التشيع السني.. التشيع البدعي

خطورة الحديث عن هذا الموضوع بموضوعية ودقة وبعيدا عن كل الحساسيات لا تكمن في غموضه أو عدم وضوحه.. وإنما تكمن في الموقف ممن يتحدث عنه سواء ممن يسمون أنفسهم [أهل السنة]، أو من إخوانهم ممن يسمون أنفسهم [شيعة]
وبما أنني أشعر أنني في مسافة واحدة بينهما، فكلاهما إخوان لي، بل كلاهما جزء مني، فأنا ـ بحمد الله ـ لا أؤمن إلا بالإسلام الواحد الذي يتعالى على المذاهب والطوائف والفرق.. فإنني ـ مثلما انتقدت الكثير من المناهج السنية ـ أرى نفسي مضطرا كذلك ـ حسب ما يقتضيه العدل، وحسبما تقتضيه الشهادة الصادقة لله ـ أن أتعامل مع الشيعة بمثل تعاملي مع إخوانهم من أهل السنة..
فلا يحق لشخص يدعو إلى العدل والصدق، ويعتبرهما من أعظم القيم القرآنية والإنسانية، أن ينحاز لطرف دون طرف، أو ينتقد جهة دون جهة.
وهذا المقال موجه بالدرجة الأولى لجهتين من الأمة:
الجهة الأولى: تتمثل في الكثير ممن يسمون أنفسهم [أهل السنة]، والذين يضعون الشيعة جميعا في سلة واحدة، ثم يرمونهم جميعا بحكم واحد.. ويستعملون لذلك ما شاءت لهم أهواؤهم من الأمثلة والنماذج، وما أسهل أن يوجد الشيطان للحاقدين والمفرقين لصف الأمة ما يشاءون من الشواهد والأمثلة والنماذج.
وليت هؤلاء تعاملوا مع الشيعة بمثل ما يتعاملون به مع أنفسهم.. فهم إذا ذكر لهم أي نموذج منهم لا يناسبهم، يسارعون إلى البراءة منه، ويذكرون أنه لا علاقة له بهم.. وإذا ذكر لهم حديث في مصادرهم لا يعجبهم، يسارعون بذكر من ضعفه، مع أنه من بينهم من صححه.
لكنهم إن تعاملوا مع الشيعة، لم يراعوا فيهم كل ذلك.. بل يلزمونهم بمن شاءت لهم أهواؤهم وشياطينهم التي لا تسعى لشيء كما تسعى لصدع وحدة الأمة.
والجهة الثانية: هم أولئك الذين يسمون أنفسهم [شيعة].. ثم يفخرون بذلك، ويعتبرون أنفسهم خاصة، وغيرهم من الناس عامة.. بل إن بعضهم قد يجنح به الخيال الممزوج بالأهواء، فيزعم لنفسه النجاة.. بل يزعم لنفسه أن يكون مجاورا للأئمة في مقاماتهم السنية.
وقد يأتيه الشيطان، وما أكثر الشياطين في هذا المجال، فيتهم الأمة كلها بعلمائها وعوامها بالنصب.. ثم يرميهم بالنفاق.. ثم يرميهم بعدها في جهنم.. وقبل أن يرميهم فيها يصب عليهم كل ما يمتلئ به قلبه الشيطاني من لعنات وأحقاد.
وينسى في خضم ذلك كله أنه من أخطر النواصب وأشدهم عداء لأئمته الذين يزعم انتسابه لهم.. لأن النصب ليس فقط العداوة لأهل البيت، بل أخطر منه تشويههم وتحريف القيم التي نادوا بها.
هاتان هما الجهتان اللتان أوجه لهما هذا المقال، والذي قد يؤذيهما.. أما غيرهما من أهل السنة المعتدلين المحترمين.. أو إخوانهم من الشيعة الصادقين المتواضعين.. فلا أظن أنني سأضيف شيئا لما عندهما من معان أو مواقف.
وأحب أن أنبه ابتداء إلى أن وجود المبتدعة بين الشيعة.. أو وجود من يشوه التشيع، ويرسم صورة سيئة لأئمة أهل البيت لا يحتاج إلى أدلة.. فالعقل والنقل كلاهما متفقان على الدلالة عليه:
أما العقل.. فواضح، فليس هناك من ادعى العصمة في أفراد الشيعة، ولا في جماعاتهم.. وعدم العصمة يعني احتمال الوقوع في الخطأ.. وهذا الاحتمال يجعلنا محترزين من كل سلوك يمارس باسم التشيع، لأنه قد يكون كذلك، وقد لا يكون كذلك..
والعقل يدعونا إلى عرض أعمال الشيعة على ما يقوله أئمتهم لنرى مدى التوافق والاختلاف.. مثلما يمتحن كل منتسب لجهة من الجهات بما يثبت حقانية انتسابه، وقد روي عن أئمة أهل البيت الكثير من الروايات الدالة على هذا الامتحان، ومنها قول الإمام الصادق: (امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها) ([1])
أما النقل، فما أكثر الروايات الدالة على أن الانتساب للتشيع وحده غير كاف في تحقق النسبة.. لأن الانتساب مجرد دعوى، والدعوى لا تقبل إلا بدليل..
ومن تلك الروايات المعروفة والمشتهرة في الأوساط الشيعية، والتي كثيرا ما يرددها خطباء المنابر الحسينية قصة عمار الدهني مع ابن أبي ليلى قاضي الكوفة، ورده شهادته لأنه رافضي، وبكاء عمار وقوله: (أما بكائي على نفسي فإنك نسبتني إلى رتبة شريفة لست من أهلها)([2])
ومنها مرور بعض أصحاب موسى بن جعفر برجل في السوق، ينادي: أنا من شيعة محمد وآل محمد الخلص، وهو ينادي على ثياب يبيعها: على من يزيد؟ وكلام الإمام في ادعائه الكاذب([3]).
ومنها استئذان قوم من الشيعة لزيارة الرضا، وعدم إذنه لهم لدعواهم الكاذبة ([4]).
وغير ذلك من القصص الكثيرة المشهورة، والتي تثبت أن التشيع ـ بحسب ما يذكره جميع أهل البيت ـ قيم عظيمة، وأخلاق عالية، وروحانية سامية.. وليس مجرد دعاوى.
بل إن أئمة أهل البيت جميعا صرحوا بأن المنتسبين إليهم والموالين لهم ليسوا صنفا واحدا، فعن الإمام الصادق قال: (الشيعة ثلاث: محب واد فهو منا، ومتزين بنا ونحن زين لمن تزين بنا، ومستأكل بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر) ([5])
وقال: (افترق الناس فينا على ثلاث فرق: فرقة أحبونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار، وفرقة أحبونا وسمعوا كلامنا، ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا، فيملأ الله بطونهم نارا يسلط عليهم الجوع والعطش، وفرقة أحبونا وحفظوا قولنا، وأطاعوا أمرنا، ولم يخالفوا فعلنا، فاولئك منا ونحن منهم) ([6])
ومثله قال الإمام الباقر: (شيعتنا ثلاثة أصناف: صنف يأكلون الناس بنا، وصنف كالزجاج ينم ([7])، وصنف كالذهب الأحمر كلما ادخل النار ازداد جودة) ([8])، وقال: (الشيعة ثلاثة أصناف: صنف يتزينون بنا، وصنف يستأكلون بنا، وصنف منا وإلينا) ([9])
بناء على هذا، فقد رأيت من خلال قراءتي للروايات الصحيحة الواردة عن أئمة أهل البيت أن التفريق بين الشيعي السني والشيعي البدعي يكمن في امتحانه في ثلاثة مواقف:
أولها موقفه من القرآن الكريم، ومدى تفعيله له، وعمله بما فيه.
وثانيها موقفه من الرسالة والرسول والقيم التي جاء بها.
وثالثها موقفه من الأمة وخدمتها والحفاظ على وحدتها.
وهذه المواقف نفسها يمكن امتحان مدعي الانتساب لأهل السنة فيها.. حتى يميز بين صحيح النسبة للسنة، وبين المدعين، وما أكثرهم..
وعندما نتعامل مع كل من السنة والشيعة على أساس هذا الامتحان، سنرى قصر المسافة بين السنة والشيعة.. بل نرى أن المسافة تختزل لتصبح عدما أو وهما كبيرا استعمله الشيطان ليفرق صف الأمة، ويزرع الشقاق بينها.
أولا: الموقف من القرآن الكريم، ومدى تفعيله، والعمل بما فيه:
يعتقد الشيعة ـ متسننهم ومبتدعهم ـ بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى في حديثه المتواتر المنقول في مصادر الفريقين بأمرين خطيرين سماهما لأجل أهميتهما [ثقلين]، فقال: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، الثقلين وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)([10])
وفي رواية: (أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب. وإني تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي)([11])
فهذا الحديث برواياته المختلفة يعتبر القرآن الكريم هو الثقل الأول، بل الثقل الأكبر كما يدل على ذلك ظاهر الحديث، بل نص على ذلك الإمام علي بقوله: (القرآن أفضل الهدايتين)([12])
بل إن المتسنين من الشيعة لا يعتبرون الأئمة من أهل البيت سوى تجل من تجليات القرآن الكريم.. أو يعتبرونهم القرآن الناطق.. أو يعتبرونهم التطبيق النموذجي للقرآن الكريم.
فلذلك لا يقتصرون في تنفيذهم لوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على شطرها الثاني، ويتركون الشطر الأول.. فالوصية كائن واحد، والفصل بينهما يؤدي إلى تشويه كليهما..
وانطلاقا من هذا كانت وصية جميع أئمة أهل البيت للأمة عموما، ولشيعتهم خصوصا بالقرآن الكريم، باعتباره شمس الهداية، وبوصلتها الكبرى..
ولهذا نجد في خطب أمير المؤمنين الإمام علي تلك الأوصاف البديعة للقرآن الكريم، ترغيبا في قراءته وتدبره والتعلم منه والحياة على منهجه..
حيث نطالع فيها قوله: (الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم) ([13])
ويقول: (كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله)([14])
ويقول: (تعلموا كتاب الله تبارك وتعالى فإنه أحسن الحديث وأبلغ الموعظة، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص)([15])
ويقول: (اعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم)([16])
ويقول واصفا ما أودع الله فيه من أنوار الهداية: (جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة) ([17])
ويقول: (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمى) ([18])
ويقول: (إن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابع العلم، وما للقلب جلاء غيره)([19]).
ويقول: (فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليه ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم ([20])
ويقول: (أفضل الذكر القرآن، به تشرح الصدور، وتستنير السرائر ([21])
وهو يحذر من هجر الأمة للقرآن وإعراضها عنه، وتقديمها لأهوائها عليه، فيقول: (إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل… فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا، فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطه وزبره)([22])
وهكذا نجد الروايات الكثيرة عن سائر الأمة توصي بالقرآن، وتدعو إلى تفعيله في كل مجالات الحياة، فالإمام الحسن يقول: (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور، فليجل جال بضوئه، وليلجم الصفة، فإن التلقين حياة القلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنور)([23])
والإمام زين العابدين يعبر عن علاقته الروحية بالقرآن الكريم، فيقول: (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) ([24])
والإمام الصادق يعبر عن ضرورة اللجوء للقرآن الكريم لتبصر الحقائق، والابتعاد عن سبل الفتن التي حرف بها الدين، فيقول: (من لم يعرف الحق من القرآن لم يتنكب الفتن)([25])
ويقول ـ لما سئل: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ -: (لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة) ([26])
وهكذا يقول الإمام الرضا واصفا القرآن الكريم مرغبا شيعته فيه: (هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)([27])
ويقول الإمام الجواد محذرا من نبذ القرآن الكريم أو تحريف معانيه وقيمه: (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)([28])
ويقول الإمام الحسن العسكري مبينا قيمة القرآن الكريم ودوره في تحقيق السعادة الأبدية، ومرغبا مواليه فيه: (إنّ القرآن يأتي يومَ القيامة بالرّجل الشّاحبِ يقولُ لربّه: يا ربّ، هذا أظمأتُ نهارَه، وأسهرتُ ليلَه، وقوّيت في رحمتك طمعه، وفسحتُ في رحمتك أمله، فكن عند ظنّي فيك وظنّه. يقول الله تعالى: اُعطوه المُلكَ بيمينه والخُلد بِشماله، واقرِنوه بأزواجه من الحور العين، واكسُوا والديه حلّة لا تقوم لها الدّنيا بما فيها، فينظر إليهما الخلائق فيعظّمونهما، وينظران إلى أنفسهما فيعجبان منهما، فيقولان: يا ربّنا، أنّى لنا هذه ولَم تَبلُغْها أعمالُنا؟! فيقول الله عزّوجلّ: ومع هذا تاج الكرامة، لم يَرَ مثلَه الرّاؤون ولم يسمع بمثله السّامعون، ولا يتفكَّر في مثله المتفكّرون، فيقال: هذا بتعليمكما ولدَكُما القرآن، وبتبصيركما إيّاه بدين الإسلام، وبرياضتكما إيّاه على حُبّ محمّد رسول الله وعليّ وليّ الله صلوات الله عليهما، وتفقيهكما إيّاه بفقههما)([29])
بل إن أئمة أهل البيت متفقون على أنه إذا تعارضت أي رواية واردة عنهم أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم يقدم عليها.. فالكتاب هو الحاكم، وهو المرجع عند التنازع.
وبناء على هذا، فقد كان التراث الشيعي في صورته الجميلة ممتلئا بتلك الحرية الفكرية التي تتيح للعالم والمجتهد والمرجع أن يرمي أي رواية أو يردها إذا تناقضت مع ما يدعو إليه القرآن الكريم من المعاني النبيلة والقيم الطاهرة، ولا يجد من زملائه من ينكر عليه رده لحديث رواه الكافي أو غيره.. فالقرآن الكريم فوق الكافي وفوق كل الصحاح.
لكن المتشيع بالتشيع البدعي، لا يهتم لكل تلك الروايات.. بل يعتبر الروايات أصلا، ويجعل من القرآن الكريم فرعا هزيلا، يمكن الاحتيال عليه بكل ألوان الحيلة..
ولذلك كان انحراف هذا اللون من التشيع عن خط أهل البيت بقدر انحرافه عن القرآن الكريم..
بل إن كل ما أصاب هذا اللون من التشيع من أنواع البدع والضلالات كان بسبب الانحراف عن القرآن الكريم، وتقديم الروايات عليه.. حتى أني سمعت من بعض الشيعة المتواجدين في أوروبا من يلقي المحاضرات الكثيرة التي يحاول أن يثبت فيها أن أهل البيت أصل، والقرآن فرع.. وأن القرآن لم ينزل إلا ليثبت لنا حقانية أهل البيت..
ثم يقضي أوقاتا طويلة في محاضراته يحقر فيها القرآن، ليرفع من شأن أهل البيت.. وكأن هناك صراعا بينهما، أو كأنه لا يرفع أهل البيت إلا إذا وضع القرآن.
ومثل هذا، أو لا يقل عنه ذلك الدجل الذي كتبه بعض محدثيهم حين راح يجمع الروايات في بيان تحريف القرآن.. واستقبله أمثال أولئك المتواجدين في أوروبا من الذين استعملهم الشيطان لتحريف تلك الوصايا المقدسة من أئمة أهل البيت.. واستقبله كذلك أولئك المغرضين الحاقدين من الذين يسمون أنفسهم زورا وبهتانا [أهل السنة]، فراحوا ـ من غير تحقيق ـ يرمون الشيعة جميعا بهذه التهمة الباطلة من غير تفريق بين من يسير منهم على خطى أهل البيت، أو من انحرف عنهم.
وعلى خلافهم أصحاب التشيع السني الذين انبروا بقوة في وجه تلك الدعاوى، وكتبوا الكتب الكثيرة في إثبات عدم تحريف القرآن.. وأن التحريف الذي أصابه هو تحريف المعنى لا تحريف اللفظ.. وهو تحريف مارسته الأمة جميعا بفرقها المختلفة.
وعلى خلافهم أيضا أولئك العلماء الأجلاء الذين تركوا ثروة ضخمة من التفاسير والدراسات القرآنية التي كانت ثمرة التدبر الواعي، أو ثمرة المزج بين الثقلين جميعا، من أمثال ناصر مكارم الشيرازي وجعفر السبحاني وتقي المدرسي ومحمد حسين فضل الله وباقر الصدر وجوادي آملي، وغيرهم كثير ممن أثروا المكتبة الإسلامية بالدراسات الكثيرة المستلهمة من القرآن الكريم.
هذا هو الفارق الأول بين هاتين المدرستين الكبيرتين في الشيعة: المدرسة الأصولية العلمية العقلانية التي تعتبر الوصية بالقرآن الكريم مقدمة على الوصية بأهل البيت.. وتعتبر أهل البيت مثالا تطبيقيا للقرآن الكريم، ويستحيل حصول النزاع بينهما.. والمدرسة الإخبارية التي استهوتها الروايات والآثار كما استهوت إخوانها من سلفية أهل السنة.. فضلت بالحديث والآثار عن القرآن وحقائق القرآن..
ثانيا: الموقف من الرسالة والقيم التي جاءت بها:
كما يعتقد أصحاب التشيع السني بأن أئمة أهل البيت هم القرآن الناطق، وأنهم تمثلوا القيم القرآنية، ودعوا إليها، وعاشوا في سبيلها، فهم يرون كذلك أنهم امتداد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس كيانا مستقلا ولا موازيا، فدعوتهم هي دعوته، والقيم التي نادوا بها هي نفس القيم التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم ورثوا كل ما عندهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
ولهذا نراهم يحذرون من أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يبالغ في شأنهم بأكثر من وصفهم ورثته وخلفاءه وأوصياءه، وقد سئل إمام الأئمة الإمام علي بن أبي طالب من بعض الأحبار ـ بعد أن سمع كلامه العجب ـ: (يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟)، فقال له الإمام علي: (ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمدصلى الله عليه وآله وسلم)([30])
وهكذا يقال في سائر الأئمة، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ذلك إشارة صريحة عندما قال عن الإمام الحسين: (حسين مني، وأنا من حسين)([31])
فهذا الحديث يشير إلى التواصل والامتداد بين الإمامة والرسالة.. فالإمامة فيض من فيوضات الرسالة، ومنبع من منابعها، وتجل من تجلياتها، وليست كيانا خاصا مستقلا.
ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الجمع في الصلاة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطيبين الطاهرين.. لأنهم فرع ممتد يحفظ به الدين، وتحفظ به قيمه.
هذا هو مفهوم الإمامة عند أصحاب التشيع السني، ولهذا لا يرون في كونها سفينة نجاة أو حبله الممتد من السماء إلى الأرض ما يراه أصحاب الأماني الواسعة، من أن مجرد الولاء لهم كاف في ركوب السفينة، وفي القبض على الحبل.. فذلك غير صحيح.. فالولاء لهم يقتضي اتباعهم، واتباع القيم الروحانية والأخلاقية النبيلة التي دعوا إليها.
بل إن المتحقق بتلك القيم التي نادوا بها قريب منهم، حتى لو لم يعد في مواليهم.. وغير المتحقق بتلك القيم بعيد عنهم، ولو عد نفسه مواليا وشيعيا، وافتخر بذلك.
ولهذا فإن ما نراه من بعض الشيعة المبتدعة من الكلام في كبار العلماء، واعتبارهم من النواصب بحجة كونهم لم ينتسبوا لأهل البيت كلام جريء وخطير جدا، ومشوه لمنهج أهل البيت.. وقد سمعت بعضهم، وهو في أوروبا يتحدث ببذاءة عن أبي حامد الغزالي، معتبرا إياه من النواصب، ناسيا كل تلك الجهود التي بذلها في الدعوة إلى نفس القيم التي نادى إليها أهل البيت.
وهذا الشخص نفسه ممتلئ ببغض إخوانه من الشيعة أنفسهم، بل يعتبرهم أيضا نواصب، لأنهم لم يلعنوا فلانا، أو لم يسبوا فلانة.
وهذا هو نفسه الفكر السلفي العدواني الذي لا يهتم بشيء كما يهتم بتصنيف الناس، ليصب عليهم بعد ذلك أحقاد قلبه، وأمراض نفسه.
ولذلك يصرح أئمة أهل البيت في نصوص كثيرة جدا، أن شيعتهم ومواليهم هم أصحاب القيم الروحية والأخلاقية العالية، وأن مجرد دعوى الانتساب إليهم غير كافية، بل هي كذب عليهم، وتشويه لهم.
ولعل أبرز النصوص وأشهرها في الدلالة على صفات الموالين لآل بيت النبوة ما ذكره الإمام علي في خطبة المتقين الطويلة، وهي تبين نوع القيم التي كان الإمام علي يدعو إليها أصحابه ومواليه، فمن صفات أولئك الموالين المتقين: (منطقهم الصواب، وملبسهم الإقتصاد، ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم.. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة)([32])
إلى آخر الخطبة التي تمثل الشخصية الإسلامية في صورتها الجميلة، والتي دعا إليها القرآن الكريم، ومثلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تمثيل، وكان دور الأئمة بحسب ما تدل عليه أفعالهم وأقوالهم هي تمثيلها في الواقع ليراها الناس أمامهم حية متحركة.
بل إن كل الأئمة يصرحون بأن شيعتهم هم أصحاب تلك القيم، لا المتاجرون بهم، أو المتزينون بالانتساب إليهم.
وقد قال الإمام علي في وصف مواليه: (شيعتي والله، الحلماء، العلماء بالله ودينه، العاملون بطاعته وأمره، المهتدون بحبه، أنضاء عبادة، أحلاس زهادة، صفر الوجوه من التهجد، عمش العيون من البكاء، ذبل الشفاه من الذكر، خمص البطون من الطوى، تعرف الربانية في وجوههم، والرهبانية في سمتهم، مصابيح كل ظلمة.. إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، اولئك شيعتي الأطيبون وإخواني الأكرمون، ألاهاه شوقا إليهم) ([33])
وقال: (شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا)([34])
وقال: (شيعتنا هم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل، الناطقون بالصواب، مأكولهم القوت، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع.. تحسبهم مرضى وقد خولطوا وما هم بذلك، بل خامرهم من عظمة ربهم وشدة سلطانه ما طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا اشتاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل.. كانوا خيار من كانوا منهم، إن كان فقيه كان منهم، وإن كان مؤذن فهو منهم، وإن كان إمام كان منهم، وإن كان صاحب أمانة كان منهم، وإن كان صاحب وديعة كان منهم، وكذلك [كونوا] احبونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم) ([35])
وقال لتلميذه النجيب نوف البكالي: أتدري يا نوف من شيعتي؟ قال: لا والله، قال: (شيعتي الذبل الشفاه، الخمص البطون، الذين تعرف الرهبانية في وجوههم، رهبان بالليل أسد بالنهار)([36])
ومثله قال الإمام الحسن – في جواب رجل قال له: إني من شيعتكم -: (يا عبد الله إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعا فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم، ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم ومعادي أعدائكم، وأنت في خير وإلى خير)([37])
ومثله قال الإمام الباقر – في صفة الشيعة -: (إنهم حصون حصينة، في صدور أمينة، وأحلام رزينة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا بالجفاة المرائين، رهبان بالليل أسد بالنهار)([38])
وقال: (ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله)([39])
وقال محذرا: (لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عزوجل)([40])
وقال لبعض أصحابه لما ذكر عنده كثرة الشيعة، وهو فرح لذلك: هل يعطف الغني على الفقير؟ ويتجاوز المحسن عن المسئ؟ ويتواسون؟ قال: لا، قال: ليس هؤلاء الشيعة، الشيعة من يفعل هكذا([41]).
وقال محذرا من الغلو والغلاة: يا معشر الشيعة – شيعة آل محمد – كونوا النمرقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي، فقال له رجل من الأنصار: جعلت فداك ما الغالي؟ قال: قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس اولئك منا ولسنا منهم، قال: فما التالي، قال: المرتاد يريد الخير، يبلغه الخير يوجر عليه([42]).
أما الإمام الصادق، فقد وردت عنه الروايات الكثيرة التي تحذر من الانتساب الفارغ من المحتوى، ومنها قوله: (شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكون أموالهم، ويحجون البيت، ويجتنبون كل محرم)([43])
وقال: (شيعتنا من قدم ما استحسن، وأمسك ما استقبح، وأظهر الجميل، وسارع بالأمر الجليل، رغبة إلى رحمة الجليل، فذاك منا وإلينا ومعنا حيثما كنا) ([44])
وقال: (شيعتنا هم الشاحبون الذابلون الناحلون، الذين إذا جنهم الليل استقبلوه بحزن) ([45])
وقال: (إنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فاولئك شيعة جعفر) ([46])
وقال: (امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها)([47])
وقال: (إنما شيعتنا يعرفون بخصال شتى: بالسخاء والبذل للإخوان، وبأن يصلوا الخمسين ليلا ونهارا) ([48])
وقال: (ليس من شيعتنا من يكون في مصر يكون فيه آلاف ويكون في المصر أورع منه) ([49])
وقال: (قوم يزعمون أني إمامهم، والله ما أنا لهم بإمام، لعنهم الله، كلما سترت سترا هتكوه، أقول: كذا وكذا، فيقولون: إنما يعني كذا وكذا، إنما أنا إمام من أطاعني) ([50])
وقال: (إن أصحابي أولوا النهى والتقى، فمن لم يكن من أهل النهى والتقى فليس من أصحابي) ([51])
وقال:(ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا)([52])
وقال:(يا شيعة آل محمد ! إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالفة من خالفه)([53])
وقال:(يا معشر الشيعة إنكم قد نسبتم إلينا، كونوا لنا زينا، ولا تكونوا علينا شينا)([54])
وقال:(رحم الله عبدا حببنا إلى الناس، ولا يبغضنا إليهم، وأيم الله لو يرون محاسن كلامنا لكانوا أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشئ)([55])
وقال:(رحم الله عبدا حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم، أما والله لو يرون محاسن كلامنا لكانوا به أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشئ، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط إليها عشرا)([56])
ومثله قال الإمام الكاظم – لموسى بن بكر الواسطي -: (لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد، ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ما كان لي، إنهم طال ما اتكوا على الأرائك فقالوا: نحن شيعة علي، إنما شيعة علي من صدق قوله فعله)([57])
وقال:(ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه) ([58])
وهكذا نجد كل الأئمة ينصون على أن الولاء لهم هو ولاء بالدرجة الأولى للقيم النبيلة التي دعوا إليها، وليس مجرد نسبة فارغة من المحتوى.
وبناء على هذا فإن الشيعي المتسنن هو الذي يسرع إلى نفسه يحاسبها على وفق تلك المعايير التي وضعها الأئمة الذين يدعي انتسابه إليهم، وليس ذلك المدعي الذي يفتش في بطون الكتب عن أي كلمة قالها فلان من الناس، ليرميه بالنصب، ويرميه بعدها بالنفاق، ويتمتع بذلك.
ولهذا نجد هذا الصنف من الشيعة يرمون كل دعاة الوحدة الإسلامية من أصحاب الدين القويم القيمي بالنصب وغيره، ويمكن لكل من شاء أن يتأكد من ذلك أن يبحث عن مواقف هذا النوع من الشيعة من الشيخ محمد حسين فضل الله أو القمي أو التسخيري أو الخميني أو غيرهم من الدعاة إلى القيم النبيلة التي دعا إليها أهل البيت، وضحوا في سبيلها بكل شيء.
ولهذا فإن أصدق ما ينطبق على هؤلاء هو أنهم تحولوا إلى عبء ثقيل على كواهل أئمة أهل البيت.. فبدل أن يحملوا منهجهم، ويعرضوه بصورته الجميلة النقية، عرضوه بصورة مشوهة، نفرت منه المخالفين، وفرقت به الموالين.
ثالثا: الموقف من الأمة وخدمتها والحفاظ على وحدتها:
الامتحان الثالث الذي يميز بين المحافظ على المنهج الصحيح لأئمة أهل البيت، والمنحرف عنهم هو أخطر الامتحانات وأهمها، وهو الموقف من الأمة سواء في الحفاظ على وحدتها بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، أو بخدمتها والسعي في النهوض بها وتطويرها في جميع المجالات.
وقد تجلى هذا الموقف واضحا جليا في كل الأئمة مهما اختلفت تعبيراتهم عنه، لاختلاف الظروف التي عاشوها، والابتلاءات التي مروا بها.
فالإمام علي مثلا ـ كما تنص على ذلك جميع مصادر الشيعة ـ لم يخرق صف الوحدة الإسلامية، ولم يستجب لأولئك المحرضين الذين استغلوا الوضع القائم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليحدثوا من خلاله فتنة في الأمة لم يطيقوا إحداثها في حياته، وقد ورد في المصادر المعتبرة للفريقين أن أبا سفيان جاء إلى الإمام علي، وهو يصيح: (إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟) ثم قال لعلي: (ابسط يدك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا فزجره علي وقال: (والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك)([59])
بل نراه ينص على ذلك بصراحة في بعض خطبه في نهج البلاغة، ففيها: (والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماسا لأجر ذلك وفضله وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)([60])
ولم يكتف الإمام علي ـ بحسب ما تنص عليه المصادر الشيعية المعتبرة ـ بالبيعة التي تحفظ وحدة الأمة فقط، بل ضم إليها العمل الإيجابي لخدمة الأمة في جميع المجالات، وقد قال معبرا عن ذلك: (فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم)([61])
وكان الإمام علي يتعامل في ذلك الوضع بكل ما تقتضيه النصيحة من أعمال، فكان مع الخلفاء ومع الأمة، يحضر المسجد، ويشارك في صلاة الجماعة، ويستشار، فيعطي رأيه، ويساعد الخلفاء في مواقف كثيرة.
بل ورد في الروايات الكثيرة أنه استشير في أكثر من تسعين مسألة من المسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والدينية من طرف الخلفاء من بعده، وخاصة الخليفة الثاني، فأشار فيها الإمام علي، وقبل الخليفة رأيه، ونفذه([62]).
ولو لم يأنس الخلفاء منه النصيحة والإخلاص والصدق لما استشاروه، وذلك خلافا لما يذهب إليه دعاة التشيع البدعي من أنه مارس كل ذلك تقية، ولم يمارسه صادقا ولا مخلصا.. ومعاذ الله أن يقضي الإمام علي ذلك الشطر المحترم من عمره، وهو يضمر خلاف ما يظهر.
وهكذا كان موقفه حينما طلب منه العباس أن لا يدخل في الشورى التي عيّنها عمر فقال: (إني أكره الخلاف)([63])
بل إن الإمام علي كان من السعاة إلى درء الفتنة التي حصلت بين الخليفة الثالث والمعارضين له، حيث أصبح وسيطاً بين الطرفين لإخماد الفتنة، ونصح المعارضين بعدم قطع الماء عنه في وقت الحصار، فلم يستجيبوا له، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة بالماء([64]).
وبعث عثمان إليه فأتاه، فتعلّق به المعارضون ومنعوه، فحلّ عمامة سوداء على رأسه ورماها داخل البيت ليعلمه وقال: (اللهمّ لا أرضى قتله، والله لا أرضى قتله)، وأرسل الحسن والحسين للدفاع عن عثمان، فمنعوا المعارضين من الدخول إلى منزله، وقد أصابت الحسن عدّة جراحات في الدفاع عنه ([65]).
هكذا ظل الإمام علي إلى آخر لحظة من حياته حريصا على الأمة، وصلاحها ووحدتها، وقد قال في وصيته بعد أن قتله الشقي ابن ملجم: (يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل)([66])
وهكذا كان أصحابه وموالوه الذين يمجدهم جميع الشيعة، ويحترمونهم، فقد شاركوا في غزو الروم والفرس الذين كانوا يهددون الحدود الإسلامية، فقد شارك أبناء العباس وأبناء إخوانه كمحمد بن جعفر الذي استشهد في تستر، واشترك عمّار بن ياسر وسلمان وحذيفة بن اليمان وجابر بن عبد الله في أغلب تلك الغزوات([67]).
وهكذا كان الإمام الثاني الإمام الحسن الذي آثر أن يقبل بالصلح المجحف في سبيل وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم مع علمه بتغيير الطلقاء وتحريفهم لقيم الدين، ولكن حفظ الوحدة عنده كان أهم من كل شيء.
وهكذا فعل أخوه الإمام الحسين الذي لم يتحرك بتلك الحركة السلمية إلا بعد أن رأى أن الأمة تنحرف انحرافا كبيرا، فسار بأهل بيته وبقلة من أصحابه ليحيي في الأمة ما مات منها، وقد قال في وصيته قبل خروجه من المدينة معبرا عن هدف تلك الحركة العظيمة التي لا نزال نعيش آثارها المباركة: (إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)([68])
وهذه كلمة عظيمة لها دلالتها المهمة في الوحدة الإسلامية، فهو لم يخرج لأجل طائفة، ولا ليؤسس مذهبا، وإنما خرج ليعيد لهذه الأمة القيم النبيلة التي تلاعب بها الطلقاء وأبناء الطلقاء.
وقد كان يعلم أنه سيستشهد مع الكثير من أهل بيته، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه كان يعلم أن دمه لن يذهب هدرا، بل سيبقى المؤمنون الذين يقتدون به في التضحية بكل شيء من أجل عودة الدين إلى أصالته.
وهكذا راح كل إمام يمارس في عصره ما يقتضيه واجب وقته، لتكون كل تلك المواقف دروسا وعبرا يمكن العمل بها وتفعيلها في المواقع المختلفة.
ولعل هذا هو السر في كون الخلفاء اثني عشر.. حتى تتعدد مواضع القدوة، وتعالج كل ما يرتبط بالحياة من ظروف.
انطلاقا من هذا، فإن المتشيع تشيعا سنيا لا ينظر إلى قوة طائفته بقدر ما ينظر إلى قوة الأمة.. فالأمة عنده هي الأصل.. والطائفة ظرف طارئ أملته الظروف التي منعت الأئمة من أداء أدوارهم كاملة..
أو أن الطائفة هي مجرد تجمع أو جماعة تفكر كيف تحيي الأمة، وكيف تعيد لها الإسلام الأصيل الممتلئ بالقيم الرفيعة..
ولهذا فإن المتشيع بهذا النوع من التشيع يقبل أن يشاركه في العمل لتحقيق هذا الغرض من كان معه في عقائده أو كان يختلف معه في بعض فروعها.. لأن الهدف هو إحياء الدين، لا إحياء الطائفة.
أما المتشيع تشيعا بدعيا، فهو ينظر إلى الأمة نظرة احتقار وازدراء وكبر.. فهو يفرح لمصائبها، ويتمنى من قلبه لو أن زلزالا عنيفا عصف بها، ليرتاح منها.
بل قد سمعت بعضهم يصف الثورة الإسلامية الإيرانية بأنها انحراف عن منهج أهل البيت، لأن تصوره الأسطوري للمهدي جعله يعتقد أن الأمة لابد أن تغرق، وتمتلئ جورا حتى يظهر المهدي لينقذها أو ليعاقبها.
ولهذا اصطف في حرب تلك الثورة كلا الصنفين من السلفية: السلفية السنية التي اعتبرتها ثورة مجوسية، والسلفية الشيعية التي بدعتها وضللتها وكفرتها.. بل إن بعض قادة تلك الثورة كالشيخ مطهري قتل بأيد سلفية شيعية.
وسبب كل تلك المواقف السلبية هو أنهم سمعوا قائد تلك الثورة الإمام الخميني يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وإلى تجاوز الخلافات المذهبية لإعادة إحياء الأمة، وإعادة الحاكمية للإسلام المحمدي الأصيل.
وقد سمعت بعض هؤلاء المتشيعة تشيعا بدعيا يقرأ نصا للخميني حول الخلفاء الأوائل، ثم يرميه بالنصب بسبب ذلك.. والنص هو قول الخميني: (لنلاحظ كيف هي معيشة الذين كانوا يدعون إلى الإسلام؟ مثلاً: نفس النبي الأكرم وبعده الخلفاء الأوائل ـ الذين كانوا على نحو آخر ـ، ثم الإمام عليّ أمير المؤمنين، فهل كانت حياتهم تشبه حياة ملالي البلاط) ([69])
ويستشهد في خطاب آخر بسيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث يقول: (عندما وصل الخليفة الثاني في أحد أسفاره قريباً من أحد البلدان التي كانت تحت سلطته إذ ذاك كان الدور لغلام الخليفة أن يركب والخليفة يمشي راجلاً، ويأخذ اللجام بيده، وعندما وردا المدينة ـ كما نقل ـ كانا في تلك الحالة، فالخليفة يمشي والغلام راكب على البعير، إذا وجدت مثل هذه الحكومة، فلا مجال لهذه الأقوال؛ لأنه في ظلّها لم تبق أنانية للإنسان)([70])
وعلى خلاف المتشيعة تشيعا مبتدعا نجد وقوف علماء الشيعة في العراق إلى جنب الدولة العثمانية في صراعها مع الاستعمار، وتحريم المرجع السيد محسن الحكيم لقتال الأكراد في العراق، ومطالبته جمال عبد الناصر بالإفراج عن سيد قطب ([71])..
ومن أبرز الشواهد القريبة لذلك موقف الإمام الخميني من القضية الفلسطينية بعد أن مال الكثير من العرب إلى الصلح مع الكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقيات صلح معه.. في ذلك الحين كان الإمام الخميني يصيح في المسلمين: (لو اجتمع المسلمون وألقى كل واحد منهم دلواً من الماء على إسرائيل لجرفها السيل)([72])
وقد كان ليوم القدس العالمي الذي دعا إلى إحيائه دورا كبيرا في إحياء القضية الفلسطينية وجميع قضايا المستضعفين، يقول معبرا عن ذلك: (إن يوم القدس، يوم يجب أن تلتفت فيه كل الشعوب المسلمة إلى بعضها، وأن يجهدوا في إحياء هذا اليوم فلو انطلقت الضجة من كل الشعوب الاسلامية في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك الذي هو يوم القدس لو نهضت كل الشعوب وقامت بنفس هذا التظاهرات ونفس هذه المسيرات، فإن هذا الامر سيكون مقدمة إن شاء الله للوقوف بوجه هؤلاء المفسدين والقضاء عليهم في جميع أرجاء بلاد الإسلام)([73])
ولم يكن هذا مجرد مقولات أو شعارات، بل تحقق كواقع عملي من أول اليوم الذي أغلقت فيه السفارة الإسرائيلية، وفتحت فيه السفارة الفلسطينية، كعلامة على انتهاء التبعية للاستكبار، وابتداء عصر مناصرة المستضعفين.
ومنذ ذلك اليوم، تغير واقع القضية الفلسطينية تماما، حيث دعمت إيران قوى المقاومة القائمة، وأسست بتوجيهات الإمام قوى مقاومة جديد، لا زال الله يمدها بعونه إلى أن تحولت إلى قوى إقليمية محترمة يحسب لها الاستكبار العالمي ألف حساب.
وغيرها من المواقف الشريفة التي تتماشى تماما مع الخط الرسالي لأئمة أهل البيت في الحفاظ على وحدة الأمة، والسعي لخدمتها في جميع المجالات.
ولهذا فإن كل سلفية الشيعة الذين يوجهون سهام نقدهم لأمثال هؤلاء الوحدويين هم أول من سيقف في وجه من ينتظرونه كما وردت بذلك الروايات ([74])..
لأن الذي ظل عمره محاربا لوحدة الأمة، مستكبرا عليها،
يستحيل أن يرى بقلبه الممتلئ بالسواد جمال الحقيقة، ونور العدالة..
([1]) الخصال: 103 / 62
([2]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري.
([3]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري.
([4]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري.
([5]) الخصال: 103 / 61
([6]) تحف العقول: 514
([7]) يعني لا يكتم السر ويذيع ما في باطنه من الأسرار
([8]) البحار: 78 / 186 / 24
([9]) مشكاة الأنوار: 63
([10]) رواه أبو داود وغيره، وللأسف فإن هذا الحديث مع وروده بلفظ (كتاب الله وعترتي) ومع كثرة الروايات الواردة فيه بهذا المعنى استبدل بحديث آخر، وصار هو المعروف عند الناس، وهو استبدال (عترتي) بلفظ (سنتي) مع أنه لم يرد في أي من الصحاح الست، وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسلا غير مسند، وأخذ عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسلا كما ورد عن مالك.. مع العلم أنه في قانون المحدثين لا يروى الحديث إلا بأصح صيغه، هذا في حال كون الصيغة المروية عن مالك صحيحة باعتبار المحدثين لأنها مرسلة، ولكنه للأسف صار الحديث المرسل هو الأصل، وصار الحديث المتواتر في حكم المكتوم، بل لو أن شخصا حدث به لاتهم في دينه.
([11]) رواه مسلم
([12]) غرر الحكم: 1664.
([13]) نهج البلاغة: الكتاب 47.
([14]) نهج البلاغة: الخطبة 133
([15]) تحف العقول: 150
([16]) نهج البلاغة: الخطبة 176، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 18
([17]) نهج البلاغة: الخطبة 198، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 199
([18]) نهج البلاغة: الخطبة 176، نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 18.
([19]) نهج البلاغة: الخطبة 176، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 31.
([20]) نهج البلاغة: الخطبة 183، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10 / 115.
([21]) غرر الحكم: 3255.
([22]) نهج البلاغة: الخطبة 147
([23]) البحار: 78 / 112 / 6
([24]) الكافي: 2 / 602 / 13.
([25]) المحاسن: 1 / 341 / 702.
([26]) البحار: 92 / 15 / 8
([27]) عيون أخبار الرضا : 2 / 130 / 9
([28]) الكافي: 8 / 53 / 16
([29]) مستدرك الوسائل : ج1 / ص290.
([30]) التوحيد: 174 / 3.
([31]) رواه الترمذي (3775) وابن ماجه (144) وأحمد (17111)
([32]) نهج البلاغة: الخطبة 193.
([33]) أمالي الطوسي: 576 / 1189
([34]) الكافي: 2 / 236 / 24
([35]) البحار: 78 / 29 / 96
([36]) البحار: 78 / 28 / 95
([37]) تنبيه الخواطر: 2 / 106
([38]) مشكاة الأنوار: 62
([39]) تحف العقول: 295
([40]) الكافي: 2 / 73 / 1
([41]) البحار: 74 / 313 / 69
([42]) الكافي: 2 / 75 / 6
([43]) البحار: 68 / 167 / 23 وص 169 / 29
([44]) البحار: 68 / 167 / 23 وص 169 / 29
([45]) الكافي: 2 / 233 / 7
([46]) الكافي: 2 / 233 / 7 وح 9
([47]) الخصال: 103 / 62
([48]) تحف العقول: 303
([49]) البحار: 68 / 164 / 13 و 2 / 80 / 76.
([50]) البحار: 68 / 164 / 13 و 2 / 80 / 76
([51]) البحار: 68 / 166
([52]) البحار: 68 / 164 / 13
([53]) تحف العقول: 380
([54]) مشكاة الأنوار: 67، 180
([55]) مشكاة الأنوار: 67، 180
([56]) الكافي: 8 / 229 / 293
([57]) الكافي: 8 / 228 / 290
([58]) بصائر الدرجات: 247 / 10
([59]) الكامل في التاريخ، ج2، ص10.
([60]) نهج البلاغة: خطبة رقم 73.
([61]) نهج البلاغة: كتاب رقم 62.
([62]) انظر التفاصيل المرتبطة بذلك في كتاب: [علي والخلفاء] لنجم الدين العسكري.
([63]) الكامل في التاريخ 3: 66.
([64]) حسين الديار بكري، تاريخ الخميس 2: 262.
([65]) محمد بن سعد، الطبقات الكبرى 3: 68.
([66]) ابن خلكان، وفيات الأعيان 2: 70.
([67]) الكامل في التاريخ 2: 512، 550 و3: 9.
([68]) بحار الأنوار 44: 329.
([69]) الكوثر 2: 399، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، 1996..
([70]) الكوثر 2: 399.
([71]) انظر مقالا رائعا في هذا بعنوان: [أهل البيت وفقهاء المذاهب الإسلامية وجه مشرق لعلاقة تعاون وتقارب] للسيد سعيد كاظم العذاري.
([72]) هذه المقولات منقولة من كتاب: القدس في فكر الإمام الخميني قدس سره، مركز الإمام الخميني الثقافي، شبكة المعارف الإسلامية، تشرين الأول 2007م- 1428هـ، ص26..
([73]) المرجع السابق، ص42.
([74]) منها قول الإمام الباقر : (لو قد قام قائمنا بدأ بالذين ينتحلون حبنا فيضرب رقابهم) [الايضاح فضل بن شاذان ص208/209]