التهمة الأولى.. التجسيم والتشبيه

التهمة الأولى.. التجسيم والتشبيه

كان اليوم الأول من المحاكمة خاصا بالتهمة التي حاول جميع المدافعين عن ابن تيمية أن يخلصوه منها، وهي (تهمة التجسيم والتشبيه)، وقد كنت أقرأ عنها من الفريقين جميعا، ومترددا في إثباتها لابن تيمية مع كثرة من ادعاها عليه..

ولهذا فقد كنت مشتاقا لسماع الأدلة من الخصوم أنفسهم.. أما المدافعون عنه، فلم أكن محتاجا إليهم لسببين:

الأول: أني قرأت كتبت ابن تيمية، وعرفت منهجه فيها، وصرت أستطيع التمييز بين آرائه التي ينتصر لها بكل الطرق، وبين الآراء التي يتوقف فيها، أو يقف في وجهها.

الثاني: أني أعرف المدافعين عن ابن تيمية، وتلاعبهم بالألفاظ، وخلطهم للأمور، فلا يستطيع أن يجني من يستمع لهم شيئا.. نعم يسمع جعجعة، ولكن لا يرى أي طحين.

عقدت الجلسة، وقعد القاضي على كرسي كبير في أعلى مكان في المحكمة.. وبعد أن استقرت القاعة بمن فيها، قلب القاضي بعض الأوراق التي كانت بجانبه، ثم قال: التهمة التي سنبحث فيها اليوم هي تهمة (التجسيم والتشبيه).. وأنا أريد من المدعين على ابن تيمية أن يوضحوا لي مرادهم منها قبل أن يذكروا الأدلة المثبتة لدعاواهم.

تقدم الكوثري، وقال: ليسمح لي – سيادة القاضي – أن أشرح له كلا المصطلحين بالمنهج العلمي الذي اعتدنا عليه، ولا يعتبرني بذلك أتصرف وكأنني في المدرسة بين تلاميذي.

قال القاضي: تكلم بحرية.. فالمحاكمة التي نجريها محاكمة علمية.. ولا يمكن أن تكون كذلك ما لم يتحدث المدعون والمدافعون بلغة العلم.. ولا تقلق على الوقت، فأنا لا أؤمن بالقاضي الذي يطلب من المدعي أو الخصم أن يسكت أو يختصر.. أحيانا فهم الحقائق يحتاج إلى تفاصيل.. والقاضي العادل لا يمكنه أن يعرف الحقيقة إلا بعد سماعها جميعا.

قال الكوثري: بورك فيك.. وهذا اعتقادنا فيك.. ولهذا لجأنا إليك.. التجسيم – سيدي القاضي – كلمة (جسَّم) مشتقة من (الجسم)، وهي تعني بذلك نسبة الجسم إلى المفعول.. وذلك مثل: فسَّقته أي نسبته إلى الفسق، وكفرته إذا نسبته إلى الكفر([1]).

قال القاضي: هذا جيد.. فماذا تريدون بالجسم؟

قال الكوثري: هو ما نعرفه في واقعنا من كونه ذلك الذي يحتل حيزا محدودا، ويكون مركبا، وقابلا للقسمة، وغير ذلك من خصائص الأجسام التي تدرس في الفيزياء والكيمياء والطب ونحوها.

وقد عرفه سلفنا المتكلمون بقولهم: (الجسم هو المتحيز بالذات، القابل للقسمة)([2])

قال القاضي: فما تعنون بالمتحيز بالذات؟

قال الكوثري:: هو من يكون له مكان محدد يقبل الإشارة الحسية إليه بأنه في هذا الموضع، أو ذاك الموضع..

قال القاضي: فما تعنون بالقابل للقسمة؟

قال الكوثري: نريد به كون الجسم مركبا من أجزاء حقيقية، بحيث يمكن أن نأخذ كل جزء على حدة..

قال القاضي: هذا يعني أن هناك تقسيما غير حقيقي؟

قال الكوثري: أجل.. ونحن نسميه التقسيم الوهمي.. والفرق بينهما أن قسمة الكل إلى أجزائه إذا أوجبت انفصال هذه الأجزاء فعلاً فهي قسمة فعلية وتسمى انفكاكية أيضاً، وإذا لم توجب انفصالاً، بل كانت مجرد فرض شيء في المنقسم يغاير شيئاً آخر منه فهي قسمة ذهنية وتسمى قسمة وهمية أيضا([3]).

قلت: اسمح لي سيدي القاضي.. أظن أن هناك تعريفا آخر للتجسيم لم يشأ أستاذنا الفاضل أن يذكره.. ولست أدري لم؟

قال القاضي: تفضل.. هاته.

قلت: لقد قرأت عن بعضهم أنه عرف الجسم بأنه (القائم بنفسه)([4])

ضحك الكوثري، وقال: لو طبقنا هذا التعريف، فستكون كل الأمة مجسمة، بل يكون القرآن الكريم نفسه مجسما.. فالله سبحانه وتعالى من أسمائه القيوم، وهو المستغني في قيامه عن محل أو حيز يقوم به، وعن فاعلٍ يكون قيامه به.. وهو يدل على أن لله الغنى المطلق في مقابلة الاحتياج اللازم لأجسام العالم وأعراضه، فإن العرض يحتاج إلى محل يقوم به فيكون قيامه بغيره، ويحتاج إلى فاعل أيضاً، والجسم وإن قام بنفسه لكنه يحتاج إلى فاعل يقيمه وحيز يقوم فيه.

قال القاضي: لا يهمنا المصطلحات ومعانيها.. ولنترك اللفظ ونهتم بالمعنى.. فما وجه التهمة في التجسيم؟

قال الكوثري: وجه التهمة فيها واضح.. وهو افتقار الله وعدم قيوميته وشبهه بخلقه في ذلك.. ولهذا فإن كل من جسم سيشبه الله بخلقه لا محالة.. إذ لو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، فالمكان إمّا أن يكون قديماً فيكون إلهاً ثانياً، وإن كان حادثاً أحدثه سبحانه، فأين كان هو قبل إحداث هذا المكان؟

قال القاضي: لم أفهم..

قال الكوثري: إذا قلنا بأن الله تعالى يحتاج إلى مكان يكون فيه.. أليس هذا قصورا وضعفا وفقرا؟

قال القاضي: بلى..

قال الكوثري: وإذا قلنا بأن الله تعالى مركب من أجزاء وأعضاء ألا يكون كل جزء من أجزائه مفتقرا إلى غيره.. بل يكون هو بذاته مفتقرا إلى كل جزء من أجزائه.

قال القاضي: هذا صحيح.

قال الكوثري: فهذا ما ينادي به ابن تيمية ويعتبره العقيدة الصحيحة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأن خلاف ذلك بدعة.

قال القاضي: تقصد أنه يبدع كل من لا يقول بأن لله مكانا وتركيبا.

قال الكوثري: أجل.. ولو طبقنا مقاييسه التي ذكرها، أو العلماء الذين رجع إليهم وأثنى عليهم لكان قائلا بالتكفير لا بمجرد التبديع.

قال القاضي: فهمت القضية.. لكني أحتاج إلى الأدلة القوية المثبتة للدعوى.

قال الكوثري: لقد رجعت مع أصحابي إلى كتب ابن تيمية، وقرأناها بتفصيل وتدقيق وتمعن، واستخرجنا منها أربعة أدلة، كل دليل منها كاف لإدانة ابن تيمية في هذه المسألة.. وسيتقدم أصحابي واحدا واحدا لإيرادها عليك.

قال القاضي: قبل ذلك أريد أن توضح لي وجه المنطقية فيها.

قال الكوثري: أرأيت لو أن شخصا أقر وصرح بين يديك بأن الله جسم من الأجسام.. ثم راح يعظم ويثني على كل من قال بالتجسيم.. ثم راح يبدع كل من سكت ولم يؤيد المجسمة.. ثم راح يبدع من نزهوا الله عن التجسيم.. ثم راح يقيد الله بالحيز والحدود.. ثم راح يصف الله بالحركة والانتقال.. ثم راح يضع لله صورة بكل تفاصيلها.. ألا يعتبر من فعل كل هذا مجسما؟

قال القاضي: بلى.. ولو أثبتم هذا وفق المنهج العلمي تكونون قد أثبتم التهمة حقيقة..

قال الكوثري: لك ذلك سيدي القاضي.. ومحامي المتهم بين أيدينا، وهو يرد علينا إن وجد أننا ننقل نصا من كتبه لم يقله..

قلت: ليس ذلك فقط.. بل حتى لو بترتم النص عن سياقه، فإنني سأتدخل.. الشهادة لله تقتضي مني أن أكون صادقا معه، كما أكون صادقا معكم.

أولا ـ تصريحات ابن تيمية الدالة على التجسيم

 تقدم الميلاني، وقال: ليسمح لي سيدي القاضي أن أذكر الدليل الأول.. وهو تصريحات ابن تيمية الدالة على التجسيم.

وقفت، وقلت: أنت تعلم ـ سيدي القاضي ـ أن هناك كتبا دست على ابن تيمية، وهو ليس من مؤلفيها.. ولذلك أرجو من المتحدث ألا ينقل لنا إلا من الكتب المشهورة التي لم يشكك أحد في نسبتها إليه.

قال الميلاني: أنا أعلم ذلك.. ومعاذ الله أن أقوله ما لم يقل.. وسأورد لك النصوص مع أسماء الكتب التي وردت فيها، فإن رأيت أن الكتاب منسوب إليه سحبت الدليل، فلي بحمد الله من الأدلة في هذا ما يغنيني عن الجدل.

قلت: ما دام الأمر كذلك.. فأنا في الاستماع إليك.. لكن اذكر لنا أي مرجع تعود إليه حتى أتأكد منه.

قال الميلاني: إن شئت ذكرت لك المرجع والصفحة وكل معلومات النشر..

قلت: لا تتعب نفسك بذلك.. كان ذلك في العصور السالفة.. أما الآن فنحن في عصر المعلوماتية مجرد أن تذكر جملة واحدة أصل إلى المحل من غير حاجة إلى تعب في البحث.. لدي برنامج متطور أنشأه أصحاب ابن تيمية، وهو يجمع جميع كتبه، بل يجمع كتب تلاميذه أيضا على مدار التاريخ.

قال الميلاني: ما دام الأمر كذلك.. فاسمح لي، وليسمح لي – سيدي القاضي – أن أذكر له بأن الأدلة التي يدندن حولها المدافعون عن ابن تيمية في نفي التجسيم عنه هي كونه يذكر في كتبه كثيرا الاختلاف في وصف الله بالجسم.. وأنه يرجح أنه ليس له صفة اسمها (الجسم)، لأن النصوص لم ترد بها.. ولكن هذا لا ينفي أبدا أن يكون الله عنده متصفا بجميع معاني الجسمية من الحدود والحيز والتركيب والثقل ونحو ذلك.. وهذا هو الذي نريده، لا مجرد نفي اللفظ.. فالمهم في اللفظ معناه وحقيقته لا حروفه.

قال القاضي: صدقت في هذا.. وهو ما نريده.

قال الميلاني: بناء على هذا.. فقد أورد ابن تيمية الكثير من النصوص الدالة على عدم الحرج في وصف الله بكونه جسما من الأجسام، بناء على المعنى لا على اللفظ..

منها قوله في كتابه)موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، أو ما يسمى (درء تعارض العقل والنقل)([5])  في تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]: (فإنّه لا يدلّ على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي ما يسمّيه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه).. ومراده من الصفات اليد والوجه والساق، وغيرها، فهو يعتقد أنّ الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل، بل بنفس المعنى اللغوي.

وورد في نفس الكتاب: (وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ الله جسم أو ليس بجسم)([6])

وذكر في كتابه (الجواب الصحيح) أنه لم يُنقل في الشرع ولا عن الأنبياء السابقين ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين ومن تبعهم من سلف الأمة إثبات هذا اللفظ أو نفيه، فقال: (وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر، لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء)(91).

وقال في شرح حديث النزول: (وأما الشرع: فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع)(93)

وقال – أيضاً -: (وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة الحديث، والتفسير، والتصوف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضاً: ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم)(94)

وعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)([7])

ومراد ابن تيمية من التعطيل والتحريف – كما سيوضح زملائي سيادة القاضي – هو تنزيه الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها..

قلت: كلامك واضح.. ولكن أصحاب ابن تيمية وخصوصا المتأخرين منهم يدافعون عنه، وينفون عنه التجسيم بكل الوجوه.

قال الميلاني: إن هؤلاء يمارسون التقية بهذا، ويخالفون شيخهم وما تطفح به كتبه.. إن ابن تيمية – كما ذكرت لكم – لم ينف التجسيم عن الله، وإنما نفى لفظ التجسيم.. بينما كل كتبه تدل على أنه يقول بالتجسيم..

اسمع إلى قوله مثلا في كتابه (منهاج السنّة): (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه.. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً)([8])

فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه.. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام.. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً.. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى..

فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول..

وقال في كتابه (شرح حديث النزول): (فمن قال إنّ الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركّب فهو مخطئ، ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله فقد أصاب في نفيه)([9]

وهذا إقرار منه بأنّ الله تعالى جسم، ولكنّه ـ كما يعتقد ـ لا يماثل سائر الأجسام، من حيث إنّ تركيبها حادث. فهو لا ينفي الجسمية عن الله تعالى، وإنّما ينفي عنه هذا التركيب الحادث، ويدلّ على ذلك قوله:(ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله، فقد أصاب في نفيه) لهذا التركيب، وحسْب!!

بل إنه يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، يقول في ذلك:(فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه. ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود)([10]

هل رأيت سيدي تصريحا أكثر من هذا؟.. وهل الجسم غير هذا؟

إن ابن تيمية يضعنا بين أمرين: إما أن نجسم الله، أو نقول بعدمه.. فالوجود عنده قاصر على الأجسام.

وهو يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله سبحانه وتعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا)([11])

وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) يكاد يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً)([12])

أراد الميلاني أن يجلس، فقلت: انتظر لدي شبهة  أريد عرضها عليك..

قال الميلاني: هلم بها..

قلت: لقد سمعت بعض أصحاب ابن تيمية يعترض عليكم أنكم تقولون ما لا تفعلون.. فبينما تنكرون كون الباري سبحانه جسماً لا كالأجسام، تثبتون أنه شيء لا كالأشياء؟

ابتسم الميلاني، وقال: سأورد لك في هذا ردا لعلم كبير من أعلام التنزيه هو القاضي أبو بكر الباقلاني، فقد أورد السؤال الذي ذكرته، ثم أجاب عليه بقوله: (إنّ قولنا (شيء) لم يبن لجنس دون جنس، ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس مؤلَّفا، ولم يكن ذلك نقضاً لمعنى تسميته بأنّه شيء. وقولنا (جسم) موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أنّ قولنا: (إنسان) و(مُحدَث) اسم لما وُجد من عدم، ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدَثاً لا كالمحدثات وإنساناً لا كالناس، قياساً على أن لا شيء كالأشياء، لم يجز أن نثبته جسماً لا كالأجسام، لأنّه نقض لمعنى الكلام، وإخراج له عن موضوعه وفائدته)([13])

ثانيا ـ تعظيم ابن تيمية للمشبهة والمجسمة

بعد أن ساق الميلاني من الأدلة ما ساق مما ذكرته لكم قام الخليلي، وقال: بعد أن اتضح لكم – سيدي القاضي – ما ذكره ابن تيمية تصريحا أو تلميحا حول موقفه من التجسيم.. أريد أن أسوق لك الدليل الثاني إن إذنت لي في ذلك.

قال القاضي: قبل أن تسوقه اذكر لي وجه الاستدلال به..

قال الخليلي: وجه الاستدلال به – سيدي – واضح، وأنتم معشر القضاة أعرف الناس به.. ألست تعتبرون من يزكي المجرمين ويثني عليهم ويكتم جرائمهم مجرما؟

قال القاضي: بلى.. وهو ما يقتضيه العقل.. بل ما يقتضيه النقل، فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283]، فكاتم الشهادة لم يكتمها إلا ليحمي جهة ما.

قال الخليلي: بورك فيك سيدي القاضي، وانطلاقا من هذا سأنتدب شاهدين عدلين يدلان على أن ابن تيمية يحصر الصالحين والربانيين بل والمهتدين من الأمة في المجسمة فحسب.. أما من عداهم، فكلهم يعتبره مبتدعا ضالا إن لم يكن زنديقا كافرا.

أما أولهما، فيبين لكم – سيدي القاضي – دعوات ابن تيمية الصريحة لقراءة كتب التجسيم، بل حصره العقيدة الصحيحة فيها.. وهو ما دعا الأجيال بعده إلى إحيائها وتحقيقها، بل وتدريسها لطلبة العلم.

وأما الثاني، فدفاعه المستميت عن المجسمة في وجه الذين ينتقدونهم أو يبدعونهم، وسكوته عن التشويهات الخطيرة التي شوهوا بها الدين والعقيدة.

1 ـ دعوة ابن تيمية إلى مطالعة الكتب المشحونة بالتجسيم والتشبيه:

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الخليلي: الدارس لكتب ابن تيمية – سيدي القاضي – يلاحظ أنه مع تحذيراته الكثيرة من كتب المنزهة في العقائد ككتب الأشاعرة والمعتزلة والإباضية والإمامية وتشنيعه عليها – كما سنبرهن لكم على ذلك في الأدلة التالية – نراه يدعو إلى مطالعة الكتب المشحونة بالتجسيم والتشبيه، ويعتبرها وحدها كتب التوحيد والسنة.. لقد قال في (مجموع الفتاوى) عند حديثه عن مذهب السلف في الأسماء والصفات: (وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه مثل كتاب (السنن) للالكائي، و(الإبانة) لابن بطة، و(السنة) لأبي ذر الهروي، و(الأصول) لأبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبدالبر، و(الأسماء والصفات) للبيهقي، وقبل ذلك (السنة) للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده ولأبي أحمد العسّال الأصبهانيين، وقبل ذلك (السنة) للخلاّل، و(التوحيد) لابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، و(الرد على الجهمية) لجماعة مثل: البخاري، وشيخه عبدالله بن محمد بن عبدالله الجعفي، وقبل ذلك (السنة) لعبدالله بن أحمد، و(السنة) لأبي بكر بن الأثرم، و(السنة) لحنبل، وللمروزي ولأبي داود السجستاني، ولابن أبي شيبة، و(السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب (خلق أفعال العباد) للبخاري، وكتاب (الرد على الجهمية) لعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم)([14])

قال القاضي: هل يمكنك أن تورد لنا بعض ما في هذه الكتب حتى نتبين صحة ما قلت.

قال الخليلي: سأورد لك سبعة أمثلة توضح لك هذا أتم توضيح.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الخليلي: المثال الأول كتابان لعثمان بن سعيد الدارمي.. يعتبرهما ابن تيمية من كتب السنة، وقد أكثر من النقل عنها في كتبه.. وهما كتاب (الرد على الجهمية) وكتاب (نقض عثمان بن سعيد على المريسي العنيد).. وقد قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية يخبر عن اهتمام ابن تيمية بهما: (وكتاباه من أجل الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جداً. وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما)([15])  

إن هذين الكتابين – سيدي القاضي- من أهم كتب التجسيم.. فقد احتج فيهما بكثير من الأسانيد الواهية والمتون المنكرة التي تخالف التنزيه، وأثبت فيهما أن العرش يئط من ثقل الجبار فوقه، وأنه ينزل في الليل إلى جنة عدن وهي مسكنه يسكن معه فيها النبيون والصديقون والشهداء، وأنه يهبط من عرشه إلى كرسيه، ثم يرتفع عن كرسيه إلى عرشه، وفيهما إثباتَ الحركة لله عز وجل، وإثباتُ الحد، وأنه مس آدم مسيساً بيده، وأنه يقعد على العرش فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع، وأنه قادر على الاستقرار على ظهر بعوضة، وأنه إذا غضب ثقل على حملة العرش، وأن رأس المنارة أقرب إليه من أسفلها، وغير ذلك مما هو مبسوط في موضعه ([16]).

وفوق ذلك كله عقد فيه باباً في تكفير الجهمية، وباباً في قتلهم واستتابتهم من الكفر.. ولا يخفى عليك – سيدي القاضي- أن الجهمية مصطلح تشنيع لا يراد به فرقة انتسبت إلى الجهم بن صفوان لأن الجهم مات، وماتت معه أفكاره إلا أن الدارمي ومن تابعه يعنون بالجهمية من خالفهم في صفات الله عز وجل فيدخل في هذا الوصف المعتزلة وأهل السنة من الأشاعرة والماتريدية.

التفت القاضي إلي، وقال: هل بحثت فيما قال؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- والكتابان بين يدي في البرنامج الذي ذكرت لكم، وهو من المصادر التي يعتمد عليها التيميون.. وفيه كل ما ذكره الخليلي.. ولكن الذي ساءني منه أنه بعد أن ذكر كل تلك التجسيمات لله طالب بقتل كل من ينكرها باعتباره جهميا، فقد عقد فصلا مطولا لذلك حرض على قتلهم بكل صنوف القتل.. ومما جاء فيه قوله: (ولو لم يكن عندنا حجة في قتلهم وإكفارهم إلا قول حماد بن زيد، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وأبي توبة، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ونظرائهم، رحمة الله عليهم أجمعين، لجبنا عن قتلهم وإكفارهم بقول هؤلاء، حتى نستبرئ ذلك عمن هو أعلم منه وأقدم، ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب الله عز وجل، وروينا فيهم من السنة، وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور، الذي يعقله أكثر العوام، وبما ضاهوا مشركي الأمم قبلهم بقولهم في القرآن، فضلا على ما ردوا على الله ورسوله من تعطيل صفاته، وإنكار وحدانيته، ومعرفة مكانه، واستوائه على عرشه بتأويل ضلال، به هتك الله سترهم، وأبد سوءتهم، وعبر عن ضمائرهم، كلما أرادوا به احتجاجا ازدادت مذاهبهم اعوجاجا، وازداد أهل السنة بمخالفتهم ابتهاجا، ولما يخفون من خفايا زندقتهم استخراجا)([17])

المثال الثاني:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الخليلي: المثال الثاني(كتاب السنة) لابن أبي عاصم.. تأمل في التسمية – سيدي القاضي- لقد صارت السنة تساوي التجسيم.. هذا الكتاب التجسيمي ألفه أبو بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني من أهل البصرة ([18]).

وقد أثبت في كتابه هذا الكثير من الأخبار المنكرة، واعتبرها ظواهر لا يجوز تأويلها، ومنها أن الله خلق آدم على صورة وجهه، وعلى صورة الرحمن، وأنه تجلى للجبل منه مثل الخنصر، وأن العرش يئط به من ثقله، وأنه يقعد محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش، وأن المؤمنين يجالسون الله عز وجل في الجنة وغير ذلك.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- وفيه أمور لا يستطيع لساني أن يذكرها.. إنه يتعامل مع الله، وكأنه شخص كسائر الأشخاص.. تصور أنه عقد بابا على أن الله يمكن أن يسمى شخصا أورد فيه هذا الحديث: (لا شخص أغير من الله تعالى، ولا شخص أحب إليه العذر من الله عز وجل، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله تعالى، ومن أجل ذلك وعد الجنة)([19])

وعقد بابا ذكر فيه ثقل الله تعالى أورد فيه هذا الحديث: (إن عرشه فوق سبع سماوات، وإن له لأطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)([20])

المثال الثالث:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الخليلي: المثال الثالث (كتاب السنة) المنسوب إلى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل.. فلهذا الكتاب أهمية كبرى عند ابن تيمية وتلاميذه حتى أنهم بذلوا كل جهودهم في نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وفي الرد على من ينزه الإمام أحمد وولده عن أن يخوض في مثل هذه المسائل.

    ومما اشتمل عليه هذا الكتاب من التجسيم([21]): وصفُه الله تعالى بالجلوس على العرش، وإثبات صدر له وذراعين، وإثبات الثقل والصورة التي صور عليها آدم، وأنه على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة، وأنه واضع رجليه على الكرسي، وأن الكرسي قد عاد كالنعل في قدميه، وأنه إذا أراد أن يخوف أحداً من عباده أبدى عن بعضه، وأنه قرَّب داودَ عليه السلام حتى مس بعضه وأخذ بقدمه وغير ذلك مما سيكشف عنه البحث.

    ومما اشتمل عليه في حق الإمام أحمد أنه نقل عنه تصحيح الأخبار التي تثبت جلوسَه عز وجل على العرش وحصولَ الأطيط من هذا الجلوس، وأنه واضع رجليه على الكرسي وأن الكرسي  موضع قدميه، وأنه يقعد على العرش فما يفضل منه إلا قيد أربعة أصابع. وغير ذلك.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- وفيه أخطر من ذلك، وهو تكفير كل من ينكر أمثال تلك العقائد.. ومن أمثلة ذلك أنه اشتمل على مجموعة كبيرة من الاتهامات والشتائم التي وجهها السلف لأبي حنيفة من أمثال: (كافر، زنديق، مات جهمياً، ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه، وأنه أبو الخطايا، وأنه يكيد الدين، وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة، وأن الحنفية أشد على المسلمين من اللصوص، وأن أصحاب أبي حنيفة مثل الذين يكشفون عوراتهم في المساجد،  وأن أباحنيفة سيكبه الله في النار، وأنه أبو جيفة، وأن المسلم يؤجر على بغض أبي حنيفة وأصحابه، وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة، وأن استقضاء الحنفية على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال، وأنه من المرجئة، ويرى السيف على الأمة، وأنه أول من قال القرآن مخلوق، وأنه ضيع الأصول، ولو كان خطؤه موزعاً على الأمة لوسعهم خطأً، وأنه يترك الحديث إلى الرأي، وأنه يجب اعتزاله كالأجرب المعدي بجربه، وأنه ترك الدين، وأن أبا حنيفة وأصحابه شر الطوائف جميعاً، وأنه لم يؤت الرفق في دينه، وأنه ما أصاب قط، وأنه استتيب من الكفر مرتين أو ثلاثاً، واستتيب من كلام الزنادقة مراراً، وأن بعض فتاواه تشبه فتاوى اليهود، وأنه ما ولد أضر على الإسلام من أبي حنيفة، وأن الله ضرب على قبر أبي حنيفة طاقاً من النار، وأن بعض العلماء حمدوا الله عندما سمعوا بوفاة أبي حنيفة، وأنه من الداء العضال، وأن كثيراً من العلماء على جواز لعن أبي حنيفة، وأنه كان أجرأ الناس على دين الله)([22])

المثال الرابع:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الخليلي: المثال الرابع (كتاب السنة) لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي الخلال، والذي قرر فيه قعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الباري سبحانه على الفضلة التي تفضل من العرش. وحشر مع ذلك نقولاً عن بعض المحدثين في تكفير منكره ورميه بالبدعة والتجهم وغير ذلك.. وفيه أن الله عز وجل ينادي: يا داود اُدن مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ويقول: كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي، فيقول الله له كن خلفي خذ بقدمي.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- بل إنه بعد كل ذلك الإطناب في التكفير والتبديع للمخالفين قال في آخر كتابه: (وبعد هذا أسعدكم الله فلو ذهبنا نكتب حكايات الشيوخ والأسانيد والروايات لطال الكتاب غير أنا نؤمل من الله عز وجل أن يكون في بعض ما كتبنا بلغةٌ لمن أراد الله به فثقوا بالله وبالنصر من عنده على مخالفيكم فإنكم بعين الله بقربه وتحت كنفه)([23])

المثال الخامس:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الخامس.

قال الخليلي: المثال الخامس (كتاب التوحيد) لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابورى.. والذي عقد فيه بابا بعنوان إثبات الأصابع لله عز وجل، وبابا في إثبات القدم، ونحو ذلك.. وقد أخرج فيه متوناً منكرة وأسانيدَ واهيةً، منها ما جاء في أن الكرسي موضع قدميه، وأن العرش يئط به، وأنه تجلى منه مثل طرف الخنصر، وأنه يهبط ثم يرتفع، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فينتفض تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأن جنة عدن مسكنه، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب يحمله أربعة من الملائكة، وغير ذلك.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- وهو مملوء بالتجسيمات والتشبيهات.. وهو عندما يريد أن ينزه الله تعالى يأتي بالغرائب.. وهذا مثال على باب من أبواب الكتاب هذا عنوانه: (باب من صفة تكلم الله عز وجل بالوحي والبيان أن كلام ربنا عز وجل لا يشبه كلام المخلوقين، لأن كلام الله كلام متواصل، لا سكت بينه، ولا سمت، لا ككلام الآدميين الذي يكون بين كلامهم سكت وسمت، لانقطاع النفس أو التذاكر، أو العي، منزه الله مقدس من ذلك أجمع تبارك وتعالى)([24]) ، فالتنزيه عنده هو تنزيه الله عن السكوت بين الكلمات والجمل..

وهكذا عنون بابا آخر بقوله: (باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح: أن لخالقنا جل وعلا يدين كلتاهما يمينان، ولا يسار لخالقنا عز وجل، إذ اليسار من صفة المخلوقين، فجل ربنا عن أن يكون له يسار، مع الدليل على أن قوله عز وجل: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ [المائدة: 64] ، أراد عز ذكره باليدين، اليدين ، لا النعمتين كما ادعت الجهمية المعطلة)([25])

المثال السادس:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال السادس.

قال الخليلي: المثال السادس (كتاب العرش وماروي فيه) لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة.. وقد ذكر في هذا الكتاب أن أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل، بينهم وبين ربهم مسيرة خمسمائة عام، وأن السماء منفطرة من ثقل الله، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في روضة خضراء وغير ذلك.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- وهو كما ذكر مشحون بأدلة التجسيم والتشبيه.. والذي آلمني هو ما قاله محقق الكتاب في مقدمته تعظيما لشأنه.. لقد قال: (ولقد صنف كثير من السلف وبخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين مؤلفات ورسائل كثيرة في مسائل أسماء الله وصفاته، فبينوا فيها ما يجب على المسلم تجاه هذا الأمر العظيم، وقد اعتمدوا في تصانيفهم تلك على نصوص القرآن والسنة، وقد كان من ضمن تلك المؤلفات كتاب (العرش) للحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وقد عالج المصنف- رحمه الله- في هذا الكتاب مسألة تعد من أهم مسائل الأسماء والصفات، بل ومن أهم مسائل العقيدة وأخطرها، ألا وهي: مسألة علو الله عز وجل على خلقه، واستوائه على عرشه)([26])

المثال السابع:

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال السابع.

قال الخليلي: المثال السابع (كتاب الأربعين في دلائل التوحيد) لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.. وفيه من أمثلة التجسيم أن محمداًصلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد في قدميه خضرة.. وفيه باب ذكر فيه أن الله عز وجل وضع قدمه على الكرسي، وباب في إثبات الجهات لله عز وجل، وباب في إثبات الحد، وباب في إثبات الخط، وباب في إثبات الصورة، وباب في إثبات العينين، وباب في إثبات الهرولة..

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما ذكر؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- هو كما ذكر.. وأنا أعرف الرجل.. والذي آلمني هو شدته على المخالفين.. وقد رأيت الكثير من السلفيين من المعاصرين يستدلون بكلامه في تكفير غيرهم وتبديعه..

2 ـ تساهل ابن تيمية مع المجسمة والمشبهة:

قال القاضي: وعينا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.

قال الخليلي: مع شدة ابن تيمية على المخالفين تكفيرا وتبديعا وتضليلا.. بل ونبزهم بالألقاب والتهكم بهم إلا أننا نجده مع المجسمة ـ حتى لو اختلف معهم في بعض الأمور ـ هينا لينا يدافع عنهم، ويحاول أن يرد التهم التي يتهمون بها، ولو أنه فعل ذلك مع غيرهم لكان ابن تيمية غير ابن تيمية.. هو يتظاهر بالورع في حق المجسمة والنواصب فقط.. أما من عداهم فيشهر عليهم كل سيوف حقده.

قال القاضي: لا مناص لك من أن تنظر لنا بينات تدل على ذلك.. ويكفينا القليل.. ففيما ذكرت سابقا ما يمكن الاستدلال به هنا.

قال الخليلي: أجل – سيدي القاضي – سأحاول الاختصار قدر الإمكان.. ولذلك سأكتفي بسبعة أمثلة تبين شدته في القضايا الفرعية البسيطة، والتي تختلف فيها الأنظار، أو قد يكون لكل جهة رواياته الخاصة بها، أو لكونها لا علاقة لها بأصول الدين ولا فروعه مثل الخلاف في الصحابة ونحو ذلك.. مع لينه الشديد في أمور خطيرة جدا، مع كونها تتعلق بأصل أصول الدين.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول؟

قال الخليلي: المثال الأول هو موقف ابن تيمية من رجل يقال له الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي، وقد ألف كتاباً طويلاً في الصفات أورد فيه أحاديث باطلة، ومنها حديث عرق الخيل الذي نصه: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق)([27]) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

انظر – سيدي القاضي- مع هذه الطامة الكبرى التي ذكرها الرجل إلا أن ابن تيمية الذي يغضب لأتفه الأمور لم ينبض له عرق بسبب هذا الكفر البواح..

لقد اعتبر ابن تيمية هذا الرجل – مع ذلك الانحراف العظيم- من أهل السنة في الجملة.. ولم يستطع أن يتحمل دخول المعتزلة والجهمية والشيعة.. وهذه مفارقة عجيبة.. فكيف يكفر من يقول بخلق القرآن، أو يسب أحد الصحابة،  ولا يكفر من من يزعم أن الله خلق نفسه من عرق الخيل.. بل يتوج على قوله هذا بتاج السنة؟

عجباً لمن يكفر من يقول: إن القرآن مخلوق، ولا يكفر من يقول: إن نفس الله مخلوقة.. أليس هذا تناقضا صارخا؟

ليس ذلك فقط ما ذكره ذلك الرجل.. فقد أورد هذا الحديث العجيب: (رأيت ربي بمنى على جمل أورق عليه جبة!!) وهو تشبيه واضح وتجسيم صريح.. ولكن بما أنه ليس عن معاوية ولا عن يزيد لم يحزن ابن تيمية له، ولم يرد عليه([28]).

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. فالحديث الذي ذكره أوردوه، وأنكروا عليه، لكن إنكارهم عليه كان محدودا وبسيطا مقارنة بإنكاراتهم على المنزهة، بل على قضايا بسيطة تتعلق بفروع الدين أو بالتاريخ ونحوه.

وقد ترجم الذهبي للرجل، وذكر أنه (ألف كتابا طويلا في الصفات؛ فيه كذب، ومما فيه حديث عرق الخيل، وتلك الفضائح فسبه علماء الكلام وغيرهم.. وكان ينال من ابن أبي بشر وعلق في ثلبه والله يغفر لهما.. وكان على مذهب السالمية؛ يقول بالظاهر ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوي رأيه)([29]

قال القاضي: ولكني لم أرك تذكر ابن تيمية.

قلت: لقد رأيت ابن تيمية يذكر السالمية، ولا يتشدد معهم تشدده مع الأشاعرة وغيرهم، بل يعتبرهم من أهل السنة، وذلك في مواضع كثيرة من كتبه، ومنها قوله: (والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه)([30])

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني؟

قال الخليلي: المثال الثاني هو موقف ابن تيمية من أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.. والذي سبق أن حدثتك عن كتابه (الأربعون)، والذي يمتلئ بأحاديث باطلة وواهية في التجسيم ([31]).. ومع ذلك نرى ابن تيمية يوثقه، ويتوجه بتاج أهل السنة.

بل نراهم يطلقون عليه لقب (شيخ الإسلام)، وكأن هذا اللقب العظيم لا يناله إلا المجسمة.. وكل ذلك نكاية بمن سمى به الحافظ أبا عثمان الصابوني، قال ابن السبكي: (وأما المجسمة بمدينة هراة فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا إلى أبي إسماعيل عبد الله الأنصاري صاحب كتاب ذم الكلام فلقبوه بشيخ الإسلام. وكان الأنصاري المشار إليه رجلاً كثير العبادة محدثاً إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السنة وقد بالغ في كتابه ذم الكلام حتى ذكر أن ذبائح الأشعرية لا تحل..وكان أهل هراة في عصره فئتين فئة تعتقده وتبالغ فيه لما عنده من التقشف والتعبد وفئة تكفره لما يظهره من التشبيه)

ولعل ابن تيمية ما أنس له وعظمه إلا لمواقفه المتشددة من المنزهة، ولهذا ينقل عنه معظما له، ومن ذلك قوله: (وقال شيخ الاسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد باباً في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري، ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم إلا على التعطيل البحت وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية..وأن قولهم سميع بلا سمع.. بلا نفس ولا شخص ولا صورة،..فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام ورن الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة..يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونوا أسوأ حالاً من اليهود لأن الله سبحانه أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب..وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود، لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات.. قالوا وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي)([32])

لقد نقل ابن تيمية ذلك مستشهداً به على ذم من سماهم (المتأخرين من أصحاب الأشعري) مع أن من سماه شيخ الإسلام لم يترك منهم أحداً، بل حكى الإجماع على تكفيرهم، وشحن كتبه في ذلك وسعى بين السلاطين في فتنتهم، ونضح بما فيه من وصفهم ذلك الوصف الذي خرج به عن حدود الأدب ([33]).

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. فكتب ابن تيمية مشحونة بالثناء عليه، ولا أحتاج لذكر شواهد على ذلك.. بل إنه يحرص دائما على أن يسميه (شيخ الإسلام)

المثال الثالث:

 قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث؟

قال الخليلي: المثال الثالث هو في موقف ابن تيمية من علم من كبار أعلام المجسمة يقال له (أبو يعلى الفراء).. وهو رجل قد نال سخط الحنابلة بسبب كتاب كتبه مشحون بكل ألوان التجسيم والتشبيه، ومع ذلك لم ينل من ابن تيمية ما يستحقه من الذم والعتاب.

قال القاضي: هل لك أن تفصل أكثر.. فنحن في مجلس قضاء.. ولا نقبل إلا البينات الواضحة.

قال الخليلي: لقد ألف أبو يعلى كتابه (إبطال التأويلات) في أوائل القرن الخامس الهجري، لكن الكتاب بحكم ما فيه من تجسيمات وتشبيهات بقي مغمورا إلى أن ذاع خبره سنة (429هـ) حينها ضج العلماء لظهور هذا الكتاب ولافتتان بعض العوام بما فيه.. وقد حصلت بسبب ذلك فتنة اقتضت تدخل الخليفة القائم بأمر الله العباسي لتسكينها بمساعدة أبي الحسن القزويني الزاهد الشافعي المقبول من جميع الطوائف، وقد أخرج القائم بأمر الله عقيدة والده الخليفة القادر بالله، ووَقَّعَ عليها العلماء وسكنت الفتنة ([34]).

قال القاضي: دعنا من كل هذه التفاصيل التاريخية، وحدثنا عن محتوى الكتاب وموقف ابن تيمية منه.

قال الخليلي: حاضر – سيدي القاضي – وأنا ما ذكرت لك ذلك إلا لتعلم أن موقف ابن تيمية في التجسيم مخالف لأكثر علماء الأمة.. ولولا أنه وجد في هذه الأزمنة من المغفلين من ينشر مذهبه لما كان هناك عاقل يقبله.

أما الكتاب، وما يحويه من تجسيم محض، فلا خلاف فيه، وقد قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ): (وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة، وعنه انتشر مذهب أحمد، وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة، وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك..)([35])

وقال فيه أبو محمد رزق الله الحنبلي، وهو من المعاصرين لأبي يعلى: (لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة)([36])

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما يذكره الخليلي؟

قلت: أجل سيدي.. وقد سمعت من مصادر موثوقة عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه قال: (أخبرني من أثق به من مشيختي أن أبا يعلى محمد بن الحسين الفراء – رئيس الحنابلة ببغداد – كان يقول إذا ذكر الله تعالى، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته يقول: ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه، إلا اللحية والعورة…) ([37])

لكن رأيت ابن تيمية يشكك في صحة هذه القصة ويكذبها([38])

قال الخليلي: وهذا من أدلة انحيازه للرجل.. وإلا فلو أنها كانت عن الصوفية أو الشيعة أو الإباضية لقبلها، ولم يحتج لها أي سند مجهول أو معلوم.

قال القاضي: ألا يمكن أن يكون كل ما قالوه مجرد ادعاءات باطلة عن الكتاب؟

قال الخليلي: كيف يكون ذلك، والكتاب مشحون بأوصاف كثيرة لله يعف اللسان عن قولها، من أمثال([39]): (شاب، أمرد، أجعد، في حلة حمراء، عليه تاج، ونعلان من ذهب، وعلى وجهه فَرَاش من ذهب)

وقد شحنه بالروايات الموضوعة، وينص على أن من لم  يؤمن بهذه الصفات العظيمة فهو (زنديق)، (معتزلي)، (جهمي)، (لا تقبل شهادته)، (لا يسلم عليه)، (لا يعاد)، ثم يقول:(وليس في قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفور إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس في إثبات الفَرَاش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش..)([40])

وهو ينطلق من قوله r:(إن الله خلق آدم على صورته)، يصف الله تعالى كما يصف أي بشر من البشر.

ويرجع إلى أهل الكتاب في ذلك، فينقل عن كعب الأحبار أنه قال:(إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال: إني واط على بعضك، فانتسفت إليه الجبال فتضعضعت الصخرة فشكر الله لها ذلك فوضع عليها قدمه)([41])، ثم يعتبر هذا لإفك حقيقة عقدية، يدلل لها بالرواية الواهية التالية:(آخر وطأة وطئها رب العالمين بوَجّ)، ثم   يذكر قول كعب الأحبار:(وَجّ مقدس، منه عَرَجَ الرب إلى السماء يوم قضى خلق الأرض)

ويعلق على هذه الترهات بقوله:(اعلم أنه غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن ذلك على معنى يليق بالذات دون الفعل)

وينقل عنه هذه أنه قال لمن سأله أين ربنا:(هو على العرش العظيم متكئ واضع إحدى رجليه على الأخرى)، ثم يعلق عليها بقوله:(اعلم أن هذا الخبر يفيد أشياء: منها جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا على وجه الاستراحة بل على صفة لا نعقل معناها، وأن له رجلين كما له يدان، وأنه   يضع إحداهما على الأخرى على صفة لا نعقلها)، ويدلل على هذا بهذه الرواية الموضوعة:(إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال: إنها لا تصلح لبشر)

التفت إلي قال القاضي، وقال: هل حقا ما يقول الخليلي.. هل في الكتاب كل هذا؟

قلت: أجل.. والكتاب بين يدي، وقد طبع ونشر على نطاق واسع.. بل هو الآن بين العوام والخواص، ويحمل مجانا على النت.. ويوضع في المكتبات العقدية ككتاب من أهم كتب العقيدة السنية السلفية.. وقد قال محقق الكتاب في خطبته مشيدا به: (وبعد، فإن كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) للقاضي أبي يعلى الفراء كان يعد إلى زمن قريب من الكتب المفقودة، وهو كتاب فريد في بابه، إذ تضمن الرد على تأويلات الأشاعرة والمعتزلة والجهمية لأخبار الصفات الإلهية، الواردة على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الخلق به، وبيان مذهب السلف فيها وهو إثباتها والإيمان بها، ونفي التكييف عنها والتمثيل لها، فهذا هو التوحيد الذي بينه الله تعالى..)([42])

قال القاضي: وعيت هذا.. لكن لم تحدثوني عن موقف ابن تيمية منه.

قال الخليلي: مع ما ذكرته لك من الفتن التي وقعت بسبب الكتاب، وردود العلماء عليه إلا أنا نجد ابن تيمية يحييه ويهتم به ويرجع إليه، بل ويعتبر صاحبه من علماء السنة.. وفوق ذلك يتشدد مع المنكرين عليه أو الناقدين له.

لقد ذكر الفتنة التي حصلت بسبب الكتاب، فقال: (وصنف القاضي أبو يعلى كتابه في (إبطال التأويل) رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه؛ فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة وأكثر الحق فيها كان مع الفرائية مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل)([43])

والباطل الذي يقصده ابن تيمية ليس التجسيم، وإنما اتهامه لأبي يعلى بالتفويض أي أنه لم يكن صريحا بالقدر الكافي في موقفه من التجسيم.. فهو – عنده – من الذين (سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض)([44])

هذا هو موقف ابن تيمية من أبي يعلى.. أما موقفه من المنكر عليه، والذي كتب كتابا في الرد عليه، وهو أبو الفرج ابن الجوزي، والذي ألف كتابه (دفع شبه التشبيه) أو ما يرتضي ابن تيمية أن يسميه (كف التشبيه) ([45])فقد أنكر عليه، وذكر أنه يميل إلى مذهب المعتزلة كثيراً([46]).. وكونه كذلك أعظم بدعة عند ابن تيمية.

التفت القاضي إلي، وقال: هل تعرف الكتاب الذي ألفه ابن الجوزي؟ وهل حقا فيه ما ذكر الخليلي؟

قلت: أجل.. وهو الآن بين يديه، وإن شئت قرأت لك منه ما يدلك على ما فيه؟

قال القاضي: اقرأ.. فنحن نحتاج إلى التأكد من كل شيء.

قلت: سأقرأ لك بعضا مما في مقدمته، وبعضا مما في خاتمته، وهما كفيلان بتوضيح أغراضه.

لقد قال في مقدمته: (ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبدالله بن حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات، وعينين، وفما ولهوات وأضراسا، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس!! وقالوا: يجوز أن يَمَسَّ ويُمَسَّ!! ويدني العبد من ذاته وقال بعضهم: ويتنفس، ثم إنهم يرضون العوام بقولهم: لا كما يُعقل!..)([47]

وقال في خاتمته: (ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال، لم يعجبهم لأنهم أَلِفُوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا: ليس هذا المذهب. قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد، ونفيت عنه كذب المنقولات، وهذيان المقولات، غير مقلد فيما أعتقده)([48])

المثال الرابع:

 قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع؟

قال الخليلي: المثال الرابع هو في موقف ابن تيمية من شخص من كبار المجسمة، بل لعله من أوائل من نشر مفاهيم التجسيم في هذه الأمة، فقد كانت له علاقة بالسلاطين، وكان مقربا منهم، وقد أتيح له أن ينشر أفكاره بكل حرية.

قال القاضي: من تقصد؟

قال الخليلي: أقصد كعب الأحبار اليهودي، والذي لقي العناية الكبيرة من ابن تيمية، وقبله من أهل الحديث، حتى أعطوه الحصانة المطلقة التي تحميه من النقد والتجريح.

قال القاضي: أعرفه.. وأعرف أن بعض العلماء المتأخرين فطنوا لما فعله بالإسلام، وما سربه من اليهودية إليها.

قال الخليلي: لكن أولئك لا يزالون يعانون من التهميش والاحتقار بسبب موقفهم ذلك.. لأن انهيار كعب الأحبار يعني انهيار جدران كبيرة من التجسيم الذي يقوم عليه دين ابن تيمية وأتباعه من السلفية.

قال القاضي: لقد عظمت الأمر.. فهل ذكرت لنا بعض ما يدل عليه.

قال الخليلي: رواياته تمتلئ بها كتب التفسير وكتب السنة وكتب ابن تيمية.. وسأعرض لك أربعة نماذج منها لتتأكد مما قلت..

قال القاضي: فهات النموذج الأول.

قال الخليلي: لقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بسنده عن كعب الأحبار أنه قال: (قال الله عز وجل أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على العرش أدبر أمر عبادي، لا يخفى علي شيء من أمر عبادي في سمائي وأرضي، وإن حُجبوا عني فلا يغيب عنهم علمي، وإلي مرجع كل خلقي فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعذب من شئت منهم بعقابي)([49]) 

انظر – سيدي القاضي – إلى هذه الرواية وما تحمله من كل معاني التجسيم، والتي لاقت قبولا كبيرا من طرف التيميين، يحتجون بها، وكأنها قرآن منزل([50]).

إن هذه الرواية تنبه الحس على أن يقدر لله وجوداً جسمياً في أعلى نقطة من الكون.. فوق العرش.. ويلتزم الحسُ بَعد ذلك غايةَ البعد في المسافة بينه وبين خلقه.. وتبرز الحاجة مع هذا البعد الذي قدره إلى التأكيد على أن هذا البعد لا ينقِص من كمال علمه وإحاطته، وإن كان العلم المباشر في الشاهد يتأثر ببعد المسافة لأنه يستلزم نوعَ قربٍ من المعلوم لتتصل به طرق العلم الحسية. ولهذا يؤكد من أذعن لهذا التقدير الحسي على كمال العلم مع غاية العلو. وهذا واضح في خبر كعب([51]).

انظر كيف تأثر عثمان الدارمي بهذه المقولة، فقال:(وإنما يعرف فضلُ الربوبية وعِظمُ القدرة بأن الله تعالى من فوق عرشه وبعد مسافة السموات والأرض يعلم ما في الأرض وما تحت الثرى وهو مع كل ذي نجوى، ولذلك قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: 73]، ولو كان في الأرض كما ادعيتم بجنب كل ذي نجوى ما كان بعجبٍ أن ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فلو كنا نحن بتلك المنزلة منهم لنبأنا كل عامل منهم بما عمل)([52]

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الثاني.

قال الخليلي: لقد روى الطبري في تفسيره هذه الرواية: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دقّ الله تعالى، أفتسأل عن هذا؟ فقال كعب: دعوه، فإن يك عالما ازداد، وإن يك جاهلا تعلم. سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات.. ثم قال: إقرؤوا إن شئتم: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ [الشورى: 5])([53])

هل رأيت – سيدي القاضي – أبلغ من هذا التجسيم.. وأبشع من هذه الخرافة.. إننا لو حسبنا هذه المسافة لربما لم نصل إلى نجم من النجوم التي نراها.. لكن كعبا يقول لنا: إننا إذا قطعنا هذه المسافة، فسنصل إلى الله.. تعالى الله عن قوله علوا كبيرا؟

ولهذا تجد المتبعين لابن تيمية والمتأثرين بسلفه ينكرون الاكتشافات العلمية، وخاصة الفلكية منها، لأنها تقضي على كل تصوراتهم لربهم وللكون.

والخطر ليس في ذلك فقط.. بل بالخطير في أنه يحرف المعاني القرآنية، ويغيرها عن سياقها ومدلولها المقدسة لتتحول إلى معاني تجسيمية وثنية.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الثالث.

قال الخليلي: لقد روى الطبري في تفسيره أن عمر سأل كعبا: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت (أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي)([54])

هل رأيت – سيدي القاضي- أبلغ من هذا التجسيم.. وانظر إلى غرامه بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت كشأن اليهود الذين عبدوا العجل الذهبي.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الرابع.

قال الخليلي: لقد روى السيوطي في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) رواية طويلة عن كثير من المحدثين، ومما ورد فيها: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك: ألا تسمع يا كعب ما يحدثنا به ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له فكيف بأعلاهم؟ قال: يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه دارا بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها ما شاء من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]([55])

هل رأيت – سيدي القاضي – أبلغ من هذا التجسيم؟

ومع ذلك نرى ابن تيمية يثني عليه، ويقبله، ويستدل بمروياته، وكأنها آيات منزلة، أو أحاديث من لا ينطق عن الهوى.

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما يذكره الخليلي؟

قلت: أجل.. وقد وجدته يذكره في مواضع كثيرة، ويعتبره من علماء أهل الكتاب، بل إنه ذكر ما يدل على أن مرجعه فيما يذكره من إسرائيليات هي التوراة الصحيحة، فقد قال في دقائق التفسير: (وعمر بن الخطاب لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به، ولم يجزم عمر بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها، والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره)([56]

 المثال الخامس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الخامس.

قال الخليلي: المثال الخامس هو في دعوة ابن تيمية لقراءة كتب رجل مملوءة بالتجسيم والتشبيه وجميع أنواع الخرافات.. إنه أبو الشيخ الأصفهاني، صاحب أكبر كتاب في الخرافة، والذي يطلق عليه كتاب (العظمة)، وهو يفسر مفهوم ابن تيمية وأتباعه من السلفية لعظمة الله([57]).

ومع أن الكتاب من أهم مصادر الحديث الموضوع  إلا أنهم لا يهتمون بذلك، لأنهم حيثما شموا رائحة التجسيم هرعوا لا يلوون على شيء.

قال القاضي: هل لك أن تقرأ لنا بعض ما فيه حتى نتبين.

قال الخليلي: أجل – سيدي القاضي- سأقتبس لك منه أربعة نصوص لتعرف من خلالها الشخصيات التي يدعو ابن تيمية إلى التماس العلم منها.

قال القاضي: فهات النص الأول.

قال الخليلي: لقد فسر قوله عز وجل: ﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]، بقوله: (بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، فما زال يقرب موسى حتى صار بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم قال رب أرني أنظر إليك)([58])

وهو واضح في الدلالة على المكان، وعلى مفهوم القرب عنده وعند أتباع ابن تيمية، فالقرب عندهم قرب حسي متعلق بالمسافة، لا بعبادة الله أو محبته والأنس به.

قال القاضي: فهات النص الثاني.

قال الخليلي: لقد روى في كتاب العظمة هذا الحديث العجيب الذي يفسر به تفسيريا تجسيميا قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]: (إن ربكم تبارك وتعالى ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم عنده ثنتي عشرة ساعة، فيعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار واليوم، فيها ثلاث ساعات، فيطلع فيها على ما يكره فيغضب كذلك، فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة، فينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا يسبحه غير الثقلين، فيسبحونه ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة، فتلك ست ساعات، ثم يؤتى بما في الأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات، فيصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، فتلك تسع ساعات، ثم ينظر في أرزاق الخلق ثلاث ساعات، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بكل شيء عليم، فتلك ثنتا عشرة ساعة، ثم قال: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29] هذا من شأنكم وشأن ربكم عز وجل)([59])

هل رأيت – سيدي القاضي- كيف تحول الله عندهم إلى حاكم أو امبراطور لا يختلف عن أي حاكم أو امبراطور في الدنيا.

قال القاضي: فهات النص الثالث.

قال الخليلي: لقد روى في كتابه نصا يدل على أن لله وزنا محددا، وأنه ثقيل، يقول فيه: (ويحك، تدري ما الله؟، إن عرشه على سماواته وأرضيه هكذا مثل القبة، وإنه يئط به أطيط الرحل بالراكب)([60])

قال القاضي: فهات النص الرابع.

قال الخليلي: لقد روى في كتابه نصا يدل على أنه يمكن بحسابات بسيطة أن نصل إلى مكان الله، يقول فيه:(ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء إلى التي تليها مسيرة خمسمائة عام، كذلك إلى السماء السابعة، والأرضين مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك، ولو حفرتم لصاحبكم فيها لوجدتموه)([61])

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا يوجد في الكتاب ما ذكر؟

قلت: أجل.. الكتاب بين يدي، وهو مملوء بالخرافات، ولو ذكرت لكم ما فيه لما انتهى المجلس..

قال القاضي: فكيف تثبتون أن ابن تيمية دعا إلى اعتباره من علماء السلف الذين يؤخذ عنهم؟

قلت: من الأمثلة على ذلك ما ذكره في شرح العقيدة الأصفهانية، فقد جاء فيها قوله: (وأما أقوال السلف وعلماء الإسلام في هذا الأصل، وما في ذلك من نصوص الكتاب والسنة فهذا أعظم من أن يسعه هذا الشرح، ومن كتب التفسير المنقولة عن السلف مثل تفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وبقي بن مخلد، وعبد الرحمن بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، ومحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر بن المنذر، وأبي بكر بن عبد العزيز، وأبي الشيخ الأصفهاني، وأبي بكر بن مردويه وغيرهم)([62]) ، فقد ذكره مع هؤلاء الأعلام، وكلهم ذكروا في تفاسيرهم ما لا يقل عما ذكره أبو الشيخ.

المثال السادس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السادس؟

قال الخليلي: المثال السادس هو في موقف ابن تيمية من فرقة يقال لها  الكرامية، وهي فرقة كان لها تاريخ مشهور في التجسيم، بل تمكنت بتلبسها لباس الزهد والتقشف أن تخدع السلطان وتقنعه بمقالاتها، وتفوز بتأييده لها، وقمعه لمخالفيها.. والأخطر من ذلك هو تسرب بعض مقالاتها إلى المصنفات التي تنتسب إلى العقيدة السلفية([63]).

وقد أسسها أبو عبد الله محمد بن كرام السجزي الذي قال فيه الشهرستاني: (نبغ رجل متنمس بالزهد من سجستان …قليل العلم قد قمش من كل مذهب ضعثاً وأثبته في كتابه وروجه على سواد بلاد خراسان. فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهباً)([64]).. وقال عنه ابن السبكي: (وكان من خبر ابن كرام هذا وهو شيخ سجستاني مجسم أنه سمع يسيراً من الحديث ونشأ بسجستان ثم دخل خراسان…وعاد إلى نيسابور وباح بالتجسيم. وكان من إظهار التنسك والتأله والتعبد والتقشف على جانب عظيم..)([65])

وعندما أظهر بدعته في التجسيم أنكر عليه العلماء وسعوا في سجنه وقتله.. لكن الحاكم اكتفى بنفيه، وهاب قتله لما رأى فيه من مخايل العبادة والتقشف([66]).

وقد كان أتباع الكرامية لا يكتفون بمعتقدهم التجسيمي، وإنما كانوا يؤذون المخالفين لهم شأنهم شأن أتباع ابن تيمية.. وقد تسببوا في مقتل العلامة المنزه أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك بسبب شدته عليهم، قال ابن السبكي: (وكان ابن فورك شديداً على الكرامية، وأذكر أن ما حصل له من المحنة من شغب أصحاب ابن كرام وشيعتهم من المجسمة…فتحزبوا عليه ونموا عليه غير مرة وهو ينتصر عليهم فلما أيست الكرامية من الوشاية والمكايدة عدلت إلى السعي في موته والراحة من تعبه فسلطوا عليه من سمه فمضى حميداً شهيداً)([67]) 

ومثل ذلك حصل لأبي إسحاق الاسفرائيني، ولولا وقوف السلطان إلى جنبه لكانوا قتلوه، وقد حكى أبو المظفر بعض مناظرات الاسفرائيني لهم، فقال: (سأل بعض أتباع الكرامية في مجلس السلطان محمد بن سبكتكين إمامَ زمانه أبا إسحاق الإسفراييني رحمه الله عن هذه المسألة –الاستواء على العرش – فقال:هل يجوز أن يقال: إن الله تعالى على العرش؟ وأن العرش مكان له؟ فقال: لا. وأخرج يديه ووضع إحدى كفيه على الأخرى، وقال: كون الشيء على الشيء يكون هكذا، ثم لايخلو إما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه فلا بد من مخصص خصه وكل مخصوص يتناهى والمتناهي لايكون إلهاً…فلم يمكنهم أن يجيبوا عنه فأغروا به رعاعهم حتى دفعهم عنه السلطان بنفسه…ولما ورد عليهم هذا الإلزام تحيروا فقال قوم إنه أكبر من العرش وقال قوم إنه مثل العرش. وارتكب ابن المهاجر منهم قوله إن عرضه عرض العرش. وهذه الأقوال كلها متضمنة لإثبات النهاية وذلك علم الحدوث لايجوز أن يوصف به الصانع)([68]) 

وهكذا حصل مع الفخر الرازي، حيث..

قاطعه القاضي، وقال: دعنا من كل هذه التفاصيل التاريخية.. حدثنا عن مقولتهم في التجسيم، وعلاقة ابن تيمية بها.

قال الخليلي([69]): من مقولاتهم في التجسيم زعمهم أن معبودهم جسم له حد ونهاية من تحته وهي الجهة التي يلاقي منها العرش.. ثم اختلفوا في النهاية فمنهم من أثبت النهاية له من ست جهات، ومنهم من أنكر النهاية له، وقال هو عظيم.

ولهم في معنى العظمة خلاف.. فذهب بعضهم إلى أن معناها أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش والعرش تحته، وهو فوق ذلك على الوجه الذي هو فوق جزء منه.. وذهب بعضهم إلى أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم.

واختلفوا في الاستواء على العرش فنص ابن كرام على أن معبوده على العرش استقر، وأنه بجهة فوق ذاتاً، وأن العرش مكان له، وجوز عليه الانتقال والنزول.. وزاد بعض أصحابه فزعم أن العرش مكان له، وأنه لو خلق بإزاء العرش عروشاً موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكاناً له لأنه أكبر منها كلها. قال البغدادي: (وأعجب من هذا كله أن ابن كرام وصف معبوده بالثقل وذلك أنه قال في كتاب عذاب القبر في تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1])([70]) 

وقد عدوا من صفات الله تعالى اليدين والوجه فأثبتوها صفاتٍ قديمةً قائمة بذاته، وقالوا: له يد لا كالأيدي ووجه لا كالوجوه.. وقالوا..

قاطعه القاضي، وقال: لقد وضح الأمر، ولا حاجة لمزيد من التفصيل.. حدثنا عن موقف ابن تيمية منهم.. فهذا الذي يهمنا هنا.

قال الخليلي: لقد اتهم ابن تيمية في عصره وفي كل العصور بأنه يقول قول الكرامية في التجسيم، وقد أجاب عن هذا، لا بنفي العلاقة بينه وبين الكرامية، وإنما بإثبات أن الكرامية هم الذين أخذوا من السلف مذهبهم، لأن ما طرحوه من المسائل كان قبل أن تخلق الكرامية وتوجد، لقد قال في مناقشته للجويني في بعض جزئيات مذهب الكرامية في كلام الله عزّ وجل: (إن السلف وأئمة السنة والحديث، بل من قبل الكرامية من الطوائف لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن يُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخراً بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته، وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء) ([71])

وقد ذكر في مجموع الفتاوى أن (الكرامية فيهم قرب إلى أهل السنة والحديث وإن كان في مقالة كل من الأقوال ما يخالف أهل السنة والحديث)([72])

وقال مثنيا عليهم: (وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة، بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث بيان تناقض حججهم)([73])

وكأنه بذلك يقر منهجهم المتشدد مع المخالفين، والذي بسبب قتل ابن فورك..

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما ذكر الخليلي عن موقف ابن تيمية من هذه الطائفة؟

قلت: أجل – سيدي- هي ذي كتب ابن تيمية بين يدي، وفيها نرى الفرق في تعامله المتشدد مع المنزهة في الحين الذي يلين فيه مع كل من يشم منه رائحة التجسيم.

وقد لاحظت أنه يسميهم (متكلمة أهل الإثبات) ([74]) في الوقت الذي يعتبر فيه المنزهة متكلمة التعطيل.

ولعل ما زاد من إعجاب ابن تيمية بهم هو في مسألة الإمامة، حيث أنهم يرون أن علياً ومعاوية كلاهما مصيب، وعليه: فيجوز عقد البيعة لإمامين في وقت واحد عند الحاجة([75])

المثال السابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السابع.

قال الخليلي: المثال السابع هو في موقف ابن تيمية من فرقة يقال لها  المقاتلية، وهي فرقة تنتسب لأبي الحسن مقاتل بن سليمان البلخي الذي اعتبره من السلف مع كونه مجسما من المفسرين، وقد قال عنه ابن المبارك: (ما أحسن تفسير مقاتل لو كان ثقة)([76]) 

وقد ذكر الأشعري مقولته في التجسيم، فقال: (حكي عن أصحاب مقاتل أن الله جسم، وأن له جثةً، وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)([77]) 

وحكى عنه الشهرستاني أنه قال: (قد ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن فلا بد من تصديقه)([78])  .. فكلهم اتفقوا على رميه بالتجسيم.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول الخليلي؟

قلت: أجل.. وقد رأيت من مروياته في التجسيم: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين حبيب الله؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش حتى يجلسه معه على العرش حتى يمس ركبته)([79]) 

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: فما موقف ابن تيمية منه؟

قال الخليلي: لقد عرفنا أن موقف ابن تيمية هو اللين الشديد مع كل من يشم فيه رائحة التجسيم، فتجده يدافع عنه، أو يظهر الورع في الموقف منه، بينما إذا رآه منزها صدق عنه كل مقولة، ونشر عنه كل إشاعة، لقد قال عنه: (وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف عن مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد.. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن يحتج به في الحديث لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره)([80]) 

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول في هذا؟

قلت: صدق في هذا.. أما ما قاله ابن تيمية عن أن الأشعري نقل ما نقل من كتب المعتزلة المنحرفين عن مقاتل غير صحيح، فقد روى الخطيب البغدادي عن أحمد بن سيار، وهو إمام المحدثين في بلده أنه قال: (مقاتل متروك الحديث كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه)([81]) 

والأخطر من ذلك ثناء ابن تيمية على علمه بالتفسير مع أن ابن حبان قال: (كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث)([82]) .. وقال الذهبي: (ظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الله عز وجل.. وظهر في خراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذروا من بدعهم)([83]) 

ثالثا ـ تبديع ابن تيمية للمنزهة

بعد أن ساق الخليلي ما ساق من الشواهد والبينات كما ذكرته لكم قام الصنعاني، وقال: بعد أن اتضح لكم – سيدي القاضي – تأييد ابن تيمية ونصرته لكل من يشم فيه رائحة التشبيه والتجسيم، بل اختصاره السنة في المشبهة والمجسمة.. أريد أن أسوق لك الدليل الثاني إن إذنت لي في ذلك.

قال القاضي: أنت تعرف أني لا أسمع الدليل قبل أن أعرف وجه الاستدلال به..

قال الصنعاني: وجه الاستدلال به – سيدي – واضح، وأنتم معشر القضاة أعرف الناس به.. أليس الذي يبرئ المتهم ويتهم البريء متهما عندكم؟

قال القاضي: بلى.. وهو ما يقتضيه العقل.. بل ما يقتضيه النقل، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112]

قال الصنعاني: بورك فيك سيدي القاضي، وهذه الآية لا تنطبق على أحد في هذا المجال انطباقها على ابن تيمية ومدرسته، فهم ينزهون المجسمة ويحترمونهم ويعظمون، بينهما ينهالون على من ينزه الله ويقدسه بصنوف التضليلات والتبديعات والتكفيرات.. وسأنتدب لك شاهدين عدلين يدلان على موقف ابن تيمية من كل من يشم منه رائحة التنزيه.

أما أولهما، فيبين لكم – سيدي القاضي – موقف ابن تيمية من العلماء الذين تورعوا أن يتكلموا في الله بغير علم، فلذلك فوضوا علم ما تشابه إلى الله، ولم يدلوا فيها بآرائهم، وهم من يطلق عليهم لقب (المفوضة)

وأما الثاني، فيبين لك موقف ابن تيمية من العلماء المتكلمين الذي خافوا على عقول العوام من التجسيم والتشبيه الذي ينشره من أوصى ابن تيمية بقراءة كتبهم واتباعهم.. فلذلك راحوا يفسرون المتشابهات بما ورد في اللغة العربية، وبما له نظير في التراث العربي الشعري والنثري.

1 ـ موقف ابن تيمية المتشدد من المفوضة:

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الصنعاني: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية المتشدد من المفوضة.. بل اعتبرهم من أهل البدع والإلحاد مع أن القائلين بذلك من كبار العلماء والصالحين، بل نسبه بعضهم إلى السلف الصالح، ومع ذلك فإن ابن تيمية وبناء على موقفه من المخالف لم يرعو في رميهم بكل أصناف التضليل، ومن ذلك قوله فيهم: (..فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)([84]) 

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: بلى.. سيدي.. وقد رأيته في مجموع الفتاوى كعادته في التنابز بالألقاب يطلق عليهم (أهل التجهيل)، لقد قال فيهم: (..أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات..ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك…)([85]) 

وقد سمعت من المعاصرين في زماني من لا يزال يردد قول ابن تيمية فيهم، ومن ذلك قول ابن عثيمين: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول)([86])

قال القاضي: أنا إلى الآن لم أفهم السبب الذي جعلهم يتوقفون، كان يمكنهم أن يفهموا المتشابهات على ضوء المحكمات، ويفسروا ذلك وفق ما تقضيه لغة العرب.

قال الصنعاني: ليس الأمر بتلك السهولة سيدي القاضي.. فاللفظ الواحد قد يحتمل من حيث المجاز أو الاستعارة أو الكناية معاني متعددة، فلذلك رأوا أن الأسلم التوقف فيه وإرجاء علمه إلى الله.

وهم في ذلك يستندون إلى ما ورد في النصوص من الحذر من الكلام في الله وفي كتابه بغير علم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع قوماً يتدارؤون فقال: هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تضربوا بعضه بعضاً، ما علمتم منه فقولوا وما لا فكلوه إلى عالمه)([87])

وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، ثم قال: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم)([88])

ابتسم القاضي، وقال: الحديثان واضحان جدا.. بل الآية واضحة في الدلالة على هذا المسلك.. فكيف غاب عليهم؟

قال الصنعاني: ستعرف ذلك عندما تسمع المحاكمة جميعا.. فابن تيمية ومدرسته لا مكان عندهم لمن يخالفهم.. فالمرء إما أن يكون معهم، وإما أن يشنوا عليه كل ألوان الحروب.

قال القاضي: لقد أعجبني هذا المسلك، فهلا وضحت لي الأسس التي يقوم عليها؟

قال الصنعاني: لقد ذكر العلماء في ذلك أسسا جمعها الغزالي في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام)..

قال القاضي: أليس الغزالي من المتكلمين الذين يقولون بالتأويل؟

قال الصنعاني: إن المتكلمين سواء كانوا من الأشاعرة أو الماتريدية أو الإمامية لم يفرضوا على أتباعهم تأويلاتهم، بل إنهم يخيرونهم بين التفويض أو التأويل.

قال القاضي: هذا هو العلم.. وهذه هي الحكمة.. فحدثني عن الأسس التي يقوم عليها التفويض.

قال الصنعاني: من الأسس التي يقوم عليها القول بالتفويض ([89]) اليقين بتنزيه الله عز وجل وتعظيمه تصديقاً لقوله تعالى في الآية الكريمة:   قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾ [سورة الشورى:11]

ومنها التصديق بما جاء في القرآن الكريم وما وافقه من السنة الصحيحة، وأنه حق على المعنى الذي أراده الله ورسوله.

ومنها الاعتراف بالعجز عن معرفة ذات الله عز وجل والإحاطة بوصفه.

ومنها السكوت عما سكت عليه الصالحون، والكف عن السؤال عنه كما كفوا، وأن لا نخوض فيه.

ومنها الإمساك عن التصرف في تلك الألفاظ. فنمسك عن تفسيرها بلغة أخرى، لأن من الألفاظ العربية ما لا يطابقها في غير العربية، وفي اللغة العربية تراكيبُ لغويةٌ تدل على معان لا تدل عليها بترجمة ألفاظها..

وهكذا نمسك عن تصريفها فلا نقول في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه:5]، هو المستوي على العرش لأن الفعل يدل على استواء مرتبط بزمان، واسم الفاعل ليس كذلك ففي مثل هذا التصريف زيادةُ معنى ربما لا يكون مراداً في اللفظ الوارد..

ونمسك عن تجميع ماتفرق من هذه الألفاظ، كما يفعل زعماء مدرسة المتشابه حين يجمعون في كتاب واحد أخباراً تحت باب خصوه لإثبات اليد، وخصوا باباً لإثبات الرجل، وباباً لإثبات الوجه، فقوي بذلك الإيهام وغلَب الحس.

ونمسك عن تجريد اللفظ عن سياقه وسباقه لأن كل كلمة سابقة ولاحقة تؤثر في إفهام المراد فإذا بلغنا قول الله عز وجل:  ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سورة الأنعام:18]، فلا يجوز أن نقول: (هو فوق عباده)، لأن لفظ القاهر قبله يشير إلى فوقية الرتبة والقهر، كما قال تعالى على لسان فرعون: ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون﴾ [سورة الأعراف:127]، ونزعُ لفظِ القاهر يعطل هذا المعنى الذي يحتمله السياق احتمالاً قوياً ويوهم فوقيةً غيرَها لم يكن ليُفطن إليها لولا هذا التجريد عن السياق، بل قولنا: (القاهر فوق غيره) ليس كقولنا: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، لأن ذكر العبودية مع كونه موصوفاً بأن القاهرَ فوقه يؤكد فوقية السيادة والقهر.

التفت القاضي إلي، وقال: هل لديك ما تقول؟

قلت: أجل.. سيدي القاضي.. فقد رأيت بعض أصحاب ابن تيمية من المدرسة السلفية يذكر لي أنهم يفوضون.. فما أدري ما وجه صحة هذا؟

قال الصنعاني: أجل.. هم يذكرون عن أنفسهم هذا.. ولكنهم لا يعنون به تفويض التنزيه، بل يريدون به تفويض التجسيم والتشبيه.

قال القاضي: وما الفرق بينهما؟

قال الصنعاني: المنزه ينطلق من تقديس الله عن الحيز والحدود وكل ما له علاقة بالأجسام، ويفوض تحديد المراد بالمتشابهات إلى الله.. أما المجسم، فهو يفوض في الكيفية والحجم والمقدار.. وقد أدى بهم ذلك إلى مقولات غريبة عجيبة.

سأضرب لك مثلا عن رجل من معاصريك هو من أشهر تلاميذ ابن تيمية والمخلصين له.. إنه ابن عثيمين الذي قال: (نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله تعالى بلا كيف، وهذه القاعدة تجري على كل فرد من أفراد النصوص وإن لم ينصوا عليه بعينه، ولا يمكننا أن نخرج عنها نصاً واحداً إلا بدليل عن السلف أنفسهم. ولو قلنا إنه لابد أن ينصوا على كل نص بعينه لم يكن لهذه القاعدة فائدة)([90]).

لقد طبق هذه القاعدة على ما ورد في النصوص من وصف الله بالملل، فقال: (إذا كان هذا الحديث يدل على أن لله مللاً فإن ملل الله ليس كمثل مللنا، بل هو ملل ليس فيه شيء من النقص… فإنه ملل يليق به عز وجل)([91])  

وطبقها على ما ورد في النصوص من وصف الله بالهرولة، فقال: (صفة الهرولة.. فلا تستوحش يا أخي من شيء أثبته الله تعالى لنفسه، واعلم أنك إذا نفيت أن يأتي هرولة فسيكون مضمون هذا النفي صحةَ أن يقال إن الله لا يأتي هرولة وفي هذا ما فيه)([92])

بل إنهم تجاوزوا ذلك، وإمعانا في الإثبات في تصورهم راحوا يصرحون بإثبات الكيفية، يقول ابن عثيمين: (السلف لا ينفون الكيف مطلقاً لأن نفي الكيف مطلقاً نفي للوجود، وما من موجود إلا وله كيفية لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا.. وعلى هذا فنثبت له كيفية لا نعلمها.. ونفي الكيفية عن الاستواء مطلقاً هو تعطيل محض لهذه الصفة لأنا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية الصفات)([93]) 

قال القاضي: فهل كانو يدركون أن إثباب الكيفية يستلزم بالضرورة الكمية والشكل والحجم ونحو ذلك؟

الصنعاني: أجل.. وقد صرح ابن تيمية بذلك، فقال جوابا للمعترضين على نفي الكيفية: (..وأما قوله (الكيفية تقتضي الكمية والشكل)، فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم، وإذا كان هذا مستلزماً للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة إلا وله قدْر يخصه، وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية.. ومعلوم أن الموجود يُنظر في نفسه وفي صفته وفي قدرْه، وإن كان اسم الصفة يتناول قدْره ويستلزم ذاته أيضاً، فإذا عُلم بصريح العقل أنه لا بد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره)([94])

2 ـ موقف ابن تيمية المتشدد من المؤولة:

قال القاضي: عرفنا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.

قال الصنعاني: الشاهد الثاني هو موقف ابن تيمية المتشدد من المؤولة الذين يحملون الألفاظ على المعاني التي تقصدها العرب في كلامها إذا قبول ظاهر اللفظ.

قال القاضي: ما الذي تقصد بذلك؟

قال الصنعاني: عندما نقرأ قوله تعالى مثلا: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، فإننا لو أخذنا بظاهر اللفظ نكون قد اتهمنا الله بصفة من صفات النقص، وهي النسيان، والله تعالى أخبرنا في القرآن الكريم أن الله ليس نسيا، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]، ولذلك اعتبرنا الآية الأخيرة محكمة لأنها تصف الله بوصف كمال، واعتبرنا الأخرى متشابهة، لأن ظاهرها يدل على نقص، ولذلك نحتاج إلى تأويلها لتتناسب مع المحكم.

قال القاضي: فهمت ذلك.. ولكن بأي حجة يخرجون باللفظ عن ظاهره؟

قال الصنعاني: لقد أنزل الله تعالى القرآن ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]، وهذا يقتضي أن يستعمل القرآن الكريم كل الأساليب التي تستعملها العرب في كلامها.. ومنها هذا الأسلوب المعبر عنه بالمجاز والكناية ونحوها.

قال القاضي: فهلا وضحت لي الآية بحسب الرؤية التأويلية.

قال الصنعاني: من الأمثلة على ذلك قول ابن عاشور في الآية: (والنسيان منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثال ما أمر به، لأن الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرض عنه.. ونسيان الله إياهم مشاكلة أي حرمانه إياهم مما أعد للمؤمنين، لأن ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ)([95])

قال القاضي: هذا واضح ومنطقي.. فهل اعترض ابن تيمية على هذا المسلك؟

قال الصنعاني: ليته اعترض فقط.. لقد حمل المؤولة الويلات.. بل رماهم بكل ما سولت له نفسه من صنوف التبديع والتضليل.. وهو إمعانا في التقية يسب الجهمية – أحيانا- بدلهم، فيتصور المغفل أنه يقصد تلك الفرقة التي اندثرت، مع أنه يقصد مجموع الأمة من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وزيدية وإمامية..

قال القاضي: هلا ضربت لي أمثلة على ذلك.

قال الصنعاني: من ذلك قوله: (ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أُمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عن من قال كقولهم لتشابه قلوبهم ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65])([96])

فهو يرجع كل ما كتبه العلماء في فهم النصوص وفق اللغة العربية، هربا من مقتضياتها التي تنسب النقص إلى الله إلى كونهم أخذوها من المشركين.

وفي نص آخر يرجع ذلك إلى اليهود، فيقول: (وأصل هذه المقالة – مقالة التعطيل في الصفات – إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود.. فإن أول من حفظ عنه أنه قال: ليس الله على العرش حقيقة، وأن(استوى) بمعنى استولى – ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم  وأخذها عنه الجهم وأظهرها فنُسبت مقالة الجهمية إليه)([97]) 

والصفات التي يزعم ابن تيمية أن هؤلاء عطلوها ليس هي قدرة الله أو علمه أو حياته.. وإنما يقصد صفات التجسيم كاليد والساق والرجل والقعود والجري والهرولة..

قال القاضي: ولكن كيف تعامل مع المحكم الذي يتناقض مع المتشابه الذي حذر من تأويله.. ما موقفه مثلا من الآيات التي تفيد المعية، كقوله تعالى مثلا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]

قال الصنعاني: هو في هذه الحالة يؤولة كل المحكمات التي تتناقض مع مقتضيات التجسيم.. ولكنه من باب الاحتيال يسميه تفسيرا لا تأويلا.. يقول في ذلك مثلا: (ذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة.. وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال؛ فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك؛ وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة)([98])

قال القاضي: ولكن هذا هو عين التأويل.

قال الصنعاني: أجل.. فالنتيجة نفسها.. ولو أن ابن تيمية رضي من خصومه الذي كفرهم ما رضي لنفسه لانتفى الخلاف بينهما، ولكنه يبيح لنفسه ولطائفته ما لا يبيح لغيره.

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول أنت؟

قلت: أجل سيدي.. ومن الأمثلة التي هي الآن أمامي قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]: (هو قرب ذوات الملائكة وقرب علم الله؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد؛ فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض)([99]).. وقال: (وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد إذ أن ذاته أقرب فهذا في غاية الضعف)([100])

وهذا هو التأويل بعينه، لأن ظاهر اللفظ يدل على إسناد القرب إلى الله عز وجل، وتفسيره بقرب الملائكة صرفٌ للفظ عن ظاهره. فلم لا يقال في هذا الصرف إنه تعطيل لما وصف الله تعالى به نفسه؟ ولم لا يقال: التقرب معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب؟ وما الفرق بين هذا وبين تأويلنا لقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22] أي ملائكته أو أمره([101]

رابعا ـ ابن تيمية وتحديد الذات والأفعال

بعد أن ساق الصنعاني من الأدلة ما ساق مما ذكرته لكم قام الهندي، وقال: بعد أن اتضح لكم – سيدي القاضي – ما ذكره ابن تيمية في حكم المخالفين له من المنزهة سواء كانوا من المفوضة أو المؤولة اسمح لي أن أحدثك عن بعض الشواهد التي تدل على تجسيمه لربه، وتحديده له ذاتا وصفات وأفعالا.

قال القاضي: قبل أن تسوق ذلك لي اذكر لي وجه الاستدلال به..

قال الهندي: وجه الاستدلال به – سيدي – واضح، وهو أن ابن تيمية لم يكتف بنصره المجسمة والمشبهة، ولم يكتف بالطعن في المخالفين له، بل راح هو أيضا بكل ما أوتي من قوة ينظر للتجسيم والتشبيه، ويحاول أن يضفي عليهما صفة القبول.. وأحسب أنه لولا جهود ابن تيمية في ذلك لانطمس التجسيم والتشبيه، ولما بقي له وجود، لأن كل الكتب التي سبقته كانت تورد الروايات المتهافتة في ذلك، وكان مجرد قراءتها يكفي للنفور منها.. لكن ابن تيمية حاول أن يلمعها ويقدمها للمسلمين بصفة تبدو في ظاهرها مقبولة، ولكن باطنها تفوح منه روائح الوثنية المقيتة.

قال القاضي: فهلم بما تريد أن تدلي به من أدلة على ذلك.

قال الهندي: بناء على تقسيمهم ما يسمونه صفات الله إلى قسمين: قسم مرتبط بالذات، وقسم مرتبط بالأفعال، فسأجلب شاهدين لكل قسم منهما، لترى بعينك مبلغ التجسيم والتشبيه فيهما جميعا.

1 ـ موقف ابن تيمية مما يسمونه صفات الذات:

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الهندي: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية مما يسمونه صفات الذات.. ويقصدون بها ما ورد في الأخبار من إضافات ترتبط بالله من اليد والساق والضرس والحقو وغيرها..

قال القاضي: هل يمكنك أن تورد لنا بعض ما في كتب ابن تيمية من هذا حتى نتبين صحة ما قلت.

قال الهندي: سأورد لك – سيدي – سبعة أمثلة توضح لك هذا أتم توضيح.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الهندي: المثال الأول، وهو المنطلق الفكري الذي ينطلق منه ابن تيميه في تجسيمه وتشبيهه، فهو يرى أن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أعطى لعباده بعض الكمالات الحسية، فهو أولى أن يتصف بها، لقد قال يوضح ذلك: (كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه…وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها)([102])

وإلى هنا فإن المعنى مقبول عند جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أولى بصفات الكمال من عباده، ولكن ابن تيمية لا يقصد ذلك فقط، بل يقصد التجسيم وما يقتضيه التجسيم، فقد قال بعد ذلك الكلام المقبول بانيا عليه: (وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائماً بنفسه أو موصوفاً أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به إلا يكون بحيثِ غيره وأن لا يكون معدوماً بل ما أوجب أن يكون قائماً بنفسه مبايباً لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم، فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد)([103])

وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض، لأنه يتصور أن الكمال في احتياج الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي لا يقتضي ذلك..

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول فيما أورد؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- كلامه واضح في ذلك، وقد أورد بعض الباحثين المعاصرين قول ابن تيمية: (يقال أما الحدوث أو ما يستلزم الحدوث فلا يجوز أن يكون هو علة للأمر الوجودي لأن ذلك مستلزم للعدم، وما يستلزم العدم لا يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي فلا يعلل الأمر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات إلا بأمر وجودي يختص بالموجودات)([104])

ثم علق عليه بقوله: وبذلك يكون قد أثبت أحقيته بكل صفة وجودية يوصف بها المخلوق ومن بين هذه الصفات الوجودية التي أثبتها ما نص عليه، فنص على وصفه بما للموجود من القيام بالمحل واتصافه بالمقدار الذي استحق به أن لا يكون بحيث غيره.. ونص على اعتبار الغائب بالشاهد ووصف هذا بالصراط المستقيم.. ونص على أن كل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب أما قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11] الذي يبعد أدنى مشابهة بينه وبين كل موجود فقد غدا مما لا نعلمه من الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون([105]).

المثال الثاني:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الهندي: المثال الثاني هو أن ابن تيمية رأى أنه لا يمكن أن يمرر التجسيم ومقتضياته من الأعضاء والجوارح التي يطلق عليها صفات إلا بإقناع أتباعه بأن الله تعالى يمكن أن يكون مركبا، وذلك ردا على المنزهة الذين يستدلون على كون الله واحدا من جميع الوجوه، فينفون عنه الكم المنفصل والكم المتصل.

قال القاضي: لقد ذكرت في البينات السابقة أن هذا قول المجسمة من قبله.. فما الذي أضافه ابن تيمية؟

قال الهندي: صدقت سيدي.. ولكن ابن تيمية لم يكتف بالآثار الواردة في ذلك، بل راح – كعادته – يطعمها بالجدل العقلي الذي يختلط فيه الحق بالباطل، وخاصة على من لم يتمرس في صناعة الكلام.

ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عند بيان الخلاف في إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وليست غيره، فقد قال: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانُهم. وإذا حُقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظياً أو اعتبارياً فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظٍ واعتبار واختلافِ اصطلاحٍ في مسمى (بعض) و(غير)، كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية، وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة..  فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا)([106])

ولم يكتف بهذا، بل راح ينقل عن سلفه ما يبين أنه يمكن أن يطلق على صفات الله لفظ البعض.. ولفظ الصفات عنده وعند مدرسته لا يعني ما نعرفه من صفات كالكرم والرحمة والقدرة ونحوها.. بل تعني أيضا الرجل والساق واليد والوجه ونحوها.. وهو لا يطلق عليها تسمية (أعضاء أو جوارح) لعدم ورود النص في ذلك فقط، وإلا فإن كلامه في الصفات يقتضيها..

ومن الآثار التي استدل بها على ذلك قوله: (وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل..عن عكرمة قال: (إن الله إذا أراد أن يخوف عبادة أبدى عن بعضه إلى الأرض).. ثم قال – أي أبو يعلى-: أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره وأنه راجع إلى الذات إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحق)([107])

قال القاضي: أليس هذا الذي نقل عنه هو نفسه أبو يعلى الذي ذكرتموه لي سابقا، وذكرتم تحذير العلماء من كتابه؟

قال الهندي: بلى.. سيدي.. وابن تيمية يقرر ما يقول.. بل إنه يتجاوزه أحيانا، فيعتبر أبا يعلى مقصرا في التجسيم الكامل، بل يعتبره من المفوضة.

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول أنت في هذا؟

قلت: ليس لدي ما أقول.. فكلام ابن تيمية في الصفات يقتضي هذا حتى ولو لم يصرح به.. لكنه بسبب جدله مع المتكلمين صرح به، وحاول أن يبرهن عليه.

المثال الثالث:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الهندي: المثال الثالث يبين لك سيدي كيفية فهمه للنصوص، فهو دائما ينظر إليها نظرة تجسيمية، ويغلب التجسيم فيها على التنزيه إذا تنازعا..

ومن الأمثلة على ذلك أنه في مواضع كثيرة من كتبه وضع صفة لله اسمها الإصبع، وجعلها من مقتضيات العقيدة يقول في كتابه (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية): (وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع)([108])

هل تعلم – سيدي – من أين استنبط أن الله عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع؟

قال القاضي: أجبني من أين استنبطه؟

قال الهندي: استنبطه من حديث ورد في صحيح البخاري سأقرأه عليك لترى هل حقا يدل على ما فهمه منه أم لا؟

ينص الحديث على أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67])([109])

فابن تيمية ومدرسته الذين افتتنوا بهذا الحديث، وبنوا عليه أصولهم الكثيرة، تصوروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك تصديقا لليهودي، فهل ترى ذلك سيدي؟

قال القاضي: لا.. لا أرى ذلك.. بل أرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحك استخفافاً من هذا القول الذي تمجه الأسماع، ولا تخفى ركاكته وتهافته على أي عقل، فإذا كانت الأرضون على إصبع، فكيف تكون الجبال على إصبع غيره، ثم يكون الشجر على إصبع آخر، والماء على إصبع، وكل ذلك من الأرض([110]

قلت: بالإضافة إلى ذلك فالآية تصرح بأنهم لم يقدروا الله حق قدره بعد هذا الوصف، وأنه تعالى عما يشركون.. والآية فوق ذلك تخالف ظاهر خبر اليهودي، فأين طوي السموات بيمينه من جعلها على أحد الأصابع؟ وكذلك الأرض جميعها بما فيها من جبال وشجر وماء أين جعلُها على أصابع من قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر: 67]؟

قال القاضي: ما يقول المنزهة في هذه الآية؟

قال الهندي: لقد قال ابن عاشور في الآية الكريمة: (القبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض، وأن المقبوض لا تصرف له ولا تحرك.. وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئا موجودا لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.. واليمين: وصف لليد ولا يد هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين)([111])

قال القاضي: هلا وضحت لي أكثر.

قال الهندي: ألسنا نقول في أحاديثنا: زمام الأمور بيدي.. وأن فلان يمسك بجميع القضايا.. ونحو ذلك؟

قال القاضي: بلى.. وخاصة نحن في القضاء نقوله كثيرا.

قال الهندي: فالآية جاءت بلسان عرب.. وهم يذكرون هذا كثيرا في كلامهم.. فقد قال شاعرهم مثلا:

ولما رأيت الشمس أشرق نورها      تناولت منها حاجتي بيميني

قال القاضي: فهمت المعنى.. فعد بنا إلى ابن تيمية وحزبه ما فهموا من الحديث؟

قال الهندي: لقد افتتن ابن تيمية وسلفه وخلفه بذاك الحديث افتتانا عظيما حتى اعتبروه أصلا من أصول الدين.. ولذلك اعتبروه من الأحاديث الدالة على صفات الله عز وجل مع أن ظاهره إثبات الجوارح والأعضاء لله تعالى.

فهذا ابن تيمية يقول كلاما خطيرا ليس في التجسيم فقط، بل في كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستمع لأحاديث اليهود، ويصدقها، ثم يأتيهم بالآيات التي تدل على ما قالوا، لقد قال: (وكان اليهود إذا ذكروا بين يديه أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يوم القيامة يمسك السموات على إصبع..)([112])

هل رأيت – سيدي القاضي – الخطورة التي يؤدي إليها هذا الكلام؟ إنه أكبر شبهة يستند إليها من يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ دينه من أهل الكتاب من قبلنا.

قال القاضي: فهل فهموا من الإصبع أنها الإصبع الحقيقة؟

قال الهندي: أجل سيدي.. بل اعتبروا هذا الفهم هو السنة، وأن ما عداه تعطيل وضلال وكفر.. فهذا أبو يعلى يقول – كعادته مع أمثال هذه النصوص-: (اعلم أنه غير ممتنع حملُ الخبر على ظاهره وأن الإصبع صفة ترجع إلى الذات وأنه تجوز الإشارة فيها بيده)([113]) ، بل إنه نقل روايتين عن الإمام أحمد الأولى أنه أشار بأصابعه وهو يحدث بهذا الحديث، وذلك تشبيه محض، والثانية أنه أنكر على من أشار بيده عند التحديث به وقال: قطعها الله ثم ترك مجلسه، وجمع القاضي بين الروايتين فقال: (وهذا محمول على أنه قصد التشبيه، والموضع الذي أجازه لم يقصد ذلك)([114])

وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول معلقا على الحديث:(هذا الحديث فيه مسائل منها أن هذه العلوم وأمثالُها باقية عند اليهود لم يتأولوها)([115])

وقد علق عليه ابن عثيمين بقوله: (كأنه يقول إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا ليس لله أصابع، وأن المراد بها القدرة، فكأنه يقول اليهود خير منهم في هذا وأعرفُ بالله منهم)([116])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي.. وقد تأملت كلامهم في هذا، وهو لا يدل إلا على التجسيم المحض، وقد قرأت لبعض المتأخرين قوله: (ومن أثبت الأصابع لله فكيف ينفي عنه اليدَ والأصابعُ جزء من اليد)([117]) 

والعجب ليس في هذا فقط سيدي، وإنما في تعظيمهم لليهود، وذكرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس إليهم، ويستفيد منهم، وهو الذي ورد عنه التحذير من سماعهم.. اسمع ما يقول ابن العثيمين سيدي لتدرك تصورهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يشك فيما أنزل الله إليه حتى يأتي اليهود ويطمئنوه، لقد قال مفسرا سبب ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبب الضحك هو سروره حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجد هذا الحبر في كتابه لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سوف يسر به، وإن كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء) ([118])

المثال الرابع:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال الرابع.

قال الهندي: المثال الرابع يبين لك سيدي كيف حول ابن تيمية الآيات التي تتحدث عن المشركين وضعف أصنامهم إلى آيات تقرر صفات الله سبحانه وتعالى، وهي آيات كثيرة، أكتفي لك بقوله تعالى: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]، فقد حولها ابن تيمية إلى آية تفيد التجسيم والتشبيه.

قال القاضي: كيف ذلك، والآية تتحدث عن الأصنام؟

قال الهندي: أجل.. ولكن ابن تيمية فهم منها أنها تشير إلى أوصاف الله تعالى، فقد قال تعليقا عليها: (وللناس في هذه الآية قولان: أحدهما: أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود.. الثاني: أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفا بنقيض هذه الصفات فإن قيل بالقول الأول أمكن أن يقال بمثله في آية العجل. فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله؛ وإن قيل بالثاني: وجب أن يتصف الرب تعالى بما نفاه عن الأصنام.. ووجب أن يوصف الله عز وجل بما جاء به الكتاب والسنة من الأيدي وغيرها)([119])

قال القاضي: ما يعني بقوله هذا؟

قال الهندي: هو يعني أنه ما دامت الأصنام ليست لها أرجل تمشي بها، فالله لابد أن تكون له هذه الأرجل.. وما دامت ليست لها آذان تسمع بها.. فالله لابد أن تكون له آذان.. وهكذا.

قال القاضي: إن هذا تجسيم محض.

قال الهندي: لقد ورث ابن تيمية هذا من أسلافه ممن يسميهم أهل الحديث، فقد قال ابن خزيمة: (باب إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]، فأعلمنا ربنا جل وعلا أن من لا رجل له، ولا يد، ولا عين، ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل ، فالمعطلة الجهمية: الذين هم شر من اليهود والنصارى والمجوس: كالأنعام بل أضل؛ فالمعطلة الجهمية عندهم كالأنعام بل هم أضل)([120])

أرأيت سيدي القاضي هذه التهم التي يكيلها للجهمية، واعتبارهم شر من اليهود والنصار والمجوس هي في الحقيقة موجهة لكل المنزهة من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والشيعة وغيرهم.. فكلهم يقولون بتنزيه الله عن تلك المقولات.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل.. وهنا بين يدي كتاب لابن القيم يقرر فيه نفس ما قرره شيخه، فهو يقول فيه: (وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]،، فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلاً على عدم إلهية من عدمت فيه هذه الصفات فالبطش والمشي من أنواع الأفعال والسمع والبصر من أنواع الصفات. وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أربابهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية فوصف نفسه بالسمع والبصر والفعل باليدين والمجيء والإتيان وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات عليها منافياً لإلاهيتها)([121])

قال القاضي: على حسب ما ذكرتما فإن الصفات عندهم تعني الجوارح، لأن الله سبحانه وتعالى عاب هذه الأصنام بكونها ليست لها جوارح تستعملها.

قال الهندي: أجل سيدي، ومما يزيدك توضيحا في هذا أن ابن مندة الذي أوصى ابن تيمية بكتبه روى هذه الروية يرفعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يُقبل الجبار عز وجل فيثنى رجله على الجسر فيقول: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظالم فينصف الخلق بعضهم من بعض..)([122])

فهل يُقبل في هذا الخبر أن تكون الرجل التي تقبل الثنيَ صفةً من الصفات، ليست جارحة ولا عضوا ([123]

قال القاضي: وعيت هذا، فما الذي فهمه المنزهة من الآية الكريمة؟

قال الهندي: لقد ذكر الرازي، وهو من أئمة المنزهة أن المقصود من الآية الكريمة هو بيان أن الانسانَ أفضلُ حالاً من الصنم، فقال: (لأن الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة فإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حال من الصنم واشتغال الأفضل بعبادة الأخس الأدون جهل)([124])

المثال الخامس:

قال القاضي: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال الخامس.

قال الهندي: المثال الخامس يبين لك سيدي أن ابن تيمية ومدرسته يلتزمون بكل معاني التشبيه في تجسيمهم، ولذلك يلتزمون أن تكون لله يدان، ويؤولون كلمة الأيدي لأجل ذلك([125])، ويلتزمون أن لله ساقين، ويؤولون ما أثبتوه لأجل ذلك.. وهكذا.. ولو أنهم كانوا صادقين في أن المراد بها صفات لما احتاجوا إلى العدد، فالقدرة والإرادة وغيرها لم يلتزموا فيها بالتعدد أو بالتثنية.

قال القاضي: هلا ضربت لي مثالا يوضح لي ذلك.

قال الهندي: سأضرب لك مثالا على ذلك بما ورد عنهم في الساق في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: 42]، فقد رووا في ذلك رواية طويلة تفيد بأن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة لخلقه([126]).

لكن المشكلة التي واجهتهم هي أن الله تعالى ذكر ساقا واحدة، والأصل أن يكون له ساقان.. فماذا فعلوا؟

أما أبو يعلى الفراء، فاستنجد بالمجسم الكبير مقاتل بن سليمان الذي ذكرته لك سابقا، فروى له هذه الرواية: (يعني عن ساقه اليمين فيضيء من نور ساقه الأرض)([127])

وأما ابن تيمية فراح يستعمل أساليبه في الجدال، فقد قال في (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية): (من أين في ظاهر القرآن أنه ليس لله إلا ساق واحد وجنب واحد فإنه قال: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر 56]، وقال: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم 42] وعلى تقدير أن يكون هذا من صفات الله فليس في القرآن ما يُوجِب أن لايكون لله إلا ساق واحد وجنب واحد، فإنه لو دل على إثبات جنب واحد وساق واحد وسكت عن نفي الزيادة لم يكن ذلك دليلاً على النفي إلا عند القائلين بمفهوم الاسم واللقب، لأنه متى كن للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن المفهوم مراداً بلا نزاع ولم يكن المقصود بالخطاب في الآيتين إثبات الصفة حتى يكون المقصود تخصيص أحد الأمرين بالذكر، بل قد يكون المقصود حكماً آخر مثل بيان تفريط العبد وبيان سجود العباد إذا كشف عن ساق، وهذا الحكم قد يختص بالمذكور دون غيره)([128])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: الأمر واضح.. ولكني فقط أورد لك رواية قرأتها عن شيخ من المحدثين، وهو الحافظ أبو عامر العبدري، شيخ ابن عساكر، وهي تدلك على أن القوم مشبهة، وإنهم إنما يتقون حين يعتبرون هذه الجوارح صفات، لقد قال ابن عساكر يذكر شيخه: (كان سيء الاعتقاد يعتقد من أحاديث الصفات ظاهرها بلغني أنه قال يوما: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم: 42]، فضرب على ساقه وقال: ساق كساقي هذه. وبلغني عنه أنه قال أهل البدع يحتجون بقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] أي في الإلهية، أما في الصورة فهو مثلي ومثلك)([129])

المثال السادس:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال السادس.

قال الهندي: المثال السادس سيدي أخطر الأمثلة، وهو يبين أن ابن تيمية – من خلال كتبه في التجسيم – قد وصف ربه وصفا دقيقا محددا.. ولكنه من باب التقية مارس كل أساليب التمويه حتى لا يفطن لذلك.

قال القاضي: عجبا كيف ذلك.

قال الهندي: من خلال تدبر ما كتبه ابن تيمية حول صفة الله تجده يلتمس كل السبل ليقنع القارئ أن الله تعالى على هيئة شاب أمرد..

نهضت، وقلت: لا تقل هذا.. فقد رأيت الكثير من السلفيين ينكرونه عن ابن تيمية، ويتهمون الروافض بأنهم ناشرو هذه التهمة.

قال الهندي: لا تستعجل علي.. فلو رجعت إلى كتابه (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) لوجدته يكاد يصرح بذلك، ولكن بطريقته المعروفة، والتي لا تخفى على من يعرف أساليب ابن تيمية في الجدل والخصومة.

قال القاضي: هلا وضحت لي بعض ذلك.

قال الهندي: هو يبدأ بإيراد الخلاف بين الصحابة في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة لربه، حتى يبين أن القضية محتملة، وأنه ليس فيها شيء.

ثم يعقب على ذلك بذكر الروايات الكثيرة التي تبين أن هناك سلفا كثيرا يذكرون بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، قال في كتابه (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية): (وأما الأخبار المطلقة عن ابن عباس وأنس وغيرهما من الصحابة والتابعين فكثيرة أيضًا)([130])

ثم ساق على سبيل القطع من هذه النصوص قول ابن عباس: (إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، ومحمدًا بالرؤية)([131]) ، وقوله: (رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه)

وروى عن المبارك بن فضالة قوله: (كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد ربه)([132])

ثم يذكر الروايات الدالة على كيفية رؤيته له، ومنها ما رواه عن عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه رأى ربه عز وجل شابًّا أمرد جعدًا قططا في حلة خضراء)([133]

وقد دافع عن هذا الحديث والروايات الواردة فيها أيما دفاع، وائذن لي – سيدي القاضي- أن أسوق لك بعض كلامه في ذلك، وكيف دافع عن رواة الحديث، فقال: (قال الخلال أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه، فذكر الحديث، قلت إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان، قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ربي، وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يثبته، وقال: في هذا يشنع به علينا، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول، قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق)([134])

وقال في موضع آخر: (شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت ربي، قال حدث به فقد حدث به العلماء، قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء)([135])

ثم يروي أحاديث الرؤية المنامية، ويبين انطباقها على الأحاديث الدالة على الرؤية في اليقظة، فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب)([136]

ثم علق عليه بقوله: (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس) ([137])

بل إنه فوق ذلك – سيدي – وحتى يبين إمكانية الاستدلال بحديث الرؤية المنامية على صفة الله، قال: (وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.. وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام ولكن لعلهم قالوا لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم. وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه)([138]

وما يريده من هذا الكلام واضح، ذلك أنه يعرف أن المسلمين جميعا يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الخلق بربه، ولذلك رؤيته مقاربة أو مطابقة لله نفسه.. خاصة إذا انضم إليها ما صححه من الأحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية.

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول في هذا؟

قلت: صدق.. و(مجموع الفتاوى) الآن بين يدي، وأنا أطالع فيه قوله: (وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه؛ فإذا كان إيمانه صحيحا لم يره إلا في صورة حسنة وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة ولها (تعبير وتأويل) لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق. وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضا من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام: فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم. وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه فهذا كله يقع في الدنيا. وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه حتى يستيقظ فيعلم أنه منام وربما علم في المنام أنه منام)([139])

وفي كتابه (منهاج السنة) يقول: (ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى في المنام، فإنه يرى في صور مختلفة، يراه كل عبد على حسب إيمانه، ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة، وهي رؤية منام بالمدينة، كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه)([140])

المثال السابع:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال السابع.

قال الهندي: المثال السابع – سيدي- هو دفاع ابن تيمية عن الرؤية الحسية لله، أي رؤيته رؤية حسية كرؤية أي جسم من الأجسام.. وذلك يقتضي التجسيم المحض.

قال القاضي: قبل أن تحدثني عن رأي ابن تيمية ومدرسته في المسألة.. حدثني عن موقف المنزهة من الرؤية.

قال الهندي: المنزهة – سيدي القاضي – متفقون على استحالة الرؤية الحسية لله، لأن الرؤية الحسية لا تكون إلا للأجسام، وتعالى الله أن يكون كذلك.. وهو ما ينص عليه صراحه قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]

قال القاضي: ولكن سمعت عن اختلافهم في ذلك.. وأن بعضهم يقول بإمكانية الرؤية.

قال الهندي: أجل– سيدي القاضي – ولكن الرؤية التي يقصدها هؤلاء تختلف تماما عن الرؤية التي يقصدها ابن تيمية.. بل إني بحثت في المسألة، فوجدت أن الخلاف فيها بين المنزهة لا يعدو أن يكون خلافا لفظيا.. لأن الرؤية القلبية أو العرفانية التي يقصدها المنزهة يتفق فيها الجميع.

وقد قال الغزالي – وهو من أئمة المنزهة – يوضح المراد بهذه الرؤية: (إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقة، أثبتناه في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة، وإن لم يكى إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل)([141])

ثم بين أن المراد بالرؤية في أصلها أعم من أن تنحصر في العين أو أن تكون رؤية حسية، فقال: (وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو، فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.. ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنا الشيء بالقلب، أو بالدماغ إن أدركنا الشيء بالدماغ، وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين.. وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان لتعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان)([142])

وبعد أن بين بطلان انحصار الرؤية في الحس بين المتعلق الحقيقي للرؤية، فقال: (فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالاضافة إلى التخيل، فإنا نرى الصديق مثلاً ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق وليس بينهما افتراق، إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل، وكالكشف لها، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثاً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال. والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثة في الخيال، فإذاً التخيل نوع إدراك على رتبة، ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في الوضوح والكشف، بل هي كالتكميل له، فنسمي هذا الاستكمال بالاضافة إلى الخيال رؤية وإبصاراً)([143])

وبناء على هذا بين أن المراد برؤية الله تعالى عند المنزهة هي هذا النوع من الرؤية، قال: (وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية، كما سميناه بالاضافة إلى التخيل رؤية. ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها.. فنحن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له)([144])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول فيما ذكره؟

قلت: أرى سيدي القاضي أن تسأل الميلاني، فهو من الشيعة الإمامية، وهم من المعدودين عند المتكلمين في الفرق من المنكرين للرؤية.. فأهل مكة أدرى بشعابها.

طلب القاضي من الميلاني أن يقوم ويحدثه عن موقف الإمامية من الرؤية، ووجه الخلاف بينهم وبين غيرهم في ذلك، فقام، وقال: إن ما ذكره الغزالي هو نفسه ما ذكره علماؤنا وأئمتنا.. فهذا الصدوق يفسر الرؤية القلبية، فيقول: (ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتعلم حقيقة قدرة الله عز وجل، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]، فمعنى ما روى في الحديث أنه عز وجل يرى أي يعلم علما يقينيا كقوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ [الفرقان: 45]، وقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 258] وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1]، وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين)([145])

ويقول العلامة الطباطبائي: (إنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الإنسان، يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء ذلك إن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجد وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي اكتسبها، والذي يتجلى من كلامه سبحانه إن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة، فهناك مواطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعد في طريق هذا العلم لم يتم له حتى يلقى ربه، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز، والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عن الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل، فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشئ بنفسه حتى يكشف عنه في الإسلام، فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية)([146])

وهكذا نجد أن ما ورد عن أئمتنا في نفي الرؤية هو نفي الرؤية الحسية، أما الرؤية القلبية، فلا أحد منهم يخالف في إمكانها.

فنحن نروي أن ذعلب اليماني سأل أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أفأعبد ما لا أرى؟! قال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)([147]

وأخرج الصدوق عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن ع:  هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل، فقال: رآه بقلبه، أما سمعت الله عز وجل يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، أي لم يره بالبصر، ولكن رآه بالفؤاد.

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: الآن، وبعد أن استوعبنا الموضوع جيدا حدثنا عن موقف ابن تيمية.. وما وجه التهمة له في ذلك؟

قال الهندي: المتأمل في كلام ابن تيمية وتوسعه في الرؤية يدل على أن الله تعالى عنده يرى كما ترى الأجسام، بل يرى بصورته التي لا تختلف عن صورة الإنسان، وقد أورد في ذلك الآثار الكثيرة عن سلفه.. ولكن المشكلة لا تكمن هنا فقط، بل تكمن في موقفه ممن أنكر هذا النوع من الرؤية، فقد حكم عليهم بالكفر، مع أنهم يشكلون جميع المسلمين ما عدا المدرسة التي ينتمي إليها ابن تيمية.

وقد قال في رسالة له إلى أهل البحرين: (وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث.. والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر؛ فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر)([148])

 ثم أحال إلى الكتب التي تذكر الرؤية بتفاصيل حسية كثيرة، فقال: (والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة قد دون العلماء فيها كتبا مثل: كتاب الرؤية للدارقطني ولأبي نعيم وللآجري؛ وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة واللالكائي وابن شاهين وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق والخلال والطبراني وغيرهم) ([149])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق الهندي سيدي، فكتب ابن تيمية مملوءة بالروايات التي تجعل الرؤية رؤية حسية، ومنها هذه الرواية المشحونة بالتجسيم ولوازمه: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه؛ فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيعرفونه)([150])

لكن المشكلة – كما أرى سيدي- ليست في هذا، إنما في تكفير من ينكر هذا أو يوجهه التوجيه المناسب تعظيما وتنزيها لله.. فابن تيمية ومدرسته يشنون عليهم حربا شعواء.

وقد أفتى عبد العزيز بن باز من سأله عن جواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة، فقال: (من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلى خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة)([151]) ، ونقل عن الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إن قوما يزعمون أن الله لا يرى يوم القيامة، فقال مالك: السيف السيف.

وهكذا نجد أئمة السلفية في كل العصور يكفرون منكر الرؤية الحسية، وهم يذلك يكفرون الأمة جميعا ما عداهم.

فقد رووا عن أبي بكر المروزي: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر.

ورووا عن أحمد بن حنبل: الرؤية من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أن الله لا يرى فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على الله أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

2 ـ صفات الفعل

قال القاضي: وعينا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.

قال الهندي: لم يكتف ابن تيمية بتجسيمه وتشبيهه لله بخلقه في ذاته، وإنما أضاف إلى ذلك أنه جعله يتصرف كتصرف عباده الممتلئين بالعجز والقصور.. فهو ينزل ويصعد، ويجيء ويرجع، ويمشي ويهرول، ويضحك حتى تبدو أضراسه.. وغير ذلك مما امتلأت بأمثاله كتب ابن تيمية وسلفه الذين يعتمد عليهم.

قال القاضي: إن ما تقوله خطير.. ويحتاج إلى إثبات.

قال الهندي: أدرك ذلك سيدي، ولذلك سأذكر لك سبعة أمثلة، لعلها تكون كافي في الدلالة على ما ذكرت.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الهندي: المثال الأول، هو اهتمام ابن تيمية المبالغ فيه – كشأن سلفه الذين يعتمد عليهم – بنزول الله وصعوده، ونحو ذلك.. وقد كتب في ذلك رسالة مطولة أطنب فيها بذكر الروايات والردود العقلية على المخالفين.. وكلها مبنية على التجسيم المحض.

وقد حكى مناظرة لإسحاق بن راهويه في مواضع مختلفة من كتبه تبين تصوره لأفعال الله، فقد سئل إسحق عن حديث النزول أصحيح هو؟ فقال نعم فقيل له: يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال: كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق حتى أصف لك النزول؟ فقال له الرجل: أثبته فوق. فقال له إسحاق: قال الله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، فقيل له: يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: ومن يجىء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ وأنه قيل له أيضاً: أينزل ويدع عرشه؟ فقال: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو من العرش؟  فقيل: نعم، فقال إسحاق: فلم تتكلم في هذا([152]).

وقال في (شرح حديث النزول): (فإن وصفه ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات؛ كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجىء في مثل قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [البقرة: 210]، وأمثال ذلك من الأفعال التي وصف الله ـ تعالى ـ بها نفسه التي تسميها النحاة أفعالًا متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر، كالاستواء إلى السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك)([153])

قال القاضي: هو يستند في هذا إلى حديث سماه حديث النزول، فهلا حدثتني به.

قال الهندي: لقد ورد الحديث بصيغ كثيرة متعددة، منها ما يفيد التنزيه، ومنها ما يفيد التشبيه.. لكن ابن تيميه وأتباعه لم يشهروا إلا الصيغ التي تفيد التشبيه.

قال القاضي: فحدثني أولا على الرواية التي تفيد التنزيه.

قال الهندي:  من الروايات الورادة في ذلك ما حدث به النسائي بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا ينادي، يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى)([154])

وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:  (ينادي كل ليلة ساعة فيها مناد، هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له)([155])

قال القاضي: هذه رواية التنزيه.. فما رواية التشبيه؟

قال الهندي: هي روايات كثيرة جدا..

قال القاضي: لم كانت أكثر من روايات التنزيه؟

قال الهندي: لأن أكثر المحدثين كانوا إما مجسمة، أو لهم ميول إلى المجسمة، ولهذا غلبت رواياتهم على روايات التنزيه.

قال القاضي: فهلا حدثتني عن بعضها.

قال الهندي: سأقتصر لك على ثلاث روايات منها زكاها ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب لتعلم غرام القوم بالتجسيم والتشبيه:

أما أولاها، فهي: (ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى السماء، فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى إذا كان الفجر صعد الرب عز وجل)([156])

وأما الثانية، فهي: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول ألا عبدٌ من عبادي يدعوني فأستجيب له. ألا ظالمٌ  لنفسه يدعوني فأغفر له ألا مقترٌ رزقَه ألا مظلوم يدعوني فأنصره ألا عانٍ فأفك عنه، فيكون كذلك حتى يصبح الصبح ثم يعلو جل وعز على كرسيه)([157])

وأما الثالثة، فهي: (إن الله جل وعز ينزل إلى سماء الدنيا، وله في كل سماء كرسي، فإذا نزل إلى سماء الدنيا، جلس على كرسيه، ثم مد ساعديه، فيقول من ذا الذي يقرض غيرَ عادم ولا ظلوم، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يتوب فأتوب عليه، فإذا كان عند الصبح ارتفع فجلس على كرسيه)([158])

وقد احتج به ابن القيم، ودافع عنه، فقال: (رواه أبو عبد الله في مسنده وروي عن سعيد مرسلاً وموصولاً قال الشافعي رحمه الله تعالى مرسل سعيد عندنا حسن)([159])

قام الميلاني، وقال: إن أذن لي حضرة القاضي، فسأذكر له رواية عن أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام الذي أنكروا هذه الروايات وبينوا المراد الصحيح منها.

أشار إليه القاضي بالحديث، فقال: لقد حدث إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ فقال عليه السلام: لعن الله المحرفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إنما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل. فيأمره فينادي أهل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ يا طالب الخير فأقبل، يا طالب الشر أقصر، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء) حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([160]

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي القاضي، وقد وجدت في كتب ابن تيمية من غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تطفح بالتجسيم والتشبيه:  (ثم تبعث الصيحة فلَعَمْر إلهك ما تدعُ على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء.. قلت يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل وعز إذا لقيناه؟  قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قِبَلكم بها فلعمر إلهك ما يخطىء وجه أحدكم منها قطرة)([161]

هل رأيت سيدي كيف يجعلون الله العلي العظيم يطوف في الأرض، ثم كيف يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها.. هل هذا هو الله العلي العظيم الذي نعرفه؟

قال القاضي: لعلهم يروون الرواية.. ولا يقصدونها.

قلت: بل يروونها، ويقصدونها، ويفرحون بها.. لقد قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة.. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان،..وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم)([162])

بل إنه يرتب على منكر هذا حكما خطيرا، فينقل عن سلفه أبي عبد الله بن مندة مقرا له: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة)([163])

ثم لا يكتفي بذلك.. بل يذهب يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه كل صنوف التجسيم والتشبيه، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله..والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل.. وقوله:  فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم  فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح)([164]) 

قال القاضي: ولكن ألا ترى تناقضا بين هذا الذي ذكرته عنهم، وبين ما يذكرونه من عظمة الله، وأن السموات والأرض لا تساوي شيئا أمام يمينه.. فكيف يطوف الإله في الأرض.. وهل الأرض تطيق أن تحمله؟

قلت: لقد أورد بعض خصوم ابن تيمية عليه مثل هذا التساؤل، فأجابه بقوله: (يقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)([165]).. هل رأيت سيدي مثل هذه الجرأة على الله.. وهل رأيت في تاريخ الأديان من يجوز أن تحمل الله بعوضة؟

قال القاضي: إن هذا القول من ابن تيمية يدل على أنه يقول بأن الله يتشكل كما تتشكل الملائكة والجن؟

قلت: هم يقولون بذلك، وإن لم يصرحوا به.. ولذلك يذكرون أن الناس سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين يرونه كل مرة بصورة جديدة، وذلك لا يعني سوى القدرة على التشكل.

المثال الثاني:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني.

قال الهندي: المثال الثاني هو ما ساقه ابن تيمة وسلفه الذين يعتمد عليهم في تفسير قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: 210]، فمع أنه يمكن حمل الآية على ما يتناسب مع عظمة الله وقدسيته إلا أنهم سوقوا من خلالها كل ما يريدون من معاني التشبيه.

وقد اهتم بها ابن تيمية كثيرا، فأوردها في مواضع كثيرة من كتبه..

قال القاضي: هلا سقت لي واحدا منها، لأرى رأيه فيها.

قال الهندي: سأسوق لك نصا طويلا اقتبسه ابن تيمية من سلفه الدارمي في نقضه على المريسي، وقد ذكره ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل)، وأراد من خلاله أن يبين ضلال من ينكر التجسيم والتشبيه في هذا الموضع، قال فيه: (وادعيت أيها المريسي في قول الله عز وجل: ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة﴾ (الأنعام: 210) وفي قوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: 210] فادعيت أن هذا ليس منه بإتيان، لما أنه غير متحرك عندك، ولكن يأتي بالقيامة بزعمك، وقوله: ﴿ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾: يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام، ولا يأتي هو بنفسه.. ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ [النحل: 26] ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ [الحشر: 2]، فيقال لهذا المريسي: قاتلك الله! ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر! أنبأك الله أنه إتيان، وتقول: ليس بإتيان.. لقد ميزت بين ما جمع الله، وجمعت بين ما ميز الله، ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة، لأن تأويل كل واحد منهما مقرون به في سياق القراءة، لا يجهلة إلا مثلك.. وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه، فوق سماواته، وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم، وتشقق السماوات يومئذ لنزوله، وتنزل الملائكة تنزيلاً، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله ورسوله.. فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقيناً أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو من أمره وعذابه)([166])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي القاضي، فابن تيمية يذكر هذه الآية كثيرا، ويعتبرها من آيات الصفات، ويشدد على من يتوقف في معناها أو يؤوله بحسب اللغة.

وهو يدعو إلى مطالعة ما أورده السلف من روايات في ذلك، وكلها مشحونة بالأساطير التي لا تتناسب مع جلال الله..

قال القاضي: فهلا أوردت لي بعضها لأتأكد.

قلت: من ذلك هذه الرواية التي أوردها الدارمي، والذي يرجع ابن تيمية إليه كثيرا في هذا الباب: (إذا فرغ الله عز وجل من أهل الجنة والنار، أقبل الله عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، فسلم على أهل الجنة في أول درجة، فيردون عليه السلا.. فيقول: سلوني، ففعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه، ثم يأتيهم التحف من الله تحملها الملائكة إليهم)، وقد علق الدارمي على هذه الرواية المتهافتة بقوله: (فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها، حتى ظهرت هذه العصابة – أي المنزهة- فعارضت آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برد وتشمروا لدفعها بجد)([167])

ويقول في موضع آخر مبينا أصله في ذلك، وهو الذي اعتمد عليه ابن تيمية وكل المجسمة: (لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة)([168])

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فكيف فسر المنزهة الآية؟

قال الهندي: لقد وضع المنزهة قارئ القرآن الكريم بين احتمالين نص على أولهما الفخر الرازي، فقال: (الوجه الأول: وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب، وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ، فالأولى السكوت عن التأويل، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله)([169])

ونص على الوجه الثاني، واعتبره قول جمهور المتكلمين من الفرق الإسلامية المختلفة ما عدا ابن تيمية وسلفه، وهو (أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل)، وقد أورد لذلك وجوها من التأويل([170]):

منها أن المراد هل ينظرون إلا أن تأتيهم آيات الله، فجعل مجيء الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته.

ومنها أن يكون المراد هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله أي أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شيء، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قاله العلماء في قوله: ﴿الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ [المائدة: 33]، والمراد يحاربون أولياءه، وقال: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]، والمراد: واسأل أهل القرية، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلانا، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه.

المثال الثالث:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.

قال الهندي: المثال الثالث يبين لك سيدي كيفية فهم ابن تيمية لقرب الله من عباده، فقد قال في تفسيره لقوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]:: (.. وقد ناداه من موضع معين وقربه إليه دل ذلك على ما قاله السلف من قربه ودنوه من موسى عليه السلام مع أن هذا قرب مما دون السماء. وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام. ولفظه الذي ساقه البغوى أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا، لكن الاسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة لا على وجه الاعتماد عليها وحدها)([171])

انظر سيدي القاضي هل رأيت تجسيما أعظم من هذا التجسيم، ألا ترى كيف يترك المحكمات التي تدل على عظمة الله وتنزيهه، ويذهب إلى كلام اليهود، ويبني عليه العقائد التي يتكبر بها على غيره من الطوائف.

بل هو يعتبر هذا المذهب التجسيمي مذهب سلف الأمة وأئمتها، فيقول: (وأما دنوه نفسُه وتقرُّبُه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستوائه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الاسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر)([172]) 

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي القاضي، وبين يدي كلام للدارمي الذي يرجع إليه ابن تيمية كثيرا يقول فيه: (فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا علم له من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض) ([173])

قال الهندي: لقد أوردوا سيدي القاضي لإثبات هذا الروايات الكثيرة المشحونة بالتجسيم، وهم لا يهتمون بمصدرها.. لأن تصحيح الحديث عندهم مرتبط بأهوائهم، لا بالموازين التي وضعوها، ويتحكمون فيها كما يشاءون.

ومن ذلك هذه الرواية التي نقلها ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب: (ليس شيء عند ربك من الخلق أقرب إليه من إسرافيل، وبينه وبين ربه سبعة حجب، كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، وإسرافيل دون هؤلاء، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم السابعة)([174])

ومنها (سارعوا إلى الجمع في الدنيا فإن الله تعالى ينزل لأهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا)([175])

ومنها (بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب فما زال يقرب موسى حتى صار بينه وبينه حجاب فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم قال رب أرني أنظر إليك)([176])

المثال الرابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع.

قال الهندي: المثال الرابع هو ما فسر به ابن تيمية قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 67]، فقد أورد في تفسيرها من تصرفات الله – بحسبه – ما يملأ بالعجب.. لقد حول الآية الكريمة من آية تبين عظمة الله وقدوسيته، إلى مشاهد ساخرة عابثة لإله متجبر متسلط، وكأنه لا يتحدث عن إله، وإنما عن ملك من ملوك زمانه.

قال القاضي: فهلا ذكرت لنا شيئا منها.

قال الهندي: من ذلك قوله: (والحديث مروي فى الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا وفى بعض ألفاظه قال: قرأ صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 67]، ثم قال: (مطوية فى كفه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة).. وفى لفظ (يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة: أنا الله الواحد)، وقال ابن عباس: يقبض الله عليهما، فما ترى طرفاهما بيده)([177])

هل ترى سيدي القاضي هذا التصرف الذي نسبه ابن تيمية إلى الله، وزعم أنه في الصحيح يتناسب مع عظمة الله.. هل أصبح الله مثل غلام يلعب بالكرة، يرميها ذات اليمين وذات الشمال؟

قال القاضي: أجل.. فهل من مثال ثان؟

قال الهندي: من الأمثلة الخطيرة التي ذكرها، وهو لا يقصد بها إلا التشبيه المحض، قوله: (وفي لفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وهو يقول: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه، وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا، أنا الذي أعدتها، أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟)([178])

هل ترى سيدي تشبيها أكبر من هذا التشبيه، ثم يقولون: إن ابن تيمية بريء من التجسيم والتشبيه؟

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي.. كل ما ذكره من نصوص موجود في كتب ابن تيمية، وخاصة في الرسالة العرشية التي خصصها لهذا الغرض، وقد أراد أن يبين من خلالها أن عظمة الله في كبر حجمه بالنسبة لمخلوقاته.. لقد قال فيها مقدما للكثير من الروايات التشبيهية والتجسيمية: (المقام الثاني: أن يقال: العرش سواء كان هو الفلك التاسع، أو جسما محيطا بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر)([179])

وقد أدى به ذلك، وبأهل مدرسته أن يرووا العجائب والغرائب، ومن ذلك ما رواه أبو الشيخ في العظمة: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة)([180])

قال الهندي: والعجب سيدي هو أنهم – بما يروونه من خرافات وأساطير – صاروا يعتقدون أن الأرض تساوي السماوات في ضخامتها، ولهذا تجدهم يصححون الروايات التي تصور أن الله يضع الأرض في يد والسموات بما فيها من نجوم وكواكب وغيرها في يد أخرى، لقد قال ابن القيم يشرح ذلك، أو يصوره: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذل،ك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب)([181])

قلت: ولهذا – سيدي القاضي- ترى تلاميذ ابن تيمية المعاصرين ينكرون ما اكتشفه العلم من ضخامة الكون مقارنة بالأرض.. ولهم في ذلك تآليف وفتاوى خطيرة لا تقل عن فتاواهم في التجسيم.

المثال الخامس:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الخامس.

قال الهندي: المثال الخامس هو ما ساقه ابن تيمة وسلفه الذين يعتمد عليهم من روايات حاولوا من خلالها أن يبينوا أن الله تجري عليه الانفعالات التي تجري على البشر من العجب والضحك ونحوها، وقد صوروها تصويرا تشبيهيا تجسيميا محضا.

ومن ذلك ما ورد في (الرسالة الأكملية)، حيث قال: (وقول القائل: إن الضحك خفة روح، ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه.. ثم قول القائل: (خفة الروح) إن أراد به وصفًا مذمومًا فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان؛ أحدهما: يضْحَك مما يُضْحَك منه، والآخر: لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني)([182])

وبهذا المنطق حاول ابن تيمية أن يثبت ضحك الله، بل وجميع الانفعالات التي تجري على الإنسان.

ومن الروايات التي أوردها في ذلك: (ينظر إليكم الرب قَنِطِين، فيظل يضحك، يعلم أن فَرَجَكُم قريب)، فقال له أبو رَزِين العُقَيْلِي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟! قال: نعم، قال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا)

وقد علق ابن تيمية على الرواية بقوله: (فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العَبُوس الذي لا يضحك فط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه ﴿يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10])([183]

هل رأيت سيدي القاضي ذلك المشهد الذي يصور الله، وهو يضحك على معاناة خلقه واكتئابهم؟.. ألا ترى أن ابن تيمية يصور أرحم الراحمين بصورة أولئك الملوك الجبارين الظلمة؟

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق سيدي.. والرسالة بين يدي، وهي مشحونة بأمثال هذه النصوص والروايات.. لقد قال في تلك الرسالة مبرهنا على ما يسميه صفة الضحك لله تعالى: (والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزمًا لشىء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام، فليس حقيقة الضحك مطلقًا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدًا وألا تكون له ذات)([184]

ولو طبقنا هذا المقياس الذي ذكره ابن تيمية على الله، لسوينا الله بعباده، ولجعلنا كمالاتنا الوهمية كمالات له.

المثال السادس:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال السادس.

قال الهندي: المثال السادس هو  ما ساقه ابن تيمية من تصريحات كثيرة تدل على قوله بافتقار الله تعالى إلى وجود الكون أزلا وأبدا، لأن الله عنده محتاج الى الكون ليفعل كل هذه الأفعال.  

وهو بقوله هذا يرى أن الله تعالى لم يتقدم جنس الحوادث، وإنما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فردٍ من أفرادِ الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.

وقد ذكر هذه العقيدة الخطيرة في سبعة من كتبه: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، ومنهاج السنّة النبوية، وكتاب شرح حديث النزول، وكتاب شرح حديث عمران بن حصين، وكتاب نقد مراتب الإجماع، ومجموعة تفسير من ست سور، وكتابه الفتاوى، وكل هذه الكتب مطبوعة.

قال القاضي: فهلا نقلت لي بعض ما ذكره.

قال الهندي: من ذلك قوله في [موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول]: (وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديمًا، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه)([185]

وقال في موضع آخر من كتابه هذا في ردّ قاعدة ما لا يخلو من الحادث حادث، لأنه لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليًا: (قلت هذا من نمط الذي قبله فإن الأزلي اللازم هو نوع الحادث لا عين الحادث، قوله لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له، قلنا: لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقًا بحوادث لا أول لها)([186]

ويقول فيه: (فمن أين في القرآن ما يدل دلالة ظاهرة على أن كل متحرك محدث أو ممكن، وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن، وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وأين في القرآن امتناع حوادث لا أول لها)([187]

وقال في [منهاج السنّة]: (فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالربّ، قلنا لكـم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل)([188]

وقال فيه: (ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدَعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة)

وقال في موضع آخر منه: (وحينئذٍ فيمتنع كون شىء من العالم أزليًا وان جاز أن يكون نوع الحوادث دائمًا لم يزل، فإن الأزل ليس هو عبارة عن شىء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقت آخر، فلا يلزم من دوام النوع قدم شىء بعينه)([189]

وقال في موضع آخر منه: (ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته- أي أن فعل الله بمشيئته وقدرته- شيئا فشيئا، لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف)([190]

فهو لم يكتف بقوله هذا، بل راح ينسبه إلى الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم وافترى عليهم.

وقد ردّ على ابن حزم في نقد مراتب الإجماع لنقله الإجماع على أن الله لـم يزل وحده ولا شىء غيره معه، وأن المخالف بذلك كافر باتفاق المسلمين، فقال ابن تيمية: (وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شىء غيره معه)([191]

وقد ذكر الجلال الدواني في كتاب شرح العضدية هذا عنه، فقال: (وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به- أي بالقدم الجنسي- في العرش)([192])، أي أنه كان يعتقد أن جنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله، ولكن عينه القائم الآن حادث.

هذه نماذج عن تصريحاته في ذلك ـ سيدي القاضي ـ وهي من المعلوم من أقواله بالضرورة.

المثال السابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السابع.

قال الهندي: المثال السابع أخطر الأمثلة.. فقد فتح بها ابن تيمية بابا من التجسيم والتشبيه لا يمكن غلقه.. فهو لم يكتف بالنصيحة بالعودة إلى كتب السنة والسلف لينهل منها أتباعه كل صنوف التجسيم والتشبيه، بل راح يرشدهم إلى كتب اليهود، ليتعرفوا أكثر على صورة إلههم وأنواع تصرفاته.

قال القاضي: إن ما تقوله خطير.. فهل حقا قاله؟

قال الهندي: أجل – سيدي القاضي – فقد اعتبر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقر اليهود على ما وصفوا به ربهم في كتبهم، فقال: (ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وما أظهر من عيوبهم وذنوبهم وتنزيهه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181] وقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [المائدة: 64]، فلو كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم – فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً بل فيها إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور-   فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته كان إنكار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة، فإنك تجد عامة ما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة.. والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك. فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك للهدى من أعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابةِ والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينكر ذلك من جنس إنكار النفاة، فيقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف والله منزه عن ذلك. فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم – ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد – فلو كان هذا تجسيماً وتجسيداً يجب إنكاره لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق. وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص ومماثلة الخالق لخلقه هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم كان إنكار ذلك بهذا الطريق المستقيم كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم)([193])

هل تدرك سيدي الخطورة التي يعنيها هذا الكلام.. إنه يقول بصراحة بأن القرآن الكريم لم ينكر على أهل الكتاب إلا في ذينك الموضعين فقط.. أما ما عداهما فلم ينكر عليهم.. واعتبر عدم الإنكار دليلا على صحة ما في كتبهم من وصف الله تعالى.

قال القاضي: هذا يستدعي التعرف على ما في كتب أهل الكتاب للتأكد من ذلك.

قال الهندي: لو اطلعت عليها سيدي لوجدتها مملوءة بالتشبيهات والتجسيمات التي يعشقها ابن تيمية وسلفه:

ففيها وصف الله بالعجز.. ففي (تكوين32 /24-28) نبأ مصارعة يعقوب لله: (فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر.. وقال: اطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا اطلقك إن لم تباركني)

وفيها وصف الله بالسكر.. ففي (المزمور 78 /65): (فاستيقظ الرب كنائم كجبار معّيط من الخمر)، وفي (مزمور75 /8): (لأن في يد الرب كاسا وخمرها مختمرة ملآنة شرابا ممزوجا وهو يسكب منها لكن عكرها يمصه يشربه كل اشرار الارض)

وفيها وصف الله بأنه يمشي على عكاز، ففي (قضاة6 /20-23): (فقال له ملاك الله خذ اللحم والفطير وضعهما على تلك الصخرة واسكب المرق.ففعل كذلك. فمدّ ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده ومس اللحم والفطير فصعدت نار من الصخرة واكلت اللحم والفطير.وذهب ملاك الرب عن عينيه. فرأى جدعون انه ملاك الرب فقال جدعون آه يا سيدي الرب لاني قد رأيت ملاك الرب وجها لوجه. فقال له الرب السلام لك.لا تخف.لا تموت)

وفيها وصف الله بنقض العهد.. ففي (زكريا11 /10): (فاخذت عصاي نعمة وقصفتها لانقض عهدي الذي قطعته مع كل الاسباط فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم اذل الغنم المنتظرون لي انها كلمة الرب)

وفيها وصف الله بأنه يصيح كالوالدة وينخر ويخرب.. ففي (إشعياء 42 /13-16): (الرب كالجبار يخرج.كرجل حروب ينهض غيرته.يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت.كالوالدة اصيح.انفخ وانخر معا اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام واسير العمي في طريق لم يعرفوها.في مسالك لم يدروها امشيهم.اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم)

وفيها وصف الله بأنه ينسى.. ففي (مزمور 13 /1): (الى متى يا رب تنساني كل النسيان.الى متى تحجب وجهك عني)

وفيها وصف الله بأنه يولول ويبكي ويصرخ ويصوِت.. ففي (ميخا1 /8): (من أجل ذلك أنوح وأولول. أمشي حافيا وعريانا. أصنع نحيبا كبنات آوى ونوحا كرعال النعام)

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: ما يقوله صحيح.. وابن تيمية كان في إمكانه أن يكتفي بما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن تحريف أهل الكتاب لكتبهم، ولا ينتظر أن يتنزل القرآن الكريم ناقدا لكل ما ورد فيها.

وكان في إمكانه أن يكتفي بتحذير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجوع إليهم، وأنه جاء بالدين نقيا صافيا..

لكنه لغرامه بالتجسيم والتشبيه راح يلتمس له كل مصدر، ويقويه بكل وهم.


([1])  استفدنا في هذا المبحث وفي هذا الجزء من الكتاب برسالة علمية رائعة بعنوان (التجسيم في الفكر الإسلامي) للدكتور صهيب السقار.

([2]) المواقف للجرجاني 6/302.

([3])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا التعريف في (التجسيم في الفكر الإسلامي)..

([4]) انظر الملل والنحل للشهرستاني10

([5])  درء تعارض العقل والنقل، 1/100.

([6])  درء تعارض العقل والنقل:1/189..

(91) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/432.

(93)  شرح حديث النزول ص258.

(94)  منهاج السنة النبوية 2/105.

([7])  منهاج السنة النبوية 2/225

([8])  منهاج السنّة: 1 / 180.

([9])  شرح حديث النزول: 237.

([10])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 364)

([11])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 370)

([12])  بيان تلبيس الجهمية:1/101.

([13])  تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:113ـ

([14])  (مجموع الفتاوى) (5/ 24).

([15]) اجتماع الجيوش 143

([16])  انظر: الفكر التجسيمي.

([17])  الرد على الجهمية للدارمي (ص: 213).

([18]) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 13/430

([19])  السنة لابن أبي عاصم (1/ 230)

([20])  السنة لابن أبي عاصم (1/ 252).

([21])  انظر: الفكر التجسيمي.

([22])  السنة، أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد من ص 180  -ص120.

([23]) السنة 1/265

([24])  التوحيد لابن خزيمة (1/ 349)

([25])  التوحيد لابن خزيمة (1/ 159).

([26])  العرش وما رُوِي فيه، أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي، (ص: 6).

([27]) سير أعلام النبلاء (18/17)،

([28])  انظر الحنابلة نموذجا حسن بن فرحان المالكي.

([29])  سير أعلام النبلاء (13/ 287) بتصرف.

([30])  الصفدية (1/ 161).

([31]) سير أعلام النبلاء (18/508).

([32]) بيان تلبيس الجهمية 2 /400- 404 وانظر هذه الحكاية في سير أعلام النبلاء 16/ 478.

([33])  انظر: التجسيم في الفكر الاسلامي.

([34])  انظر:طبقات الحنابلة: 2/197.

([35])  الكامل في التاريخ (8/ 209)

([36])  انظر: دفع شبه التشبيه، لابن الجوزي ص10.

([37])  العواصم من القواصم: 2/306)

([38])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/238.

([39])   إبطال التأويلات: 1/133.

([40])  إبطال التأويلات: 1/146.

([41])  إبطال التأويلات:  1/202.

([42])  إبطال التأويلات، ص4.

([43])  مجموع الفتاوى (6/ 54).

([44])  درء تعارض العقل والنقل 7/34

([45])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/60، 9/160

([46])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/270.

([47])  دفع شبه التشبيه: ص7.

([48])  دفع شبه التشبيه:  ص67.

([49]) العظمة 2/626.

([50]) العرش للذهبي 2/148.

([51])  انظر: الفكر التجسيمي.

([52]) نقض عثمان بن سعيد 443.

([53])  تفسير الطبري (21/ 501).

([54])  تفسير الطبري (11/ 277).

([55])  الدر المنثور في التفسير بالمأثور:  (8/ 259).

([56])  دقائق التفسير (2/ 58)

([57])  ذكر د.  صهيب السقار في كتابه (التجسيم في الفكر الإسلامي) اهتمام السلفية الحديثة بكتاب العظمة، ومن ذلك ما ورد في مقدمة المحقق رضاء الله بن محمد المباركفوري 1/12 و40و83 و85. للكتاب، وجواب أهل السنة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقد عده من كتب السنة مع كتابي الدارمي وكتاب ابن بطة والهروي وسنة الخلال ونحوها..

([58]) العظمة2/714(301)

([59])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 477).

([60])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 556).

([61])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 558).

([62])  شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 65).

([63])  انظر: الفكر التجسيمي.

([64]) الملل والنحل107

([65]) طبقات الشافعية لابن السبكي 2/35.

([66]) طبقات الشافعية 2/53.

([67]) طبقات الشافعية الكبرى 4/131.

([68]) التبصير في الدين 66

([69]) انظر الفرق بين الفرق للبغدادي 203

([70]) الفرق بين الفرق 207

([71])  الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/10)

([72])  مجموع الفتاوى (6/ 55)

([73])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/12.

([74])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/154.

([75])  انظر: منهاج السنة النبوية 1/537.

([76]) انظر تاريخ بغداد للخطيب 13/ 163

([77]) مقالات الإسلاميين 152و209.

([78]) الملل والنحل178

([79]) ميزان الاعتدال 4/174.

([80]) منهاج السنة 2/618

([81]) تاريخ بغداد 13/162.

([82]) المجروحون 2/15.

([83]) طبقات الحفاظ 1/159

([84]) درء التعارض 1/205

([85]) مجموع الفتاوى 5/34

([86]) المحاضرات السنية 1/67

([87]) خلق أفعال العباد 46.

([88]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([89]) انظر إلجام العوام لحجة الإسلام الغزالي 64-84

([90]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/185

([91]) مجموع فتاوى ابن عثيمين  1/174 وانظر صفة الملل في إبطال التأويلات 2/370

([92]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/ 172

([93]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/194 وانظر المحاضرات السنية لابن عثيمين 1/232

([94]) بيان تلبيس الجهمية1/347

([95])  التحرير والتنوير (10/ 255).

([96])  الفتوى الحموية الكبرى (ص: 228)

([97]) الأسماء والصفات 2/17.  

([98])  مجموع الفتاوى (5/ 103).

([99])  مجموع الفتاوى (5/ 129)

([100])  مجموع الفتاوى 2/349.

([101])  انظر: الفكر التجسيمي.

([102])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 350)

([103])  بيان تلبيس الجهمية 327-328

([104]) المصدر السابق 2/373-374

([105])  انظر: الفكر التجسيمي.

([106]) الفتاوى الكبرى 5/85-92.

([107]) الفتاوى الكبرى 5/85-92.

([108])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 112)

([109])  رواه البخاري.

([110])  انظر: الفكر التجسيمي.

([111])  التحرير والتنوير (24/ 62).

([112]) درء التعارض 7/96

([113]) إبطال التأويلات 1/322.

([114]) إبطال التأويلات  1/323-324

([115]) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 392.

([116]) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 392.

([117]) انظر تعليق محمد الهراس على هامش التوحيد 89

([118]) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 363.

([119])  مجموع الفتاوى (5/ 223).

([120])  التوحيد لابن خزيمة (1/ 202)

([121]) الصواعق المرسلة 3/915

([122]) الرد على الجهمية 1/19(5)

([123])  الفكر التجسيمي.

([124]) تفسير الرازي 15/97

([125])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 342)

([126])  رواه البخاري ومسلم.

([127]) إبطال التأويلات 1/161

([128])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (5/ 464)

([129]) تاريخ دمشق لابن عساكر 53/60 وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 19/579

([130])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 188).

([131])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 189).

([132])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 191).

([133])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 197).

([134])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

([135])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 196).

([136])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

([137])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (7/ 194).

([138])  (بيان تلبيس الجهمية 1/73 )

([139])  مجموع الفتاوى (3/ 390)

([140])  منهاج السنة النبوية (5/ 384)

([141])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 44).

([142])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 44)

([143])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 45)

([144])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 45)

([145])  الصدوق، كتاب التوحيد: 120.

([146])  الطباطبائي، الميزان 8: 252 – 253.

([147])  كتاب التوحيد باب (5) باب نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها ح 2.

([148])  مجموع الفتاوى (6/ 485).

([149])  مجموع الفتاوى (6/ 485).

([150])  مجموع الفتاوى (6/ 491).

([151])  الفتوى الصادرة في 8 / 0741 ه‍ المرقم 717 / 2.

([152]) الاستقامة (1/ 78)

([153]) شرح حديث النزول (ص: 5)

([154]) السنن الكبرى6/124(10316).

([155]) مسند أحمد 4/217-218.

([156]) اجتماع الجيوش  163 و170.

([157]) اجتماع الجيوش 54.

([158]) الرد على الجهمية1/42(56)

([159]) اجتماع الجيوش 55.

([160]) الإحتجاج (1/ 194)

([161]) مجموع الفتاوى (4/ 184)

([162]) زاد المعاد 3/677-682.

([163]) زاد المعاد 3/677-682.

([164]) زاد المعاد 3/677-682.

([165]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 242).

([166]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 66)

([167]) الرد على الجهمية1/92(146).

([168]) نقض الإمام عثمان بن سعيد 1/215.

([169]) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 358)

([170]) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 358)

([171]) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/464.

([172]) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/466

([173]) نقض عثمان بن سعيد1/504.

([174]) اجتماع الجيوش 69 و163.

([175]) ابن المبارك في ( الزهد ) ( 436 ) ، ومن طريقه عبدالله بن أحمد في ( السنة ) ( 476 ) والدارقطني في ( الرؤية ) ( 120 ) وغيرهم.

([176]) العظمة2/714(301)

([177]) الرسالة العرشية (ص: 18)

([178]) الرسالة العرشية (ص: 17)

([179]) الرسالة العرشية (ص: 16)

([180]) العظمة 2/445(136)

([181]) الصواعق المرسلة 4/1364

([182]) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 55)

([183]) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 55)

([184]) الرسالة الأكملية في ما يجب لله من صفات الكمال (ص: 56).

([185]) درء تعارض العقل والنقل (2/ 148)

([186]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 388)

([187]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 118)

([188]) منهاج السنة النبوية (2/ 380)

([189]) منهاج السنة النبوية (1/ 389)

([190]) منهاج السنة النبوية (2/ 379)

([191]) نقد مراتب الإجماع (ص/ 168)

([192]) شرح العضدية (ص/ 13)

([193]) درء التعارض 7/86- 90.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *