؟

قال الهندي: أولهما: التساهل في تصحيح الضعيف بل الموضوع إذا توافق مع فهم ابن تيمية للدين.. وثانيهما: تضعيف الصحيح إذا تعارض مع فهمه له.

1 ـ تساهل ابن تيمية مع الضعيف والموضوع

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الصنعاني: الدارس لكتب ابن تيمية – سيدي القاضي – يلاحظ أنه يتعامل مع الحديث برؤية مزاجية مفصلة بحسب رغبته، لا بحسب ما يمليه التحقيق والبحث.. ولهذا تجده – إذا ما تعلق الأمر بما يريده هو من تشبيه وتجسيم ونحوه – يحتج بروايات من غير كتابي البخاري ومسلم، بل من غير الكتب الستة، بل ربما يحتج بروايات كتب غير مشهورة، كـ (كتاب الزينة) لأبي حاتم، و(الإبانة) لابن بطة، وغيرها مما ذكرناه لكم في التهمة الأولى، وهي جميع النصوص التي تفيد الشبيه ونحوه.. لكنه إن اعترض عليه بأحاديث أصح وأقوى تجده يرد على المعترض بقوله: (ليس في الصحيحين)، فلا يرتضي (السنن الأربعة) ولا (مسند أحمد) وأمثالها من الكتب المشهورة المعتبرة..

وهكذا تجده في التعامل مع الكتب والمصنفات، فهو يقف من كتب الصوفية وخاصة الإحياء موقفا سلبيا ويرميها بكونها ممتلئة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، بينما يغض الطرف عن كتب العقيدة المملوءة بأصناف التجسيمات والتشبيهات، بل يعتبرها كتب سنة، ويدعو إلى قراءتها.

مع أن الخطورة في كتب الصوفية أقل بكثير من الخطورة من كتب العقيدة، لأن الأولى تهتم بفضائل الأعمال، والثانية تهتم بحقائق الوجود، وتصف الله بما ينزه عنه.

اسمع إليه، وهو يتحدث عن كتب الصوفية: (فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كلاهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة، ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة، وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق. وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها بل الكفر الصريح كثير فيها وكتاب الإحياء له حكم نظائره ففيه أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة، فإن مادة المصنف في الحديث والآثار وكلام السلف وتفسيرهم للقرآن مادة ضعيفة)([46]

أما كتب العقيدة، فقد ذكرنا لك سيدي في الدليل الأول ما يشفي ويغني.

قال القاضي: وعيت هذا.. لكني لا أكتفي به.. أنا أريد بينات واضحات على ما تقول؟

قال الصنعاني: لك ذلك – سيدي القاضي- وقد أحضرت أربعة أمثلة على ما أقول، عساها تكون كافية، وإلا زدتك ما تشاء، وقد ذكرت لك أننا سنتحدث عن أمثال هذا طيلة هذه المحاكمات.

المثال الأول:

قال القاضي: لا بأس.. سنكتفي حاليا بما ستذكر من أمثلة.. وننتظر الباقي.. فهات المثال الأول.

قال الصنعاني: المثال الأول هي تصحيحه لكل حديث يرتبط بالتجسيم والتشبيه مهما كانت غرابته وضعفه..

قال القاضي: فهلا ضربت لنا مثالا على ذلك.

قال الصنعاني: من الأمثلة على ذلك حديث اهتم به المجسمة كثيرا، وألفوا فيه الرسائل، ويسمونه حديث الأوعال، وهو عبارة عن خرافة تعطي للكون صورة عجيبة غير الصورة التي نستفيدها من القرآن الكريم.

وهي تتلخص في أنه يوجد فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء وسماء، وفوق ذلك البحر يوجد ثمانية ملائكة من الأوعال أي من التيوس وهم في غاية الضخامة ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، والعرش يقع فوق ظهور هذه الأوعال (التيوس) الثمانية، والباري عز وجل حسب ادعائهم والله عز وجل تعالى عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا فوق ذلك العرش الذي تحمله التيوس (الأوعال) الثمانية.

القاضي: هلا ذكرت لنا نص الحديث لنتبين أكثر.

قال الصنعاني: أجل سيدي.. فقد رووا عن العباس أنه قال: (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت بهم سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب. قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري. قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك – حتى عد سبع سموات – ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال – أي تيوس جبلية-، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك)([47])

فمع أن الذهبي قال في هذا الحديث: (تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة)([48]) ، وقال فيه الألباني في السلسلة الضعيفة: (والذي يترجح – والله أعلم – هو ضعف الحديث، فإن تفرد سماك بن حرب بمثل هذا الحديث المتعلق بالغيبيات تفرد غير مقبول، وجهالة عبد الله بن عميرة تضر في مثل هذا الموضع أيضا، ثم ثمة انقطاع بينه وبين الأحنف بن قيس)([49])

لكن مع ذلك نرى ابن تيمية يستميت في الدفاع عنه، ومحاولة تصحيحه، وقد ذكر المناظرة التي جرت بينه وبين خصومه حول العقيدة الواسطية وكان من جملة ما اعترضوا عليه القول بأسطورة الأوعال، يقول متحدثا عما جرى له معهم: (وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها، فعرفت مقصوده. فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعـال.. وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تأريخه: عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف. فقلت: هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود، وابن ماجة، والترمذي، وغيرهم، فهو مروي من طريقين مشهورين فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، فقال: أليس مداره على ابن عميرة وقد قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف؟. فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت: والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا فإذا عرف غيره – كإمام الأئمة ابن خزيمة – ما ثبت به الإسناد: كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته. ووافق الجماعة على ذلك وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه)([50])

هل رأيت سيدي كيف يصبح البخاري وغيره لا أهمية لهم إذا ما تعلق الحديث بالتشبيه والتجسيم والخرافة؟

المثال الثاني:

القاضي: وعيت هذا.. وقد ضربتم لي أمثلة كثيرة عنه في التهمة السابقة.. فهات المثال الثاني.

قال الصنعاني: المثال الثاني يتعلق بحديث خطير يربأ لساني عن ذكره تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

القاضي: نحن في مجلس القضاء، ولابد من وضوح البينات، ولو استدعت ما استدعت.

قال الصنعاني: إن جرأة ابن تيمية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تقف عند رميه بما رماه به مما ذكرناه لكم في الدليل السابق، بل راح يتهمه في أخلاقه برواية ما أنزل الله بها من سلطان.

قال القاضي: أفصح أكثر.

قال الصنعاني: لقد كرر ابن تيمية مرارا عند تحذيره من صحبة الأحداث والمردان قوله: (وقد روى الشعبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره؛ وقال: إنما كانت خطيئة داود – عليه السلام – النظر) ([51])

ثم علق عليه بقوله: (هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مزوج بتسع نسوة؛ والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب؟)([52])

لقد رواه وكأنه حديث صحيح لا مجال لرفضه مع أن الحديث مكذوب موضوع..

وسأورد لك قول الألباني، وهو تلميذ من تلاميذ ابن تيمية، ومع ذلك رفض الحديث جملة وتفصيلا، وقد عقب عليه في سلسلته الضعيفة بقوله: (موضوع)([53]) ، ثم نقل عن ابن الصلاح قوله في (مشكل الوسيط): لا أصل لهذا الحديث، وقول الزركشي في (تخريج أحاديث الشرح): هذا حديث منكر.

ثم قال: (وللحديث طريق أخرى رواه أبو نعيم في (نسخة أحمد بن نبيط) وهي موضوعة كما سيأتي (برقم 562)، ولعل الحديث أصله من الإسرائيليات التي كان يرويها بعض أهل الكتاب، تلقاها عنه بعض المسلمين، فوهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقصة افتتان داود عليه السلام بنظره إلى امرأة الجندي أوريا مشهورة مبثوثة في كتب قصص الأنبياء وبعض كتب التفسير، ولا يشك مسلم عاقل في بطلانها لما فيها من نسبة ما لا يليق بمقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل محاولته تعريض زوجها للقتل، ليتزوجها من بعده! وقد رويت هذه القصة مختصرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجب ذكرها والتحذير منها وبيان بطلانها)([54])

أرأيت سيدي القاضي جرأة ابن تيمية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رواية الموضوع المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الذي يكذب فيه الأحاديث الصحيحة المتواترة لاختلافها مع مزاجه وهواه والدين الذي ارتضاه لنفسه ولأتباعه؟

المثال الثالث:

قال القاضي: وعيت هذا.. فحدثنا عن المثال الثالث.

قال الصنعاني: المثال الثالث يتعلق بما لأجله شوه ابن تيمية الأنبياء جميعا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو تفانيه في الحرص على إضفاء مزية للصحابة على غيرهم من الناس، وخصوصا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو لم يصحح كل ضعيف في حقهم لأجل سواد عيونهم، وإنما لأجل أن يضرب بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرين..

وسأورد لك نصا قاله في كتابه (الفتاوى الكبرى)، وأتحدى بمن يأتيني بمصداقه من كتب الحديث، لقد قال فيه: (وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر) روي ذلك عنه من نحو ثمانين وجها)([55])

أرأيت – سيدي القاضي – أبلغ من هذا الكذب الذي اقترفه لأجل أن يرد على المخالفين.. وهو لم يكتف بالكذب في رفع الحديث، وإنما أضاف إليه كونه متواترا مع أن الحديث لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأي سند!.. فهو حديث موضوع مكذوب على رسول الله، وأول من وضعه وآخرهم هو ابن تيمية فقط! لم يقل أحد من قبله ولا من بعده أنه حديث! وهو من اخترع نسبته، فأين النقل والصحة والتواتر والثمانين وجها؟! كل هذه أكاذيب كبار وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سطر واحد!

وإن رجعت – سيدي القاضي- إلى الغلاه فسيجيبونك بأيقونتهم المعروفة: السنة بين عيني ابن تيمية، ياخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، وأنه دقيق جدا في نسبة الأحاديث وتصحيها وطرقها.. سيخرجونك إلى جدليات التفضيل، وينسون الموضوع الأصلي، وهو أن هذا الحديث! الصحيح! المتواتر! المنقول من ثمانين وجها! لا وجود له([56]).

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فحدثنا عن المثال الرابع.

قال الصنعاني: المثال الرابع تتعلق بتصحيح ابن تيمية لكل ضعيف إذا تعلق بمثالب ترتبط بآل بيت النبوة.. وهي أكثر من أن أعدها أو أحصيها، ولذلك سأقتصر لك على مثال منها.

لقد قال في (منهاج السنة): (وقد أنزل الله تعالى في علي: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43] لما صلى فقرأ وخلط)([57])

أرأيت – سيدي – كيف يرمي بسيف حقده على علي بن أبي طالب، ويتهمه بشرب الخمر، وفي الصلاة، ويجزم بذلك، وكأنه لا مجال للشك فيه؟

قال القاضي: وما حجته في ذلك؟

قال الصنعاني: حجته في ذلك حقده وبغضه لعلي.. وإلا فإن الحديث الذي ورد في المسألة حديث مضطرب ضعيف لا يصح الاستدلال به بهذا الجزم..

فهناك رواية تقول: إنّ صاحب الدعوة هو عبد الرحمن بن عوف، وإنّ علياً كان هو الإمام.. ورواية تقول: إنّ صاحب الدعوة رجل من الأنصار.. ورواية تقول: إنّ إمام الجماعة كان عبد الرحمن بن عوف.. ورواية تقول: أنّهم قدّموا فلاناً (يعني للصلاة)

وأنت ترى – سيدي القاضي- أنّ ابن تيمية قد تعلّق، لغرض أو مرض في قلبه، بالرواية التي تزعم أنّ عليّاً كان هو إمام الجماعة، وأغمض عينيه عن سائر الروايات التي تذكر غيره، كما أنّه لم يُشر ـ للغرض نفسه ـ إلى اختلاف الروايات واضطرابها في الموضوع، وحكم حُكماً قاطعاً بأنّ الآية نزلت في عليّ!!

ثمّ إنّ هذه الروايات معارضة برواية صحيحة الإسناد، مرويّة عن أبي عبد الرحمن السلميّ، أيضاً، وقد رواها الحاكم النيسابوري بإسناده عن أبي عبد الرحمن عن عليّ، قال: (دعانا رجل من الأنصار، قبل تحريم الخمر، فحضرت صلاة المغرب، فتقدّم رجل فقرأ: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1]، فالتبس عليه، فنزلت ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43])([58])

ومن الملاحظ أنّ هذه الرواية لم تتحدّث عن مجلس للخمر حضره عليّ، وإنّما عن رجل (لم يُسمّ) كان قد تقدّم لإمامة الجماعة، فالتبست عليه الآية بسبب سُكره.

فأين هذا ممّا زُعم من تقدّم عليّ لإمامة الجماعة ونزول الآية فيه؟ ولكن ابن تيمية أبى أن يأخذ بهذه الرواية وأمثالها، وآثر الاقتداء بالمارقين الذين كانوا يذهبون إلى أنّ الآية المذكورة نزلت في علي.

وقد قال الحاكم، بعد أن أورد تلك الرواية: (وفي هذا الحديث فائدة كثيرة، وهي أنّ الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برّأه الله منها، فإنّه راوي هذا الحديث)([59])

2 ـ تشدد ابن تيمية مع الحسن والصحيح:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الثاني.

قام الكوثري، وقال: لم يكتف ابن تيمية بتصحيح الضعيف والموضوع لأجل خدمة تصوره للدين ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل راح يرفض كل حديث لا يتناسب مع مزاجه، أو يخشى أن يقضي على الدين الأموي الذي ارتضاه.

وبما أن العدو الأكبر للدين الأموي بكل تجسيماته وتشبيهاته وتناقضاته هو علي بن أبي طالب، فقد راح يكذب كل حديث ورد في شأنه أو يؤوله حتى لا تبقى في علي أي مزية تجعل الأمة تحتمي به من التحريفات الجاهلية التي دخلت الدين.

قال القاضي: لا بد أن تذكر لنا بينات واضحة على ذلك.. وإلا فلن نقبل دعواك.

قال الكوثري: لدي بينتان واضحتان على ذلك.. أولاهما في تكذيبه للأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق علي وآل بيته.. والثانية في تأويله ما لا يقدر على تكذيبه.

البينة الأولى:

قال القاضي: فهات البينة الأولى.

قال الكوثري: البينة الأولى هي في جرأة ابن تيمية على تكذيب أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يقبل ما هو أقل منها.

قال القاضي: هلا ضربت لنا أمثلة على ذلك.

قال الكوثري: الأمثلة أكثر من أن تعد.. ولكني سأكتفي لك بعشرة منها أخذتها جميعا من كتابه (منهاج السنة) لتكون دليلا لك على غيرها([60]).

المثال الأول:

قال القاضي: هات المثال الأول.

قال الكوثري: المثال الأول هو (حديث الموالاة)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، فقد قال ابن تيمية في كتابه (4/86) عنه: (وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طرق الثقات أصلا)، وقال في (7/319): (وأما الزيادة وهي قوله: ـ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه….الخ – فلا ريب أنها كذب)، وهو ما ذهب اليه في الفتاوي (4/417-418)

مع أن الشطر الأول من الحديث: متواتر، نص على تواتره عدد من الحفاظ، ورواه أكثر من خمسة وعشرين صحابيا.

وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه): فهي زيادة غاية في الصحة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، وصححها عدد من الأئمة الحفاظ من حديث أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وسعد بن أبي وقاص، واستوعب طرق حديث الموالاة الحافظ ابن عقدة في مصنف مستقل، والسيد أحمد بن الصديق الغماري في (الإعلام بطرق المتواتر من حديثه عليه السلام)

وذكر أحمد في (الفضائل)، والنسائي في (الخصائص)، وابن الجزري في (المناقب)، والهيثمي في (المجمع): جملة صالحة منه، والمعرَّف لا يعرَّف.

ومن الأدلة على كذب ابن تيمية في هذا أن ناصر الدين الألباني، ورغم كونه تلميذا لابن تيميه إلا أنه تكلم فيه واستنكر من ابن تيمية إنكاره له، وقد قال في ذلك: (من العجيب حقاً أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنة كما فعل بالحديث المتقدم هناك، مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير أن الموالاة هنا ضد المعاداة وهو حكم ثابت لكل مؤمن وعليّ رضي الله عنه من كبـارهم يتولاهم ويتولونه، ففيه رد على الخـوارج والنواصب)([61])

وقال مبينا سبب إطالته في بيان صحة الحديث: (فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ضعّف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها، والله المستعان)([62])

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الكوثري: المثال الثاني هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت وليّ في كل مؤمن بعدي)، فقد قال ابن تيمية في (4/104) من كتابه: (كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

مع أنه صحيح على شرط مسلم، فقد أخرجه الطيالسي (829)، وابن أبي شيبة (12/79). وأحمد في المسند (4/437)، وفي الفضائل (1035)،والترمذي (5/269)، والنسائي في الخصائص (88)، وابن حبان (6929)، والحاكم (3/110) جميعهم من حديث جعفر بن سليمان الضبعي، عن يزيد الرشك، عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن الحصين، وفيه: (فأقبل إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يُعرَفُ في وجهه فقال: (ما تريدون من علي؟ إن عليا مني، وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي)، وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

المثال الثالث:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الكوثري: المثال الثالث هو قول ابن عمر: (ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغضهم عليا ً)، فقد قال ابن تيمية في (3/228) من كتابه: (هذا الحديث لا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنه حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

مع أنه لا يستريب أهل المعرفة بالحديث أن متنــَــه غاية في الصحَّــة، فقد أخرج مسلم في صحيحه (78)، والترمذي (5/306) وقال حسن صحيح، وابن ماجه (114) والنسائي (8/117) وفي خصائص علي (100-102)، وعبد الله بن أحمد في زياداته على الفضائل (1102) وأبو نعيم في الحلية (4/185) وصحَّحه، وغيرهم من حديث علي قوله: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)، وقال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه.

وأخرج البزار (كشف الأستار 3/169)، وعبد الله في زيادات الفضائل (1086) من حديث عبيد الله بن موسى، أن محمد بن علي السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: (ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار إلا ببغضهم لعلي) وهذا إسناده حسن.

وأحسن منه ما أخرجه أحمد في الفضائل بإسناد على شرط البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: (إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم عليا)

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الكوثري: المثال الرابع هو حديث ردّ الشمس لعلي، وقد أسهبَ ابن تيمية في تكذيبه (4/185-195)

وقد رد عليه الحافظ ابن حجر في الفتح (6/222)، فقال: وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده في الموضوعات، وكذا ابن تيمية في الرد على الروافض في زعم وضعه، والله أعلم.

وصحَّحه عدد من الحفاظ من أجلهم الحافظان أحمد بن صالح والطحاوي المصريان، وأفرده بالتصنيف الحافظ الحسكاني، والحافظ محمد بن يوسف الصالحي في جزء وقفت عليه بمكتبة الحرم المكي اسمه: (مزيل اللبس عن حديث رد الشمس).

المثال الخامس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الخامس.

قال الكوثري: المثال الخامس هو ما ورد في الحديث أن رجلا قال لسلمان: ما أشد حبك لعلي، قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحبه فقد أحبني)، فقد قال ابن تيمية (3/9) عنه: كذب.

مع أنه صحيح، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك (3/130) عن أبي عثمان النهدي، قال: قال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحب عليا ً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله عز وجل، ومن أبغض عليا ً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسلــَّمه الذهبي.

وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير(23/380/901) عن أم سلمة، وقال الهيثمي في المجمع (9/132): (وإسناده حسن).

فهذا طريقان للحديث كلاهما حسن لذاته، فالحديث: صحيح بهما.

المثال السادس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السادس.

قال الكوثري: المثال السادس هو حديث الطير، ونصه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطائر فقال: (اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي)، وقد قال ابن تيمية (4/99) فيه: (حديث الطائر من المكذوبات الموضوعة عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل)

مع أن الحديث صحيح، فقد رواه من الصحابة: أنس بن مالك، وعلي، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي رافع، ويعلى بن مرة، وسفينة. وهو متواتر عن أنس.

وصرَّح ابن كثير في البداية والنهاية (4/416): أنّ الحافظ الذهبي ألف جزءا في طرق الحديث، فبلغ عدد من رواه عن أنس: بضعة وتسعين نفسا ً، وقال: أقرب هذه الطرق غرائب ضعيفة.

وهذا العدد يستحيل اجتماعهم على الكذب، فيجب عدم النظر في أحوالهم على ما هو مقرَّر في علوم الحديث.

وقد قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/1043): (له طرق كثيرة جدا قد أفردتــُها بمصنــَّف، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل)

وأكثر من هذا قول الذهبي في تاريخ الإسلام (2/179): حديث الطير وله طرق كثيرة عن أنس متكلم فيها، وبعضها على شرط السنن)، واعترض الحافظ صلاح الدين العلائي في (النقد الصحيح) (ص 75) على من حكم بوضعه.

وقد ذكر الحافظ العلائي طريقين له في (النقد الصحيح) (ص75-77) يكفيان للحكم على الحديث بالحسن بالنظر لهما فقط.

والخلاصة: أن الحكم على الحديث بالوضع مع وجود هذه الطرق تقصير في البحث وتغافل في النظر، وتشديد لا يلائم أصول الحديث الشريف وقواعد الصناعة.

المثال السابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السابع.

قال الكوثري: المثال السابع هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (سدوا الأبواب كلها إلا باب علي)، فقد حكم ابن تيمية عليه بالوضع (3/9) وبالكذب في الفتاوى (4/415)

مع أن الحديث صحيح، وهو عند الترمذي (تحفة/232) من طريق محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك لعلي، وقال الترمذي عقيبه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سمع مني محمد بن إسماعيل يعني البخاري هذا الحديث.

أما عطية العوفي فقد وثقه يحي بن معين، وابن سعد، وابن شاهين، وحسّن له الترمذي مرات عديدة، وسكت عن حديثه أبو داود.

وسالم بن أبي حفصة قال عنه الحافظ في التقريب (ص226): صدوق في الحديث.

المثال الثامن:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثامن.

قال الكوثري: المثال الثامن هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي حربي حربك، وسلمي سلمك)، وقد قال ابن تيمية (2/300) عنه: (هذا كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا روي بإسناد معروف)

وهذه جرأة عظيمة، فقد أخرجه إمامه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (1350) قال: ثنا تليد بن سليمان، ثنا أبو الجحاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال: (أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم)

وهذا الإسناد رجاله ثقات، ما خلا شيخ أحمد تليد بن سليمان وقد اختلف فيه ومن تكلم فيه فلتشيعه فإنه كان غال.

وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/149) من هذا الوجه قال: هذا حديث حسن من حديث أبي عبد الله أحمد بن حنبل، عن تليد بن سليمان فإني لم أجد له رواية غيرها.

وله شاهد حسن لذاته أخرجه الترمذي (5/699)، وابن ماجه(1/52)، والطبراني في الكبير (3/149)، والحاكم في المستدرك (3/149) من حديث أسباط، عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم به مرفوعا ً.

وللحديث طرق أخرى، وفيما ذكرتــُـه كفاية، وكان لابد أن يضعف ابن تيمية هذا الحديث لأن إثبات صحته أو حسنه فيه نسف لموضع كتابه تماما، والحديث يتحدث عن نفسه.

المثال التاسع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال التاسع.

قال الكوثري: المثال التاسع هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أوحى إلي أنه يحب أربعة من أصحابي، وأمرني بحبهم، فقيل له من هم يا رسول الله؟ قال: علي سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر)، وقد قال ابن تيمية (3/173) فيه: (ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به)

مع أن الحديث أخرجه إمامه أحمد بن حنبل في المسند (5/351)، والترمذي (3718)، وابن ماجه في مقدمة سننه (149) من حديث شريك، عن أبي ربيعة الأيادي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث شريك.

وله شاهد، ومتنه معروف، ويكفي تحسين الترمذي له في هذا البــاب.

المثال العاشر:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال العاشر.

قال الكوثري: المثال العاشر هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)، فقد قال ابن تيمية (/99) فيه: (إسناده ضعيف)

مع أنه حسن الإسناد، فقد أخرجه الترمذي (5/664)، وأحمد في فضائل الصحابة (1952)، والحاكم في المستدرك (3/150)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/45)، وفي شعب الإيمان (1/288) من حديث عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عباس عن أبيه، عن أبن عباس مرفوعا ً.

ورجاله ثقات ما خلا النوفلي وهو حسن الحديث، وحسَّنه لذاته الترمذي، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبي.

وتحسين الترمذي: معناه أن النوفلي صدوق على الأقل، فلا يلتفت لقول من قال لايعرف.

البينة الثانية:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات البينة الثانية.

قال الكوثري: لم يكتف ابن تيمية بتكذيب الأحاديث الصحيحة والحسنة بل المتواترة الواردة في حق علي كما رأينا في البينة السابقة، بل راح يسلك مسلكا آخر فيما لم يستطع تكذيبه من فضائله، حيث أخذ يلوي عنق النصوص ليصرفها عن إثبات فضائل أو خصائص لعلي.

قال القاضي: فهلا ضربت لي أمثلة على ذلك.

قال الكوثري: من أمثلة ذلك موقفه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)  حيث أشار ابن تيمية (4/78-88) إلى أنه لا يثبت أي مزيــَّــة لعلي، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل هذا إلا من باب تطييب خاطر علي، وأنه ليس فيه أي معنى زائد على ذلك.

وهكذا إذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (أنت مني وأنا منك)، رأى ابن تيمية في منهاجه (3/8) أنه ليس فيه مزيَّــة خاصة بعلي، وأن هذا يمكن أن يقوله لأي شخص آخر، لأن المراد منه الأخوة في الدين فقط، وهذه الأخوة يشاركه فيها غيره من المسلمين!

وإذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين المخرج في صحيح مسلم (2408) والترمذي (3788) وغيرهما. وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)، وفي روايات أخرى (إني تارك فيكن ثقلين) رأى ابن تيمية في منهاجه (4/85) أن الحديث الذي في صحيح مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قاله فليس فيه إلاّ الوصية باتباع الكتاب، وهو لم يأمر باتباع العترة ولكن قال: أذكركم الله في أهل بيتي.. مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ثقلين، ولم يذكر ثقلا واحدا.. ولو أن الثقل الثاني كان فيمن يقدسهم من الصحابة لطار بالحديث، وجعله أصلا من أصول الدين..

أهناك – سيدي القاضي – تلاعب بالسنة التي يدعي أنه يمثلها أكثر من هذا.. ألسنا مطالبين بألا نقدم بين يدي الله ورسوله، وألا ندخل أهواءنا وعقولنا فيها؟ ومع ذلك نرى ابن تيمية يرفض الحديث، ويحتج لرفضه بما يتوهمه من عقل ومنطق.

سأضرب لك سيدي مثالا لتلاعب ابن تيمية بالسنة إذا ما تناقضت مع الأهواء الأموية التي يتبناها..

إنه حول حديث المؤاخاة.. مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمّه علي بن أبي طالب.. فلو أن هذه المؤاخاة كانت لغيره لطار بها فرحا، واستنتج منها مئات الفوائد، ولكنها لما تعلقت بعلي راح ينكرها، ويستعمل كل ما آتاه الله من دهاء وحيلة لإنكارها.

وقد ذكر من وجوه إنكاره لها (أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض، كلها كذب. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤاخ عليا، ولا آخى بين أبي بكر وعمر، ولا بين مهاجري ومهاجري، لكن آخى بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، وبين سلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وبين علي، وسهل بن حنيف)([63]

وأطال الكلام في ذلك مما لا يتسع هذا المقام لإيراده جميعا.

انظر سيدي القاضي كيف رَدّ النصّ معتمداً على هواه، مع أن هناك أحاديث صحيحة كثيرة تثبت المؤاخاة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، أو بين المهاجرين والمهاجرين..

لن أشرح لك أنا ذلك، بل سأعتمد على عالم يعتمده تلاميذ ابن تيمية، بل يلقبونه الحافظ، وهو ابن حجر شارح البخاري، فقد قال: (وأنكر بن تيمية في كتاب الرد على بن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا ولتأليف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وآله وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر)([64])

ثم أورد النصوص الكثيرة التي تدل على وقوع الأخوة بين المهاجرين، مثل مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة وهما من المهاجرين، والمؤاخاة بين الزبير وبن مسعود وهما كذلك من المهاجرين([65]).

وقد روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين أصحابه، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فقال علي: يا رسول الله: إنك قد آخيتَ بين أصحابك، فمن أخي؟، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أخي في الدنيا والآخرة)([66])

وروى الترمذي عنه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله: آخيت بين أصحابك، ولم تواخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أخي في الدنيا والآخرة)([67])

هل رأيت سيدي جرأة مثل إنكار الكثير من الأحاديث في سبيل أن ينفي وقوع الأخوة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، خشية أن يستغلها الشيعة في بيان منزلة علي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وهل رأيت سيدي إنصاف ابن حجر مع كونه مقربا لدى تلاميذ ابن تيمية، فقد ذكر أن الوضع الطبيعي هو أن يؤاخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا.. ذلك أنه احتضنه منذ صباه الباكر، وبقي معه إلى آخر يوم من حياته.. حتى أنه بجدارة يعتبر أكثر الناس صحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثرهم قربا منه.

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت ([68]): أجل سيدي القاضي.. واسمح لي أن أصرح لك بالحقيقة التي عشت طول عمري أسمع عكسها، لكن الأيام لم تزدها لي إلا إثباتا.. لقد رأيت الأخبار المتواترة الكثيرة في كتب الحديث والتاريخ والسيرة، بالإضافة للشهادات الكثيرة التي تعتبر كالإجماع الذي لم يخرق، بأن علي بن أبي طالب تربى – حقيقة وليس دعوى – على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل بدء الوحي بسنين، واستمر بعد الإسلام، وهذا ما لم يتوفر لغيره، حتى زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاباً مراهقاً هدية له من خديجة بنت خويلد.

فهذه الخصيصة من التربية ولملاصقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من خصائصه الكبرى التي يحاول ابن تيمية وشيعته دفنها، مع أنها هي التي تحدد قيمة الشخص ومكانته.

لقد كان الإمام علي من يوم مولد، وهو تحت نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكفله أبو طالب، وبقي مع أبي طالب في بيته إلى أن تزوج خديجة.

وكان مولد الإمام علي قبل بدء الوحي بنحو ثلاثة عشر عاماً – – وليس سبع سنوات كما يشهره النواصب – وكان ضم النبي صلى الله عليه وآله وسلم له قبل سبع سنوات من بدء الوحي، ومن الطبيعي أن الست السنوات الأولى التي كان فيها الإمام في بيت أبيه أبي طالب كان تحت نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحبه واهتمامه فالعائلة واحدة أصلاً.

وكان موطن العائلتين في شعب بني هاشم، وهو الشعب الذي حوصر فيها بني هاشم فيما بعد.. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ورث بيت أبيه عبد الله (عند الصفا حالياً) وبيت أبي طالب في الخلف قليلاً جهة الشرق، والشعب صغير أصلاً، وعائلة أبي طالب عائلته، ولذلك عندما تتصور هذا التلاحم والحب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيت أبي طالب فسيكون كبيراً، لدرجة ذوبان العائلتين في عائلة واحدة.

وأما ما بعد الست سنوات الأولى من عمر الإمام علي، فقد تم انضمام الإمام علي بالكلية إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة بحوالي سبع سنوات، ومن هنا تأثر الإمام علي تأثراً كبيراً بخلق النبي الكريم العام، وتعبده الخاص، وخاصة في غار حراء، فقد كان يوصل له الطعام هناك ويلبث معه.

ومن هنا فالإمام علي هو الذي ينطبق عليه حقيقة (تربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه فعلاً تربيته من قبل الوحي وبعده، فقد كان له بمنزلة الابن وكان في النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاذبية كبيرة نتيجة للخلق الكريم، فلذلك رفض مولاه زيد بن حارثة العودة مع أبيه وعمه تأثراً بهذا السمو.

فإذا كان هذا الأثر قد حصل في زيد بن حارثة فكيف بهذا الشاب الذي كان تحت عين النبي ورعايته وتربيته منذ الصغر؟ لا شك سيكون في الذروة، وكان الإمام علي يتلو النبي ويتأثر به في كل شيء، منذ سبع سنوات على الأقل، قبل بدء الوحي، ولذلك كان يقول: (عبدت الله وصليت قبل الناس بسبع)([69]

فهذا القول للإمام علي – وهو صحيح رواه أحمد وغيره- يحمل على هذه الفترة قبل الوحي وأنه كان يتعبد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء، فقد كان تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم العشق له..

 وهكذا بعد البعثة الشريفة، فقد تحمل علي كل أنواع الأذى التي تحملها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ففي حصار الشعب الذي دام ثلاث سنوات لم يشارك الصحابة الآخرون في المعاناة من هذا الحصار.. وهذه المعاناة رغم أنها استمرت ثلاث سنوات إلا أن قريشاً وثقافتها قد عملت على إهمالها من الوجدان، وكأن الصحابة كلهم حوصروا في شعب بني هاشم!.. هذا الحصار وفضل البلاء فيه من الجوع والخوف كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم ولم يشترك من الصحابة معهم في هذا الحصار إلا أبو سلمة وزوجه أم سلمة… هذه الثلاث سنوات فقط كافية بزيادة صحبة الإمام علي على بقية الصحابة هي صحبة ملازمة في البأساء والضراء، ولن يكون النبي ساكتاً طول هذه المدة، وطول هذه المدة والقرآن ينزل وحكمة النبي تتدفق لساناً وحالاً، في الصبر وفهم أسرار الله في خلقه وابتلائهم، وعلي يتلقى هذه الثقافة والإيمان.

هذه وحدها كفيلة بتفضيله على من لم يكابد هذا الحصار الطويل ولو من حيث تلقي العلم علماً وعملاً لا سيما وأن القرآن يتكثف نزوله ساعات المحن.

لقد كان الإمام علي بشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، وهي شهادة عظيمة تخبر بحقيقة الرجل مهما حاول ابن تيمية وشيعته التخفيض منها..

التفت القاضي إلى قال الكوثري، وقال: ولكن كيف آل الأمر إلى ما آل إليه من تخفيض ابن تيمية من شأنه؟

قال الكوثري([70]): ابن تيمية لم يأخذ دينه من القرآن الكريم، ولا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وإنما أخذه من قريش وطلقاء قريش.. وقد استطاعت قريش أن تلتف على النبوة وأهل البيت، فافتخرت على العرب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي آذته وأخرجته من مكة وحاربته ثم حكمت الناس باسمه، كما التفّت قريش على أهل البيت، وعلى رأسهم الإمام علي، فزعمت أنهم عشيرة النبي الأقربون وأولى الناس به! فحاربت علياً ولعنته وقتلت أبناءه.

كما استطاعت قريش أن تلتف على تربية النبي للإمام علي، فزعمت أن كل الصحابة تربية محمد حتى من حارب النبي، ولعن علياً على المنبر! واستطاعت قريش بقيادة الأفجرين (مخزوم وأمية) أن يعملوا التفافات ثقافية على كل خصائص أهل البيت فيفرقوها في القبائل وينتجوا ثقافة مضادة.

هذه الثقافة القرشية الأموية المضادة لا تجد فضيلة لأهل البيت إلا أشركت الجميع فيها، ولا خطيئة لغيرهم إلا أدخلوا أهل البيت فيها. ولذلك لا تكاد قريش – وممثلهم ابن تيمية – يجدون فضيلة للإمام علي إلا وقد أوجدوا حولها تشويشاً كثيراً من أحاديث معارضة أو تفريغ الفضيلة من الداخل.

ولذلك تجد أعلام هذه الثقافة – كابن تيمية – لا يقر للإمام علي بأي فضيلة ينفرد بها، فلابد أن يُشارك فيها، وكل ذم لآخرين لابد أن يدخل فيه.

وهذه ثقافة العصبية التي توعد الشيطان أن يغوي بها الناس فالعصبية من فروع الكبر، والكبر الإبليسي يعترض على الله ولا يرضى بأوامره حسداً وبغيا، بل وصل الأمر بهؤلاء أن قال بعض المعاصرين من تلاميذ ابن تيمية، كسليمان الخراشي (ما من ذنب ارتكبه معاوية إلا وهو في علي) وأقره الشيخ صالح الفوزان إلى هذا الحد!

والغريب أن الغلاة من القبائل المختلفة يتبعون (ثقافة قريش) التي أنكرت النبوة نفسها حسداً، وأنكرت خصائص الإمام علي وأهل البيت حسداً أيضاً.

والأغرب أن الإمام علي ليس له أية إساءة لهذه القبائل، لا في قتال مانعي زكاة ولا غيرها، وإنما حربه لقريش في بدر وأحد والخندق وصفين!

فأخذت بعض الغلاة من المنتسبين إلى هذه القبائل، أخذوا ثقافة قريش التي تحدرت إلى بني أمية ثم إلى ابن تيمية وحسدوا الإمام علي أن ينفرد بشيء، بل لم يرتضوا أن ينجوا من أي جريمة فعلها معاوية فزعموا – تبعاً لابن تيمية – تلك الفرية التي سطرها الخراشي وقدم لها الفوزان… هذا نصب بلاشك.

بل إن هذا التضييق على فضل محمد وآل محمد بدت بوادره من أيام النبوة نفسها، حت اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع عن أهل بيته وهو حي، فقد ورد في الحديث الذي صححه الألباني: (ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي)([71])

فقوله: (ما تريدون من علي) دليل على كثرة إزعاجهم له بمحاولاتهم تنقص علي وذمه وحرصهم على استخراج أي نقد من النبي له، وهذه عصبية قرشية.. وكأن القصة تكررت وتأذى الإمام علي من ذلك، فطمأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (أنت مني وأنا منك) كما في صحيح البخاري.. ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحب علياً إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)([72]) ، والسبب واضح، وهو أن عليا (بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة) كما تواتر في الصحيحين وغيرهما، فمن زعم أنه يحب موسى عليه السلام لكنه يتقص هارون فقد كذب ونافق.

ثالثا ـ دعوة ابن تيمية إلى قطع صلة الأمة عن نبيها

بعد أن ساق العلماء ما ساقوا من البينات والشواهد على تلاعب ابن تيمية بالسنة إرضاء للثقافة القرشية التي ورثها من الطلقاء الذين يعتبرهم سلفه الصالح، والذين من أجلهم حقر الأنبياء ووهن من شأنهم، ورمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعظائم، تقدم الإسكندري، وقال: بعد أن تبين لكم – سيدي القاضي – من خلال الدليل الثاني تلاعب ابن تيمية بالسنة المطهرة، واستعمالها فيما ما يتناسب مع مزاجه، قبولا ورفضا.. سنبين لك في هذا الدليل كيف استعمل ابن تيمية كل الوسائل ليقطع الأمة عن نبيها، فلا تبقى من صلة بينه وبينها إلا تلك الأحاديث التي تحكم فيها وتلاعب بها.

قال القاضي: هلا وضحت أكثر..

قال الإسكندري: اعلم – سيدي القاضي – أن العلاقة المفترضة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته لا تقتصر فقط على الطاعة والاتباع، فكلاهما حسنان، ولكن هناك علاقة أخرى وردت بها النصوص المقدسة، لكن التيار الأموي وزعيمه ابن تيمية حاولا بكل جهدهما أن يهونا هذا النوع من العلاقة، بل يبدعا الكثير من مظاهرها، وينشرا بين الناس أن العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقتصر فقط على الاتباع المجرد.

قال القاضي: وما هذا النوع من العلاقة؟

قال الإسكندري: هو يشمل أمورا كثيرة مبناها على حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتواصل معه والحنين إليه، والشعور وكأننا نصاحبه، وأنه حي بيننا يمكننا أن نلجأ إليه كلما احتجنا، ونستشفع به إلى ربنا كما كان من معه في حياته يفعلون.

قال القاضي: وهل لكم أدلة على كل ذلك؟

قال الإسكندري: أجل سيدي القاضي.. وقد حاول ابن تيمية وفريقه من الأمويين أن يفندوا كل دليل نستدل به على هذا النوع من العلاقة، حتى ولو اضطروا لتكذيب النصوص وتأويلها.. وقد أنشأ ذلك في واقعنا، وفي البيئة التي يتحكم فيها هذا النوع من الفكر جفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرودا في العلاقة معه.

قال القاضي: أنت تعلم أننا في مجلس قضاء.. وليس للقاضي أن يتكلم بهواه.. بل يحتاج إلى شواهد وبينات، وإلا فلا يحق له أن يحكم بشيء.

قال الإسكندري: الشواهد والبينات أكثر من أن تعد أو تحصى.. ولكني سأقتصر لك على أربعة منها.

قال القاضي: فما هي.. وما وجه الاستدلال بها.

قال الإسكندري: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية ومدرسته المتشدد من كل مظاهر الارتباط الشعوري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن عليه والمحبة له والحنين إليه، ونحو ذلك.

قال القاضي: هذا الشاهد الأول.. فما الثاني؟

قال الإسكندري: الشاهد الثاني هو موقف ابن تيمة من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي تعبير عن مدى الشوق الذي يشعر به المشتاق نحو حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلقه بكل أثر من آثاره.. وقد اعتبر ابن تيمية كل ذلك بدعة.

قال القاضي: هذا الشاهد الثاني.. فما الثالث؟

قال الإسكندري: الشاهد الثالث هو موقف ابن تيمة من استشفاع الأمة برسولها صلى الله عليه وآله وسلم، ولجوئها إليه كلما احتاجت اعتقادا منها بحياته وبقاء علاقتها معه مثلما كانت في حياته مع أصحابه سواء بسواء.

قال القاضي: هذا الشاهد الثالث.. فما الرابع؟

قال الإسكندري: الشاهد الرابع هو موقف ابن تيمة من إحياء الأمة للمناسبات المختلفة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى حياته ممتدة في حياته.. فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه.

قال القاضي: وعيت هذا.. ووعيت علاقتة بالدليل الذي ذكرتم.. ولكني أحتاج أن تبرهنوا لي على كل ذلك من خلال كتبه أو كتب المدرسة التي أسسها.

قال الإسكندري: لك ذلك سيدي.. ونعوذ بالله أن نقوله ما لم يقل، أو ندعي عليه بما لم يفعل.

1 ـ موقف ابن تيمية من مظاهر الارتباط الشعوري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال القاضي: فهات الشاهد الأول.

قال الإسكندري: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية ومدرسته من جميع المشاعر والعواطف التي تتوجه بها القلوب نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المحبة له والحنين إليه والحزن على فقده، ونحو ذلك، وذلك لأنه يقصر دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على التبليغ، ويقصر دور الأمة على الاتباع.. ولذلك تراه يبدع كل الصوفية أو الشيعة الذي يدعون إلى إقامة هذا النوع من العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويرون أن العلاقة به لا ينبغي أن تحد في الاتباع المجرد عن العاطفة.

قال القاضي: قبل أن تذكر لي موقف ابن تيمية من هذا، أخبرني عن حججكم في هذا الارتباط العاطفي، فقد يكون ابن تيمية صادقا فيما ذهب إليه.

قال الإسكندري: اعلم – سيدي القاضي – أن النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة تطفح بالأدلة على أن العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقتصر على الاتباع المجرد.. بل تدل على أن العلاقة تبدأ بالحب والشوق والعاطفة الجياشة.. وبعدها يكون الاتباع نتيجة لذلك.. بل هي تدل على أن كمال الدين لا يتحقق إلا بتلك العواطف الجياشة.

قال القاضي: هلا ضربت لي أمثلة تدل على ذلك.

قال الإسكندري: الأمثلة كثيرة سأكتفي لك بأربعة منها.

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الإسكندري: لقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على العلاقة العاطفية العميقة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمنتجبين من أصحابه، ومن ذلك ما رواه المحدثون أن رجلا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحبُّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك وعرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]([73])

وعن أنس قال:(بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما أعددت لها؟) قال:(ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله)، قال:(فأنت مع من أحببت)([74]

وروي  أن امرأة من الأنصار، قُتِل أبوها وأخوها وزوجها يوم أُحُدٍ، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيرًا، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرُوِنيهِ حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. أي: هينة([75]).

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الإسكندري: لقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على أن هذه العلاقة غير مرتبطة بحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل إن هذه الأشواق تشمل المؤمنين في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، وقد روي من ذلك الروايات الكثيرة عن المنتجبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي في ترجمةِ بلال أنه لما احتُضر نادَت امرأتُه: وا ويلاه، وا حزناه، فنادى هو قائلاً: (وا فَرحاه، واطرباه، غدًا نلقى الأحبّة، محمّدًا وحِزبه)([76])

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الإسكندري: لقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على أن هذه العلاقة ليست خاصة بمن عاش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي تشمل جميع المؤمنين به، بل هي تدل على مدى صدقهم في اتباعه، وأن الاتباع الصحيح لا يكون إلا عن هذه العلاقة.

فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله)([77])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية – يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)([78])

وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله)([79])

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الإسكندري: لقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يدل على أن هذه العلاقة علاقة متبادلة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.. فهو يحبها، ويشتاق إليها، ويبادلها مشاعرها في جميع الأزمنة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وددت أني لقيت إخواني)، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([80])

وفي رواية لأحمد، وأبي يعلى: (ومتى ألقى إخواني؟)، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ قال: (بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)

قال القاضي: وعيت هذا.. فما فعل ابن تيمية بهذه الناحية؟

قال الإسكندري: لقد حاول ابن تيمية بكل أنواع الحيلة أن يزيح هذا النوع من العلاقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يجرؤ على التصريح به، ولهذا فإن كل ما سنذكره في هذا الدليل شاهد على هذا، فمنع ابن تيمية للتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من زيارته، ومنعه من الاستغاثة به واللجوء إليه، ومنعه من الفرح لفرحه أو الحزن لحزنه كل ذلك دليل على  موقفه هذا، لأن كل تلك السلوكات هي مظاهر لمشاعر الود الذي أبدته الأمة نحو نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: هلا ذكرت لي مثالا يخص هذا الذين نحن فيه.

قال الإسكندري: من أقرب الأمثلة على هذا موقفه من الحزن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، فقد جره بغضه للشيعة وحقده عليهم أن يعتبر هذا الحزن قصورا وضعفا، وأن الكمال في عدم الحزن، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب)([81])

وفي حديث آخر: (يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)([82])

قال القاضي: هلا ذكرت لي ما قال ابن تيمية بالضبط؟

قال الإسكندري: لقد قال في كتابه المملوء بالعدواة والنصب، والذي سماه منهاج السنة النبوية، وكان الأحرى به أن يسميه منهاج السنة الأموية: (ثم إن هؤلاء الشيعة – وغيرهم – يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود، وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه)([83])

أرأيت سيدي القاضي أشد من هذه البرودة تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهل يمكن لمؤمن في الدنيا أن يتخيل أن الحزن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا فائدة فيه؟

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي القاضي.. بل إني من خلال تجربتي مع ابن تيمية ومدرسته رأيته يكاد يقصر العلاقة العاطفية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحابة فقط، أما سائر الأمة، فعلاقتها ليست علاقة مباشرة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما تحتاج إلى المرور عبر المعابر الكثيرة من التابعين والصحابة وهكذا.. وبالتالي فإنه يصرح في كل كتبه هو ومدرسته بأن أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم الصحابة بالترتيب الذي اخترعه هو وسلفه، أما من بعدهم فلا حظ لهم إلا أن يكونوا في آخر القافلة.

حتى أنه يفضل المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والطاعنين في آل بيته، والمغيرين لسنته على الصالحين من هذه الأمة، يقول في منهاج السنة: (ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز)([84]

ولست أدري أي غبار هذا الذي فضل به معاوية على عمر بن عبد العزيز الذي حاول بكل جهده أن يرد بعض البدع التي طمس بها معاوية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وقد تناسى ابن تيمية بذلك الأحاديث الكثيرة التي تتناسب مع العدالة الإلهية مع الخلق جميعا، والتي تجعل التفضيل مرتبطا بالعمل، لا بمجرد رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: هل حقا وردت أحاديث تدل على هذا؟

قلت: أجل.. ولكن ابن تيمية يريد رسولا على هواه.. فلذلك لم يلتفت لهذه الأحاديث، ولم يهتم بها، ولم يبن عليها رؤيته حول الأمة وعلاقتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: فهلا أوردت لي بعضها.

قلت: أجل سيدي القاضي، منها ما حدث به عمر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فقال: (أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا؟) قالوا: يا رسول الله، الملائكة، قال: (هم كذلك، يحق لهم ذلك، وما يمنعهم من ذلك وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها، بل غيرهم؟)، قالوا: يا رسول الله، الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة. قال: (هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم من ذلك وقد أنزلهم الله بالمنزلة التي أنزلهم بها)، قالوا: يا رسول الله، الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: (هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة، بل غيرهم)، قالوا: فمن يا رسول الله؟! قال: (أقوام في أصلاب الرجال، يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا)([85]

وفي رواية: (أخبروني بأعظم الخلق عند الله منزلة يوم القيامة)، قالوا: الملائكة، قال: (وما يمنعهم مع قربهم من ربهم، بل غيرهم؟). قالوا: الأنبياء، قال: (وما يمنعهم والوحي ينزل عليهم، بل غيرهم). قالوا: فأخبرنا يا رسول الله! قال: (قوم يأتون بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيؤمنون به، أولئك أعظم الخلق عند الله منزلة – أو أعظم الخلق إيمانا – عند الله يوم القيامة)).

وفي رواية عن أبي جمعة قال: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: (نعم. قوم يكونون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني)([86])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات)([87])

وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: (طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني)، قال له رجل: وما طوبى؟ قال: (شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)([88])

وفي رواية: (طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني. سبع مرات)([89])

بل ورد في الحديث ما يشير إلى تحقق المعية لجميع الصادقين مع الأمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم اقتصاردها على من عاصره، ففي الحديث أن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيت من آمن بك ولم يرك وصدقك ولم يرك؟ قال: (طوبى لهم، ثم طوبى لهم، أولئك منا، أولئك معنا)([90])

إن هذا الحديث يفسر سيدي القاضي تلك الآية الكريمة التي يستعملها ابن تيمية وأتباعه ليحارب من خالفهم من المسلمين، وهي قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: 29]، فكل من اتصف بهذه الصفات فهو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان من الذين عاصروه أو من غيرهم.

قال القاضي: ولكن كيف غابت كل هذه المفاهيم عن الأمة؟

قلت: عندما دخلت المتاجرة باسم الصحابة في تصديع الأمة وإثارة الفتن فيها أبدعوا في الدين هذا الأصل الجديد ليفرقوا بين الناس على أساس مواقفهم من أعيان الصحابة، لا من مواقفهم من أصول الدين وفروعه.

لكن الصحابة المنتجبين كانوا واعين بهذا، ولهذا كانوا يبشرون التابعين بمثل هذه الأحاديث، ففي الحديث عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت المقدس ليصلي فيه، ومعنا رجاء بن حيوة يومئذ، فلما انصرف خرجنا معه لنشيعه، فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم علي جائزة، وحقا أن أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: هات – رحمك الله – فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، قلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بك واتبعناك. قال: (ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم؟! يأتيكم الوحي من السماء. بلى قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا)([91]).

وفي حديث آخر عن عمار بن ياسر أنه قال يخاطب بعض التابعين: (والله لأنتم أشد حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن رآه، أو من عامة من رآه)([92])

قارن سيدي هذه الأحاديث الكثيرة مع ما يوافقها من القرآن الكريم والعقل والمنطق بما يقوله ابن تيمية وأهل مدرسته.

إن القرآن الكريم يخبرنا أن أساس التفاضل هو العمل والتقوى والمشاعر القلبية، والتي يمكن أن تحصل من أي إنسان في أي عصر وفي أي بيئة.. لكن ابن تيمية وأتباعه يأبون إلا أن يحاربوا عدالة الله، فيجعلون التفاضل مرتبطا بمجرد الرؤية، حتى لو فعل ما فعل الرائي من الكبائر والآثام والتشويه للدين، وحتى لو خلا قلبه من أي مشاعر تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

انظر حماستهم في الدفاع عن الطلقاء الذين شوهوا الدين في نفس الوقت حربهم الشديدة لمن ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أشد أمتي لي حبا قوم يكونون – أو يخرجون – بعدي، يود أحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه يراني)([93]) ، وقال: (إن قوما يأتون من بعدي يود أحدهم أن يفتدي برؤيتي أهله وماله)([94])

قال القاضي: ولكني سمعتهم يذكرون حديثا في هذا يبنون عليه مقولتهم تلك، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)([95])

قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومورد هذا الحديث يدل على المراد منه، وهو مراد عام يشمل الأمة جميعا ويفسره قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: 10]، ويفسره قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟! قال بل أجر خمسين منكم)([96])

قال القاضي: ما تعني؟

قلت: إن سنة الله تعالى في الابتلاء تقتضي أن يضاعف الأجر بقدر مضاعفة البلاء.. ولذلك كان لكل من عاش فترة البلاء من الأجر بقدره نصبه فيها.. وقد ورد في مورد الحديث ما يدل على هذا، فقد حصل خلاف بين عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين من الصحابة، وخالد بن الوليد وهو ممن تأخر إسلامه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)، أي أن إنفاق خالد ومن أسلم معه في وقت الرخاء، لا يعادل إنفاق من أسلم وقت البلاء.. وهو يشمل كل العصور.. وبذلك تستقيم الأحاديث جميعا مع الرؤية القرآنية والعدالة الإلهية التي لا تفرق بين زمن وزمن، ولا شعب وشعب، ولا بلد وبلد.

التفت القاضي إلى الإسكندري، وقال: ما تقول؟

قال الإسكندري: لقد ذكرتني بموقف لابن تيمية رد به قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)([97]) مستعملا مزاجه كالعادة فيما يخالف هواه، فقد قال في كتابه (التوسل والوسيلة): (هذا كذب ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمناً به كان من أصحابه، ولا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أخرجاه في الصحيحين، والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج، والجهاد، والصلوات الخمس، والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين؟)([98]

2 ـ موقف ابن تيمية من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الثاني.

قام الهندي، وقال: لم يكتف ابن تيمية بقطع تلك العلاقة العاطفية الجميلة للأمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، بل راح يمنع بكل ما أوتي من وسائل من أمر فطري تعارفت عليه البشرية، ودلت عليه النصوص الكثيرة.

قال القاضي: وما هو؟

قال الهندي: زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد حاول ابن تيمية بكل ما أوتي من أسلحة التبديع والتضليل أن يحول من زيارته التي تحن لها القلوب، إلى معصية من المعاصي، بل بدعة من البدع، مع أن ذلك مما تعارفت عليه الأمة الإسلامية سلفها وخلفها، بل ما تعارفت عليه الأمم من قبلها حتى لا تنقطع صلتها بمن ترجع إليهم في شؤون دينها ودنياها، وحتى لا تزول آثارهم التي تدل عليهم.

بالإضافة إلى ما في ذلك من المعاني التربوية العظيمة، والصلة الوجدانية العميقة، وهي مما يجدها كل من تشرف بزيارة تلك المقامات الشريفة.

قال القاضي: كلامك صحيح.. والواقع يدل عليه.. فهل أنكر ابن تيمية هذا؟

قال الهندي: أجل سيدي القاضي.. فمن المعروف لكل من درس تراث السابقين أن ابن تيمية انفرد في القرن السابع الهجري بمنع إنشاء السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وردت عنه في هذا الفتاوى الكثيرة، وقد أحدث ذلك لغرابته ردة فعل شديدة في المجتمع الإسلامي الذي كان يقدس زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعتبر الجدل فيها سوء أدب معه صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد قال الحافظ ابن حجر يشير إلى الفتنة التي حصلت بسبب فتاوى ابن تيمية في ذلك: (والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شدِّ الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية)([99])

وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في بعض أجوبته المسماة (الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية) عند الكلام على المسائل التي انفرد ابن تيمية بها: (وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة، وقد رد عليه فيهما معاً الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن)([100])

وقال في (طرح التثريب): (وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السِّقام فشفى صدور قوم مؤمنين)([101])

وذكر الحافظ العلائي المسائل التي انفرد بها ابن تيمية، ومنها هذه المسألة، فقال: (ومنها أنَّ إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم معصية لا تقصر فيها الصلاة، وبالغ في ذلك ولم يقل به أحد من المسلمين قبله)

قال القاضي: أنت تعلم أننا في مجلس قضاء، وأنه لا يكفي فيه شهادات المخالفين والخصوم.. بل نحتاج إلى أدلة أكثر قوة وثبوتا ودلالة.

قال الهندي: أجل سيدي القاضي.. أردت فقط أن أذكر لك استبشاع العلماء لتلك الفتاوى التي أصدرها، وكيف صدمت الأمة بها، لأنها لم تكن تتصور أن هناك من يتجرأ على مثل ذلك.

قال القاضي: لكن مع ذلك لا مناص لنا من أن نستمع لابن تيمية نفسه.. هكذا تقتضي العدالة.

قال الهندي: لقد ذكر ابن تيمية هذه المسألة في مواضع كثيرة من كتبه، ومنها فتواه لمن سأله عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني)، وهل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الاستحباب أو لا؟

فأجاب: (أمّا قوله: (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي) فهذا الحديث رواه الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد، وأمّا الحديث الآخر قوله: (مَن حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه مخالف للإجماع، فإنّ جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر.. وأمّا زيارته فليست واجبة باتّفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنّة، وإنّما الأمر الموجود في الكتاب والسنّة بالصلاة عليه والتسليم. وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يسلّم عليّ، إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام)([102])

بل إن الأمر وصل به إلى هذا الجفاء الذي عبر عنه بقوله: (أن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين. فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا.. وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولى من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك أو لم يقصده والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع)([103])

وقال: (لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة ، بل يكره لهم ذلك عند غير السفر!! كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين)([104])

وقال في (الرد على الأخنائي): (ولهذا كان الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين إذا دخلوا المسجد.. لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره.. ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء وإن كان الزائر ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها)([105])

وقال في نفس الكتاب: (ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم… ولكن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر ، وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس كذلك فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن) ([106])

أرأيت سيدي القاضي أكثر من هذا الجفاء؟

بل إنه لم يكتف بهذا، بل راح يحرم السفر لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبره بدعة، ويحرم قصر الصلاة لمن فعل هذا، وكأن الذي يريد أن يزور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يفعل معصية.

لقد أفتى الفتاوى الكثيرة في ذلك، منها قوله: (وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ولا مأمور به، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)([107])  

ومنها قوله في (مجموع الفتاوى): (السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة)([108])

ومنها قوله في تبديع أشواق المسلمين لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الهم بالحج: (حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه الله عليه وهو حج بيت الله الحرام، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين الله بل يقصد المدينة. ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة في مسجده.. بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر الله به ورسوله ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين. وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج وربما سوى بين القصدين وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور – قبر نبي أو غيره – منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية.. وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف بل موضوع)([109])

قال القاضي: يكفي ما ذكرت من النصوص.. لكني أرى ابن تيمية يستدل بضعف الأحاديث الواردة في هذا أو كذبها، ويستدل بمواقف جمهور العلماء.. فكيف تردون عليه في هذا؟

قال الهندي: من خلال تتبعنا لكلام ابن تيمية في المسألة وجدناه يحرم أربعة أمور، هي: زيارة القبر الشريف، والدعاء عنده، والتمسح به، وشد الرحال إليه، وهو يعتبر ذلك بدعة ومخالفة لجمهور العلماء، ويكذب كل ما ورد فيها من النصوص، ونحن هنا سنجيبك عن ذلك، مستعينين بما قال المحدثون الكبار الذين تعتمدهم الأمة، وسترى من خلال ذلك سيدي القاضي ما أشرنا إليه سابقا من مزاجية ابن تيمية في التعامل مع الحديث، فهو يقبل منه ما يوافق هواه، ويرفض ما يخالفه.

الزيارة:

قال القاضي: فحدثنا عن نفس الزيارة، وهل هناك ما يثبتها، فقد ذكرت من كلام ابن تيمية ما يدل على أن الأحاديث الواردة في ذلك تتراوح بين الضعف والوضع.

قال الهندي: لو لم يكن في أحاديث الزيارة إلا ما اتفقت الأمة – بما فيهم ابن تيمية – على قبوله لكفى، فقد ورد في الحديث بصيغ مختلفة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها)([110])

فهذا الحديث يرغب ترغيبا عاما في زيارة القبور من غير تحديد لقبر منها، ومن المستغرب أن نقيد ما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نخصص ما عممه، كما فعل ابن تيمية حين اشترط نصا خاصا بزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: أتعني أنه ليس هناك نص خاص بالزيارة، أو أن ما قاله ابن تيمية فيها صحيح؟

قال الهندي: لقد ذكرنا لك – سيدي القاضي – مدى تلاعب ابن تيمية بالأحاديث النبوية، ولا يستغرب منه هنا موقفه من الأحاديث التي وردت في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم لأنها لا تتناسب مع مزاجه الأموي([111]).. وقد ذكرنا لك سابقا أن العبرة عنده بما يضعه من المعاني، لا باستسلامه لما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا فهو ينكر كل حديث لا يتقبله هواه.

قال القاضي: هل من دليل من كلام ابن تيمية على ما تقول؟

قال الهندي: أجل.. فالأمثلة عن ذلك أكثر من أن تحصر، سأقتصر لك منها على ما قاله في (الفتاوى الكبرى)، فقد جاء فيها: (وأما قوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، فهذا الحديث رواه الدارقطني فيما قيل بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح، والسنن، والمسانيد. وأما الحديث الآخر: قوله: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله ومعناه مخالف الإجماع فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق)([112])

هذان مثالان فقط  – سيدي القاضي – على تسرع ابن تيمية في تكذيبه للحديث، مع أن كلام المحدثين في هذا يختلف عنه تماما.

قال القاضي: أحتاج إلى إثبات لما تقول.

قال الهندي: لا يكفي هذا المقام لبسط التفاصيل الكثيرة المرتبطة بالمحدثين والرواة، ولكني سأحكي لك كلام علم من أعلام المحدثين المتأخرين، راح ينتقد رجلا من مدرسة ابن تيمية ألف كتابا يدافع به عن موقف ابن تيمية من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وستعرف من خلاله أنواع المغالطات التي مارسها ابن تيمية، وعلمها لتلاميذه.. فهم يقبلون من الحديث ما شاءوا، وشاءت لهم أهواؤهم، ويرفضون ما شاءوا، وشاءت لهم أهواؤهم.

لقد قال العلامة المحدث محمود سعيد ممدوح في كتابه (رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة): (شاع  بين كثير من الناس أن أحاديث الزيارة كلها ضعيفة، بل موضوعة وهو خطأ بلا ريب، ومصادمة لقواعد الحديث بلا مين، ويكفى اللبيب قول الذهبى الحافظ الناقد عن حديث الزيارة: طرقه كلها لينة لكن يتقوى بعضها ببعض لأن ما فى روايتها متهم بالكذب، نقله عنه السخاوى، وأقره فى المقاصد الحسنة، ومنشأ هذا الخطأ هو الاعتماد على كتاب (الصارم المنكى فى الرد على السبكى) للحافظ أبى عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى.. وكنت أرى الإحالة على هذا الكتاب من كثير من الكتاب سواء من المشتغلين بالحديث أو غيرهم فأكتفى بالسكوت رغبة فى اغتنام فرصةٍ لتحقيق مدى صحة هذه المقولة..  وبعد النظر فى (الصارم المنكي) وتحقيق أحاديث الزيارة، رأيت الهول في هذا الكتاب، فتراه يتعنت أشد التعنت فى رد الأحاديث عند كلامه على الرجال، ويطول الكلام جداً على الرجال ناقلاً ما يراه يؤيد رأيه وهو الجرح، ولا يذكرمن التعديل إلا ما يوافقه كما فعل مع عبد الله بن عمر العمري، وتطويله للكلام يخرجه عن المقصود إلى اللغو والحشو مع التكرار الممل.. وهو يذكر أبحاثاً خارجة عن المقصود كالبحث المتعلق بالمرسل وطرق الحديث الذى فيه حفص بن سليمان القاري.. ويطيل الكتاب جداً بذكر فتوى فى الزيارة لابن تيمية عقب كل حديث فى الزيارة، وحاصلها مكرر ومعروف.. وأحياناً يأتى بتعليلات للأحاديث خارجة عن قواعد الحديث، كقوله عند محاولة تضعيف بعض الأحاديث: لم يخرّجه أحد من أصحاب الكتب الستة ولا رواه الإمام أحمد فى مسنده … إلخ، وغير خفي أنّ هذا التعليل فيه نظر فالعبرة بالإسناد ولو كان الحديث فى جزء غير مشهور)([113])

قال القاضي: هلا أوردت لي بعض الأحاديث، وكلام العلماء فيها حتى أتأكد من مدى صدقكم.

قال الهندي: سأذكر لك سيدي خمسة أحاديث.. يقوي بعضها بعضا تدل على فضل الزيارة، وأنها من المناسك التي جاءت بها الشريعة، وأنها تتوافق مع ما يستدعيه جناب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التعظيم.. خلافا لما يقوله ابن تيمية في ذلك.

قال القاضي: فهات الحديث الأول.

قال الهندي: الحديث الأول وهو أول ما رده ابن تيمية من أحاديث الزيارة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، فقد روى هذا الحديث الدارقطني في سننه، والحكيم والترمذي في النوادر، وغيرهما، وأقل ما يقال في هذا الحديث أنه حسن، وقد قال الحافظ السيوطي في المناهل (208): (له طرق وشواهد حسَّنه لأجلها الذهبي، وقال المناوي في (فيض القدير) (6/140): (قال الذهبي: طرقه لينة، لكن يقوي بعضه بعضاً)، وقال الملا علي القاري في (شرحه على الشفا 3/842): (حديث ابن عمر له طرق وشواهد حسنه الذهبي لأجلها، وصححه جماعة من أئمة الحديث)

وأمّا سند الحديث فقد تكلّم فيه تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي في (شفاء السقام) ردا على ابن تيمية، فقال: (إنّ الأحاديث التي جمعناها في الزيارة بضعة عشر حديثاً ممّا فيه لفظ الزيارة غير ما يستدلّ به لها من أحاديث أُخر، وتضافر الأحاديث يزيدها قوة، حتى أنّ الحسن قد يرتقي بذلك إلى درجة الصحيح.. وبهذا بل بأقلّ منه، يتبيّن افتراء مَن ادّعى أنّ جميع الأحاديث الواردة في الزيارة، موضوعة، فسبحان الله!! أما استحيا من الله ومن رسوله في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل؟ لا من أهل الحديث، ولا من غيرهم؟ ولا ذكر أحدٌ موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديثه هذا بالوضع، ولا اتّهمه به فيما علمنا! فكيف يستجيز مسلم أن يطلق على كلّ الأحاديث التي هو واحد منها: (أنّها موضوعة)، ولم يُنقل ذلك عن عالم قبله، ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدّثين للحكم بالوضع، ولا حُكم متنه ممّا يخالف الشريعة، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً؟ فكيف وهو حسن أو صحيح؟)([114])

أرأيت – سيدي القاضي – جرأة ابن تيمية على الحديث.. لو أن هذا الحديث كان في التجسيم أو في تشويه الأنبياء لسارع لتصحيحه وقبوله، بل جعله أصلا من أصول الدين، لكنه لما خالف مزاجه سارع إلى تكذيبه.

قال القاضي: وعيت هذا، فهات الحديث الثاني.

قال الهندي: الحديث الثاني هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له شهيداً يوم القيامة)

وقد قال العلامة المحدث محمود سعيد ممدوح بعد أن تكلم على رواته: (فالحاصل مما تقدم أن هذا الإسناد فيه راوٍ غاية ما فيه أنه مجهول وتفرد بهذا الحديث، وآخر اختلف فيه: وثقة الدارقطني وصحح له ابن حبان، ووثقه وأخرج له أصحاب السنن: النسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال عنه الحافظ: لين الديث.وقال الذهبي: وثق.. فإذا كان الأمر كذلك فهذا الإسناد ضعيف فقط بسبب فضالة بن سعيد بن زميل المأربي فقط، ويمكن أن ينجبر، بغيره بل يمكن أن يكون مشبه بالحسن على رأي جماعة من الحفاظ، وهو وحده يقضي على قولهم المتهافت: أحاديث الزيارة كلها ضعيفة بل موضوعة، فكيف ولهذا الحديث نظائر أقوى منه)([115])

قال القاضي: وعيت هذا، فهات الحديث الثالث.

قال الهندي: الحديث الثالث هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة)، وقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/488)، وحمزة بن يوسف السهمي في تاريخ جرجان (ص434) ومن طريقه السبكي في شفاء السقام (ص35)، وابن أبي الدنيا في (كتاب القبور)

قال القاضي: وعيت هذا، فهات الحديث الرابع.

قال الهندي: الحديث الرابع هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من زار قبري أو – قال من زارني – كنت له شفيعاً أو شهيداً)، وقد أخرجه أبو داود الطيالسي، والبيهقي في السنن الكبرى (5/245)، وفي شعب الإيمان (3/488).

قال القاضي: وعيت هذا، فهات الحديث الخامس.

قال الهندي: الحديث الخامس هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليهبطن عيسى بن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، وليسلكن فجاً حاجاً أو معتمراً أو بنيتيهما، وليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه)، وقد رواه الحاكم في المستدرك (2/595)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وسلمه الذهبي.

وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده (حديث رقم 6584) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم، إماماً مقسطًا، وحكماً عدلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليصلحن ذات البين، وليذهبن الشحناء، وليعرضن عليه المال فلا يقبله، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجبته)، ورجاله ثقات، وقد قال الهيثمي في تخريجه في (مجمع الزوائد: 8/211): (رجاله رجال الصحيح)، وقد بحثت في الحديث فوجدت أنه حسن على الأقل. خاصة مع وجود الطريق الذي في مسند أبي يعلى الموصلي، ولم يقف عليه الألباني فقصر كلامه على الحديث في ضعيفته على إسناد الحاكم فقط فأخطأ.

بل إن الألباني مع سعيه المستميت في إنكار أحاديث الزيارة ولو بالتحاكم إلى تشدد وشذوذ ابن عبد الهادي، رأيته تنازل، فأورد الحديث من رواية أبي يعلى الموصلي في صحيحته (2733) وقال عنه: وهذا إسناد جيد.

ثم قال بعد كلام: (والجملة الأخيرة لها طريق أخرى عنه بلفظ: وليأتين قبري حتى يسلم علي، ولأردن عليه.. أخرجه الحاكم وصححه الذهبي وغيرهما من المتأخرين، وفيه علتان بينتهما في الضعيفة تحت الحديث (5540)، لكن لعله يصلح شاهداً للطريق الأولى)، وإذا كان كذلك فهذا مصير منه إلى تقوية ما ضعفه، فعليه أن يخرج هذا القوي من ضعيفته.

وهذا الحديث وحده كافٍ لرد دعوى ابن تيمية ومن شايعه كابن عبد الهادي في زعم وضع أحاديث الزيارة، حتى وإن سلمنا بضعفه – وهو بعيد جداً – فما بالك إذ ضم للأحاديث المتقدمة.

قال القاضي: لقد ذكر ابن تيمية جمهور العلماء، وأنهم متفقون على هذا.

قال الهندي: وهذا من تسرعه في الأحكام وفي ادعاء الإجماع ونحوه.. ولو أنك سيدي رحت إلى كتب المذاهب الإسلامية المختلفة لوجدت الأمر مختلفا تماما، فكلهم ينصون على استحباب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل فيهم من يرى وجوبها، وقد قال القاضي عياض في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى): (زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم سنَّة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها)([116])

وقال العلامة أبو الحسنات محمد عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي في (إبراز الغي الواقع في شفاء العيّ): (وأما نفس زيارة القبر النبوي فلم يذهب أحد من الأئمة وعلماء الملة إلى عصر بن تيمية إلى عدم شرعيته، بل اتفقوا على أنها من أفضل العبادات وأرفع الطاعات، واختلفوا في ندبها ووجوبها، فقال كثير منهم بأنها مندوبة، وقال بعض المالكية والظاهرية: إنها واجبة وقال أكثر الحنفية أنها قريبة من الواجب، وقريب الواجب عندهم في حكم الواجب، وأول من خرق الإجماع فيه وأتى بشئ لم يسبق إليه عالم قبله هو ابن تيمية)

أما الشوكاني، وهو من العلماء المعتمدين لدى مدرسة ابن تيمية، فقد قال في كتابه (نيل الأوطار)، وهو من الكتب التي يرجعون إليها كثيرا: (واحتج أيضاً من قال بالمشروعية بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار، واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الأعمال فكان إجماعاً)([117])

وقد استدل الشوكاني للزيارة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100]، فقال: (والهجرة إليه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته الوصول إلى حضرته وكذلك الوصول بعد موته)([118])

واستدل لها بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، فقال: (ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث: الأنبياء أحياء في قبورهم ، وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا)([119])

بل إن هذه الآية استدل بها فقهاء الصحابة، فقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: (إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها ، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾[النساء: 64])([120])، ففرح ابن مسعود بهذه الآية ظاهر في أنها عامة.

الدعاء:

قال القاضي: حدثتنا عن النصوص الواردة في نفس الزيارة، فحدثنا عن الدعاء عند القبر، والذي اعتبره ابن تيمية بدعة.

قال الهندي: لقد ذكرنا لك سابقا سيدي القاضي تقسيم ابن تيمية الزيارة إلى زيارة شرعية وزيارة بدعيّة، واعتباره الدعاء عند القبر من الزيارة البدعية، وقوله: (إنّ هذا ليس مشروعاً باتّفاق أئمة المسلمين)

قال القاضي: أجل.. فكيف تردون على هذا؟

قال الهندي: نرد عليه بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الصحيحة التي لا يمكنه أن يرفضها، ومنها ما رواه مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى المقابر يعلمهم أن يقولوا: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فَرَط، ونحن لكم تَبَع، نسأل الله لنا ولكم العافية)

أو ليس قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نسأل الله لنا ولكم العافية)، دعاءً للنفس عند قبور المؤمنين.

ومثله ما ورد في الحديث الذي رواه مسلم: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين)

بالإضافة إلى هذا، فإن الأمر بالدعاء في الكتاب والسنّة مطلق يعمّ كلّ الأمكنة، وهو – كما يرى ابن تيمية – من مقتضيات التوحيد، فكيف يتحول عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شرك؟

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، أي يصلى فيه، ويدعى عنده، كما قال المفسرون، وما ذلك إلا لأجل التبرّك بالمقام، الذي بورك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام، فإذا جاز التبرّك بالقيام (أو الدعاء) في مقام إبراهيم عليه السلام، فكيف لا يجوز التبرك بالقيام والدعاء في مكان دفن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ أفلا يكون الدعاء عنده أرجى للإجابة؟

بالإضافة إلى هذا، ما ورد عن السلف الذين يعظمهم ابن تيمية، ويحارب بهم من يخالفه، من الأدلة الكثيرة على أنهم كانوا يدعون عند قبره صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتبرونه محلا مباركا تتحقق فيه الإجابة.

فقد روى الدارمي عن أوس بن عبد الله، قال: قُحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كُوّاً إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا فمُطرنا مطراً، حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمّي عام الفتق([121]).

وروى ابن حبّان والطبراني بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: رأيت أُسامة.. ورأيته يصلّي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج مروان بن الحكم، فقال: تصلّي عند قبره؟ قال: إنّي أُحبّه. فقال له قولاً قبيحاً، ثم أدبر. فانصرف أُسامة فقال لمروان: إنّك آذيتني، وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش، وإنّك فاحش متفحّش)([122])

أرأيت – سيدي القاضي – كيف أنّ المسلمين بصفاء قلوبهم كانوا يقصدون قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة والدعاء لديه، وأنّ الظلمة من الأمويين وعلى رأسهم مروان بن الحكم كانوا يمنعون من هذا العمل.. هل رأيت – سيدي القاضي – صدق ما ذكرناه لك عن علاقة ابن تيمية بالفهم الأموي للدين، والمؤسس على الحقد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بناء على النعرات الجاهلية.

ليس ذلك فقط ما ورد من الآثار، فقد روى الحاكم في مستدركه وصحّحه (ووافقه الذهبي)، عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته، فقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: جئت رسول الله ولم آت الحجر. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله)

وروى الحاكم والبيهقي عن أُمّ علقمة أنّ امرأة دخلت بيت عائشة، فصلّت عند بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي صحيحة، فسجدت فلم ترفع رأسها حتى ماتت. فقالت عائشة: الحمد لله الذي يحيي ويميت. إنّ في هذه لعبرة لي في عبد الرحمن بن أبي بكر رقد في مقيل له قاله، فذهبوا يوقظونه فوجدوه قد مات([123]).

إن هذه النصوص وغيرها تدلّ دلالة واضحة على أنّ ما نسبه ابن تيمية إلى السلف الصالح لا يستند إلا إلى محض الهوى والمزاجية الأموية التي ورثها من مروان بن  الحكم وإخوانه من بني أمية.

ولهذا فإن عامة من ردوا على ابن تيمية في هذه المسألة يستدلون له بما ورد عن السلف فيها، ومنهم الحصني الذي قال في كتابه الذي رد فيه على ابن تيمية (دفع شبه مَن تشبّه وتمرّد): (أمّا الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق، ومنهم الإمام مالك وقد نصّ على أنّه يقف عند القبر، ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو، وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء، وقد ذكره ابن المواز في الموازية، فأفاد ذلك أنّ إتيان قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوقوف عنده والدعاء عنده من الأُمور المعلومة عند مالك، وأنّ عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره، فضلاً عن أن يفتي به، أويقرّ عليه.. وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدعو ويسلّم،ولا يمسّ القبر بيده.. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله السامري في كتاب (المستوعب) في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا قدم مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحب له أن يغتسل لدخوله، ثم يأتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقدّم رجله اليمنى في الدخول… إلى أن يقول: ثم ذكر كيفية السلام والدعاء وأطال، ومنه: اللهم إنّك قلت في كتابك… وذكر دعاء طويلاً، ثم قال: وإذا أراد الخروج عاد إلى القبر فودّع)([124]

وعقد النووي في مناسكه وغيره فصلا في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال فيه: (فإذا صلّى تحيّة المسجد أتى القبر، فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر، وسلّم مقتصداً لا يرفع صوته)، وذكر كيفيّة السلام، ثم قال: (ويجتهد في إكثار الدعاء، ويغتنم هذا الموقف الشريف)

بل قد ورد عن أهل الحديث الذين يعظمهم ابن تيمية، ويقصر السنة عليهم ما يدل على ما هو أكبر من ذلك، فقد كانوا يأتون قبور الأولياء والصالحين وأهل البيت الطاهرين ويدعون عندهم.

ومنها ما رواه الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام الرضا عن الحاكم في تاريخ نيسابور قال: وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا(عليه السلام) بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا)([125])

وقال ابن حبّان، وهو يتحدّث عن زياراته لقبر الإمام الرضا: قد زرتُه مراراً كثيرةً، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جدّه وعليه، ودعوت الله إزالتها عنّي، إلاّ استجيب لي، وزالت عني تلك الشدّة، وهذا شيء جربته مراراً فوجدته كذلك([126]).

شد الرحال:

قال القاضي: وعيت هذا، فحدثنا عن المسألة الثالثة التي أنكرها ابن تيمية، وهي شد الرحال لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الهندي: لقد ذكرنا لك سابقا سيدي القاضي أن هذه المسألة من المسائل التي بالغ فيها ابن تيمية في الرد على الزيارة، لأن شد الرحال لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن مجرد سفر فقط، وإنما كان رحلة ممتلئة بالمعاني الإيمانية العميقة التي تربط الأمة بنبيها، فقد كانوا أثناء شد الرحال إلى ذلك المقام الشريف يذكرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويمدحونه، ويهيجون الأشواق إلى لقائه، وقد روي عنهم في ذلك الأشعار الطويلة الكثيرة التي لا تزال تنشد.

وقد ذكر السبكي – أثناء رده على ابن تيمية – واقع المسلمين في ذلك، فقال: (هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، وكلُّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافةً بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربةٌ وطاعةٌ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلُّهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزّ وجلّ، ومَن تأخّر فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسُّفه عليه وودّه لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ، فهو المخطئ. وما ربّما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهو الصلاة في المسجد، باطلٌ جداً، فإنّ المنازعة فيما يقصدُه الناس مكابرةٌ في أمر البديهة، فمن عَرف الناس عرف أنّهم يقصدون بسفرهم الزيارة يعرّجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القُرُبات إلاّ ببال قليل منهم، ولهذا قلَّ القاصدون إلى البيت المقدَّس مع تيسّر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عُرف، فالمقصود الأعظم في المدينة الزيارة، كما أنّ المقصود الأعظم في مكّة الحجّ أو العمرة، وصاحب هذا السؤال إن شكّ في نفسه فليسأل كلّ من توجّه إلى المدينة ما قَصَد بذلك؟)([127])

ومثله ذكر النووي شرف الزيارة وأحوال الزائرين وما يستشعرونه، فقال: (واعلم أنّ زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهمّ القربات وأنجح المساعي، فإذا انصرف الحجّاج والمعتمرون من مكة استحبّ لهم استحباباً متأكداً أن يتوجّهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم وينوي الزائر من الزيارة التقرّب وشدّ الرحل إليه والصلاة فيه، وأنّ الذي شرفت به صلى الله عليه وآله وسلم خير الخلائق، وليكن من أوّل قدومه إلى أن يرجع مستشعراً لتعظيمه ممتلئ القلب من هيبته كأنّه يراه، فإذا وصل باب مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع)([128])

وقد روي في الآثار ما يدل على أن هذا الذي ذكره السبكي والنووي كان من الزمن الأول، فقد روى ابن عساكر في ترجمة بلال أنه رأى في منامه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: ما هذه الجَفْوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً، وجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسنُ والحسين فجعل يضمُّهما ويقبّلهما فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذّن به لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: (الله أكبر ـ الله أكبر) ارتجّت المدينة، فلما أن قال: (أشهد أن لا إله إلاّ الله) ازدادت رجّتها، فلما أن قال: (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) خرجت العواتق من خدورهن فقالوا: أبُعِث رسول الله!؟ فما رُئي يوم أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم([129]).

ومثله روي أنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السلام ثمّ يرجع.

وقد قال السبكي معلقا على هذا: (إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة، لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن الباعثُ على السفر ذلك من أمر الدنيا ولا من أمر الدين ولا من قصد المسجد ولا من غيره)([130])

قال القاضي: أنا أريد منكم ردودا علمية عليه، فلا يكفي ما ذكرته.

قال الهندي: لك ذلك سيدي القاضي، وأول ما نرد به عليه هو ما ذكرناه لك سابقا من النصوص الدالة على شرعية الزيارة، فإنه إذا دلّت الروايات على استحباب زيارة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تكون زيارته من القربات التي يثاب الإنسان عليها إذا فعلها، ويكون السفر إلى ذلك قربة لا يختلف عن الزيارة نفسها، لأنه يستحيل عقلا أن تكون الزيارة مستحبة أو واجبة، ويكون السفر الذي هو الوسيلة لتحقيقها حراما.

قال القاضي: وما تقولون في الحديث الذي استدل به ابن تيمية على حرمة السفر للزيارة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم بحديث: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)([131])

قال الهندي: لو نظرنا إلى نص الحديث نفسه من حيث اللغة، فإنا نجده لا يساعد ابن تيمية على الاستدلال به على حرمة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الفقيه اللغوي مجد الدين الفيروز آبادي في كتابه (الصلات والبشر) يوضح هذا: (أما حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فلا دلالة فيه على النهي عن الزيارة، بل هو حجة في ذلك، ومن جعله دليلاً على حرمة الزيارة فقد أعظم الجراءة على الله ورسوله وفيه برهان قاطع على غباوة  قائله، وقصوره عن نيل درجة كيفية الاستنباط والاستدلال)([132])

قال القاضي: هذا لا يكفي في القضاء.. فقد يأتون بعالم لغوي آخر، ويقول عكس ما ذكر الفيروز آبادي.

قال الهندي: صدقت سيدي القاضي، ولذلك سأشرح لك ما اتفق عليه كل اللغويون في هذا، فالمستثنى منه في الحديث كما تعلم محذوف، والمقصود منه لا يخلو من أحد أمرين:

إما أن يكون المقصود: (لا تشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد)

وإما أن يكون المقصود: (لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد)، وفي كلتا الحالتين لا يمكنه الاستدلال بالحديث على حرمة الزيارة.

لأنه إن كان المقصود هو الأول، كان معنى الحديث النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم جواز شدّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والصالحين، لأنّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأمّا غير ذلك فليس داخلاً فيه، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال إلى غير المساجد باطل.

وأمّا إن كان المقصود هو الثاني، فإن ذلك يؤدي إلى محال لم يأت به الشرع، ذلك أنه يلزم منه كون جميع الأسفار محرّمة، سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

قال القاضي: فكيف غاب هذا المعنى عن ابن تيمية مع وضوحه ودلاله اللغة عليه؟

قال الهندي: هو لم يغب على ابن تيمية، بل أقر به، ولكنه حاول الفرار منه بما هو أخطر من قوله ذلك.. فقد قال في مجموع الفتاوى: (فإن هذا استثناء مفرغ، والتقدير فيه أحد أمرين: إما أن يقال: ﴿لا تشد الرحال﴾ إلى مسجد ﴿إلا المساجد الثلاثة﴾ فيكون نهيا عنها باللفظ، ونهيا عن سائر البقاع التي يعتقد فضيلتها بالتنبيه والفحوى وطريق الأولى؛ فإن المساجد والعبادة فيها أحب إلى الله من العبادة في تلك البقاع بالنص والإجماع، فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهي عنه فالسفر إلى المفضولة أولى وأحرى)([133])

وهذا كلام خطير جدا، ذلك أن البقعة الشريفة التي ضمت جسده صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من المساجد الثلاثة، ولا يقارن مسلم عاقل بين أي مكان في العالم وبين بقعة ضمت جسد النبي  صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أشرف خلق الله، وعلى هذا جماهير العلماء حتى من الحنابلة الذين يعظمهم ابن تيمية، فقد روى ابن القيِّم تلميذ ابن تيمية عن الإمام ابن عقيل الحنبلي تحت عنوان: (هل حجرة النبي أفضل أم الكعبة) قول ابن عقيل: (سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم الكعبة؟ فقلت: إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل، وإن أردت وهو فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنه عدن ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسدا لو وزن بالكونين لرجح)([134])

وقد حكى الكثير من العلماء الإجماع على هذا، ومن ذلك ما نقله الشيخ الخفَّاجي عن الإمام السبكي والعز بن عبد السلام ويقرهم على قولهم. (قال القاضي عياض اليحصبي في كتابه الشفا: ولا خلاف أن موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض)، فعلَّق عليه الشيخ الخفَّاجي بقوله: (بل أفضل من السموات والعرش والكعبة كما نقله السبكي رحمة الله)([135])

وقال الإمام الحصفكي الحنفي في الدر المختار، وهو من أشهر كتب الحنفية: (لا حرم للمدينة عندنا، ومكة أفضل منها على الراجح، إلا ما ضم أعضاءه عليه الصلاة والسلام فإنه أفضل مطلقا حتى من الكعبة والعرش والكرسي)([136])

وقال الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي في شرحه على مختصر الخليل: (ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أفضل من الكعبة والسماء والعرش والكرسي واللوح والقلم والبيت المعمور)([137])

وقال الإمام السخاوي في التحفة اللطيفة: (مع الإجماع على أفضلية البقعة التي ضمته صلى الله عليه وآله وسلم، حتى على الكعبة المفضلة على أصل المدينة، بل على العرش، فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة، ولا شك أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف مما سواها من الأرض والسماء، والقبر الشريف أفضلها، لما تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، التي لا يعملها إلا مانحها، ولساكنه عند الله من المحبة والاصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه)([138])

وقال الإمام البهوتي في (شرح منتهى الإرادات): (الكعبة أفضل من مجرد الحجرة فأما والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فلا والله ولا العرش وحملته والجنة، لأن بالحجرة جسدا لو وزن به لرجح)([139])

 وغيرها من الأقوال الكثيرة التي تخالف ابن تيمية في قوله هذا.

قال القاضي: وعيت هذا، ولكن لم خص هذه المساجد بالذكر؟

قال الهندي: الحديث واضح في الدلالة على ذلك، ذلك لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وقد قال الغزالي يشير إلى هذا المعنى، وهو يتحدث عن أغراض السفر الشرعي: (.. أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد… ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء (عليهم السلام)، وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء. وكلّ من يُتبّرك بمشاهدته في حياته يُتبّرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) لأنّ ذلك في المساجد; فإنّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد)([140])

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن النهي عن السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس أمراً محرّماً، بل هو إخبار لمن يرهق نفسه ابتغاء المزيد من الأجر من أن المساجد كلها متشابهة في هذا.

ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي مسجد قُبا، راكباً وماشياً، فيصلّي فيه ركعتين)([141]) ، وهذا يعني أنّ النهي عن شدّ الرّحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم، لكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً.

وقد قال ابن حجر في هذا: (ومن فضائل مسجد قُباء، ما رواه عمر بن شَبّة في (أخبار المدينة) بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقّاص، قال: لأن أصلّي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إليّ من أن آتي بيت المقدس مرّتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل)([142])

التمسح بالقبر:

قال القاضي: وعيت هذا، فحدثنا عن المسألة الرابعة التي أنكرها ابن تيمية، وهي التمسح بقبره صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الهندي([143]): اعلم – سيدي القاضي – أنّ من السنن الجارية بين العقلاء، الاعتزاز بما يتركه أحباؤهم من أشياء.. ومن مظاهر ذلك الاعتزاز، الاحتفاظ بها، وإدامة النظر إليها لاستذكار أصحابها، وغير ذلك من وجوه التعبير عن مشاعر الحبّ والوفاء لهم، كتقبيل الولد لصورة والده، أو لما كتبه بخطّه.

وبما أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو أحبّ الخلق إلى المسلمين، ففي حال حياته كانوا يتبرّكون بماء وضوئه وشعره وكلّ ما له صلة به، وبعد رحيله صاروا يتبرّكون بمنبره وقبره وآثاره، والباعث على كلّ ذلك هو الحبّ والولاء لرسولهم صلى الله عليه وآله وسلم، أو الرغبة في التبرّك بآثاره، من دون أن يكون فيه أي رائحة للشرك، لأن التبرك بآثاره في حال حياته، هو نفس التبرك بآثاره بعد رحيله، فإنّ الداعي إذا كان هو الحب فهو مشترك بين الحالين، وإن كان الداعي هو التبرك أي ترقّب رحمة الله سبحانه عن طريق آثاره صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أيضاً كذلك. وعلى كلا الأمرين، فالمؤثر هو الله سبحانه، والتبرّك بالآثار تمسُّك بالسبب.

قال القاضي: كلامك جميل وواقعي.. ولكنك تعلم أننا في مجلس قضاء، والقضية خطيرة، ولذلك نحتاج إلى أدلة أكثر قوة.

قال الهندي: أول من يرد على ابن تيمية في هذه المسألة هو الإمام الذي يعتز به ابن تيمية كثيرا، بل يعتبره إمام السنة، وممثل السلف، وهو إمام الحنابلة أحمد بن حنبل، فإنه إن كان الذي يتمسح بالقبر مشركا، فإن إمام جميع من يزعم لنفسه أنه السنة والسلف مشرك على حسب قولهم.. يلزمون بذلك إلزاما لا يستطيعون الفرار منه.

فقد ذكر ولده عبد الله بن أحمد ذلك عنه، فقال: سألته عن الرجل يمسُّ منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتبرّك بمسِّه، ويُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرب إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: لا بأس بذلك([144]).

ونقل ذلك الذهبي عن عبد الله بن أحمد قوله: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضعها على فيهِ يُقبِّلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه، يستشفي به.

وعلّق عليه بقوله: (أين المتنطِّع المنكر على أحمد، وقد ثبت أنّ عبد الله سأل أباه عمّن يلمس رُمّانة منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسّ الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأساً. أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع)([145])

وقد أخبر الحافظ أبو سعيد بن العلا، قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفّاظ: أنّ الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل منبره؟ فقال: لا بأس بذلك. قال: فأريناه التقي ابن تيمية فصار يتعجّب من ذلك، ويقول: عجبت من أحمد عندي جليل، هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به([146]).

ومع هذا نجد ابن تيمية يدعي ادعاء عريضا حين يخبر عن اتفاق الأئمة على أن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمس خوفا من الشرك، فقد قال في (مجموع الفتاوى): (واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقبله. وهذا كله محافظة على التوحيد. فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد)([147]

قال القاضي: وعيت هذا.. ولكن مع ذلك لا يمكن اعتبار الإمام أحمد وحده ممثلا للسلف.. أنت تحتاج إلى أدلة أخرى.

قال الهندي: لقد رويت آثار كثيرة عمن هم أجل من أحمد وغيره من الفقهاء ما يدل على مشروعية ذلك:

ومن ذلك ما روي أنّ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيدة نساء العالمين حضرت عند قبر أبيها، وأخذت قبضة من تراب القبر، وراحت تشمّها وتبكي وتقول:

ماذا على مَنْ شمّ تربة أحمد    ألاّ يشمّ مدى الزمان غواليا([148])

ومنها ما روي أنّ بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام في الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى في منامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال)، فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه([149]).

 وكان عبدالله بن عمر يضع يده اليمنى على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ([150]).

وروى أحمد والحاكم عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله)([151])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول، فإن القضية خطيرة؟

قلت: صدق الهندي سيدي القاضي.. وبين يدي كتاب (العلل ومعرفة الرجال)، وفيه فتوى أحمد بن حنبل بجواز مسّ منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تعجبت من محاولة المحقق الفرار منها – بحسب الأساليب التي تعلمها من ابن تيمية – بقوله: (هذا لمّا كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، وأمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعية مسّه تبركاً به)

وأنا أعجب من هذا، فلو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الإمام المفتي أن يذكر القيد، ولا يطلق كلامه، حتى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفس المنبر الذي لامسه جسم النبي الأكرم، وهذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، وتقبيل المنبر الآخر عين الشرك، لما جاز للمفتي أن يَغفل عن التقسيم والتصنيف.

بالإضافة إلى أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً على المنبر ومن تبرّك به، وهذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثر في الكون إلاّالله سبحانه، فكيف يعترف بأنّ لجسمه الشريف تأثيراً في الجسم الجامد، وأنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون؟

3 ـ موقف ابن تيمية من التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الثالث.

قام الميلاني، وقال: لم يكتف ابن تيمية بقطع تلك العلاقة العاطفية الجميلة للأمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكتف بمنعها من زيارة نبيها والتبرك به وبآثاره، بل راح يمنع استفادتها منه صلى الله عليه وآله وسلم في شؤون حياتها بجعله وسيلتها إلى الله تطبيقا لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35]، علما منها أنه أقرب الخلق إلى الله، وأنه كما كان في حياته وبين أصحابه يغيث كل من يلتجئ إليه، فهو كذلك في حياته البرزخية التي لا تقل عن حياته الدنيا إن لم تكن أكمل منها، يشفع فيمن استشفع به، ويغيث من استغاث به، لأن وفاته لم تتعد جسده الشريف، أما روحه فهي حية باقية لا أثر للموت فيها.

لكن ابن تيمية وبدعوى الشرك راح يحرم كل ذلك، ويبدع فاعله، بل يرميه بالشرك، فصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذهان أتباعه صنما من الأصنام يحذر منه، لا نبي كريم له جاه عند الله، ومقام محمود، ومنزلة رفيعة.

لقد غفل ابن تيمية([152]) عن أن كون الله هو المؤثر والمجيب، وأنّه لا تأثير في عالم الوجود إلاّ له، لا يعني أنه – من باب حكمته ولطفه – لم يضع أسبابا تحمل رحمته، وتجري نعمته وكرمه وإحسانه عن طريق تلك العلل.

وقد تعلّقت إرادته سبحانه ومشيئته على نزول الرحمة عن طريق العلل والأسباب التي جعلها عللاً إعدادية للمسببات.

ومن تلك الأساب العظمى لرحمته مكانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقداسته التي تنزل رحمتُه سبحانه من خلالها، ولا بُعد في ذلك، كما هو الحال في طلب الدعاء والاستغفار من النبي في حال حياته، فإنّ دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أسباب استجابة الدعاء.

ومن قرأ القرآن الكريم وتدبره وجد هذا المعنى واضحا فيه.. فهذه الأرض والنباتات تعيش بسبب الماء النازل من السماء، فللماء تأثير في حياة الأرض والنبات، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ [طه: 53]، وبناء عليه لا مانع من اتّخاذ ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة إلى الله سبحانه حتى تجري رحمته من خلال دعائه أو لأجل قداسته وقربه من الله.. فالتوسّل بنبيّ التوحيد هو عين التوحيد، والتعلّق به هو تعلّق بالله سبحانه.

قال القاضي: وعيت هذا.. ولكن سؤالا يتبادر إلى ذهني، وهو: لماذا لا ندعو الله سبحانه مباشرة فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد.. فلماذا نحتاج الوسائط لندعوه.

قال الميلاني: لم يقل أحد بأننا نحتاج الوسائط لندعو الله.. فالله يمكن دعاؤه مباشرة، ويمكن التوسل إليه بالمقربين من عباده.. ولا يمكننا أن نجمع بين حقائق القرآن الكريم إلا أذا جمعنا بين قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وإلا كنا من الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.

قال القاضي: هلا وضحت أكثر.

قال الميلاني([153]): اعلم سيدي القاضي أن من مقاصد الدعاء الحضور مع الله، والتحقق بحقائق الإيمان، زيادة على ما يطلبه الداعي من تحقيق أغراضه، ولهذا سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقديم حمد الله والصلاة عليه على ما نطلبه من حاجات، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن رآه يصلى ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:(عجل هذا)، ثم دعاه، فقال:(إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي، وليدع بعد بما شاء) ([154])

ففي تقديم الثناء على الله معرفة بالله، تدعو إلى محبته وإيثاره والثقة فيه، وفي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقرب منه ومحبة له تصفي القلب وتطهره، فإذا ما صفا القلب بهذه الصورة كان أهلا لقضاء حاجته.

ولهذا سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقدمات الطويلة لبعض الأدعية لتناسبها مع نوع الدعاء، فذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن سيد الاستغفار أن نقول:(اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ([155])

فإن مقدمات هذا الدعاء تتناسب تماما مع نوعه، فقد قدم الدعاء بمخاطبة الله التي تستدعي حضور القلب معه، ثم الإقرار بالوحدانية، والتي تدل على تصحيح الإيمان، أو تشير إلى أن الذنب لا يتعلق بالتوحيد، لأن الله وعد أن يغفر غير الشرك، ثم تجديد العبد العهد مع الله بحسب الاستطاعة، ثم الاستعاذة بالله من الذنب وشره، مع الإقرار بنعمة الله، وفي الأخير طلب المغفرة المشفوع بمعرفة أن المتفرد بمغفرة الذنب هو الله تعالى.

وهكذا في كل الأدعية نجد الحقائق الإيمانية التي تناسبها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا خفت سلطانا أو غيره، فقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك) ([156])، فهذه الصيغة تتناسب تماما مع نوع الحاجة.

ومن هذا الباب كان التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من الحضور معه، والشعور بمعيته، وله تأثير كبير في ربط القلب بمحبته، وهو السبيل الصحيح لسلوك سنته.

فالتوسل بذلك، والذي يستحضر فيه قلب السائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يستشفع به إلى الله، مع الخلو من اعتقاد الوساطة الشركية، والامتلاء بالشعور بالمنة، يملأ القلب شعورا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لا يفيد السائل فقط في تحقيقه ما أراده، بل يزيده قربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

والقول بذلك يحرم الأمة جميعا من هذا الخير الجزيل، فلا يتمتع به على مقتضى هذا القول إلا المصاحبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

زيادة على ذلك، فإنا نتوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأحكام الشرعية، فنرجع إليه لنعلم أحكام الله، بل الله تعالى هو الذي أمرنا بالرجوع إليه مطلقا حيا أو ميتا، كما قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء:59]، وليس هناك من يقول بأن هذا خاص بحياته صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم من قال بأن موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغاير حياته، فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال تعالى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران:169)، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم) ([157])

فإن شك في هذا الحديث، فقد قال تعالى:﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:105)

فإن قيل: بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة، فنقول: إن كان الله تعالى أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر:7)، فإن كان هذا مع حملة العرش، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا) ([158])

فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال تعالى:﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6)

قال القاضي: فكيف غابت كل هذه النصوص والمعاني على ابن تيمية؟

قال الميلاني: هي لم تغب سيدي القاضي عنه، وإنما هو الذي أراد أن يغيبها، لأنه يتصور أنه هو الذي يقرر ما يكون الدين، لا النصوص المقدسة التي تقرر ذلك، ولذلك راح يطلق أيقونته المعهودة في تكذيب النصوص التي لا تتناسب مع هواه الأموي، فقال في كتابه الذي خصصه لهذا الغرض (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة): (السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكنَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)، وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: (اللهم شَفِّعْه فيَّ) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله)([159])

أرأيت سيدي القاضي كيف يتلاعب ابن تيمية بالنصوص، فهو يتسرع في تكذيبها، كما يتسرع في تأويلها وصرفها عن معانيها؟

قال القاضي: كلامك هذا يحتاج إلى بينات توضحه.

قال الميلاني: بما أن ابن تيمية أنكر النصوص الدالة على التوسل، وأول حديث الأعمى، فسنذكر لك سيدي القاضي جوابا له بينتين، نوضح لك في الأولى ورود الأحاديث الكثيرة بالتوسل، ونوضح لك في الثانية تهافت التأويلات التي أول بها حديث الأعمى.

البينة الأولى:

قال القاضي: فهات البينة الأولى.

قال الميلاني: البينة الأولى سيدي القاضي تتعلق بتكذيب ابن تيمية للنصوص الواردة في التوسل، وسنورد لك سبعة أمثلة عن الأحاديث في هذا الباب ترد عليه.

قال القاضي: فهات الحديث الأول.

قال الميلاني: الحديث الأول هو حديث الأعمى الذي لم يستطع ابن تيمية الفرار منه، ولذلك راح يتلاعب به بصنوف التأويل، ونص هذا الحديث هو أن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير؟ قال: فادعُهُ، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيّ)، قال الراوي: فوالله ماتفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرّ([160]).

فنص الحديث واضح في الدلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد الأعمى إلى التوسّل به في دعائه الذي علّمه إيّاه:

ففي قوله: (بنبيّك) متعلّق بفعلين: أسألك بنبيّك.. وأتوجّه إليك بنبيّك.. والمسؤول به وما يتوجّه به إلى الله هو نفس النبي الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم، لا دعاؤه – كما يذكر ابن تيمية – وإلاّ كان عليه أن يقول: اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بدعاء نبيّك.

وفي قوله: (محمد نبي الرحمة) دلالة على أنّ المسؤول به نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دعاؤه.

وفي قوله (يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربي) دليل على أن الأعمى بحكم هذا الدعاء اتّخذ قداسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته ونفسه الطيّبة وسيلة لاستجابة دعائه، وأين هو من توسّله بدعائه؟!

وبذلك يتّضح أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه ونفسه الكريمة، هو محور الدعاء كلّه، وليس فيه أي دليل على التوسّل بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم أصلاً.

وكلّ من يزعم أنّ ذلك الرجل الضرير قد توسّل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بشخصه وشخصيّته، فإنّما تغافل عن نصوص الرواية وتجاهلها.

قال القاضي: وعيت هذا.. وستحدثني عنه كما وعدت بتفصيل في المثال الثاني.. فهات الحديث الثاني.

قال الميلاني: الحديث الثاني هو ما رواه  المحدثون أنه: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس عند رأسها فقال: (رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة).. ثم دخل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  قبرها، فاضطجع فيه ثم قال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين)([161])

وهو حديث حسن، والشاهد فيه واضح على توسله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وبالأنبياء من قبله: (بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي)

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الحديث الثالث.

قال الميلاني: الحديث الثالث هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض على أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت لكم)

وهو حديث قبله المحدثون واستدلوا به – خلافا لابن تيمية- فقد قال الحافظ العراقي في (طرح التثريب): إسناده جيد ([162])، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد): (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح)([163]

وقد ألف فيه العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري الحسني جزءا مفيدا سماه (نهاية الآمال، في شرح وتصحيح حديث عرض الأعمال)

والدلالة فيه على شرعية التوسل واضحة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلع على أعمال أمته بعد وفاته، ويدعو لهم، على عكس ما ذهب إليه منكرو التوسل من انقطاع صلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمته.. وهذا يدل على ما ذكرناه لك سيدي القاضي من أن الأمة جميعا تستفيد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء عايشته في حياته أو لم تعايشه، لأن علاقته بها ممتدة، وليست مرتبطة بحياته الدنيوية.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الحديث الرابع.

قال الميلاني: الحديث الرابع هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمع وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك)

وإسناد هذا الحديث من شرط الحسن، وقد حسنه جمع من الحفاظ منهم الحافظ الدمياطي في (المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح)([164]) ، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ الحافظ المنذري([165])، وغيرهما([166]).

فهؤلاء الحفاظ كلهم صححوا أو حسنوا الحديث وقولهم حقيق بالقبول، والوقوف عنده، والإذعان إليه.

ودلالة الحديث على التوسل واضحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توسل فيه بحق السائلين على الله، وهو عين التوسل.

قال القاضي: فهات الحديث الخامس.

قال الميلاني: الحديث الخامس هو ما رواه الطبراني في معجمه الكبير: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يستفتح بصعاليك المهاجرين)([167])

وقد قال الحافظ الهيثمي في سنده: (رواه الطبراني ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح)([168])

والدلالة فيه على التوسل واضحة، لأن معنى الاستفتاح هو التوسل.. فإن كان التوسل بصعاليك المهاجرين شرعيا، فكيف بالتوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الحديث السادس.

قال الميلاني: الحديث السادس هو ما رواه الطبراني وأبو يعلى في مسنده وابن السني في (عمل اليوم والليلة)، ورواه من بعدهم الكثير من المحدثين مقرين له، داعين إلى العمل به، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم)

 وفي رواية أخرى للحديث: (إذا ضل أحدكم شيئا، أو أراد أحدكم غوثا، وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فان لله عبادا لا نراهم)

ورواه البزار عن ابن عباس بلفظ: (إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني)، وقد قال الحافظ تعليقا على الحديث: (هذا حديث حسن الإسناد غريب جدا، أخرجه البزار، وقال: لا نعلم يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد)([169])

وفي هذا الحديث – برواياته المختلفة – نسف لكل ما يدعيه ابن تيمية وأتباعه من اعتبار الاستغاثة بغير الله شرك.. وإلا اعتبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا في هذا الحديث إلى الشرك.

قال القاضي: لقد ذكرت أن المحدثين أقروا بالحديث، ودعوا إلى العمل به.. فهلا ذكرت دليل ذلك.

قال الميلاني: أجل – سيدي القاضي – فقد روي العمل به عن كثير من كبار المحدثين، ومنهم الإمام أحمد الذي يزعم ابن تيمية أنه ممثل السنة وناصرها، ففي المسائل، وشعب الإيمان للبيهقي: قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها اثنتين راكباً، وثلاثة ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثة راكباً، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشياً فجعلت أقول: يا عباد الله دلونا على الطريق، فلم أزل أقل ذلك حتى وقعت على الطريق، أو كما قال أبي([170]).

ومثله أبو القاسم الطبراني، فقد قال بعد أن روى الحديث في معجمه الكبير: وقد جرب ذلك([171]).

وقال النووي في الأذكار بعد أن ذكر الحديث:حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث فقاله، فحسبها الله عليهم في الحال، وكنت أنا مرةً مع جماعة فانفلتت منا بهيمة وعجزوا عنها فقلته فوقفت في الحال يغير سوى هذا الكلام([172]).

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول، فإن الحديث خطير؟

قلت: أجل – سيدي القاضي – وقد رأيت أتباع ابن تيمية المعاصرين لي يتخبطون عند ذكره، ويتمنون لو محوه ومحوا أثره من داودين الإسلام.. وقد زاد طينتهم بلة ما روي عن الإمام أحمد حوله، لأن ذلك سيزيد الحديث قوة، وقد قرأت عن بعضهم قوله في بعض المنتديات مغتاظا حانقا: (لا يوجد فيه أي نوع من الاستغاثة التي يذكرها الوثنيون المعاصرون ويحتجون -من ضمن ما يحتجون به هذا الحديث- فالحديث يتضمن نداء ملائكة أحياء يسمعون ويجيبون بنص الحديث -إن صح- في أمر مقدور عليه عندهم.. بالإضافة إلى أنه أمر مأذون به بنص الحديث.. وليس في الحديث نداء من في القبور ولا الاستشفاع بهم عند الله تعالى ولا جعلهم واسطات.. وإلا فما علاقة دل الطريق أو إعادة الدابة بالاستغاثة وجعل الوسائط بين الله تعالى وعباده؟! ومن الذي أذن لهم باتخاذ الشفعاء إلى الله تعالى؟! وأين في الحديث الذبح والنذر لهم أو السجود والتمسح بهم؟! فالحديث لا يؤيد الوثنيين الذين يدعون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله!!)([173])

أرأيت – سيدي القاضي – كيف يتخبطون، ويتلاعبون بتأويل النصوص بدل التسليم لها، ومراجعة الأخطاء من خلالها؟

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الحديث السابع.

قال الميلاني: الحديث السابع هو ما ورد من الآثار الكثيرة على أن الصحابة كانوا يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وبعد مماته، ولو كان ذلك محرما أو بدعة أو شركا ما فعلوه، وابن تيمية يقر بذلك، بل إنه يبدع ويكفر من يتهمهم بذلك.

ومن الأحاديث الدالة على توسلهم به صلى الله عليه وآله وسلم في حياته الحديث الذي رواه البخاري وغيره، وهو أن عمر بن الخطاب كان إذا قُحطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا، فيسقون.

فالحديث يدلّ على أنّ إمام الناس في صلاة الاستسقاء (عمر بن الخطاب)كان نفسه هو الداعي، وأنّه كان يقول في دعائه ذلك القول: (إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعم نبينا فاسقنا)

فالإمام الداعي يذكر – بصراحة ووضوح – أنّهم كانوا يتوسّلون بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وبذاته وكرامته وقداسته لا بدعائه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم يتوسّلـون الآن بشخـص العبـاس لا بدعائه رحمه الله، وعلى ذلك فتقدير كلمة (بدعائه) تخرّص على الغيب.

ويؤيد هذا أنّ ابن حجر قال ضمن تفسيره لهذا الحديث: (إنّ بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأُمّتك فإنّهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: (ائت عمـر)، الحديث)([174])

وأمّا توسّل عمر بشخص العباس دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجهه واضح، وهو أنّه أراد أن يتوسّل بشخص يشارك القوم في الحياة ومشاكلها من الشدّة والضرّاء، قائلاً بأنّا إذا لم نكن مستحقين لنزول الرحمة، لكن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستحقّ لذلك، فليشملنا أيضاً.

ومن الأحاديث الدالة على توسلهم به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته ما رواه ابن عساكر، قال: روى ابن عُيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: خطب عمر بن الخطاب أُمّ كلثوم بنت أبي بكر إلى عائشة فأطمعته، وقالت: أين المذهب بها عنك؟ فلمّا ذهبت قالت الجارية: تزوجيني عمر وقد عرفت غيرته وخشونة عيشه، والله لئن فعلت لأخرجنّ إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأصيحنّ به، إنّما أُريد فتى من قريش يصبّ عليّ الدنيا صبّاً([175]).. وواضح أنّ الضمير في (به) راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومنها ما رواه الطبري وابن كثير عن قرّة بن قيس التميمي، قال: (لا أنس قول زينب ابنة فاطمة حين مرّت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه، صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطع الأعضاء..)

البينة الثانية:

قال القاضي: عرفت البينة الأولى، ووعيتها.. فهات البينة الثانية.

قال الميلاني: البينة الثانية سيدي القاضي تتعلق بمحاولات ابن تيمية المستميتة من أجل تأويل حديث الأعمى الصريح في التوسل وصرفه عن المقصد منه..

ومن التأويلات التي ذكرها للحديث حتى يحرم الأمة من الاستفادة منه ذكره أنّ التوسّل كان في حضور النبي لا في غيابه، وبذلك فإنه لا يصح التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال غيابه، مع أن الحديث نصّ على أنّ الضرير توسّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غيابه، بشهادة ذيل الحديث حيث يقول الراوي وهو ابن حنيف:(فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرٌّ)، فإنّ قوله: قد دخل علينا، دال عن أنّ الأعمى قد ذهب إلى التوضّؤ والصلاة في مكان بعيد عن محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمل بما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جاء إليه وقد ذهب ضرّه.

ومن تأويلات ابن تيمية للحديث ذكره أنّ التوسّل كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن في محضره، وبذلك لا يصح عنده التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، وهذا مخالف للواقع فقد ورد من الروايات ما يدل على أن الراوي للحديث فهم منه شموله لفترة حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، فقد روى الطبراني عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين وقل: اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي. وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال:ما كانت لك من حاجّة، فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمتُه فيك، ولكنّي شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم… إلى آخر الحديث([176]).

ولهذا نجد المحدثين في كتبهم يروونه في الأبواب المرتبطة بالدعاء وصلاة الحاجة، فهكذا ذكره النسائي، وابن السُّني في عمل اليوم والليلة، والترمذي في الدعوات، والطبراني في الدعاء، والحاكم في المستدرك، والمنذري في الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد في صلاة الحاجة ودعائها، والنووي في الأذكار، وابن الجزري في (العدة) في باب صلاة الضرِّ والحاجة، وقد قال الشوكاني فى (تحفة الذاكرين): (وفي هذا الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وأنه المعطى المانع ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)([177])

بالإضافة إلى هذا – سيدي القاضي – فإن التفريق بين حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته عين الشرك، ذلك أن الله هو الفاعل في الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد واسطة، فالتفريق بين الحياة والموت يدل على أن الشخص له من القدرة والتأثير في الحياة ما ليس له في المماة، مع أن الأمر لله جميعا.

بالإضافة إلى ذلك – سيدي القاضي – ما ورد من الأدلة الكثيرة على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)([178]) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره)([179])

أفترى – سيدي القاضي – يتاح لموسى عليه السلام من الكرامة والفضل ما لا يتاح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد قال ابن القيم – وهو تلميذ ابن تيمية النجيب – في نونيته عند الكلام على حياة الرسول بعد مماتهم([180]):

والرسل أكمل حالة منه بلا  ‍
فذلك كانوا بالحياة أحق من  ‍
وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ  ‍
ولأجل هذا لم يحل لغـيره  ‍
أفليس في هذا دليل أنـــــــــه
  شك وهذا ظاهر التبيان
  شهدائنا بالعقل والبرهان
  فنساؤه في عصمة وصيان
  منهن واحدة مدى الأزمان
  حــي لمن كانت له أذنـــــان

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في الروايات الكثيرة التي يقر بها ابن تيمية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى إماماً بالأنبياء عليهم السلام في الإسراء، وهذا متواتر، وكانوا قد ماتوا جميعاً، وراجعه موسى عليه السلام في الصلوات ورأى غيره في السماوات، فمن كان هذا حاله فكيف يقال بالتفريق بين حياته وموته، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي سقناه لك سابقا: (حياتى خير لكم تُحدثون ويُحْدَثُ لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علىَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما وجدت من غير شرٍ استغفرت لكم)، وهو حديث صحيح، وقد ذكرنا لك سابقا ما قال الحفاظ عنه.

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق – سيدي القاضي – فقد استعمل ابن تيمية وأتباعه كل الوسائل ليخرجوا بالحديث عن دلالته الواضحة الصريحة، ومن أعجب ما قرأت في ذلك قوله ابن تيمية في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة): (ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدعُ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله)([181]) ، وقد علق على هذا محقق الكتاب بقوله: (وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وكذلك ابن أم مكتوم)([182])

وقال في موضع آخر: (وكذلك لو كان كل أعمى توسل به، ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه)([183])

ومثله قال الألباني: (لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقدره وحقه كما يفهم عامة المتأخرين لكان المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وآله وسلم بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين وكل الأولياء والشهداء والصالحين وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن أجمعين، ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم)([184])

وإيراد مثل هذا عجيب، وهو دليل على التلاعب بالنصوص والاحتيال عليها، والجواب عن هذا من جهتين:

الأولى هي أن من الصحابة من رضي بحاله، ولم يسأل الله تغييره رضى بقسمة الله، بل في حديث الأعمى دليل على استحباب ذلك، وقد ورد في الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها طيف، فقالت:(يا رسول اللّه إني أصرع، وأتكشف، فادع اللّه أن يشفيني)، فقال:(إن شئت دعوت لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)، فقالت:(بل أصبر ولي الجنة، ولكن ادع اللّه لي أن لا أتكشف)، فدعا لها فكانت لا تتكشف([185]).

والثانية أن اشتراط تأييد كل ما ورد من الأحاديث القولية أو الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآثار الدالة على الفعل به من الصحابة، يكلفنا شططا، بل يلغي أكثر السنن، فلذلك يكتفي العلماء كلهم ـ بما فيهم ابن تيمية ـ بما ورد من الأحاديث، بل يرون أن في خلاف الصحابة للأحاديث دليل على عدم بلوغ الحديث لهم، لا دليلا على ضعف الحديث أو صرفه عن حقيقة معناه، وقد جعل ابن تيمية نفسه ـ هذا المعنى ـ من أسباب الخلاف الفقهي في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، بل اعتبره أول الأسباب، فقال:(السبب الأول أن لايكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب فقد يوافق ذلك الحديث تارة ويخالفه أخرى وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث فان الاحاطة بحديث رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن لأحد من الأمة)([186]

4 ـ موقف ابن تيمية من إحياء المناسبات النبوية

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الرابع.

قام الحنبلي، وقال: لم يكتف ابن تيمية بكل ما ذكرناه لك – سيدي القاضي – من قطع للأمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم بحجة الخوف عليها من الشرك، وإنما أضاف إلى ذلك تحريمه وتبديعه لما رآه في عهده، ولما سمع به في العهود السابقة من إحياء الأمة للمناسبات التي تربطها بكل الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء من مولده الشريف.

ذلك أن الأمة التي اتخذت من رسولها صلى الله عليه وآله وسلم قدوة لها في حياتها حاولت أن ترتبط به بمشاعرها كما ارتبطت به بسلوكها، وكان من أساليبها في ذلك تتبع الأحداث الكبرى التي مر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإحيائها والفرح بها.

ومن بين تلك المناسبات التي كانت تهتم بها اهتماما شديدا يوم مولد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي كانت تتهيأ له، وتقيم فيه أنواع الأفراح، لتحقق بذلك في الواقع قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]

وقد وصف العلماء ما كانت تظهره الأمة في شهر ربيع الأول من أفراح وأعمال صالحة، ومنهم القسطلاني الذي قال في كتابه (المواهب اللدنية): (ولازال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده صلى الله عليه وآله وسلم ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم.. فرحم اللّه‏ امرئً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً)([187])

وقال السخاوي: (لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقّون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم)([188])

وقال ابن عباد في رسائله الكبري: (وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنّه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكلّ ما يفعل فيه ممّا يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزيّن بلباس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمر مباحلا ينكر عليه أحد)([189])

وقال أبو شامة: (من أحسن ما أُبتدع في زماننا، ما يُفعل كلّ عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة، والسرور، فإنّ ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مُشعر بمحبّته صلى الله عليه وآله وسلم  وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر اللّه‏ علي ما منَّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  الذي أرسله رحمةً للعالمين)([190])

وقال السيوطي في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد): (عندي أنّ أصل عمل المولد، الذي هو اجتماع النّاس، وقراءة ما تيسّر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمدّ لهم سماطاً يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف)([191])

وهكذا وصف الجميع ما كان يجري في الأمة من أفراح وأعمال صالحة احتفالا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفانا لفضله، وارتباطا شعوريا به.

قال القاضي: فهل أنكر ابن تيمية هذا؟

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي.. وقد حاول أن يجد له قشة يتمسك بها في هذا التحريم والتبديع، كما وجد له قشة في تحريم الزيارة والتوسل وغيرها.

قال القاضي: لا مناص لنا، ونحن في مجلس القضاء أن نسمع كلامه وأدلته.. هذا ما تقتضيه العدالة.

قال الحنبلي: لك ذلك – سيدي القاضي – فقد ذكر قوله في هذا، والقشة التي تمسك بها فيه في كتابه الخطير الذي سماه (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)، والذي أراد من خلاله – كما يذكر – (التنبيه على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وأصوله، وهي: النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمجانبة هديهم على العموم، وأعيادهم على الخصوص، وبيان حكمة ذلك، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم ونحوهم)([192])

أي أنه يهدف من خلال قاعدة وضعها في مخالفة غير المسلمين إلى محاربة كل ما تقتضيه الفطرة في هذا، بقشة سماها مخالفة أصحاب الجحيم.

مع العلم – سيدي القاضي – أن الذي يقول هذا هو نفسه الذي يرى جواز أخذ العقائد المرتبطة بالله من كتب أهل الكتاب كما ذكرنا لك ذلك في التهمة السابقة.

بل إنه في كتابه (شرح حديث النزول) استدل باتفاق الأمم على ما يراه من المكان والتجسيم لله تعالى، فقال: (والأمم كلها ـ عجمها وعربها ـ تقول: إن الله ـ عز وجل ـ في السماء، ما تركت على فطرتها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم)([193])

ولم يكتف بذلك، بل راح ينقل نصا من الإنجيل يستدل به، ويذكر أن هناك شواهد غيره فيه، فقال: (وفي الإنجيل: أن المسيح ـ عليه السلام ـ قال: (لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله. وقال للحواريين: إن أنتم غفرتم للناس فإن أباكم ـ الذي في السماء ـ يغفر لكم كلكم، انظروا إلى طير السماء، فإنهن لا يزرعن، ولا يحصدن، ولا يجمعن في الأهواء، وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقهم، أفلستم أفضل منهن؟) ومثل هذا من الشواهد كثير يطول به الكتاب)([194])

قال القاضي:  وعيت هذا.. وقد استوعبتموه شرحا في التهمة السابقة.. فاذكر لنا قوله في هذه المسألة على الخصوص.

قال الحنبلي: لقد عقد ابن تيمية في كتابه ذلك فصلا سماه (الأعياد الزمانية المبتدعة) قال فيه: (وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين. ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا. وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع. وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه)([195])

كان في إمكانه – سيدي القاضي – أن يذكر هنا الاستدلال الذي ذكره عندما راح يرشد المسلمين إلى كتب اليهود، ليتعرفوا أكثر على صورة إلههم وأنواع تصرفاته، فقال: (ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما أظهر من عيوبهم وذنوبهم وتنزيهه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181] وقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [المائدة: 64]، فلو كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم – فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً بل فيها إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور-   فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة، فإنك تجد عامة ما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة..)([196]) 

كان في إمكانه أن يقول هنا أيضا: لو أن هذه الأعياد محرمة ومبتدعة لنبه القرآن عليها، وحذر منها.. لكن بما أنه لم يفعل، فلا حرج فيها.. لكنه لم يفعل، لأن دينه يبنيه على مزاجه لا على ما تقتضيه الحقائق التي تنطق بها النصوص المقدسة.

قال القاضي: فهل استدل بغير هذا؟

قال الحنبلي: من أراد أن يتلاعب بالنصوص يمكنه أن يجد ما يشاء من الأهواء التي يسميها أدلة.. وقد كان ابن تيمية يستعمل الكثير منها كلما أعوزته الحاجة، ومن ذلك اعتباره للسلف، وأنهم هم الممثلون الوحيدون للدين، فما فعلوه هو الشريعة، وما تركوه لا حظ له من الشريعة حتى لو دلت عليه كل الأدلة، وقد قال يبين ذلك: (ما يحدثه بعض الناس ـ إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعظيماً.. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً. ولو كان هذا خيراً محضًا، أو راجحاً لكان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص) ([197])

ولست أدري – سيدي القاضي – من أخبر ابن تيمية أن السلف أكثر تعظيما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الخلف، مع قيام النصوص الكثيرة التي ذكرناها لك، والتي تجعل ذلك للأمة جميعا وليس لزمن دون زمن.

ثم راح يبين أن العلاقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – كما يمثلها السلف في تصوره – تقتصر على العمل بالشريعة، فقال: (وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بُعِث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان)([198]

ولسنا ندري العلاقة بين هذا وذاك.. وهل أننا إذا عظمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحيينا المناسبات المختلفة المرتبطة به نكون قد قصرنا في العمل بسنته، أم أن الكمال هو الجمع بينها جميعا؟

وحتى لو فرضنا أن الأمة قصرت في سنته، فما المانع أن تكون هذه المناسبات وسيلة لربطها بنبيها، ومن ثم ربطها بدينها؟

قال القاضي: وعيت هذا.. ولكني أريد أدلتكم على مشروعية إحياء هذه المناسبات..

قال الحنبلي: هذه المناسبات – سيدي القاضي – تدخل في صميم الفطرة الإنسانية، والإسلام دين الفطرة، ولم تأت أي شريعة منه تناقضها، ولهذا نجد النصوص القرآنية تعطي قيمة للزمن الذي حدثت فيه الأحداث العظيمة، ومن ذلك ما ورد في بركة وفضل شهر رمضان، والتي عبر عنها قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]

ومنه ما ورد في البركة النازلة في ليلة القدر، وارتباطها بزمن نزول القرآن الكريم، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 1 – 3]

وهكذا نجد في السنة النبوية الشريفة تعظيمها للأيام التي حصلت فيها الأحداث العظيمة، ومن ذلك ما رواه مسلم في فضل يوم الجمعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خُلِق آدم وفيه أُدخل الجنّة)

فإذا كان المنشأ في تقديس الأيّام يعود للحدث الإلهي المبارك الذي حصل فيها؛ فلماذا لا يكون يوم مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يوماً مباركاً يستحق التقديس ويكون الإحتفال به من هذا القبيل؟

خاصة وقد ورد الأمر الإلهي بالتذكير بأيام الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5]

ومن المتيقّن ([199]) أنّ كلّ الأيّام هي أيّام اللّه‏ إلاّ أنّ (أيّام اللّه‏) قد أُطلقت في الآية الكريمة علي أيّام خاصّة، للدلالة علي عظمتها وأهميتها، فأيّام اللّه‏ هي جميع الأيّام العظيمة في تاريخ الإنسانية. فكلّ يوم سطعت فيه الأوامر الإلهيّة وجعلت بقية الأُمور تابعة لها، هي من أيّام اللّه‏، وكلّ يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة النّاس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبيّ فيه، أو سقوط جبّار وفرعون ـ أو كلّ طاغٍ ـ ومحوه من الموجود فهو من أيّام اللّه.

ومعني ذلك أنّ التذكير بأيّام اللّه‏ أمر مطلوب ومحبوب عند اللّه‏، إذ لا يختصّ ذلك بموسي وأُمّته، لأن الحوادث الكبري (أيّام اللّه) هي مصاديق لفاعلية سنن اللّه‏ في المجتمعات البشرية، لذا يكون التذكير بها من مهمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وجانباً من تبليغه وتربيته لأُمّته.

ولم يكن التذكير والوعظ هنا بأيّام اللّه‏ العظيمة كيفما اتّفق، وإنّما التذكير كان مطلوباً بأيّام معروفة في حوادثها. ومعني الآية: عِظهم يا رسول اللّه‏ بالترغيب والترهيب، فالترغيب أن يذكّرهم بما أنعم اللّه‏ عليهم، وعلي مَن كان قبلهم ممّن آمن بالرسل فيما سلف من الأيّام المقرونة بالحوادث العظيمة مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم. وأن أيّام اللّه‏ في حقّ موسي منها أيّام محنة وبلاء، ومنها أيام نعمة وانتصار. وقد ذكر القرآن الكريم بأنّ العلّة من وراء التذكير بهذه الأيام لغرض كونها دروساً وآيات لكل صبار شكور.. فهي ذات نتائج إيجابية وتربوية في طريق إيجاد أناس صابرين وشكورين، فبهم تنجح الاُمة وتنتصر علي أعدائها وتفوز بتطبيق الرسالة الإلهية بشكل صحيح.

والأُمة الإسلامية في تاريخها، قد مرّت بحوادث ووقائع كبري، كانت محلاًّ للعبرة والإتّعاظ، فمنها أيّام نعمة، ومنها أيّام محنة وبلاء، ويوم ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حياة المسلمين يُعد حدثاً عظيماً ومن الأيّام التي أنعم اللّه‏ بها لا علي المسلمين فقط، وإنّما علي الإنسانية جمعاء، كباقي الأيّام التي تكون مورداً للتذكير، فيأتي الإحتفال كممارسة عبادية ومصداقاً لذكر النعم التي منَّ اللّه‏ بها علينا وتطبيقاً لمضمون الآية الكريمة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى كون يوم الولادة في حياة الأنبياء يوماً مهمّاً ومباركاً – على عكس ما يورد ابن تيمية وأتباعه الذين يقللون من شأنه، ويعتبرون انتصارات المسلمين في غزواتهم أفضل منه –  فقد سلّم اللّه‏ علي نبيّه يحيي في هذا اليوم، فقال: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15]، ونبيّنا أفضل الأنبياء، فلابدّ أن يكون يوم ولادته أشرف من يوم ولادة غيره من الأنبياء، والتذكير به يكون أكبر حجماً وعطاءً من التذكير بولادة غيره، فإنّه اليوم الذي أنعم اللّه‏ به علي البشرية بخاتم الأنبياء علي الإطلاق.

بل قد ورد في النصوص ما يبين أهمية وعظمة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في باب الصيام عن أبي قتادة الأنصاري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه)، فهذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم يوم الاثنين لأنه ولد فيه ونبئ فيه.

وقد روى المحدثون([200]) أن العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى أخاه أبا لهب بعد موته في النوم، فقال له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه خفف عني كل ليلة اثنين، وأسقى من بين إصبعيّ هاتين ماءً بقدر هذا- وأشار لرأسي إصبعيه- وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشّرتني بولادة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبإرضاعها له.

 فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمّه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما حال المسلم الموحّد من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم.

وقد أنشد الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي:

إذا كان هذا كافرٌ جاء ذمّه  ‍
أتى أنّه في يوم الاثنين دائماً  ‍
فما الظّنّ بالعبد الذي كان عمره
  وتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
  يخفّف عنه بالسّرور بأحمدا
  بأحمد مسروراً ومات موحدا

وقال العلامة الحافظ شمس الدين بن الجزري في (عرف التعريف بالمولد الشريف) بعد ذكره قصة أبي لهب مع ثويبة: (فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام، يسر ويفرح بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وآله وسلم؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم)([201])

وهذه الرؤيا – سيدي القاضي- كانت في زمن كله صحابة، فلم نسمع بأحد منهم قال: إنها أضغاث أحلام، بل يعتبر هذا إجماعا سكوتيا على كل ما فيها، ولم ينكرها أحد منهم بعد وفاته، وقد تداولها التابعون بالقبول والاستحسان ولم نسمع بأحد منهم اعترض عليها إلى يومنا هذا.

وأما من قال: إن الرائي والمخبر هو العباس في حال الكفر، والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم، فإن هذا قول مردود، ذلك لأنه لم يقل أحد إن الرؤيا من باب الشهادة مطلقا، وإنما هي بشارة لا غير فلا يشترط فيها دين ولا إيمان، بل ذكر الله تعالى في القرآن معجزة يوسف عليه السلام عن رؤيا ملك مصر وهو وثني لا يعرف دينا سماويا مطلقا، ومع ذلك جعل الله تعالى رؤيته المنامية من دلائل نبوة يوسف عليه السلام وفضله وقرنها بقصته، ولو كان ذلك لا يدل على شيء لما ذكرها الله تعالى لأنها رؤيا مشرك وثني لا فائدة فيها لا في التأييد ولا في الإنكار.

بالإضافة إلى هذا، فإن هذا القول يدل على عدم المعرفة بعلم الحديث إذا المقرر في المصطلح أن الصحابي أو غيره إذا تحمل الحديث في حال كفره ثم روى ذلك بعد إسلامه، أخذ ذلك عنه، وعمل به، وانظر أمثلة ذلك في كتب المصطلح لتعرف بعد صاحب هذا القول عن العلم، وإنما الهوى هو الذي حمل المعترض على الدخول فيما لا يتقنه([202]).

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: لا أجد ما أقول لك سيدي القاضي إلا أن ابن تيمية استعمل كل الوسائل التي يحرم بها الأمة من إحياء مثل هذه المناسبات العظيمة والفرح فيها بفضل الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ﴾ [ يونس: 58 ]، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم رحمة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء (107)]، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس للآية، فقد قال فيها: (فضل الله العلم، ورحمته محمد صلى الله عليه وآله وسلم)، فالفرح به صلى الله عليه وآله وسلم مطلوب في كل وقت وفي كل نعمة، وعند كل فضل، ولكنه يتأكد في كل يوم اثنين، وفي كل عام في شهر ربيع الأول لقوة المناسبة وملاحظة الوقت.

وقد عجبت لابن تيمية إذ يعتبر اختلاف الناس في يوم مولده من مبررات عدم الاحتفال([203]) مع أن هذا لا قيمة له، فلكل قوم أن يحتفلوا باليوم الذي يرونه، وقد تلافت الأمة – بحمد الله – هذا حين جعلت من كل شهر ربيع الأول عيدا لرسولها صلى الله عليه وآله وسلم.

رابعا ـ نصب العداوة لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

بعد أن ساق العلماء ما ساقوا من البينات والشواهد على محاولة ابن تيمية قطع كل ما تمارسه الأمة من ممارسات يقتضيها ارتباطها الروحي والوجداني مع رسولها صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو دلت عليها الفطرة الصافية، والشريعة النقية الخالصة،  تقدم الميلاني، وقال: بعد أن تبين لكم – سيدي القاضي – من خلال الدليل الثالث موقف ابن تيمية المتشدد من كل ما اتفق عليه العقلاء وأصحاب المواجيد الرفيعة من سلوكات وممارسات دلت عليها النصوص المقدسة، ودلت عليها قبل ذلك العقول السليمة والفطر الطاهرة.. سنبين لك في هذا الدليل كيف استعمل ابن تيمية كل ما أوتي من حيلة ليقطع الأمة عن آل بيت نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، حتى لا تبقى صلة بينهما إلا تلك المودة الفارغة المملوءة بالمشاعر الجوفاء التي هي أقرب إلى البغض منها إلى المودة.

قال القاضي: هلا وضحت أكثر..

قال الميلاني: اعلم – سيدي القاضي – أننا لو تدبرنا القرآن الكريم، وتدبرنا حديثه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى يعطي أهمية خاصة لذرية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويبين أن لهم مكانة كبيرة لا من الجانب العاطفي فقط، وإنما من جانب العملي أيضا، باعتبار أن لهم اصطفاء خاصا، ودورا مهما في الرسالة وحفظها والوفاء بمقتضياتها.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سنته في ذلك، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33، 34]

ومثلها قولها تعالى عند تسميته للأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين في القرآن الكريم: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)﴾ [الأنعام: 83 – 87]

فهذه الآيات الكريمة توضح الصلات النبسية بين الأنبياء جميعا، وتبين أن الاجتباء الإلهي شملهم بهذا الشكل، ولا راد لاجتباء الله.

ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التعميم، بل ذكر تفاصيل كثيرة تدل عليه، حتى يترسخ في الأذهان أن اصطفاء الأنبياء فضل إلهي باعتباره استمرارا للنهج الرسالي وتوحيدا لمسيرته حتى لا تنحرف به الطرق والمناهج.

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل إبراهيم عليهم السلام في آيات متعددة، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]

بل إن القرآن الكريم يذكر أن إبراهيم عليه السلام نفسه دعا الله أن يكون الخط الرسالي ممتدا في ذريته، فقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]

وقد صرح  القرآن الكريم بانقسام ذريته إلى محسن وظالم في قوله تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 112، 113]

بل إن الله تعالى صرح بأن الأمر باق في عقبه، فقال: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 28]

بل إن الله تعالى ذكر أن إبراهيم عليه السلام – كما سأل ربه أن يجعل ذريته أئمة للناس – سأله أيضا أن يوفق الناس لمودتهم والاقتداء بهم، فقال – على لسان إبراهيم عليه السلام -: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل موسى وآل هارون عليهم السلام، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في قصة طالوت: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]

بل إننا نجد أن الله تعالى اختار هارون أخا موسى عليه السلام ليكون معينا له ووزيرا بناء على طلب موسى، فقال:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾ [الفرقان: 35]

ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل يعقوب عليهم السلام، وهم وإن كانوا جزءا من آل إبراهيم، لكن القرآن خصهم بالذكر عند الحديث عن يوسف بن يعقوب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: 6]

وذكرهم عند الحديث عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل وطلب الذرية الصالحة، فقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]

 ومن تلك التفاصيل ما ذكره الله تعالى من اصطفائه لآل داود عليهم السلام، والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقد بين القرآن الكريم أن سليمان ورث داود، فقال: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]

وهكذا نجد حديث الله عن اصطفائه لآل بيت أنبيائه، وإعطائهم مكانة خاصة، وهي سنته فيهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بذلك منهم، إن لم يكن نظيرا لهم فيه، وقد قال تعالى عنه: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]

قال القاضي: الآيات واضحة فيما ذكرت.. لكن ما علاقة هذا بما نحن فيه.. فنحن نتحدث عن ابن تيمية واتهامكم له بنصب العداوة لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الميلاني: ما ذكرته لك يصب فيما نحن فيه.. فقد راح ابن تيمية بسبب نصبه العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر – قصد أو لم يقصد- أن كل ما ذكره القرآن الكريم من ذلك غير صحيح، فقد ذكر أن تقديم آل الرسول على غيرهم أثر من آثار الجاهلية في تقديم أهل بيت الرؤساء، وقد نص على ذلك بقوله في (منهاج السنة) بقوله – بطريقته الخاصة في التحايل -: (وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية. لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان، وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام)([204])

وهذا نص واضح في اعتقاد ابن تيمية في كون تقديم آل بيت النبوة على غيرهم أثر من آثار الجاهلية.

قال القاضي: بغض النظر عما ذكره ابن تيمية في هذا، هل يمكنك أن تفسر لعقلي سر تقديم الله لذرية من اصطفاهم من أنبيائه ورسله؟

قال الميلاني: لذلك سببان كلاهما يدل عليه العقل والنقل.

قال القاضي: فهات السبب الأول.

قال الميلاني: السبب الأول سيدي القاضي هو نفس السر الذي بسببه رفض إبليس السجود لآدم عليه السلام، وهو أن الأمم قد تخضع لأنبيائها بدافع المعجزات التي ظهرت على أيديهم، ولكنها ترفض أن تخضع لقرابتهم من بعدهم حسدا وبغيا، كما ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)﴾ [النساء: 54، 55]

قال القاضي: وعيت هذا.. فما السبب الثاني؟

قال الميلاني: السبب الثاني تدل عليه الفطرة، فإنه لا شك أن أقرب الناس تمثيلا للأنبياء واقتداء بهم وعلما بأحوالهم هم أهلوهم الذين عاشوا معهم، وهذا متوفر لأهل بيت النبوة بحكم تربيتهم في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن ثم الأخذ عنهم بصفة مباشرة، ومن ثم انتقال العلم بينهم بالتوالي من المصدر تماماً.

وأنت ترى سيدي القاضي أن الصانع الحرفي اليدوي الماهر ينقل سر صنعته ومهارته تلك إلی ابنه وحفيده.. والرياضي البارع هو في الغالب ابن رياضي بارع.. والسياسي الحاذق نجده قد تربی ونقل عن والدة نفس المهارة.. حتى الساحر والحاوي ينقل سر مهنته تلك عن أبيه، وبالمثل الطبيب الحاذق والموسقي المبدع والعالم الباحث…فهل هناك شك إذن في منطقية انتقال العلم بكاملة وتمامه من الأجداد إلی الأبناء وإلی الأحفاد.. هل هناك شك بعد هذا في توفر هذا الشرط وتلك الصفة فيهم، وأنهم الأولی بها بتمامها عقلياً ومنطقياً وبديهياً أكثر من غيرهم ممن لم يتربی في بيت النبوة والرسالة والعلم. 

ألا يكفی آل البيت شرفا وفضلا أنهم من أسرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جدهم الأعظم فأصله أصلهم وأسرته أسرتهم ومنبته منبتهم.. فهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهم ذُرية بعضها من بعض كما كان نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسی وهارون وعيسی عليهم السلام…

قال القاضي: وعيت هذا.. ولكنه لا يكفي لاتهام ابن تيمية بالنصب.. أريد أدلة أقوى.

قال الميلاني: لك ذلك سيدي القاضي.. وقد حضرنا لك أربعة شواهد تبين لك مدى النصب والعداوة التي يكنها ابن تيمية تجاه آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال القاضي: فما أولها، وما وجه الاستدلال به؟

قال الميلاني: أولها هو نصرة ابن تيمية للنواصب، ودفاعه عنهم، وحرصه على تبرئتهم، وبيان فضلهم.. ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا من يحمل نصبا وعداوة.. فصديق العدو عدو باتفاق العقلاء.

قال القاضي: صحيح ذلك.. فما الثاني؟

قال الميلاني:  الثاني هو تلقين ابن تيمية للنواصب كيفية مواجهة الموالين لآل البيت، ومناظرتهم.. فهو لم يكتف بموالاة النواصب، بل راح يلقنهم الحجج التي يواجهون بها خصومهم.

قال القاضي: فما الثالث؟

قال الميلاني: الثالث هو إنكاره وتمييعه لما ورد في فضلهم من أحاديث.

قال القاضي: فما الرابع؟

قال الميلاني: الرابع هو استعماله كل الوسائل للتنقيص منهم وتجريحهم.

قال القاضي: وعيت هذا.. وما ذكرته من الشواهد قوي.. ولكني أريد إثباتات وبينات تؤكد لي صدق ما تدعونه، وإياكم أن تقولوه ما لم يقل، أو تدعوا عليه بما لم يفعل.

قال الميلاني: لك ذلك سيدي.. ونعوذ بالله أن نقوله ما لم يقل، أو ندعي عليه بما لم يفعل.

1 ـ نصرة النواصب

قال القاضي: فهات الشاهد الأول.

قام الحنبلي، وقال: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية ومدرسته من النواصب الذين أعلنوا عداوتهم لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يستعمل في الدفاع عنهم كل ما يمتلك من قدرة على الجدل، يكافح عنهم، ويختلق لهم الأعذار، ويبرر عداءهم لأهل البيت، ويكذب لأجلهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة السلف من الصحابة والتابعين، ويكذب لأجلهم حقائق التاريخ التي تواتر نقلها وأجمع عليها أهل العلم قاطبة، ويزور لأجلهم حقائق أخرى بأسلوب يتنزه عنه العلماء، بل حتى العوام والبسطاء..

قال القاضي: كل ما ذكرت دعاوى تحتاج إلى بينات.

قال الحنبلي: البينات على هذا أكثر من أن تعد، ولكني سأكتفي بثلاثة منها.

البينة الأولى:

قال القاضي: فهات البينة الأولى.

قال الحنبلي: البينة الأولى سيدي القاضي هي أن ابن تيمية مع كونه ينتمي إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويعتبره إماما للسنة، ويثني عليه كثيرا، إلا أنه يخالفه في موقفه من النواصب خلافا شديدا، فقد كان الإمام أحمد مجاهراً بفضائل أهل البيت، وخصوصا إمامهم علي بن أبي طالب، ويدل على ذلك نقله من فضائل علي في كتابه (فضائل الصحابة)

وقد حدث محمد بن منصور الطوسي قال: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أنّ علياً قال: (أنا قسيم النار)؟ فقال: وما تنكرون من ذا؟ أليس روينا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (لايحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق)؟ قلنا: بلى. قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنة. قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار، قال: فعليٌّ قسيم النار ([205]).

وقال أيضاً: سمعت أحمد بن حنبل يقول: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل ما جاء لعلي) ([206])

وكان موقف الإمام أحمد واضحا من النواصب الذين بارزوا الإمام عليا المحاربة، وقد حدث عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي فقلت: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال:إيش أقول فيهما؟إنّ علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطرَوه كياداً منهم له([207]).

وقد علق ابن حجر على هذه الرواية بقوله: (فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل ممّا لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصحّ من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما)([208])

قال القاضي: لم أفهم ما تقول.. هل تعني أن لابن تيمية سلفا آخر في هذا غير الإمام أحمد؟

قال الحنبلي: أجل سيدي القاضي، فقد كان الحنابلة – مثلما ذكرنا في تهمة التجسيم – على صنفين: أحدهما يميل إلى التجسيم والنصب والصراع والفتنة.. وهم الذين يمثلهم ابن تيمية، ويدافع عنهم.. والثاني: هم من ينتمي إليهم الكثير من الحنابلة، وأزعم أني واحد منهم، ولدينا من الروايات عن الإمام أحمد على أنه كان في صفنا، وأن ابن تيمية ومن معه من النواصب انشقوا عن المنهج الصحيح الذي سنه الإمام أحمد.

وكدليل على ذلك سيدي ما رواه ابن أبي يعلى عن دويزة الحمصي قال: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع لعلي، فقلت: يا أبا عبد الله إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير. فقال: بئسما قلت، وما نحن وحرب القوم وذكرها. فقلت: أصلحك الله إنّما ذكرناها حين ربّعت بعلي، وأوجبت له الخلافة، وما يجب للأئمة قبله، فقال لي: وما يمنعني من ذلك؟ قال: قلت: حديث ابن عمر؟ فقال لي: عمر خير من ابنه. قد رضي علياً للخلافة على المسلمين، وأدخله في الشورى، وعلي بن أبي طالب قد سمّى نفسه أمير المؤمنين، فأقول أنا: ليس للمؤمنين بأمير؟! فانصرفت عنه([209]).

انظر سيدي القاضي كيف استغرب هذا الراوية أن يعتبر أحمد الإمام عليا خليفة من خلفاء المسلمين.. وهو ليس وحيدا في ذلك، فقد كان للكثير من الحنابلة هذه الرؤية التي شجعها ابن تيمية، وزاد طينها بلة، وقد قال ابن الجوزي الحنبلي منكرا على الحنابلة هذا الانشقاق الذي قاموا به على الإمام أحمد: (إياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه، ثم قلتم في الاحاديث، تحمل على ظاهرها وظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى قرأ الاحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه. ولقد كسيتم هذا المذهب شينا قبيحا حتى صار لا يقال حنبلي إلا مجسم، ثم زينتم مذهبكم أيضا بالعصبية ليزيد بن معاوية، ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته، وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة)([210])

قال القاضي: إن استيعاب هذه القضية من الناحية القضائية يستدعي توضيحا أكثر.

قال الحنبلي: لا بأس سيدي.. أنت تعلم أن العادة فيمن ينتمي إلى جهة أو يعظمها أن يلتزم آراءها ويحترمها حتى لو خرج عنها في بعض المسائل.

قال القاضي: ذلك صحيح.

قال الحنبلي: لكن ابن تيمية لم يفعل هذا.. فقد انحاز انحيازا كليا للمنحرفين عن إمامه، بل لو طبقنا عليه المقاييس التي يطبقها على أعدائه لجعلنا إمامه في زمرتهم.. ذلك أنه كان يميل ميلا شديدا إلى النواصب من الحنابلة وأهل الحديث، كما يميل إلى المجسمة منهم.

وإن أذنت لي سيدي القاضي سأضرب لك مثالين على ذلك.. يعتبرهما ابن تيمية أئمة من أئمة الدين..

قال القاضي: هات الأول.

قال الحنبلي: المثال الأول([211]) هو البربهاري، وهو رجل من كبار الحنابلة وقد كان يقف موقفا سلبيا من آل البيت، حتى أنه لم يكن يعتبر الإمام عليا خليفة من خلفاء المسلمين، وقد قال في كتابه المسمى زورا وبهتانا (السنة): (والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان)([212])، ومعنى هذا أن علي بن أبي طالب ومن معه من البدريين والمهاجرين والأنصار ليسوا على الجماعة، بينما عد معاوية وفئته الباغية من أعاريب لخم وجذام هم الجماعة بعد صلح الحسن.

وقال أيضا: (واعلم أن الدين العتيق ما كان من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتل عثمان بن عفان وكان قتله أول الفرقة وأول الاختلاف فتحاربت الأمة وتفرقت واتبعت الطمع والأهواء والميل للدنيا)([213]) انظر – سيدي القاضي – كيف لم يستثن علياً ومن معه من البدريين والمهاجرين والأنصار!! وكانت الأغلبية الساحقة من هؤلاء مع علي وهم الجماعة يومئذٍ وهم الفئة العادلة لا الباغية كما لم يستثن البربهاري المعتزلين من الصحابة أيضاً.

ثم نجد البربهاري بعد هذا يوصي بالآثار وينسى مثل حديث عمار ونحوه وعندما أحس بأن الناس سيتهمونه بالنصب لإيراده من هذا التعصب ضد الإمام علي جاء بقاعدة تسكت هؤلاء، فقال: (واعلم إذا سمعت الرجل يقول: فلان ناصبي فاعلم أنه رافضي)([214])، وبهذا يكون قد قطع الطريق على من تسول له نفسه أن يتهمه بالنصب.. وليته أخبرنا عن الذي نسمعه يقول عن الرجل من أهل السنة: فلان رافضي، هل يكون القائل ناصبياً؟

وقال: (من وقف في عثمان وعلي ومن قدم علياً على عثمان فهو رافضي قد رفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!) ([215])

وهو بهذا يتهم عمار بن ياسر وأبا ذر والمقداد وغيرهم من الصحابة بأنهم روافض لأنهم كانوا يرون تفضيل علي على أبي بكر وعمر فضلاً عن عثمان.

قال القاضي: وعيت هذا، فهات المثال الثاني.

قال الحنبلي:  المثال الثاني([216]) هو الخلال الحنبلي صاحب كتاب السنة([217])، وهو أستاذ ابن تيمية في نصره معاوية، فقد كان يروي الموضوعات والمناكير في فضل معاوية، حتى أنه روى عن أحدهم قوله: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه، قال: لا والله بل في عدله!!) مع أن هذه رواية مكذوبة، فالأعمش من شيعة الكوفة الذين كانوا يذمون معاوية ـ بل بعضهم يكفره ـ ولذلك، فإنه لن يقول مثل هذا الكلام، بالإضافة إلى أنه لم يدرك معاوية فقد ولد بعد موت معاوية بسنة فكيف أدركه؟

لقد سرد الخلال – سيدي القاضي – كثيراً من الآثار في فضل معاوية، والتي تأثر بها ابن تيمية بعد ذلك، كقولهم: إن معاوية يشبه المهدي.. وأنه أفضل من عمر بن عبد العزيز.. وأنه خال المؤمنين، وكاتب الوحي، وأنه أفضل من ستمائة من أمثال عمر بن عبد العزيز، وأنه أحلم الناس، وأنه أعطى ثلاث سفرجلات ليلقى بهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة، وأنه يزاحم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب الجنة…

وهكذا سيدي القاضي نجد في الحنابلة أمثال محمد بن عبد الواحد الحنبلي المعروف بغلام ثعلب الذي كان لا يبدأ درسه إلا بعد قراءة جزء فيه الأحاديث الموضوعة في فضل معاوية، فكان يلزم كل طالب من طلابه بقراءة ذلك الجزء أولاً ([218]).

البينة الثانية:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات البينة الثانية.

قال الحنبلي: البينة الثانية – سيدي القاضي – دفاعه الشديد عن النواصب الذين بارزوا أهل البيت بالمحاربة وخصوصا معاوية، بل محاولة إضفاء شرعية له ولتصرفاته من خلال الأحاديث النبوية المطهرة مع أنه لا يصح في فضائله ولا حديث واحد، بل الأحاديث الصحيحة على ذمه، وبيان خطورته على الإسلام المحمدي الأصيل.

وقد نقل ذلك الحافظ الذهبي عن إسماعيل بن راهويه الذي كان يقرن بالإمام أحمد([219]).

وثبت عن النسائي صاحب السنن، الذي طلب منه أهل دمشق أن يكتب في فضائل معاوية فقال: ما أعرف له فضيلة إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أشبع الله بطنه)([220])

بل ثبت عن الحسن البصري ما هو أكثر من ذلك، فقد قال: (أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخدامه بعده ابنه – يزيد – سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقتله حجر بن عدي وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر، ويا ويلا له من حجر!!)([221])

بل ثبت في الآثار الكثيرة عن علي وسائر أئمة أهل البيت وابن عباس وأبي ذر وعمار وعبادة بن الصامت وغيرهم في طعن معاوية ما هو أكثر من ذلك بكثير..

ولكن ابن تيمية لم يهتم بذلك كله.. ولم يراعه.. مع أنه يزعم أنه يعظم السلف وأهل الحديث، ويأخذ عنهم.. ولكنه لا يأخذ عنهم إلا ما يشتهيه..

انظر إلى هذا الثناء الذي يثني به على معاوية وقارنه بما يقوله عن الإمام علي، لقد قال: (ومعاوية لم يعرف عنه قبل الإسلام أذى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بيد ولا بلسان، فإذا كان من هو أعظم معاداة للنبي من معاوية قد حسن إسلامه، وصار ممن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فما المانع أن يكون معاوية كذلك؟.. وكان من أحسن الناس سيرة في ولايته، وهو ممن حسن إسلامه، ولولا محاربته لعلي وتوليه الملك، لم يذكره أحد إلا بخير، كما لم يذكر أمثاله إلا بخير. وهؤلاء مسلمة الفتح – معاوية ونحوه – قد شهدوا مع النبي عدة غزوات، كغزاة حنين والطائف وتبوك، فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ما لأمثاله، فكيف يكون هؤلاء كفارا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر، وبعض سنة إحدى عشرة؟)([222])

ويقول عن اغتصابه للخلافة: (فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده.. وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة.. عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي.. وعن مجاهد قال لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي.. أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية قالوا: في حلمة قال: لا والله بل في عدله.. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال لما قدم معاوية فرض للناس على أعطيه آبائهم حتى انتهى الى فأعطاني ثلثمائة درهم)([223])

ثم أخذ يسوق النصوص الكثيرة عن سلفه وذكرهم لفضائل معاوية محاولا كل جهده تصحيح روايتها عنهم، ثم يقول بعدها: (وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال: أصاب إنه فقيه.. وروى البغوي في معجمه بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إمامكم هذا يعني معاوية.. فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة)([224])

انظر سيدي القاضي كيف يجمع الروايات المختلفة، وكيف يلفق بينها مع أنها ليست واردة عن المعصوم، بينما يرد الأحاديث الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق علي، ويؤولها تأويلا بعيدا ليسلم له هذا الصنم الذي راح يعبده من دون الله، يقول: (وقوله: (اللهم انصُر من نصره، واخذل من خذله) خلاف الواقع؛ فإن الواقع ليس كذلك، بل قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا معه فما خذلوا كسعد ابن أبي وقاص الذي فتح العراق لم يقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله تعالى.. وكذلك قوله: (والِ من والاه، وعادِ من عاداه) مخالف لأصول الإسلام؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض هم إخوة مؤمنون.. فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للواحد من أمته: (اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه) والله تعالى قد أخبر أنه ولي المؤمنين والمؤمنون أولياؤه وأن بعضهم أولياء بعض، وأنهم إخوة وإن اقتتلوا وبغى بعضهم على بعض)([225])

ولم يكتف بذلك، بل راح يشكك في خلافة أمير المؤمنين علي، فقال: (إن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي، وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة)([226])

ويقول مشككا في صحة خلافته: (أهل العلم بالحديث يروون في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة بخلاف خلافة علي فإن نصوصها قليلة، فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم فحصل بهم مقصود الإمامة وقوتل بهم الكفار، وفتحت بهم الأمصار، وخلافة علي لم يقاتل فيها كفار، ولا فتح مصر، وإنما كان السيف بين أهل القبلة)([227])

ويقول: (ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق)([228])

ويقول: (ولم يكن في خلافة علي للمؤمنين الرحمة التي كانت في زمن عمر وعثمان، بل كانوا يقتتلون ويتلاعنون، ولم يكن لهم على الكفار سيف بل الكفار كانوا قد طمعوا فيهم وأخذوا منهم أموالا وبلادا)([229])

بل إنه عند مقارنته بين خلافة علي ومعاوية يفضل خلافة معاوية، فيقول: (فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعليّ؛ فيلزم أن تكون رعية معاوية خيراً من رعية عليّ، ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعليّ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ)([230]).

بل إنه تجاوز ذلك، فراح يرمي بالتشيع كل من تكلم في معاوية، وأنت تعلم أن التشيع عنده مساو للكفر، بل هو أشد عنده من الكفر، لقد قال عن الحاكم: (هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع، وقد طلب منه أن يروي حديثا في فضل معاوية، فقال: ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي، وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل، وهو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة، بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله بقتال الناكثين، والقاسطين)([231])

مع أن الحاكم من كبار المحدثين الذين شهدت لهم الأمة بذلك، وقد وصفه الذهبي مع تشدده مع الرجال، فقال: (وكان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف. جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفّاظ إليه، ولم يبقَ له نظير في هذا الشأن)

ونقل كلمات الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل في حقّه، فكان مما نقله عن الحافظ أبي علي النيسابوري أنه وصفه بـ: (الإمام في الحديث بلا مدافعة)، وعن الحافظ ابن طاهر عن سعد بن علي الزنجاني أنه قال عنه: (إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم)، وعن أبي عبد الله بن مندة أنه قال: (الذين أخرجوا الصحيح وميَّزوا الثابت من المعلول، والخطأ من الصواب أربعة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو عبد الرحمن النسائي)، بل إن الذهبي نفسه قال عنه: (ولم يكن أحد في رأس الثلاثمئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جارٍ في مضمار البخاري وأبي زرعة)

لكن كل هذه الشهادات لم تنفعه عند ابن تيمية ما دام يحمل ذلك الموقف من معاوية.. وكأن معاوية هو قسيم الجنة والنار.. وكأن ما ورد في الأحاديث من رمي من يبغض عليا بالنفاق قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاوية ولم يقلها في علي.

البينة الثالثة:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات البينة الثالثة.

قال الحنبلي: البينة الثالثة – سيدي القاضي – هي مبالغة ابن تيمية الشديدة في تعظيم المحاربين لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمثال يزيد وغيره من الأمويين حتى أنه يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر بهم.. بل بشرت بهم الكتب المقدسة.

ففي سياق حديثه عن مآثر بني أمية وظهور الإسلام وشرائعه في زمن دولتهم ومنَعة المسلمين وهيبتَهم في ظلالها يقول: (وهذا تصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (لا يزال هذا الدين عزيزاً ما تولّى اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)، وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة، حيث قال في بشارته إسماعيل: (وسيلد اثني عشر عظيماً)، ومن ظنّ أن هؤلاء الاثني عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل)([232])

بل إنه صرح بأسمائهم، فقال تعليقا على الحديث السابق: (وهكذا كان، فكان الخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عزّ ومنعة: معاوية، وابنه يزيد، ثم عبد الملك وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باقٍ إلى الآن؛ فإنّ بني أمية تولّوا على جميع أرض الإسلام، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة)([233])

وهو يعتبر بيعة يزيد بيعة شرعية، وخلافته شرعية مع أن كبار الصالحين قاموا في وجهه وعارضوه، وعلى رأسهم سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين، لكن ابن تيمية لم يبال بذلك كله، بل يذهب – كعادته في تلفيق الإجماعات – إلى أن كون يزيد ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه أمر معلوم لكلّ أحد، ومن نازع في ذلك فهو مكابر، قائلاً: (إن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية، وصار متولّياً  على الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد المسلمين)([234])

والعجيب أنه يقول هذا في شأن يزيد في الحين الذي يغمز فيه في خلافة الإمام علي بالقول إن خلافته كانت في زمن فتنة واختلاف بين الأمّة، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره كما ذكرنا ذلك سابقا([235]).

وهو لا يكتفي بتصحيح ملكه على الناس عنوة وظلما واستبدادا، بل يحاول أن يرد كل ما تواتر من الأدلة على فسوقه وفجوره وانحلاله وبعده عن الدين بل محاربته له، فعند حديثه عن عجز الشيعة – كما يدّعي- عن إثبات إيمان عليّ وعدالته إلا إذا صاروا من أهل السنَّة يقول: (فإن احتجُّوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء [الخلفاء الثلاثة]، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار)([236])

بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرّر أن يزيد مغفور له بدعوة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (وقد استفاضت السنن النبوية بأنه يخرج من النار قوم بالشفاعة، ويخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.. وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أوّل جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم)، وأوّل جيش غزاهم كان أميرهم يزيد)([237])

بل إنه لأجل نصرة يزيد راح يدافع عن جريمة من الجرائم الكبرى التي فعلها يزيد، وهي وقعة الحرة، فقد قال عنها – وهو في سياق الردّ على استدلال ابن المطهر الحلّي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) على أهمية مسألة الإمامة -: (إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد ابن معاوية، فقال: أطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله: سمعت يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وهذا حدّث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيدٌ، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان، ثم إنّه اقتتل هو وهم، وفعل بأهل الحرّة أموراً منكرة، فعلم أن الحديث دلّ على ما دلّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، وإن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمور مات ميتة جاهلية)([238])

مع العلم أن الذين وصفهم ابن تيمية بأن (من قتلهم يزيد في تلك الواقعة ماتوا ميتة جاهلية) كانوا من الصحابة وأولاد الصحابة الذين يتاجر بهم ابن تيمية متى شاء، ويبيعهم متى شاء.

وليته وقف عند ذلك الحد، بل إنه راح يطبق موقفه هذا على أعظم جريمة فعلها يزيد، بل أعظم جريمة وقعت في هذه الأمة، وهي قتل الإمام الحسين وأهل بيته الطاهرين، يقول في ذلك: (وإنْ أراد [ابن المطهر] باعتقادهم [أهل السنّة] إمامة يزيد، أنهم يعتقدون أنه كان ملك المسلمين وخليفتهم في زمانه وصاحب السيف، كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس، فهذا أمر معلوم لكل أحد، ومن نازع في هذا كان مكابراً، فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية، وصار متولّياً على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد المسلمين، والحسين (رضي الله عنه) استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستّين، وهي أوّل سنة في ملك يزيد، والحسين استشهد قبل أن يتولّى على شيء من البلاد)([239])

انظر سيدي القاضي كيف يسوق تهمته للإمام الحسين بتلك الحيلة وذلك الدهاء، لقد ذكر أن (الحسين استشهد قبل أن يتولّى على شيء من البلاد)، فإذا ضممنا إليها ادعاءه أن (المتولّي على جميع بلاد المسلمين حين استشهد الحسين هو يزيد) نستنتج نتيجة واضحة، وهي: (أن الحسين خرج على وليّ الأمر والخليفة الشرعي في زمانه)

أما الحكم الشرعي لمن يفعل ذلك فهذا يمكن معرفته من النصوص الكثيرة التي حاول فيها ابن تيمية أن يؤسّس فكرياً إلى أن الخارج على وليّ الأمر هو صاحب فتنةٍ يشقّ بفعله عصا المسلمين ويفرِّق جماعتهم، وموته في هذا الطريق هو ميتة جاهلية.

وهو يصرّح في مواضع كثيرة من كتبه على أنّه قد حصل من الفساد في خروج الإمام الحسين ما لم يكن ممكناً أن يحصل لو قعد في بلده وجنَّب المسلمين ما يحصل لهم بخروجه من نقص الخير، والشرّ العظيم.

ومن ذلك قوله: (ولهذا لما أراد الحسين أن يخرج إلى أهل العراق، لمّا كاتبوه كتباً كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنَّهم أنه يُقتل، حتى أن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك عن الخروج. وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين. والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ تارة، فتبيَّن أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا.. وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يحصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سبباً لشرّ عظيم. وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن)([240])

2 ـ تلقين النواصب كيفية مواجهة الموالين للعترة:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الثاني.

قام الميلاني، وقال: الشاهد الثاني ـ سيدي القاضي ـ هو أن ابن تيمية ومدرسته لم يكتفوا بذلك الدفاع المستميت عن النواصب.. بل ضموا إليه ذكر مقولاتهم والاستشهاد بها والدفاع عنها.. بل وإضافة المزيد من الدعم لها.. وهو ما لم يجرأ على تسطيره كل الأمة ما عدا ابن تيمية ومدرسته من السابقين واللاحقين.

قال القاضي: هذه دعوى فما البينات الدالة عليها؟

قال الميلاني: البينات الدالة على ذلك كثيرة جدا سيدي القاضي، فكل كتابه [منهاج السنة] تنظير للنصب، وذكر لمقولات النواصب، بل إضافة المزيد من التنظير والتأكيد لها.. وقد أقر المتأخرون من أتباعه ـ عند دفاعهم عنه ـ بهذا..

فهذا أحدهم يبرر ذلك بقوله: (إن المتأمل لهذه الظروف التي عاشها شيخ الإسلام أمام هذا الكتاب يجد أن له خيارين.. الخيار الأول: وهو المشهور عند العلماء وأصحاب التآليف: هو أن يقوم شيخ الإسلام بدفع الطعون عن الصحابة ببيان كذبها وأنها مختلقة، فكلما رمى الرافضي بشبهة أو طعن على صحابي قام شيخ الإسلام بردها أو برده بكل اقتدار لينفيه عن هذا الصحابي. هذا هو الخيار الأول، وهو في ظني الخيار الذي كان الحافظ  ابن حجر يريد لشيخ الإسلام أن يسلكه مع الرافضي، وهو خيار جيد ومقبول لو كان الخصم غير الرافضي.. الخيار الثاني: وهو الذي اختاره شيخ الإسلام لأنه يراه ذا مفعول فعال في مواجهة أكاذيب الروافض وغلوهم المستطير وهذا الخيار يرى أن أجدى طريقة لكف بأس الروافض هو مقابلة شبهاتهم بشبهات خصومهم من الخوارج والنواصب، أي مقابلة هذا الطرف بذاك الطرف المقابل له، ليخرج من بينهما الرأي الصحيح الوسط، فكلما قال الرافضي شبهة أو طعناً في أحد الخلفاء الثلاثة – أبي بكر وعمر وعثمان –قابلها شيخ الإسلام بشبهة مشابهة للنواصب والخوارج في علي.. فهذه (حيلة) ذكية من شيخ الإسلام ضرب بها النواصب بالروافض ليسلم من شرهم جميعاً، وهذا ما لم يفهمه أو تجاهل عنه من بادر باتهامه بتلك التهمة الظالمة) ([241])

قال القاضي: وعيت هذا، فهلا ضربت لي أمثلة عن هذا.

قال الميلاني: سأضرب لك أربعة أمثلة على ذلك، وهي كافية لبيان مدى حقده على الإمام علي، ونصرته للنواصب في ذلك.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الميلاني: المثال الأول هو قوله: (فإذا قالت لـه الخوارج الذين يكفرون علياً أو النواصب الذين يفسقونه: إنه كان ظالماً طالباً للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه، فهذا الكلام  إن كان فاسداً ففساد كلام الرافضي في  أبي بكر وعمر أعظم، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهاً مقبولاً فهذا أولى بالتوجه والقبول)([242])

وبعد أن نقل هذه التهم الخطيرة في حق الإمام علي راح ينتصر لها بكل ما أوتي من قوة، فقال: (لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم، ومن غير أن يضرب أحداً لا بسيف ولا عصا، ولا أعطى أحداً ممن ولاه مالاً، واجتمعوا عليه فلم يول أحداً من أقاربه وعترته، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين، وكان لـه مال  قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم.. ثم مع هذا لم يقتل مسلماً على ولا يته، ولا قاتل مسلماً بمسلم، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار، حتى شرع بهم في فتح الأمصار، واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان، فإن جاز للرافضي أن يقول: إن هذا كان طالباُ للمال والرياسة، أمكن الناصبي أن يقول: كان علي ظالماً طالباً للمال والرياسة، قاتـل على الـولاية حتى قتـل المسلمون بـعـضـهم بـعـضـاً ولـم يـقاتل كافراَ، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم.. فإن جاز أن يقال: علي كان مريداً لوجه الله، والتقصير من غيره من الصحابة، أو يقال: كان مجتهداً مصيباً وغيره مخطئاً مع هذه الحال، فأن يقال: كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين، والرافضة مقصرون في معرفة حقهم، مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى، فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك، وشبهة الخوارج الذين ذموا علياً وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وعثمان وكفروهم، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه؟ فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أولئك قالوا: ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمناه، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالماً، وليس علينا أن نبايع عاجزاً أو ظالماً) ([243])

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الميلاني: لم يكتف ابن تيمية بكل تلك التهم التي صاغها على لسان النواصب، والتي تتهم عليا في فترة توليه الخلافة، والتي تعرض فيها لكل صنوف الأذى لحماية الدين من التحريف والتبديل.. بل راح يتهمه ـ على لسانهم ـ بما هو أخطر من ذلك.. وهو ما يتعلق بثبوت إيمانه وعدالته.. فقد قال في ذلك: (ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان على وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه: لا نسلم أنه كان مؤمناً بل كان كافراً أو ظالماً – كما يقولون هم في أبي بكر وعمر – لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل، فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار، فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعي النفاق، وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان، أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول: كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد بينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة، حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضاً له وعداوة، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة، وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية، فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك، وإلا فكان في الباطن معهم، ولهذا كانت الباطنية من أتباعه، وعندهم سره، وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه) ([244])

وهو يؤكد هذا الكلام الخطير بكل صنوف التأكيد حتى أنه يعقب عليه بقوله: (ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة، لأن شبه الرافضة أظهر فساداً من شبه الخوارج  والنواصب، والخوارج أصح منهم عقلاً وقصداً، والرافضة أكذب وأفسد ديناً) ([245])

المثال الثالث:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الميلاني: المثال الثالث سيدي القاضي هو انتصار ابن تيمية للناكثين لبيعة الإمام علي، على الرغم مما ورد في الأحاديث النبوية من التحذير منها، فقد قال: (فإن جاز للرافضي أن يقدح فيهما ـ أي في طلحة والزبير ـ يقول: بأي وجه تلقون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها، مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر بأمرها ويطيعها، ولم يكن إخراجها لمظان الفاحشة، كان للناصبي أن يقول: بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها، وسقطت من هودجها، وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها؟ ومعلوم أن هذا مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها وتسليط الأجانب على قهرها وإذلالها وسبها وامتهانها، أعظم من إخراجها من منزلها بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة التي لا يأتي إليها أحد إلا بإذنها، ولا يهتك أحد سترها، ولا ينظر في خدرها)([246])

وهكذا راح يدافع عن خروجها، وعمن أخرجها في نفس الوقت الذي يكيل فيه التهم للإمام علي وأصحابه الذين راحوا يحافظون على وحدة الأمة ويواجهون الناكثين والمارقين والقاسطين الذين ورد النص بحربهم للإمام علي، وبأن عليا يؤدي ما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحصل له.

ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوسا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إلينا قد انقطع شسع نعله، فرمى به إلى علي، فقال: (إن منكم رجلا يقاتل الناس على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، قال أبو بكر: أنا، قال: لا، قال عمر: أنا، قال: لا، ولكن خاصف النعل)([247])

وفي نفس الوقت ورد من النصوص ما يدل على الانحراف الخطير الذي وقع فيه من حارب الإمام علي، ولم يقف بجانبه في مواجهة البغي الذي تعرض له من الطلقاء وأبناء الطلقاء.

ومن تلك الأحاديث ما ورد من تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة من الخروج على الجمل وهي كثيرة جداً، وقد صححها الكثير من العلماء، وهي حقيقة تاريخية ثابتة لا يمكن إنكارها، حتى أن الشيخ الألباني تلميذ ابن تيمية النجيب صحح ما ورد في ذلك من الأحاديث([248])، ونقل نفس الموقف عن خمسة من علماء الحديث ومحققيهم، فقال: (وعلى هذا، فالحديث من أصح الأحاديث ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً: الأول: ابن حبان، فقد أخرجه في (صحيحه) كما سبق.. الثاني: الحاكم، بإخراجه إياه في (المستدرك) كما تقدم، ولم يقع في المطبوع منه التصريح بالتصحيح منه ولا من الذهبي، فالظاهر أنه سقط من الطابع أو الناسخ، فقد نقل الحافظ فريد الفتح عن الحاكم أنه صححه، وهو اللائق به، لوضوح صحته.. الثالث: الذهبي، فقد قال في ترجمة السيدة عائشة من كتابه العظيم: (سير أعلام النبلاء): (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجوه).. الرابع: الحافظ ابن كثير، فقال في (البداية) بعد أن عزاه كالذهبي لأحمد في (المسند): (وهذا إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه).. الخامس: الحافظ ابن حجر، فقد قال في (الفتح) بعد أن عزاه لأحمد وأبي يعلى والبزار: (وصححه ابن حبان والحاكم، وسنده على شرط الصحيح)([249])

وقد علق الألباني على هذه المواقف بقوله: (فهؤلاء خمسة من كبار أئمة الحديث صرحوا بصحة هذا الحديث، وذلك ما يدل عليه النقد العلمي الحديثي كما سبق تحقيقه، ولا أعلم أحدا خالفهم ممن يعتد بعلمهم ومعرفتهم في هذا الميدان سوى يحيى بن سعيد القطان في كلمته المتقدمة، وقد عرفت جواب الحافظين الذهبي والعسقلاني عليه، فلا نعيده)([250])

ثم قال بعد أن رد على شبه من أنكره: (وجملة القول: أن الحديث صحيح الإسناد ولا إشكال في متنه، خلافاً لظن الأستاذ الأفغاني، فإنّ غاية ما فيه أن عائشة لما علمت بالحوأب، كان عليها أن ترجع، والحديث يدل أنها لم ترجع! وهذا ممّا لا يليق أن ينسب لأمِّ المؤمنين، وجوابنا على ذلك: أنه ليس كل ما يقع من الكمّل يكون لائقاً بهم، إذ المعصوم من عصمة الله، والسني لا ينبغي له أن يغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين عندهم!.. ولا نشك أنّ خروج أم المؤمنين كان خطاً من أصله ولذلك همَّت بالرجوع حين علمت بتحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الحوأب، ولكن الزبير أقنعها بترك الرجوع بقوله: (عسى الله أن يصلح بك بين الناس)، ولا نشك أنه كان مخطئاً في ذلك أيضاً، والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين للمتقاتلين اللتين وقع فيهما مئات القتلى، ولا شكَّ ان عائشة هي المخطئة، لأسباب كثيرة وأدلة واضحة ومنها ندمها على خروجها، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها، وذلك مما يدلُّ على أن خطأها من الخطأ المغفور بل المأجور)([251])

ثم ذكر الأخبار التي تدل على ندمها، وذكر بعد ذلك قول قيس بن أبي حازم عن خروج عائشة بقوله: (قالت عائشة وكانت تحدّث نفسها أن تدفن في بيتها فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثاً أدفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع قلت: تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامة كلية وتابت من ذلك)([252])

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الميلاني: المثال الرابع سيدي القاضي أخطر من السابق، فهو يتعلق بانتصار ابن تيمية للبغاة من الطلقاء الذين حاربوا الإمام علي، بل استعملوا كل جهودهم لتحريف الدين والقيم التي جاء بها، والتي كان الإمام علي ممثلها الأكبر.

فقد قال ابن تيمية ينتصر لمعاوية ـ على لسان النواصب ـ: (قالوا ومعاوية أيضاً كان خيراً من كثير ممن استنابه علي، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة، فإن علياً استـناب زيـاد بـن أبيه، وقد أشاروا على علي بتولية معاوية. قالوا: يا أمير المؤمنين توليه شهراً واعزله دهراً. ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة، إما لا ستحقاقه  وإما لتأليفه واستعطافه.. فإذا قيل: إن علياً كان مجتهداً في ذلك، قيل: وعثمان كان مجتهداً فيما فعل، وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية أو إمارة أو مال، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض، حتى ذل المؤمنين وعجزوا عن مقاومة الكفار، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم؟ ولا  ريب أنه لو لم يكن قتال، بل كان معاوية مقيماً على سياسة رعيته،وعلي مقيماً على سياسة رعيته، لم يكن في ذلك من الشر أعظم مما حصل بالاقتتال، فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام، بل سفكت الدماء، وقويت العداوة والبغضاء، وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق، وهي طائفة علي، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما كانت تطلبه ابتداء، ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه، وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة، بل كان ألامر مع عدم القتال خيراً وأصلح منه بعد التقال، وكان علي وعسكره أكثر وأقوى، ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومصالحته، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفوراً لصاحبه، فاجتهاد عثمان أن يكون مغفوراً  أولى وأحرى)([253])

ولم يكتف ابن تيمية بهذه النصائح التي وجهها للإمام علي ومن معه من كبار الصحابة، والذين وردت الأحاديث الكثيرة الدالة على فضلهم، وعلى فضل جهادهم في ذلك العصر بالذات.. بل راح يدافع عن معاوية، وينتصر له، ويقول: (وأما معاوية وأعوانه فيقولون: إنما قاتلنا علياً قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا، فإنه بدأنا بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه. فإذا قيل لهم: هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين. قالوا ما نعلم أنه إمام تجب طاعته، لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص، ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص بإمامته ووجوب طاعته. ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق، فإن هذا قد كتم وأخفى في زمن أبي بكر وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا، فكيف إذا كان باطلاً؟)([254])

بل راح يقرنه بمعاوية، ويقيسه به، فيقول: (اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل، وأنتم وغيركم تقولون: إن علياً تخلف عنها مدة. فيلزم على قولكم أن يكون علي مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماماً، فيلزم حينئذ كفر علي بمقتضى حجتكم، أو بطلانها في نفسها. وكفر علي باطل، فلزم بطلانها)([255])

3 ـ إنكار ما ورد في فضل العترة من أحاديث:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الثالث.

قال الميلاني: الشاهد الثالث ـ سيدي القاضي ـ هو أن ابن تيمية ومدرسته لم يكتفوا بذلك الدفاع المستميت عن النواصب.. ولا بذكر مقولاتهم والاستشهاد بها والدفاع عنها.. بل راحوا يكذبون كل ما ورد في الأحاديث في فضل العترة الطاهرة، وخصوصا في يعسوب الدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والذي استأثر ـ بشهادة المحدثين الكبار بما فيهم الإمام أحمد ـ بأكبر نصيب من الأحاديث الدالة على فضله وإمامته ومرجعيته للأمة، باعتباره التلميذ الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والممثل الأعظم للشخصية المسلمة بكل جوانبها.

قال القاضي: فما البينات الدالة على ذلك؟

قال الميلاني: كثيرة هي سيدي القاضي.. فابن تيمية يتجرأ على تكذيب كل حديث لا يستسيغه عقله ومزاجه.. وإن لم يستطع تكذيبه، فإنه يتلاعب بمعناه ليصرفه عن ظاهره بكل صنوف التأويل.

قال القاضي: لقد سبق أن ذكرت لي أمثلة على ذلك..

قال الميلاني: أجل.. وزيادة على ذلك سأذكر لك مثالين يكفيان كل عاقل في الدلالة على مدى حقد ابن تيمية ونصبه لآل بيت النبوة.

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الميلاني: المثال الأول تكذيبه ما ورد في نزول قوله تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: 12]، فقد قال ابن تيمية في ذلك: (إنه حديث موضوع باتفاق أهل العلم)([256]) ، مع أن الحديث رواه جملة  من أعلام المفسرين من السلف الذين يرجع إليهم ابن تيمية في العقائد وقصص الأنبياء وغيرها..

فقد روى الطبري في تفسير الآية ([257]) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ الآية الكريمة، ثم التفت إلى علي، فقال: (سألت الله أن يجعلها أذنك)، قال علي: (فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسيته)

وروى عن بريدة قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي: (يا علي؛ إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحق على الله أن تعي)، قال: فنزلت ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: 12]

وروى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (إن الله أمرني أن أعلمك، وأن أدنيك، ولا أجفوك ولا أقصيك)، ثم ذكر مثله.

وقد ورى أمثال هذه النصوص بالإضافة لمحمد بن جرير الطبري أبو بكر البزار في مسنده، وسعيد بن منصور في سننه، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن المنذر، وابن مردويه.. ورواه من المحدثين: أبو نعيم في حليته، والضياء المقدسي في المختارة، وابن عساكر، وغيرهم([258]).. ومع ذلك لم يعر ابن تيمية كل هؤلاء أدنى اهتمام، ولو كان الحديث في غيره لاعتبره متواترا، ولرمى بالبدعة والضلال كل من تكلم فيه.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الميلاني: المثال الثاني تكذيبه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، والذي قال فيه: (وحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي، وبين أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب)([259])

وهذه جرأة عظيمة على هذا الحديث، بل وتعقيب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله له في حق الإمام علي، ولو أنه قاله في حق غيره، لكتب فيه الرسائل المدافعة عنه، والمبينة لتواتره وصحته.

مع أن الحديث قال بحسنه ولو في بعض طرقه الكثير من الأعلام من أمثال الترمذي – على ما نقل عنه الدهلوي في شرح المشكاة – والعلائي، والزركشي، والمجد الشيرازي، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والسيوطي، والسمهودي، والصالحي الشامي، وابن عراق، وابن حجر المكي، وعلى القاري، والمناوي، والعزيزي، والزرقاني، والشوكاني، وغيرهم..

بل إن إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين لم يكتف بتحسينه، بل ذهب إلى القول بصحته ([260])..

4 ـ تنقيص العترة وتجريحهم:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات الشاهد الرابع.

قال الميلاني: الشاهد الرابع ـ سيدي القاضي ـ هو أن ابن تيمية ومدرسته من بعده لم يكتفوا بكل ما سبق، بل راحوا يستعملون كل ما أوتوا من مكر وحيلة للاستنقاص من العترة الطاهرة مع ما ورد في فضها من نصوص.

قال القاضي: مع ما يقيني بما ذكرت بسبب ما طرحته من آرائه في هذا، إلا أن وظيفتي تتطلب مني ألا أقبل منك قولا عاريا عن البينة.. فما البينة على ما تقول؟

قال الميلاني: البينات على ذلك سيدي أكثر من أن تحصى أو تستقصى.. ولهذا سأكتفي لك بأربعة أمثلة شافية كافية تتعلق بموقفه من الإمام علي، والذي لم يدع مناسبة للتحقير من شأنه إلا استغلها([261]).

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الميلاني:  المثال الأول سيدي القاضي يتعلق بموقفه من إسلام الإمام علي وما ورد من النصوص الدالة على صلاته قبل الناس.. فمع أن النصوص الكثيرة تدل على أن عليا هو أول من أسلم، لكونه كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو كافله ومربيه من صغره الباكر.. ومع كون هذا مما اعترف به كبار الأئمة المتقدمين على ابن تيمية والمتأخرين عنه([262]) إلا أن ابن تيمية يجتهد بكل ما أوتي من حيلة لينكر هذه الفضيلة العظيمة، ويضطرب في ذلك اضطرابا شديدا..

فقد قال تعليقا على قول الإمام علي: (صليت ستة أشهر قبل الناس): (فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوما أو نحوه، فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر)([263]) ، فهو في هذا النص يعترف بإسلامه قبل أبي بكر، ولا ينقل قولا على الخلاف.

وفي موضع آخر يشكك في ذلك ويقول: (وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي، فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا، وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي كانت أكمل وأنفع من صحبة علي ونحوه)([264]) ، فيردد الأمر – مع التصريح بدعوى كون إسلامه بعد خديجة – ثم يفضل إسلام أبي بكر على كل تقدير.

وفي موضع ثالث ينسب القول بتقدم إسلام أبي بكر إلى أكثر الناس، فيقول: (قول القائل: علي أول من صلى مع النبي، ممنوع، بل أكثر الناس على خلاف ذلك، وأن أبا بكر صلى قبله) ([265])

بل إنه بالإضافة لكل هذا الاضطراب يشكك في أصل قبول إسلامه، فيقول: (.. وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع، فإن الناس متنازعون في أول من أسلم، فقيل: أبو بكر أول من أسلم، فهو أسبق إسلاما من علي، وقيل: إن عليا أسلم قبله، لكن علي كان صغيرا وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء، ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقا بالاتفاق، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر، فكيف يقال:علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك) ([266])

ولا يكتفي ابن تيمية بكل بهذا، بل يستعمل كل ما أوتي من حيلة لإثبات كفر الإمام علي قبل إسلامه، والتشكيك في إسلامه قبل بلوغه، غافلا عن كون الإمام علي ربي في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن كل إساءة له هي إساءة لتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسها، فيقول: (قبل أن يبعث الله محمدا لم يكن أحد مؤمنا من قريش، لا رجل ولا صبي ولا امرأة، ولا الثلاثة ولا علي! وإذا قيل عن الرجال: إنهم كانوا يعبدون الأصنام. فالصبيان كذلك، علي وغيره، وإن قيل: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ. قيل: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ. فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون، وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ. والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتفاق المسلمين، وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ؟ على قولين للعلماء. بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين. فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين. وأما إسلام علي فهل يكون مخرجا له من الكفر؟ على قولين مشهورين، ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر) ([267])

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الميلاني:  المثال الثاني يتعلق بما تواتر من النصوص والأدلة على تلك الشجاعة العظيمة التي كان عليها الإمام علي، والتي هي ثمرة تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له.. والتي جعلته بطلا في كل المعارك التي خاضها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أن كبار المشركين قتلوا على يديه.

قال القاضي: هذا من المعلوم بالضرورة.. ولا تزال مجتمعاتنا تردد هذا، وتعترف به.

قال الميلاني: وقد آلم هذا ابن تيمية كثيرا، فراح يدفعه بكل الوسائل.. فقد قال تعليقا على قول العلامة الحلي ـ عند ذكره لفضائل الإمام علي، والتي أهلته للإمامة ـ: (إنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام، وتشيدت أركان الإيمان، ما انهزم في موطن قط): (أما قوله: إنه كان أشجع الناس، فهذا كذب، بل كان أشجع الناس رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم)([268])

وهذه إجابة عجيبة.. فالحلي لم يكن يقصد أن الإمام علي أشجع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وكيف يقصد ذلك.. وهو يردد كل حين أن عليا ليس سوى ثمرة طيبة من ثمار التربية النبوية.. لكن ابن تيمية يغالط بمثل هذه الأغلوطات، ليشوه الإمام علي في نفوس المسلمين باعتباره منافسا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لا ثمرة من ثماره الطيبة.

ولم يكتف بهذا، بل راح يغير مفهوم الشجاعة المرتبط بالمعارك، لأنه لم يجد في تاريخ أحد من الصحابة من يعدل عليا في شجاعته وجهاده.. فقال: (وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير.. وكان يوم بدر مع النبي في العريش)([269])

ولم يكتف بهذا، بل راح يكذب كل الأدلة التاريخية التي تثبت الأدوار الكبرى التي قام بها الإمام علي في مواجهة المعتدين على المسلمين، سواء في (غزاة بدر) و(أحد) و(الأحزاب) و(خيبر) و(حنين) وغيرها([270]).. وفي المقابل أنكر كل ما ورد من الأدلة التاريخية على فرار الكثير من الصحابة بل كبارهم في الغزوات المختلفة..

وهكذا يتعامل ابن تيمية مع التاريخ بمثل ما تعامل مع السنة بمزاجيته التي تجعله يقبل ما يشاء له هواه، ويرفض ما يشاء.

المثال الثالث:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الميلاني:  المثال الثالث موقفه من خلافة علي، ورده كل ما حصل فيها من فتن إليه، وكأنه هو من أشعل نيران الفتن، لا من سعى لإطفائها، والحفاظ على الدين الذي راح الطلقاء وأبناء الطلقاء يتلاعبون به، فقد قال مقارنا بين الفترة التي تولاها الإمام علي والفترة التي سبقته: (..من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان، أعظم من اتفاقهم علي بيعة علي.. وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم مما اتفقوا على بيعة علي. والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا علياً، فإنه بايعه علي وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعبدالله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب، وأمثالهم، مع سكينة وطمأنينة بعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام، وأما علي فإنه بويع عقيب قتل عثمان والقلوب مضطربة مختلفة، وأكابر الصحابة متفرقون)([271])

وهكذا.. وبعد أن شكك في البيعة التي حصلت له راح يعتبره سببا في كل ما حصل للأمة في عهده من اضطراب، فقال: (من المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم، وحصل لــه سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة، علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعاً)([272])

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الميلاني:  المثال الرابع هو حقده على علي وأهل بيت النبوة الذي عبر عنه بقوله: (.. إن علياً لم ينزهه المخالفون، بل القادحون في  علي طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه، فإن الخوارج متفقون على كفره، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين – خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثنى عشرية، الذين اعتقدوه إماماً معصوماً، وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في  الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة، والخوارج  المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما، والمروانية الذين ينسبون علياً إلى الظلم، ويقولون: إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم، فكيف يقال مع هذا: إن علياً نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة.. ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في  علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة، وهم أعلم من الرافضة وأدين، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم، والذين قدحوا في علي وجعلوه كافراً وظالماً ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة.. بخلاف من يكفر علياً ويلعنه من الخوارج، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام.. بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون علياً، وجد هؤلاء خيراً من أولئك من وجوه متعددة، فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدين وأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلاً، فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان، ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته، لم يكن في المتولين لــه من يقدر أن يقاوم المبغضين لــه من الخوارج والأموية والمروانية، فإن هؤلاء طوائف كثيرة)([273])

وهذا الكلام وحده كاف للدلالة على مدى حقده على الإمام علي.. ولا يحتاج مني أي توضيح.

قال القاضي: ولكن كيف يقول هذا، وقد ورد في الحديث عن علي: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلي: أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)([274]) ؟

قال الميلاني: لو كان في إمكان ابن تيمية أن يحذف هذا الحديث الصحيح من دواوين السنة لفعل لكنه ـ عند عجزه عن ذلك ـ راح يتلاعب بمعناه ليفرغه من محتواه، فقد قال فيه: (المقصود هنا أنه يمتنع أن يقال: لا علامة للنفاق إلا بغض علي، ولا يقول هذا أحد من الصحابة، لكن الذي قد يقال: إن بغضه من علامات النفاق، كما في الحديث المرفوع: «لا يبغضني إلا منافق»، فهذا يمكن توجيهه، فإنه من علم ما قام به علي من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، ثم أبغضه على ذلك، فهو منافق، ونفاق من يبغض الأنصار أظهر ; فإن الأنصار قبيلة عظيمة لهم مدينة، وهم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وبالهجرة إلى دارهم عز الإيمان، واستظهر أهله، وكان لهم من نصر الله ورسوله ما لم يكن لأهل مدينة غيرهم، ولا لقبيلة سواهم، فلا يبغضهم إلا منافق. ومع هذا فليسوا بأفضل من المهاجرين، بل المهاجرون أفضل منهم. فعلم أنه لا يلزم من كون بغض الشخص من علامات النفاق أن يكون أفضل من غيره. ولا يشك من عرف أحوال الصحابة أن عمر كان أشد عداوة للكفار والمنافقين من علي، وأن تأثيره في نصر الإسلام وإعزازه وإذلال الكفار والمنافقين أعظم من تأثير علي، وأن الكفار والمنافقين أعداء الرسول يبغضونه أعظم مما يبغضون عليا. ولهذا كان الذي قتل عمر كافرا يبغض دين الإسلام، ويبغض الرسول وأمته فقتله بغضا للرسول ودينه وأمته. والذي قتل عليا كان يصلي ويصوم ويقرأ القرآن، وقتله معتقدا أن الله ورسوله يحب قتل علي، وفعل ذلك محبة لله ورسوله – في زعمه – وإن كان في ذلك ضالا مبتدعا. والمقصود أن النفاق في بغض عمر أظهر منه في بغض علي)([275])

وهكذا أصبح الحديث في نظر ابن تيمية منطبقا على عمر لا على علي.. أو أن الشيعة هم الذين حذفوا اسم عمر واستبدلوه باسم علي.


([1]) الدرر الكامنة 1: 153 – 156.

([2]) مجموع الفتاوى (4/ 319)

([3]) مجموع الفتاوى (4/ 319)

([4]) منهاج السنة النبوية (2/ 435)

([5]) منهاج السنة النبوية (2/ 429)

([6]) منهاج السنة النبوية (7/ 179)

([7]) منهاج السنة النبوية (2/ 434)

([8]) مجموع الفتاوى ( 3/382 ).

([9]) مجموع الفتاوى ( 13/385 ).

([10]) مجموع الفتاوى ( 13/361 ).

([11]) انظر: مقال للباحثة هدى بنت فهد المعجل، بعنوان: بلا تردد الإسرائيليات.

([12]) تفسير الطبري ، 6/4502.

([13]) تفسير الطبري ، 6/4505.

([14]) جامع البيان للطبري ، ج6 ، ص4510.

([15]) جامع البيان للطبري ، ج6 ، ص4511.

([16]) مجموع الفتاوى ( 3/382 ).

([17]) منهاج السنة ( 7/212 )

([18]) منهاج السنة ( 7/13 )

([19]) مجموع الفتاوى ( 15/201.

([20]) تفسير ابن أبي حاتم – محققا (5/ 1634)

.

([21]) مجموع الفتاوى ( 13/361 ).

([22]) مجموع الفتاوى ( 13/385 ).

([23]) تفسير ابن عطية (4/ 498)

([24]) مجموع الفتاوى ( 13/386 )

([25]) منهاج السنة النبوية (7/ 91)

([26]) تفسير البغوي – إحياء التراث (2/ 484)

([27]) تفسير البغوي – إحياء التراث (2/ 484)

([28]) تفسير البغوي – إحياء التراث (2/ 485)

([29]) النبوات لابن تيمية (2/ 873)

([30]) منهاج السنة النبوية (2/ 430)

([31]) منهاج السنة النبوية (2/ 434)

([32]) منهاج السنة النبوية (2/ 397)

([33]) منهاج السنة النبوية (2/ 398)

([34]) منهاج السنة:2/413.

([35]) منهاج السنة النبوية (2/ 415)

([36]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 258)

([37]) مجموع الفتاوى (15/ 30)

([38]) مجموع الفتاوى (15/ 30)

([39]) مجموع الفتاوى (15/ 31)

([40]) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ، ص: 84.

([41]) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (ص: 86.

([42]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)

([43]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)

([44]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 256)

([45]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 257).

([46]) شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 200)

([47]) سنن أبي داود 4/319 – 320.

([48]) في العلو (1/60).

([49]) السلسلة الضعيفة (1247)

([50]) مجموع الفتاوى (3/191)

([51]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([52]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 203)

([53]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (1/ 484)

([54]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (1/ 484)

([55]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 490)

([56]) هذا الكلام مقتبس من كلام للشيخ حسن بن فرحان في بعض تغريداته.

([57]) منهاج السنة (7/ 237)

([58]) المستدرك على الصحيحين:2/307. صحّحها الحاكم، ووافقه الذهبيّ..

([59]) المستدرك على الصحيحين:2/307. صحّحها الحاكم، ووافقه الذهبيّ..

([60]) انظر: ابن تيمية وأحاديث فضائل أهل البيت من خلال كتابه منهاج السنة، الدكتور المحدِّث العلامة محمود سعيد محمد ممدوح، وقد اكتفينا بهذا التوثيق عن توثيق كل نص من النصوص لكثرتها.

([61]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (5/ 264)

([62]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 344)

([63]) منهاج السنة النبوية (7/ 279)

([64]) فتح الباري لابن حجر (7/ 271).

([65]) الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني وبن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك.

([66]) المستدرك للحاكم 3 / 14.

([67]) سنن الترمذي (6/ 80)

([68]) استفدت النص الوارد هنا من مقال رائع للشيخ حسن بن فرحان المالكي بعنوان: (ما لم يدونه التاريخ عن الإمام علي بن أبي طالب)

([69]) روى الحاكم النيسابوري باسناده عن علي قال: «اني عبدالله واخو رسوله وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي الاّ كاذب، صلّيت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده احدٌ من هذه الأمة»، المستدرك على الصّحيحين ج3 ص112.

([70]) استفدت النص الوارد هنا من مقال رائع للشيخ حسن بن فرحان المالكي بعنوان: (ما لم يدونه التاريخ عن الإمام علي بن أبي طالب)

([71]) السلسلة الصحيحة (5 / 222)

([72]) رواه مسلم وأحمد وغيرهما.

([73]) حديث حسن أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه الطبراني في الأوسط والصغير وحسنه ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. انظر أسباب النزول للإمام السيوطي ص 128..

([74]) رواه الطبراني في الكبير.

([75]) ابن هشام في السيرة.

([76]) سير أعلام النبلاء (1. 359).

([77]) رواه مسلم.

([78]) رواه أحمد.

([79]) رواه البخاري.

([80]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 66).

([81]) رواه ابن سعد ( 2 / 275 ) والدارمي ( 1 / 40 )

([82]) رواه ابن ماجة.

([83]) منهاج السنة النبوية (8/ 459)

([84]) منهاج السنة النبوية (6/ 227).

([85]) رواه أبو يعلى والبزار.

([86]) رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد أحمد رجاله ثقات.

([87]) رواه أحمد، وأبو يعلى.

([88]) رواه أحمد، وأبو يعلى.

([89]) رواه أحمد، والطبراني بأسانيد، ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري، وهو ثقة.

([90]) رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 67)

([91]) رواه الطبراني.

([92]) رواه البزار، والطبراني.

([93]) رواه أحمد.

([94]) رواه البزار.

([95]) رواه البخاري ومسلم.

([96]) رواه البزار والطبراني وغيرهما، وقال الألباني عن إسناد الطبراني: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. (السلسلة الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 494)

([97]) الدارقطني في سننه (2/278)، البيهقي في شعب الإيمان (3/488) والمحاملي والساجي كما في الميزان، وعلقه بن عبد البر في الاستذكار.قال ممدوح: وليكن الضعف في هذا الحديث غير شديد، بل ضعفه قريب ويحتج   الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما، ودونك كتب الفقه لتتحقق من صحة مقولتي، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط   الحسن.

([98]) التوسل والوسيلة ص 74.

([99]) الفتح (5/66).

([100]) الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية ص96–98.

([101]) طرح التثريب ( 6 / 43 )

([102]) مجموع الفتاوى: 27/25.

([103]) مجموع الفتاوى (27/ 309).

([104]) مجموع الفتاوى 27/ 243.

([105]) الرد على الأخنائي ص 385.

([106]) الرد على الأخنائي ص 386.

([107]) الفتاوى الكبرى 5/ 146.

([108]) مجموع الفتاوى 27/ 220.

([109]) مجموع الفتاوى (4/ 519)

([110]) صحيح مسلم:977،.

([111]) استفدنا ما يتعلق بتخريج الحديث والكلام عليها من كتاب (رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة)، للعلامة المحدث محمود سعيد ممدوح، وقد اقتصرنا في اقتباساتنا على ما يمكن أن يفهمه القارئ العادي، أما المسائل التخصصية كالكلام في الرجال وغيره، فيمكن الرجوع للكتاب، ففيه تفاصيل كثيرة، وإجابات على كل ما أورده ابن تيمية ومدرسته.

([112]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 147)

([113]) رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة ص 10 – 11.

([114]) شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 79.

([115]) رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة.

([116]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى) ( 2 / 74 )

([117]) نيل الأوطار ( 5 /110 )

([118]) نيل الأوطار 3/ 105.

([119]) نيل الأوطار 3/ 105.

([120]) معجم الطبراني 9/ 220، قال الهيثمي 7/ 71: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

([121]) سنن الدارمي:1/56.

([122]) صحيح ابن حبان:12/506، برقم 5694; المعجم الكبير:1/166.

([123]) المستدرك: 4 / 475 ـ 476 ; شعب الإيمان: 7 / 256، برقم 10222..

([124]) دفع الشبه عن الرسول  والرسالة (أو دفع شبه من تشبّه وتمرد):201ـ202.

([125]) تهذيب التهذيب:7/339..

([126]) كتاب الثقات:8/457، ترجمة علي بن موسى الرضا(عليه السلام).

([127]) شفاء السقام:211ـ212..

([128]) المجموع:8/201ـ202..

([129]) مختصر تاريخ دمشق: 5/265، وأُسد الغابة:1/208.

([130]) شفاء السقام:251..

([131]) مجموع الفتاوى:27/199.

([132]) الصلات والبشر (ص 127).

([133]) مجموع الفتاوى (27/ 247)

([134]) بدائع الفوائد ج3 ص655.

([135]) نسيم الرياض ج 3 ص 531.

([136]) الدر المختار ج 2 ص 689..

([137]) منح الجليل شرح مختصر الخليل ج5 ص 481.

([138]) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة السخاوي الصفحة 12.

([139]) شرح منتهى الإرادات (2/525)

([140]) إحياء علوم الدين:2/247.

([141]) فتح الباري:3/69..

([142]) فتح الباري:3/69..

([143]) الكلام الوارد هنا في تعليل التمسح مقتبس بتصرف من كتاب (ابن تيمية فكرا ومنهجا) للعلامة جعفر السبحاني، بتصرف.

([144]) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل:2/492، برقم 3243.

([145]) سير أعلام النبلاء:11/212، الترجمة 78.

([146]) ذكره ابن الجوزي في مناقب أحمد:455، وابن كثير في تاريخه:10/331..

([147]) مجموع الفتاوى (27/ 223.

([148]) وفاء الوفا: 4 / 1405.

([149]) أُسد الغابة: 1 / 208.

([150]) وفاء الوفا:4/1405.

([151]) مسند أحمد: 5 / 422، مستدرك الحاكم: 4 / 560.

([152]) الكلام الوارد هنا في تعليل التوسل مقتبس بتصرف من كتاب (ابن تيمية فكرا ومنهجا) للعلامة جعفر السبحاني، بتصرف.

([153]) اقتبسنا بعض المعاني الواردة هنا من كتابنا (أسرار الأقدار)

([154]) رواه أبو داود الترمذي وصححه.

([155]) رواه الترمذي.

([156]) رواه ابن السني عن ابن عمر.

([157]) رواه ابن سعد عن بكر بن عبد الله مرسلا.

([158]) رواه أحمد والطيالسي.

([159]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 122)

([160]) رواه  أحمد في المسند (4 / 138 )،  والترمذي (تحفة 10 / 132، 133)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وابن ماجة في السنن ( 1 / 441 ) والبخاري في التاريخ الكبير ( 6 / 210 ). والطبراني في المعجم الكبير ( 9 /19 )، وفي الدعاء أيضاً (2 / 1289 ) والحاكم في المستدرك ( 1 / 313، 519 ) وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دلائل النبوة ( 6 / 166 )، وفي الدعوات الكبير.

([161]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/352) وفي الأوسط ( 1 / 152)، ومن طريقه أبونعيم في الحلية ( 3 / 121 )، وابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1 / 268 )، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 257 ): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقة ابن حبان، والحاكم، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.

([162]) طرح التثريب ) ( 3 / 297)

([163]) مجمع الزوائد) (9/24.

([164]) المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح) (ص471_472).

([165]) الترغيب والترهيب (3/273)

([166]) ومنهم الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الحياء (1/291)، والحافظ بن حجر العسقلاني في أمالي الأذكار (1/272)، وقال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة (1/99): رواه  ابن خزيمة في صحيحه، من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده..

([167]) الطبراني في معجمه الكبير (1/292)

([168]) مجمع الزوائد (10/262).

([169]) كما في  شرح ابن علان  ( 5 / 151 ).

([170]) رواه البيهقي في  الشعب  ( 2 / 455 / 2 ) وابن عساكر ( 3 / 72 / 1 ).

([171]) معجمه الكبير (17/117)

([172]) الأذكار (ص133)

([173]) انظر هذا التعليق في ملتقى أهل الحديث، وهو أكبر منتدى للسلفيين.

([174]) فتح الباري:2/496.

([175]) تاريخ دمشق:25/96.

([176]) المعجم الكبير للطبراني:9/30 و31.

([177]) تحفة الذاكرين (ص 162).

([178]) رواه البيهقي في حياة الأنبياء (ص15). وأبو يعلى في مسنده (6/147)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/44)، وابن عدي في الكامل ( 2 / 739 )،  وقال الهيثمي في المجمع (8 /211): (ورجال أبي يعلى ثقات).

([179]) مسلم (4/1845)، وأحمد (3 /120 ) والبغوي في شرح السنة ( 13 / 351 ) وغيرهم.

([180]) ( النونية مع شرح ابن عيسى 2 / 160 )

([181]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123)

([182]) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 123).

([183]) الرد على البكري، ابن تيمية، 1/268.

([184]) في توسله (ص 76 ).

([185]) رواه ابن مردويه وغير واحد من أهل السنن وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

([186]) مجموع الفتاوى:20/233.

([187]) المواهب اللدنية 1: 27.

([188]) السيرة الحلبية 1: 137.

([189]) عنه في: مواهب الجليل للرعيني 3: 319.

([190]) السيرة الحلبية 1: 137.

([191]) . سُبل الهدي والرشاد 1: 367.

([192]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 34).

([193]) شرح حديث النزول (ص: 60).

([194]) شرح حديث النزول (ص: 60).

([195]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 123).

([196]) درء التعارض 7/86- 90.

([197]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 123)

([198]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 124)

([199]) اقتبسنا الكلام الوارد هنا من مقال بعنوان [الإحتفال بمولد النبيa بدعة أم من صمیم الدین؟] للشيخ حسين أنصاريان، بتصرف.

([200]) ورواه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف 7 / 478) والحافظ البيهقي في (الدلائل)

([201]) انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/ 366)

([202]) النجوم الزاهرة في جواز الاحتفال بمولد سيد الدنيا والآخرة لفضيلة الشيخ أحمد عبد الباقي، 43.

([203]) يقول ابن تيمية في: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 123): مع اختلاف الناس في مولده..

([204]) منهاج السنة النبوية (6/ 455)

([205]) طبقات الحنابلة:1/320.

([206]) المستدرك على الصحيحين:3/107.

([207]) الموضوعات لابن الجوزي: 2/24..

([208]) فتح الباري:7/104، باب ذكر معاوية.

([209]) طبقات الحنابلة:1/393.

([210]) دفع شبه التشبيه، ص102.

([211]) هذا المثال والتعليقات عليه مقتبسة بتصرف من كتاب: قراءة في كتب العقائد – المذهب الحنبلي نموذجاً.

([212]) السنة للبربهاري ص105.

([213]) المصدر السابق ص106.

([214]) المصدر السابق ص118.

([215]) المصدر السابق ص134.

([216]) هذا المثال والتعليقات عليه مقتبسة بتصرف من كتاب: قراءة في كتب العقائد – المذهب الحنبلي نموذجاً.

([217]) السنة للخلال (ص437).

([218]) طبقات الحنابلة (2/68)

([219]) سير أعلام النبلاء 3: 132.

([220]) سير أعلام النبلاء 14: 125، وفيات الأعيان 1: 77.

([221]) الكامل في التاريخ 3: 487، تهذيب تاريخ دمشق 2: 384.

([222]) منهاج السنة النبوية (4/ 429)

([223]) منهاج السنة النبوية (6/ 233)

([224]) منهاج السنة النبوية (6/ 232)

([225]) مجموع الفتاوى: (13/ 1237).

([226]) منهاج السنة النبوية (1/ 119)

([227]) منهاج السنة النبوية (1/ 546)

([228]) منهاج السنة النبوية (3/ 379)

([229]) منهاج السنة النبوية (4/ 485)

([230]) منهاج السنة النبوية، : ج5، ص466.

([231]) منهاج السنة النبوية (7/ 373)

([232]) منهاج السنة النبوية، ج8، ص240-241.

([233]) منهاج السنة، ج8، ص238.

([234]) منهاج السنة النبوية، ج4، ص522.

([235]) انظر: المنهاج، ج2، ص62.

([236]) ابن تيمية، منهاج السنة، : ج2، ص62.

([237]) منهاج السنة النبوية، ج4، صص 571-572.

([238]) منهاج السنة النبوية، ج1، ص111.

([239]) منهاج السنة النبوية، ج4، ص522.

([240]) منهاج السنة النبوية (4/ 530)

([241]) ابن تيمية ليس ناصبيا، ص23.

([242]) منهاج السنة النبوية (2/ 58)

([243]) منهاج السنة النبوية (2/ 59)

([244]) منهاج السنة النبوية (2/ 59)

([245]) منهاج السنة النبوية (2/ 59)

([246]) منهاج السنة النبوية (4/ 354)

([247]) انظر: تهذيب الخصائص للنسائي، ص 88، فضائل الصحابة 2 / 627، مسند الإمام أحمد 3 / 82، المستدرك للحاكم 3 / 122.. وغيرها.

([248]) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 846)

([249]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 848)

([250]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 849).

([251]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 854)

([252]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 855)

([253]) منهاج السنة النبوية (4/ 462)

([254]) منهاج السنة النبوية (4/ 464)

([255]) منهاج السنة النبوية (4/ 515)

([256]) منهاج السنة 7 / 522.

([257]) هذه الروايات في تفسير الطبري (23/ 579)

([258]) انظر: مجمع الزوائد 1 / 131، حلية الأولياء 1 / 67.

([259]) منهاج السنة النبوية (7/ 515).

([260]) انظر دراسة مفصلة حول الحديث بعنوان (حديث أنا مدينة العلم – دراسة نقدية لآراء ابن تيمية والمعلمي)، د. يحيى عبد الحسن الدوخي، منشورة على النت في الموقع الرسمي للدكتور الدوخي.

([261]) استفدنا بعض الردود هنا من كتاب: دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيمية، مدخل لشرح منهاج الكرامة، للسيد علي الميلاني.

([262]) انظر: الدرر الكامنة 1 / 155.

([263]) منهاج السنة 5 / 19.

([264]) منهاج السنة 8 / 389.

([265]) منهاج السنة 7 / 273.

([266]) منهاج السنة 7 / 155.

([267]) منهاج السنة 8 / 285.

([268]) منهاج السنة 8 / 76.

([269]) منهاج السنة 8 / 79.

([270]) منهاج السنة 8 / 94 – 127.

([271]) منهاج السنة النبوية (1/ 534)

([272]) منهاج السنة النبوية (3/ 379)

([273]) منهاج السنة النبوية (5/ 7)

([274]) رواه مسلم رقم (78)، والترمذي رقم (3737)، والنسائي 8 / 117.

([275]) منهاج السنة النبوية (7/ 152)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *