التراث السلفي.. والعلوم الكونية

التراث السلفي.. والعلوم الكونية

نريد بالعلوم الكونية في هذا الفصل كل العلوم التي تتعلق بالتعرف على الكون والحياة والإنسان والظواهر المرتبطة بها، وهي علوم ورد في القرآن الكريم الكثير من الحديث عنها، والدعوة إلى الاهتمام بها، بل إن الآيات المرتبطة بها ـ كما يذكر بعض الباحثين ـ تشكل ما يقارب خمس القرآن الكريم، فهناك أكثر من (1200) آية قرآنية على الأقل تشير إلى المعارف العملية المختلفة، وكل آية منها تشير إلى حقائق الوجود الكبرى التي استغرقت من البشر قرونا طويلة للوصول إليها.. ولكن القرآن الكريم يعطيها لنا بسهولة ويسر، ويربطها بحقائق الوجود جميعا.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد } [سورة فصلت: 53]، فهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على وعد الله لعباده بأن يكشف لهم في مستقبل أيامهم عن حقائق الآفاق والأنفس.. وهي واضحة الدلالة أيضا على أن تلك الحقائق تنسجم مع القرآن الكريم انسجاما تاما، بل إنها ستشهد له بالحق، وتدل على مصدره الإلهي، وسبب ذلك أن الله على كل شيء شهيد.. ولذلك يستحيل أن تتناقض المعارف المكتشفة مع المعارف التي أنزلها الله على عباده في كتابه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العظيمة قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون } [سورة النمل: 93]

بل أخبر في مواضع مختلفة أن الزمن كفيل بأن يوضح من الحقائق القرآنية ما لم يكن مدركا في الزمن الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى: { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون } [سورة الأنعام: 67]، وقال: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين } [سورة ص: 88]

بل أشار الله تعالى إلى تأثير الحقائق القرآنية في هداية أهل العلم، فقال: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }[سـبأ: 6]

وهكذا نجد القرآن الكريم يدفعنا دفعا للبحث العلمي لاكتشاف حقائق الكون، للاستفادة منها أولا، وللتعرف من خلالها على إبداع الخالق سبحانه وتعالى، لأن الله لا يعرف إلا بالعلم، كما قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ }[محمد: 19]، وكما أخبر عن أصناف عباده العارفين به، فذكر منهم أولو العلم، فقال: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[آل عمران: 18]

وبناء على هذا يأمرنا الله تعالى بالنظر في كل الكائنات التي أبدعها لنزداد قربا منه، ومعرفة به، وخشية له، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27، 28]، فهذه الآيات الكريمة لم تذكر خشية العلماء لله أثناء ذكرها لأحكام الشريعة، وإنما ذكرتها في معرض بيان آيات الله في السموات والأرض، لتبين أن كمال الخشية يكون في تلك الرؤية المفصلة لآيات الله في الكون.

ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر أولي الألباب، وتوجههم إلى الله بالعبودية قدم الفكر في السموات والأرض على الذكر والعبادة نفسها، فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب } [سورة آل عمران: 190].

بل إننا لو طبقنا مقاييس الفقهاء والأصوليين على الآيات الكريمة التي تتعلق بهذه الجوانب، فإننا نجد الحكم بالوجوب على تعلم هذه الحقائق، فالله تعالى يأمر فيها عباده بالنظر والتفكر في كونه، قال تعالى آمرا بالنظر: { قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [يونس: 101]، وقال آمرا بالسير: { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20]

وبناء على هذه التوجيهات الإلهية المقدسة نشأ اهتمام المسلمين بالعلوم المختلفة، والذي تشكل منه بنيان الحضارة الإسلامية الحقيقي، وهو البناء المعتمد على البحث والنظر والفكر والتأمل واستعمال كل الأدوات لاكتشاف الحقائق الكونية في مجالاتها المختلفة.

وقد أشار الغزالي إلى سر ذلك، وارتباطه بالقرآن الكريم، فذكر في كتابه (جواهر القرآن) قبل أن تفتح خزائن العلوم التي فتحت في عصرنا أن العلوم كلها متشعبة من القرآن، فقال: (ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد) ([1])

ثم ضرب أمثلة على ذلك، ومنها (الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين } [سورة الشعراء: 80]، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه) ([2])

ومنها (أفعاله تبارك وتعالى في تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان } [سورة الرحمن: 5] وغيرها من الآيات.. ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان، وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه) ([3])

وهكذا ذكر أنه لا يعرف كمال معنى قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) } [الانفطار: 6 – 8] إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين) ([4])

وهكذا نجد الأئمة من أهل بيت النبوة وورثة الكتاب يهتمون بالعلوم الكونية، ويدعون تلاميذهم إلى تعلمها، فقد كان جابر بن حيان الذي يعتبر أول من اشتغل بالكيمياء القديمة ونبغ فيها، وكانت له اكتشافاته المهمة التي أقر له بها الغرب والشرق، تلميذا بسيطا من تلاميذ الإمام جعفر الصادق، قال اليافعي في [مرآة الجنان] فيمن توفي عام 148هـ: (وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اُولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة)([5])

وهكذا نجد الإمام الرضا يترك رسالة مميزة في الطب، يقدم لها الطبيب الكبير المعروف الدكتور محمد علي البار بقوله: (تتميز هذه الرسالة بأنها أول رسالة في الطب يكتبها عربي مسلم.. ولم تكتب قبلها سوى رسائل مترجمة من اليونانية والسريانية.. وإذا علمنا أن الرضا توفي سنة 203 ه‍ وأنه كتب هذه الرسالة عندما استقدمه المأمون من المدينة إلى خراسان (أي أنها كتبت في حدود سنة 200 ه‍).. ولا تعتبر هذه أول رسالة في الطب يكتبها مسلم فحسب، بل تعتبر أول رسالة في الطب تؤلف في التاريخ الاسلامي.. حيث أن ما كتب قبلها لا يعدو ترجمات من كتب اليونان والسريان الطبية. وهذه الرسالة تختلف عن كل ما كتب أنها ضمت معلومات الإمام الرضا الطبية التي استفادت بدون شك من طب اليونان ولكنها أضافت إليها ما أخذه الامام عن أبيه عن جده، وما استفاده من كلام جده المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كما أنها تضم أيضا ما استفاده الإمام الرضا من علوم آبائه موسى الكاظم، وجعفر الصادق ومحمد الباقر وعلي زين العابدين والامام السبط الحسين والإمام علي بن أبي طالب. ولم يكتف الإمام الرضا بذلك كله ولكنه أضاف إليها تجاربه الشخصية ومعارفه الذاتية.. واستطاع بعد ذلك كله أن يوجز هذه المعلومات إيجازا بليغا في 14 صفحة فقط.. ومع هذا فقد شرحها العلماء والحكماء في مئات الصفحات)([6])

وما ذكره الدكتور البار عن استفادتها من الطب اليوناني تفيد ذلك الانفتاح على الأمم الذي يدعو إليه القرآن الكريم، والذي تمسك به ورثته من هذه الأمة.

لكن السلفية يختلفون مع هذه الرؤية التي دل عليها القرآن الكريم، ودل عليها مع ذلك ورثته من العلماء والأولياء اختلافا تاما، ولهذا لم يترك السلفية مع اهتمامهم بالتأليف أي تراث في هذا الجانب.. اللهم إلا تلك الردود الشديدة التي ردوا بها على العلوم الكونية المختلفة باعتبارها علوم كفار، أو باعتبارها تتناقض مع ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية والآثار الواردة عن سلفهم.

بالإضافة إلى ذلك اكتفاؤهم بما وردهم عن سلفهم من تفسيرات للظواهر الكونية المختلفة، ولذلك رأوا أن الأولى الاكتفاء بها، والحرص عليها، حتى لو اصطدمت بجميع علوم الدنيا ومعارفها.. فما كان للكفار أن ينافسوا مجاهدا ولا قتادة ولا عكرمة ولا ابن تيمية في علوم الدين أو علوم الدنيا.

بناء على هذا، سنتناول هذا الفصل كلا الجانبين: الأول: الموقف السلبي للسلفية من العلوم الكونية.. والثاني: المعارف السلفية التي ورثوها عن سلفهم في هذا النوع من العلوم.

أولا ـ الموقف السلبي من العلوم الكونية:

بناء على بعض المغالطات التي تصور بها السلفية انحصار ما ورد من فضل متعلق بالعلم وبطلبته في العلوم الدينية.

وبناء على تفريقهم بين العلوم بحسب مصدرها، لا بحسب الحقائق التي تعالجها أو تبحث فيها، ولذلك قسموا العلوم إلى علوم مسلمين، وهي العلوم المرتبطة بالكتاب والسنة وما تفرع منهما، وعلوم كفار، وهي غيرها من العلوم.

وبناء على توهمهم بأن العلوم الدنيوية أو علوم الكفار أو العلوم العصرية تحجب عن علوم السلف، وتتناقض معها، ولذلك فإن من دخل فيها يوشك أن يخرج من ربقة السلف وتبعيتهم.

بناء على هذا كله وقف السلفية متقدموهم ومتأخروهم موقفا سلبيا من العلوم الكونية، وسنذكر الأدلة على ذلك في العنوانين التاليين:

1 ـ موقف المتقدمين من العلوم الكونية:

يتجلى موقف المتقدمين من السلفية من العلوم الكونية من خلال موقفهم من الفلسفة، أو ما يسمونه علوم الأوائل، أو العلوم المترجمة من الأمم الأخرى، وخاصة من اليونانية، لأنهم تصوروا أن ترجمة تلك الكتب بما فيها من خير وشر، وحق وباطل كان وبالا على المسلمين، لأن على المسلمين ـ كما يتصور السلفية ـ حتى يظلوا على هدي سلفهم الصالح أن ينغلقوا انغلاقا تاما عن كل الأمم والحضارات، لا يستفيدون منها، ولا يكتسبون من خبراتها، فإن احتاجوا إلى الطب لجأوا إلى أطباء اليهود والنصارى يداوونهم.. أما علم الفلك فلا يحتاجونه لأن سلفهم قد أعطاهم خارطة كاملة للكون من عرشه إلى فرشه، وهم لا يحتاجون معها إلى أي تفاصيل.. وهكذا في سائر العلوم.

وبناء على هذا اعتبروا من أسباب التجريح والطرد والحرمان من الانتساب للسنة وسلف الأمة الاشتغال بتعلم علوم الأوائل، كما قال ياقوت الحموي في ترجمة بعضهم ذاما له بسبب اشتغاله بالفلسفة وما ارتبط بها من علوم كونية: (وليس ذلك إلا لإعراضه عن نور الشريعة واشتغاله بظلمات الفلسفة، وقد كان بيننا محاورات ومفاوضات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبّ عنهم، وقد حضرت عدة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ قال الله، ولا قال رسول الله k ولا جواب عن المسائل الشرعية، والله أعلم بحاله)([7])

وقال الذهبي منتقدا الغزالي بسبب موقفه المسالم للمباحث العلمية التي وردت في كتب الفلاسفة: (ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب (التهافت)، وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان الصفا) وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف. فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فيلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين)([8])

والذهبي وابن تيمية وغيرهما من السلفية ينتقدون الغزالي بسبب موقفه الطيب من الجوانب العلمية والرياضية التي تشكل جزءا من الفلسفة القديمة، فقد كانوا يريدون من الغزالي أن يذكر تهافت الفلسفة جميعا، لا تهافت بعض طروحات الفلاسفة المتعلقة بالعقائد الإلهية.

وقد ذكر الغزالي هذا الصنف من السلفية وتشددهم مع العلوم الكونية التي لا يصح اعتبارها حكرا على أي من الأمم، فقال ـ عند بيانه للآفات الناشئة من الفلسفة ـ: (الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم. فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله k: إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفان ِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة)، وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص.. فهذا حكم الرياضيات وآفتها)([9])

وهكذا بالنسبة لعلم الطبيعيات، والذي كان ركنا من أركان الفلسفة القديمة، فقد قال فيه الغزالي: (وأما علم الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار، وعن الأجسام المركبة، كالحيوان والنبات والمعادن، وعن أسباب تغيرها وامتزاجها، وكذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان، وأعضائهم الرئيسية والخادمة، وأسباب استحالة مزاجه وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة، وذكرناها في كتاب تهافت الفلاسفة وما عداها مما يجب المخالفة فيها، فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها، وأصل جملتها: أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها. والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته)([10])

وبناء على هذا لم نجد من الغزالي وأمثاله من العلماء أي موقف سلبي من أي عالم من علماء الطبيعة أو الرياضيات، والموقف السلبي الوحيد الذي وقفه هو موقفه من بعض المسائل الفلسفية المتعلقة بالإلهيات، وقد انتقدهم فيها كفيلسوف، وليس كعالم دين، ولذلك فإن نقده لهم بقي محل نظر، فمن العلماء من قبله، ومنهم من رفضه أو انتقده كما فعل ابن رشد، ولا حرج على الجميع.

فالحرج ليس في الانتقاد، ولكن الحرج في التشدد في تحريم تلك العلوم، واعتبارها كفرا وضلالا، كما فعل ابن تيمية مع علم الكيمياء، ومع العبقري الذي سبق زمانه فيها جابر بن حيان.

يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي حول [ابن تيمية وتحريم الكيمياء!]: (ابن تيمية لم يقتصر تطرفه على التحريض على الدماء، بل وصل للكيمياء فحرمها وشن عليها حملة، لأن مؤسسها جابر بن حيان! وسبب بغضه لجابر بن حيان أنه من تلاميذ الإمام جعفر الصادق؛ لكن ابن تيمية ذكي؛ فلا يصرح بأهدافه البعيدة! فقد أفتى ابن تيمية في تحريم الكيمياء فتوى في مجموع الفتاوي (٢٩/ ٣٦٨) لا نستطيع كتابتها لطولها، ولكثرة ثرثرته ولكن نستعرض (فلاشات) من أقواله: ١- اهل الكيمياء من أعظم الناس غشا! ٢- هم أهل ذلة وصغار! ٣- الكيمياء محرمة باطلة! واستدل على بطلانها بقوله: (لم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء ولا من علماء الدين ولا الصحابة ولا التابعين)! وأن جابر بن حيان: (مجهول لا يعرف! وليس له ذكر بين أهل العلم والدين)! و(الكيمياء أشدّ تحريما من الربا)، ثم يقول: (الكيمياء لم يعملها رجل له في الأمة له لسان صدق ولا عالم متبع ولا شيخ ولا ملك عادل ولا وزير ناصح، إنما يفعلها شيخ ضال مبطل).. بهذا الأسلوب يهوش ابن تيمية على العامة وفكره في التاريخ والعقائد كفكره في الكيمياء تماما! إلا ان الناس تجاوزوا هذا دون ذاك. ابن تيمية أول ما تقرأ له تقول: هذا رجل ذو عقلية جبارة متحررة! لكن ما أن تدقق حتى تعرف أنه يهول ويهوش فقط مع زيف كبير في التصور!)([11])

ونحب أن ننقل هنا من مصدر سلفي حديث ـ حتى لا نتهم بالتحيز ـ إشادة بعض الأكاديميين السلفيين المعاصرين بما فعله سلفه من مواقف سلبية من الفلسفة والعلوم المختلفة المرتبطة بها، وذلك في كتاب بعنوان [مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية]([12])

فمن تلك المواقف حرق كتب الفلسفة ومنع بيعها، وقد ذكر الأكاديمي السلفي لذلك ثلاثة حوادث بالمشرق الإسلامي أُحرقت فيها كتب الفلسفة([13]):

أولها أن السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (ت 421ه) لما ملك مدينة الري، أحرق كتب الفلاسفة والنجوم والاعتزال ([14]).. مع العلم أن المراد بالنجوم، علم الفلك.. وكتب الفلاسفة تعني كل أصناف كتبهم الرياضية والطبيعية والمنطقية والأخلاقية وغيرها.

والثانية أنه لما تولى الطبيب المتفلسف أبو الوفاء بن المرخم (ت555هـ) قضاء بغداد، وأساء السيرة في الرعية، أمر الخليفة العباسي المستنجد بالله بالقبض عليه سنة 555هـ، فاستُصفيت أمواله، وأخذت منه كتبه، وأُحرق منها ما كان في علوم الفلسفة، كرسائل إخوان الصفا، وكتاب الشفاء لابن سينا وما يشاكلهما، وأُدخل ابن المرخم السجن فمات فيه([15]).

والثالثة أنه عندما أُتهم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني البغدادي (ت 611 ه) بالتعطيل ـ أي بتنزيه الله ـ واعتقاد عقيدة الفلاسفة، جمع الوزير ابن يونس البغدادي الحنبلي (ت 593 هـ) كتبه وعقد له محاكمة حضرها أعيان الناس، وفيها كان الطبيب أبو بكر بن المارستانية (ت 599 هـ) يقرأ بعض كتب عبد السلام على الحاضرين، ويقول: العنوا من كتبها ومن يعتقدها، فيصيح العوام باللعن حتى تعدى إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني. ثم وجد محاكموه في بعض كتبه مخاطبة كوكب زُحل، بقوله: (أيها الكوكب المنير أنت مدبر الأفلاك، وتحي وتُميت وأنت إلهنا)، فقالوا له: أهذا خطك؟ قال: بلى، كتبته لأرد على قائله ومن يعتقده. فأمر الوزير بإحراق كتبه، من بينها: كتب الفلسفة والسحر وعبادة النجوم، ورسائل إخوان الصفا. وأدخل هو السجن مدة ثم أُفرج عنه بعد استتابته ([16]).

هذا ما حصل من حرق لكتب الفلاسفة بما اشتملت عليه من علوم كونية في المشرق، أما في المغرب، فقد ذكر الأكاديمي السلفي من الحوادت المرتبطة بذلك([17]): أن الحاجب أبا عامر بن أبي عامر الأندلسي (ت 393 هـ) لما آلت إليه مقاليد الحكم الأموي بالأندلس عمد إلى خزانة كتب الخليفة المُتوفى: الحكم المستنصر، وأخرجها وفرز منها كتب الفلسفة، وكانت كثيرة جدا، فأحرق منها مجموعة وطمر أخرى بمشهد من العلماء، فعل ذلك تقبيحا للخليفة الحكم المُغرَم بجمع كتب الفلسفة([18]). وقيل أن سبب إحراقه لها رغبته في التقرّب إلى العوام، مع اشتغاله هو بها شخصيا في الخفاء([19]).

 ومنها أن السلطان المرابطي أبا الحسن علي بن يوسف ين تاشفين (ت 537هـ) كان شديد الكره للفلسفة وعلم الكلام، فأمر بحرق كتبهما ومعها كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، لما فيها من كلام وفلسفة، وتوعّد بالقتل لمن يُخفي تلك الكتب([20]).

وقد علق على هذه الجرائم في حق العلم والمعرفة بقوله: (ويُستنتج مما ذكرناه أن عمليات حرق كتب الفلسفة ومنع بيعها وتداولها بين الناس وأهل العلم، تمت على أيدي السلاطين ورجالهم، وتحت رعايتهم، لأنهم هم الذين يملكون قوة التغيير والتنفيذ، وتلك العمليات هي حوادث قليلة جدا بالنظر إلى اتساع رقعة العالم الإسلامي، وطول الفترة الزمنية التي تزيد عن عشرة قرون لكنها تدل على وجود مقاومة سنية للفلسفة اليونانية ساهم فيها بعض الخلفاء والسلاطين وأعوانهم، لكنها تشير من جهة أخرى إلى انتشار تلك الفلسفة بين طائفة من أهل العلم، حتى استدعى الأمر تدخل السلطان لحرق مصنفاتها ومنع بيع كتبها والاشتغال بها. لكنها ساهمت أيضا في إضعاف نفوذ الفلسفة ورجالها، دون أن تقضي عليها وعلى تراثها وأتباعها) ([21])

ومن تلك المواقف التي ذكرها السلفي الأكاديمي مشيدا بها (إهدار دم بعض رجال الفلسفة وقتل آخرين)، ومن الشواهد التي ذكرها لذلك([22]): قتل الخليفة العباسي المهدي (ت196 هـ) للفيلسوف أبي الفضل صالح بن عبد القدوس الأزدي (ت ق: 2هـ)، بسبب التهمة التي كان يلفقها السلفية لكل من خالفهم تهمة الزندقة([23]).

ومنها قتل الخليفة العباسي المعتضد (ت 289هـ) للفيلسوف أحمد بن الطيب السرخسي (ت 286هـ) لفلسفته وخبث معتقده، كما يذكر([24]).. وقيل بل قتله لمدحه الفلاسفة وميله إليهم، وتصويب أفكارهم وحكاية مذهبهم في حضرة الخليفة، الذي كان يقول له: أنت على دينهم، وكيف لا تكون كذلك وأستاذك يعقوب الكندي؟، فاعتقد أن السرخسي هذا فاسد الدين([25]).. وقيل: بل قتله لاتهامه بالزندقة والنفاق، فروي أنه قال للخليفة: (قد بعتُ كتب الفلسفة والنجوم والكلام، وما عندي سوى كتب الفقه والحديث)، فلما انصرف قال الخليفة: (والله إني أعلم أنه زنديق، فعل ما زعم رياء)([26])

وقد قال الأكاديمي السلفي تعليقا على هذه الجريم والتفسيرات المرتبطة بها: (تلك هي أشهر التفسيرات التي قيلت في سبب قتل الخليفة المعتضد للسرخسي، وهي مرتبطة بانحراف سلوكه واعتقاده، ولعلها ساهمت كلها في قتله) ([27])

 ومنها قتل الفيلسوف الصوفي عبد الله عين القضاة الهمداني (ت 520 هـ) الذي قتله وزير يُعرف بأبي القاسم، وذلك أنه التقط من تصانيف عين القضاة ألفاظا شنيعة ينبو عنها السمع، ويُحتاج إلى مراجعة قائلها فيما أراد بها؛ ثم عمل الوزير محضرا وأخذ فيه خطوط جماعة من العلماء، بإباحة دمه بسبب تلك الألفاظ، فقبض عليه وحمله مقيدا إلى بغداد، ثم أرسله إلى همدان وصلبه بها سنة 520هـ. ويرى الحافظ ابن حجر العسقلاني أن هذا الرجل قُتل مظلوما، قتله الوزير لمجرد أنه صادق أحد أعدائه، وإلا لو قتل بسبب شرعي لنوظر واستتيب([28]).

ومنها قتل الفيلسوف الإشراقي الكبير الشهيد شهاب الدين السهروردي (ت 587هـ)، الذي أفتى علماء حلب بقتله، فوافقهم على فتواهم الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي، ثم جاءه أمر من والده صلاح الدين يأمره بقتله لما بلغه فساد عقيدته وسلوكه، فقتله سنة 587ه ([29]).

 وقد قال الذهبي مستحسنا ما حصل من قتله: (كان أحمق طياشا منحلا، أحسن العلماء في فتوى قتله وأصابوا)([30])

 هذه مجرد أمثلة عن الذي تم قتلهم بالفعل.. أما الذين هددوا، أو قضوا حياتهم فارين من بلد إلى بلد، فلا يعدون ولا يحصون في نفس الوقت الذي كان يتربع فيه محدثو السلفية وأمامهم عشرات آلاف المحابر، يلقون إليهم ما رووه عن أبي هريرة وكعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من الخرافات المرتبطة بتفسير حقائق الكون.

وقد ذكر شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني (المتوفى: 1041هـ) تلك المعاناة التي كان يعانيها من يهتمون بالفلسفة أو العلوم الكونية في الأندلس، فقال: (وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدة، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري)([31])

وقد أشاد الأكاديمي السلفي بهذا التحريض الذي كان يمارسه سلفه على العلماء، معترفا في نفس الوقت بالسلبيات التي انجرت عن ذلك التحريض، فقال: (ولاشك أن اعتماد أهل السنة على الرأي العام في مقاومتهم للفلسفة اليونانية ورجالها، هو وسيلة فعالة مكنتهم من إيجاد رقابة شعبية داخلية، كان العلماء من ورائها. لكن استخدامهم –أي العلماء – للعوام في التصدي للفلاسفة هو أمر محفوف بالمخاطر، سلبياته أكثر من إيجابياته، فما دخل العوام فيما يجري بين أهل العلم؟، وأية معرفة لهم بقضايا العلم ومداخله؟، وأية معرفة لهم بحدود الحق والباطل؟، وهل كل من درس الفلسفة وأظهر بعض أفكارها هو ضال زنديق يجب قتله وإحراقه؟، وهل يستطيع العوام التمييز بين الفيلسوف المسلم الملتزم والفيلسوف الضال؟، لاشك أن العوام ليس في مقدورهم القيام بكل ذلك، لذا كان من الواجب تحجيم دورهم، ووضع حدود لتصرفاتهم، على أن تكون تحت توجيه وإشراف من العلماء والسلاطين إذا ما احتاجوا إليهم، على أن يتولى العلماء مناظرة المتهمين بالانحراف عن الدين، واستتابتهم وإقامة الحجة عليهم، ثم تُنفذ الأحكام الشرعية بعدالة بعد ذلك بيد السلطان لا العوام)([32])

2 ـ موقف المتأخرين من العلوم الكونية:

لا يختلف موقف المتأخرين من السلفية عن موقف المتقدمين، بل ربما يكون زاد عليهم، باعتبار الفتوح العلمية الكثيرة التي حصلت في هذا العصر، والتي جعلتهم يسرعون لإحياء سنة الرد عليها اقتداء بسلفهم الصالح، خاصة وأن هذه العلوم تصيب تصوراتهم عن الكون التي ورثوها عن سلفهم في المقاتل.

بل إنها لا تصيب ما ورثوه عن سلفهم من علوم ومعارف فقط، بل تصيب عقائدهم الكبرى، وخاصة عقيدة الجهة التي يعتبرونها أصل العقائد وأسها، ولا يعطلها إلا جهمي.. وقد صار البشر جميعا الآن جهمية بسبب تعطل هذه الصفة بحسب ما يقتضيه علم الفلك الحديث.

وبناء على هذا كثرت كتبهم في الردود.. وقد أشرنا إلى ذلك في محال مختلفة من هذه السلسلة، وسنحاول هنا أن نذكر نموذجين من المتأخرين، وموقفهما من بعض الحقائق العلمية الحديثة، وهي تشمل مجالات مختلفة، ويمكن لمن شاء المزيد أن يطلع على نفس المواقف من شخصيات أخرى.

النموذج الأول: الوادعي ومدرسته:

يعتبر مقبل بن هادي الوادعي([33])(توفي 1422 هـ) من كبار أعلام السلفية المعاصرين الذين اهتموا بإحياء سنة التجريح والرد على كل جديد سواء ارتبط بالدين أو بالعلم.. وقد كتب في كتبه المختلفة الرد الشديد على المهتمين بالعلوم الكونية، والتي يطلق عليها تسميات مختلفة كعلوم الملاحدة، وغيرها.

وقد أشاد بعض السلفية في تقديمه لكتابه (البركان لنسف جامعة الإيمان) بتلك الآثار التي تركها في هذا المجال اقتداء بسلفه الصالح، فقال: (.. وقد ألِّفَتْ كتبٌ في التصدي لأهل البدع ككتاب (الرد على الجهمية والزنادقة) للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب (الرد على بشر المريسي) للإمام الدارمي، وكتاب (الرد على البكري) لابن تيمية، وكتاب (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) لابن قيم الجوزية، وغيرها كثير وكثير جدّاً. وممن ترسم خطى أولئك الأفذاذ عالم من علماء السنة، ولا أبالغ إن قلت أن اليمن لم تنجب مثله من بعد الإمام الشوكاني، ألا وهو الإمام العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي الذي – بمجيئه إلى اليمن ودعوته فيها – فتح الله به آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا، وكان من جهود الشيخ رعاه الله جهاده الدؤوب لأهل الأهواء والبدع والتصدي لهم والصدع بذلك من غير أن يخاف في الله لومة لائم.. فأخذ يجاهد المبتدعة على اختلاف نحلهم ومذاهبهم، ابتداء بالشيعة الرافضة ثم بالصوفية الخرافية ثم بالحزبيين الملبسيين على عامة الناس، وهكذا غيرهم من الملاحدة الكفرة كالاشتراكيين والبعثيين والناصريين، فانتفع بدعوته القاصي والداني من أهل اليمن وغيرهم من شتى بلدان العالم، فشاع ذكره وانتشرت محاسنه، فتوافد إليه طلبة العلم من هنا وهناك لتلقى ما حباه الله به من علم وهدى وعلى النقيض من ذلك ظهر صنف من أهل البدع قد غرتْهم زخرفة الحياة الدنيا وانقادوا لها دون خوف من الله ولا استحياء من علماء الأمة، ومنهم المدعو عبد المجيد بن عزيز الزنداني، فأخذ يبث ما ألقاه الشيطان عليه في صفوف اليمنيين خاصة، وغيرهم عامة، حتى انطلى البلاء على كثير من شباب الأمة، بل من كبارهم فَعُدَّ عندهم من رواد العلم العاملين به وأن الوقيعة فيه تعد من قبيل السب والغيبة وما شابه ذلك)([34])

وهو يقصد هنا موقفه من العلوم الحديثة، وتدريسه لها في جامعة الإيمان، وذلك ما اعتبره الوادعي انحرافا عن سنة السلف الصالح الذين كانوا يقتصرون على العلوم الشرعية.

ومن كتبه في هذا المجال ما كتبه ردا على التفسيرات العلمية لأسباب الزلازل، حيث ألف رسالة في ذلك بعنوان (إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال)، وقد رد فيها بشدة على ما تقوم به مدارس المسلمين من تعليم تلاميذها علوم الكفار، فقال: (نحن نأسف لبعض الملاحدة المخذولين الذين منّ الله عليهم وجعلهم من ذوي اللسان العربي ثم لا يشكرون الله على هذه النعمة، ويتّبعون أناسًا كالأنعام بل هم أضل، ذاك كوبي، وذاك روسي، أعاجم لا يفهمون الإسلام على حقيقته ولا يفهمون قول الله ولا قول رسول الله k، ولعل بعضهم لم يبلغه الإسلام على حقيقته.. جدير بأبناء اليمن أن لا يودّعوا عقولهم لماركس ولينين ومن جرى مجراهم من أئمة الضلال، فأنتم أيها اليمنيون لكم مواقف طيّبة في الدفاع عن الإسلام في عهد رسول الله k وفي الفتوحات الإسلامية، ثم بعد هذا تلحقون بأنفسكم الخزي وتحرمون نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أي خير تحرمونه أيها الملاحدة؟ وأي خطر تعرّضون له أنفسكم؟ إنّها النار التي وقودها الناس والحجارة، وهناك لا تنفع المكابرة ولا ينفعك ماركس ولينين، بل يكونان أمامك في النار)([35])

ومن تلاميذ مدرسته النجباء، المدعو أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري، والذي ألف كتابا في الرد على الاستدلال بما ورد في العلوم الكونية في القضايا العقدية، سماه (الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق)

والذي قرضه شيخه الوادعي بالإضافة لشيخ سلفي آخر هو أحمد بن يحيى النَّجمي، والذي قال في مقدمته للكتاب مبينا بعض الضلالات الواردة في كتاب [توحيد الخالق]: (.. ومنها استدلاله بأقوال الفلاسفة من اليهود والنصارى من فلكيين وطبائعيين وغيرهم على صدق القرآن وهل القرآن بحاجةٍ إلى شهادة هؤلاء الضلال؟!. ومنها تقريره أنَّ الأرض كوكبٌ من المجموعة الشمسية ثم انفصلت عنها وتبردت كما قرر ذلك سيد قطب في تفسيره، والله تعالى يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] وصدِّق بعد ذلك من شئت.. ومنها زعمه أنَّ السماوات السبع كانت طبقةً واحدة وأنَّها فتقت فيما بعد، يفسر بذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الفاتحة: 30]، وقد ردَّ عليه الشيخ يحيى الحجوري جزاه الله خيرًا في هذه الفقرات، وغيرها ردًا مفحمًا بالأدلة القاطعة الساطعة من الكتاب وصحيح السنة، فجزاه الله خيرًا وبارك فيه وكثَّر الله من أمثاله الذابين عن الحق الناصرين للتوحيد الذائدين عن حياضه)([36])

وقد ذكر الشيخ الحجوري في مقدمة الكتاب بعض الضلالات التي احتواها كتاب توحيد الخالق، فقال: (فهل من توحيد الله عز وجل التشكيك في صدق القرآن الكريم حتى يشهد له المستشرقون أنه الحق؟ وهل من توحيد الله عز وجل تقرير عقيدة الجهمية والمعتزلة في الإيمان؟ وهل من توحيد الله إثبات صفات الله سبحانه بالعقل؟ وهل من توحيد الله عز وجل الدعوة إلى محبة اليهود والنصارى وتنقية الأرواح عليهم؟ وهل من التوحيد اتِّهام الإسلام والمسلمين بعدم الإنصاف لأنَّهم لم يتقاربوا مع أهل الكتاب؟ وهل منه التلاعب بآيات القرآن الكريم وإبعاد شباب المسلمين عن العلم الشرعي إلى الفلسفة والمسائل الكلامية وإقامة العقل مقام نصوص الوحيين، وهضم السلف الصالح وعلومهم، وتعظيم اليهود والنصارى وأفكارهم؟ وكل ما ذكرت لك هنا هو قليل من كثير مما ستراه في هذا الكتاب من الضلالات.. وليعلم أن تقرير هذا الكتاب وأمثاله على أبناء المسلمين في المدارس اليمنية مما لا يجوز شرعًا، لما فيه من البواطل والمنكرات، وكثرة البدع والمخالفات، وأحمد الله ربي أن لازمت في بيان ضلالاته الحق الصريح، واستدللت على منكراته بالنص الصحيح، لذا فأنا أعتقد أن الزنداني لا يقوى على دفع ما أبنته من ضلالاته في كتابيه هذين إلا إذا كان تحت شعار (عنْز ولو طارت) ([37])

ومن النماذج التي يمكن من خلالها التعرف على التراث السلفي، وموقفه من أبسط المعارف العلمية الحديثة ما ذكره الشيخ الحجوري من انتقادات لما ورد في كتاب توحيد الخالق حول سرعة الرياح، وأنها لو بلغت 200 ميل في الساعة لما أبقت شيئًا على وجه الأرض إلا دمرته([38])، فقد قال الشيخ ردا على هذه المعلومة البسيطة: (هذا القول ينطوي على لحن شديد في التوحيد فقوله: عن الريح لما أبقت شيئًا على وجه الأرض إلا دمرته. هذا غير صحيح لأن الريح مأمورة من الله لا يمكن أن تدمر شيئًا إلا بأمر ربِّها سبحانه، وقد وصف الله عز وجل ريح عاد بالعتو والشدة.. وعن ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، أن النبي k قال: (لا يَجِدُ عَبدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَم يَكُن لِيُخطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخطَأَهُ لَم يَكُن لِيُصِيبَه)، فلو أن الله عز وجل أرسل الريح بِهذا القدر الذي ذكر أو أكثر ولم يرد تدمير الأرض ومن فيها لحفظهم منها كما جعل النار على إبراهيم عليه السلام بردًا وسلامًا، وكما نجى نوحًا عليه السلام ومن معه من الغرق وأمر الماء أن يغشى من سواهم على وجه الأرض)([39])

ومنها رده على هذه العبارة التي وردت في كتاب توحيد الخالق: (من الذي قضى بِهذه السنن والقوانين المنظمة الدقيقة)([40]) فمع بساطتها ووضوحها إلا أن الشيخ جعل منها قصة كبيرة، فقال ردا عليها: (قلت: اللفظ المشروع أن يُقال: من الذي قضى بالسنن والأحكام، أما لفظة القانون فليست موجودة في كتاب الله وسنة رسوله k الصحيحة فيما نعلم واستعمالها غير فصيح.. وذكر هذه اللفظة الشيخ بكر أبوزيد في)معجم المناهي اللفظية) فراجعها إن شئت، فعلم أنه لا يجوز أن نسمي أحكام الله عز وجل وأقداره قوانين، ونعرض عن اللفظ الشرعي: قضاء، قدر، حكم، إرادة، مشيئة. فإن تسمية هذه المسميات الشرعية قانونًا يعتبر تحريفًا للكلم عن مواضعه)([41])

وقال منكرا على مؤلف الكتاب إشادته ببعض العلماء في العلوم الحديثة الذين تتلمذ على أيديهم: (هؤلاء أساتذة الزنداني الذين لم يزالوا على نحلِهم بين يهودي ونصراني ونحو ذلك فلم يذكر في ترجمة أساتذته هؤلاء أنَّهم أسلموا. ثم جعل فصلاً لأساتذته الذين يقول عنهم إنَّ عندهم إيمانًا وما زالوا فلاسفة وطبائعيين وهلم جرًا من هذه العلوم البائرة بل هذه السموم القاتلة.. الدكتور علي سليمان بنوا، طبيب فرنسي.. البروفيسور هارون مصطفى ليون، مؤلف وعالم لغوي وجيولوجي حصل على دكتوراه وعلى درجات علمية كبيرة.. الدكتور عمر ولف بارون اهر نظير، أستاذ علم الأجناس البشرية.. ثم قال: في الخلاصة إيمان هؤلاء الرواد قريب جدًا من إيمان المسلم الموحد وبعيد عن إيمان قومهم المشركين ولقد أسلم منهم من وصلته دعوة الإسلام.. قلت: لا أدري كيف هذا الإيمان الذي هو منْزلة بين المنْزلتين فيكون قريبًا من إيمان المسلم الموحد، وبعيدًا عن إيمان المشركين إذا كان هذا وصف مشايخه المؤمنين أنَّهم على هذه الذبذبة فكيف بمشايخه اليهود والنصارى، وبعد هذا فلا غرو ولا دهشة أن يدعو قومه إلى تصفية الأرواح مع مشايخه ومودتِهم.. ثم هل تتوقع أخي المسلم أن الزنداني يصف هؤلاء اليهود والنصارى الكفرة والفلاسفة والطبائعيين الزنادقة الفجرة يصفهم بعلماء الكون، والكون هو جميع المخلوقات المكونة)([42])

ثم يبين أن اعتبار العلماء بالعلوم الحديثة علماء كون نوع من الاحتقار للسلف، فقال: (ألم تر أن هذا إزراء بجانب السلف وعلومهم غاية الإزراء وهو إطراء لليهود والنصارى والزنادقة إيما إطراء، لأنه إذا كان هؤلاء هم علماء الكون فلا حاجة لما عداهم من علماء الشريعة الإسلامية، وأنت لو قرأت تراجم جهابذة علوم الكتاب والسنة كلهم لا تكاد تجد أنه قيل في واحد منهم هو عالم الكون بل لو قرأت في مناقب الأنبياء ودلائل نبواتِهم لا تكاد تجد أن واحدًا منهم وصف بعالم الكون بل إن الملائكة الذين يقول الله عنهم: { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] لا تجد أنَّهم وصفوا بعلماء الكون، لكن الطبائعيين من أساتذة الزنداني يصفهم بذلك ولا يدري الجاهل أنه أشرك الملاحدة في شيء من خصوصيات رب العالمين)([43])

ثم رد اعتبار صاحب الكتاب الإسلام مبنيا على العقل، وأنه لا يطالب معتنقيه أبدًا بتجميد طاقاتِهم الفكرية، فقال: (وقول الزنداني: أن الإسلام مبني على العقل. هذا غير صحيح فالإسلام مبني على الكتاب والسنة لا على العقل.. ووظيفة العقل في هذه الأدلة فهمها وتعقلها، فإذا كان مفقودًا ولم يفهمها ولم يعقلها وصار صاحبه في حيز المجانين فهنا يصير غير مكلف، أما أن يقال إن من مفاخر الإسلام أنه مبني على العقل فباطل لما علمت من الأدلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير فإن العامي يمكنه أن يصير عالمًا ولا يمكن للعاقل أن يصير نبيًا رسولاً)([44])، ومعنى ذلك أن العقل الصحيح يقبل النقل الصريح فهو متبع له يفهمه ويعمل به فعلاً أو تركًا)([45])

هذه نماذج عن مدرسة الوادعي السلفية، وموقفها من العلوم الكونية، ومن شاء المزيد، فيمكنه مطالعة مؤلفاتها الكثيرة، والمنتشرة في المواقع المختلفة، والتي يعتبرها السلفية ممثلا حقيقيا للإسلام نتيجة صراحتها وعدم استعمالها أي تقية أو دبلوماسية.

النموذج الثاني: حمود بن عبد الله التويجري

يعتبر الشيخ حمود بن عبد الله التويجري (1334 – 1413 هـ) من كبار السلفية المتأخرين بسبب إنتاجه الكثير، والذي أشاد به كبار السلفية كابن باز وغيره، وله كسلفه الكثير من كتب الردود على الجهات المختلفة، ومنها ردوده على أصحاب العلوم الكونية الحديثة.

ومن كتبه في هذا المجال كتابه (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة)، والذي استعمل فيه كل السيوف السلفية للإجهاز على العلوم الحديثة.

ومن تلك الأدلة القاطعة التي حاول من خلالها أن يضرب هذه العلوم في مقاتلها نسبتها إلى الكفار والمشركين، يقول في ذلك: (وأول من قال إن الشمس هي المركز الثابت الذي تدور عليه السيارات من الكواكب وإن الأرض من جملة الكواكب السيارة التي تدور على الشمس هو فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وكان زمانه قبل زمان المسيح بنحو من خمسمائة سنة. وقيل ستمائة. وذهب كبير الفلاسفة ومقدمهم بطليموس – وكان زمانه قبل المسيح بنحو مائة وخمسين سنة – إلى أن الأرض هي المركز الثابت وإن الشمس والقمر وسائر الكواكب تدور على الأرض. وأهل الهيئة القديمة يقولون بهذا القول وهو الحق الذي تدل عليه الآيات والأحاديث الصحيحة وأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما قول فيثاغورس فكان مهجوراً نحو من ألف وثمانمائة سنة حتى ظهر الفلكي البولوني (كوبرنيك) في القرن العاشر من الهجرة فقرر رأي فيثاغورس وأيده بالأدلة الرياضية. ولما كان في أثناء القرن الثاني عشر من الهجرة ظهر هرشل الإنكليزي وأتباعه من فلاسفة الإفرنج أصحاب الرصد والزيج الجديد فنصروا قول فيثاغورس وردوا ما خالفه وشاع قولهم منذ زمانهم إلى زماننا هذا وتلقاه كثير من المسلمين بالقبول تقليداً لأعداء الله تعالى. وذلك بسبب سيطرة الإنجليز وبعض الدول الأوربية على كثير من بلاد الإسلام في آخر القرن الثالث عشر من الهجرة وأكثر القرن الرابع عشر. فامتزج أهل تلك البلاد بأعداء الله تعالى امتزاجاً تاماً، وظهر النشء منهم متثقفين بالثقافة الإفرنجية يحذون حذو أعداء الله تعالى في هيئاتهم وأنظمتهم وقوانينهم ويسارعون إلى قبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم. ويتمسكون بها أعظم مما يتمسكون بنصوص الكتاب والسنة. وكثير منهم كانوا يسافرون إلى الجامعات الأوربية ويتروون من تعاليمها الآجنة المسمومة عللاً بعد نهل حتى فشت فيهم الزندقة والإلحاد والاستخفاف بشأن القرآن العظيم فكان كثير منهم يحملونه على ما يوافق آراء الإفرنج وأقوالهم الباطلة كما هو موجود في كثير من مصنفاتهم فأدخلوا بذلك على المسلمين شراً كثيراً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)([46])

وقد أورد للدلالة على بطلان هذه العلوم الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعقبها بفهم السلف الصالح لها، وتفسيرهم العلمي لما ورد فيها، ثم قال: (فهذا ما يسره الله تعالى من الآيات والأحاديث الدالة على أن الشمس تسير وتدور على الأرض وأن الأرض قارة ثابتة بخلاف ما يزعمه أهل الهيئة الجديدة من أن الشمس قارة ثابتة وأن الأرض تدور عليها. وحقيقة قولهم تكذيب الآيات والأحاديث التي ذكرنا واطراحها بالكلية وذلك هو الضلال البعيد. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] وقول أهل الهيئة الجديدة في الشمس والأرض دائر بين افتراء الكذب والتكذيب بالحق)([47])

وهو يعتب بشدة على تدريس هذه العلوم الحديثة، فيقول: (ومن أعجب العجب أنه قد جعل في زماننا من الفنون المهمة التي تدرس في كثير من المدارس ويعتنى بها في كثير من الأقطار الإسلامية أكثر مما يعتنى بالعلوم الشرعية. وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك قال قال رسول الله k: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل).. وقال الشعبي: (لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا والجهل علماً)، رواه ابن أبي شيبة، وله حكم المرفوع لأنه إخبار عن أمر غيبي ومثله لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف، ومن أقبح الجهل وأظلم الظلم تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله k ومعارضة الآيات والأحاديث الصحيحة بأقوال أعداء الله تعالى وتخرصاتهم الكاذبة وآرائهم الفاسدة وتوهماتهم الخاطئة وتعلم ذلك وتعليمه)([48])

ثم ذكر مثالا عن ذلك الشغب الذي يمارسه طلبة السلفية مع أساتذتهم تحت اسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: (وقد أخبرني غير واحد من الطلبة في بعض المعاهد أن بعض معلميهم من ذوي الجهل المركب صرح عنده بما يعتقده من استقرار الشمس ودوران الأرض حولها. فقال له الطلبة: ما تقول في قول الله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].. فقال: القرآن حق. فقالوا له: يلزمك على هذا أن تعتقد جريان الشمس فأبى فطالبوه بالدليل على قوله فقال هكذا تلقينا من علمائنا)([49])

ثم علق على هذا بقوله: (فانظر يا من نور الله قلبه بنور العلم والإيمان إلى جواب هذا المخدوع المغرور بزخارف أعداء الله وشبهاتهم. واحمد الله الذي عافاك مما ابتلى به المنحرفين المكذبين لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة تقليداً منهم لأعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين الذين أسسوا بنيانهم على شفا جرف هارٍ ينهار بمن تمسك به في نار جهنم. وما أشبه هذا الذي ذكرنا جوابه ومن جرى مجراه بالذين قال الله تعالى فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } [النساء: 51].. فاحذروا أيها المسلمون من الإصغاء إلى دسائس أعداء الله تعالى والاغترار بزخارفهم وشبهاتهم فإنهم لا يألونكم خبالا وودوا لو تكفرون بما جاء به نبيكم k من الكتاب والحكمة قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].. ففي هذه الآيات أبلغ تحذير للمسلمين من طاعة الكفار والمنافقين وقبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم فإنهم لا يألون المسلمين خبالا وودوا ما عنتهم وأضلهم عن الصراط السوي والهدي. وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين في كتابه وسنة رسوله k كفاية وغنية عما سواهما من أقوال الناس وآرائهم وتخرصاتهم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].. قال ابن عباس: (من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه يوم القيامة سوء الحساب)([50])

وقد لاحظ التويجري أنه مع الهجمة الشرسة التي شنتها صواعقه الشديدة على علم الهيئة الجديدة إلا أنها مع ذلك لم تؤثر تأثيرها المطلوب، فأعقبها بكتاب آخر سماه: (ذيـل الصواعق لمحـو الأباطيل والمخارق)، والذي رد به على الأستاذ محمد محمود الصواف في كتابه (المسلمون وعلم الفلك)

وقد بدأ رده عليه من العنوان نفسه، فقال: (قال الصواف: (المسلمون وعلم الفلك)، والجواب أن يقال إن هذا العنوان خطأ ظاهر لأن غالب ما في الرسالة من الكلام في الأرض والسموات والشمس والقمر والكواكب ليس من أقوال المسلمين وعلومهم، وإنما هو من تخرصات أهل الهيئة الجديدة وتوهماتهم، وأهل الهيئة الجديدة ليسوا من المسلمين، وإنما هم من فلاسفة الإفرنج، وهم كوبرنيك البولوني وأتباعه في القرن العاشر والقرن الحادي عشر من الهجرة، وهرشل الإنجليزي وأتباعه في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الهجرة، وغالب ما نقله الصواف عن الألوسي، فهو مما نقله الألوسي عن أهل الهيئة الجديدة كما صرح بذلك في مواضع كثيرة من كتابه الذي سماه (ما دل عليه أهل الهيئة الجديدة) وتخرصات أتباعهم فنسبة ذلك إلى المسلمين فرية عليهم، وتسمية الرسالة بهذا العنوان لا تطابق المسمى، وإنما المطابق له أن يقال (الإفرنج والتخرص في علم الفلك)([51])

ثم ذكر قول الصواف في مقدمة رسالته: (وحرصا مني على نشر العلم وبيان فضل علماء المسلمين الذين كان لهم الفضل الأكبر في تشجيع علم الفلك وبناء المراصد في مختلف البلدان رأيت أن أطبع هذا الرد في كتيب؛ ليطلع شبابنا على مفاخر أجدادهم وسبقهم للعالم في مختلف الميادين العلمية)([52])

ورد عليه بقوله على طريقة سلفه، فقال: (والجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: ليس ما نشره الصواف في رسالته بعلم، وإنما هي تخرصات وظنون كاذبة أوحاها الشيطان إلى أوليائه من فلاسفة اليونان وأتباعهم من فلاسفة الإفرنج المتأخرين، فاغتر بها أتباعهم ومقلدوهم من جهلة المسلمين، وظنوها علما صحيحا، وهي في الحقيقة جهل صرف لا يروج إلا على جاهل لا يميز بين العلم والجهل.. الوجه الثاني: أن علماء المسلمين منـزهون عن تشجيع علم الفلك وبناء المراصد كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الذي بعد هذا الفصل، وما زعمه الصواف ههنا فهو من الافتراء على علماء المسلمين.. الوجه الثالث: أن الذي نشره الصواف في رسالته كله من تخرصات فيثاغورس اليوناني وأتباعه من فلاسفة الإفرنج المتأخرين.. وهؤلاء كلهم من أعداء المسلمين، وليسوا من المسلمين فضلا عن أن يكونوا من أجداد المسلمين، كما توهمه الصواف، ومن زعم أن هؤلاء الفلاسفة من أجداد المسلمين فهو من أكذب الكاذبين.. الوجه الرابع: أن المفاخر كل المفاخر للذين حملوا علم الكتاب والسنة ونشروه في هذه الأمة وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فأما تخرصات أعداء الله وظنونهم الكاذبة فليست بمفاخر كما قد توهمه الصواف، وإنما هي معائب وجهالات وضلالات تزري بمن تعلق بها غاية الأزراء.. الوجه الخامس: أن بناء المراصد من أفعال المنجمين من اليونان والصائبين، ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من المنحرفين عن الدين من هذه الأمة، وما كان هكذا فليس فيه فضل البتة، وليس هو من المفاخر كما قد توهمه الصواف، وإنما هو من المثالب والمعائب واتباع غير سبيل المؤمنين) ([53])

ثم ذكر قول الصواف: (إن ما جمعه في رسالته فهو مما تركه العلماء الأعلام والخلفاء العظام)([54])

وأجاب على ذلك بقوله: (ليس هذا بصحيح، فإن الخلفاء العظام على الحقيقة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه تكلم في علم الفلك بشيء فضلا عن القول بسكون الشمس ودوران الأرض عليها، وكذلك ما ذكره الصواف من الهذيان الكثير في الأرض والشمس والقمر والكواكب فإن هذا مما ينـزه عنه أحاد العقلاء فضلا عن الخلفاء الراشدين.. ولا عبرة بمن حاد عن منهاج هؤلاء الخلفاء الراشدين من الملوك كالمأمون، فإنه قد اعتنى بتعريب كتب الأوائل وعمل الأرصاد، ففتح بذلك على الأمة باب شر عريض، وقد ذكر السفاريني عن الصلاح الصفدي أنه قال: (حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال العلوم الفلسفية بين أهلها)([55])

ثم أخذ يذكر بهستيرية ما فعله المأمون، وينقل لذلك ما ذكره سلفه من فتح أبواب الضلال، بسبب ترجمة العلوم اليونانية، فقال ـ ناقلا عن الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ـ مؤيدا له: (إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول اتباع الرسل ويماري في القرآن ويتبرم بالسنن والآثار وتقع في الحيرة. فالفرار قبل حلول الدمار وإياك ومضلات الأهواء ومحارات العقول، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)([56])

ونقل عن المقريزي قوله في كتاب الخطط: (وقد كان المأمون لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عَرَّبَ له كتب الفلاسفة، وأتاه بها في أعوام بضع عشرة ومائتين من الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجرَّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة مالا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلاسفة ضلال أهل البدع، وزادتهم كفرا إلى كفرهم)([57])

وعلق على ذلك بقوله: (وقد سار على منهاج المأمون في عمل الأرصاد كثير من الملوك المنحرفين مثل الحاكم العبيدي، وبعض بني بويه والسلاجقة، وهولاكو وتيمورلنك وأولغ بك. فهؤلاء خلفاء الصواف الذين تركوا له ولأشباهه من علم الفلك وعمل الأرصاد ما تركوا، ومع ما كانوا عليه من الاعتناء بالأرصاد وعلم الفلك فقد كانوا على مذهب أهل الهيئة القديمة في القول بسكون الأرض وجريان الشمس، ولم يذكر عن أحد منهم أنه قال بتعدد الشموس والأقمار، ولا بغير ذلك مما يهذو به أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم في أبعاد الكواكب ومقاديرها، وغير ذلك مما أودعه الصواف في رسالته، وزعم أنه مما تركه الخلفاء العظام، وهو بذلك قد افترى عليهم ونسب إليهم ما لم يؤثر عنهم، وإنما هو مأثور عن أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم)([58])

ثم رد على اعتبار الصواف أن ما جمعه في رسالته (مما تركه العلماء الأعلام)، فقد أجابة على ذلك بقوله: (فجوابه: أن يقال إن أعلم هذه الأمة على الإطلاق علماء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يتكلم أحد منهم في علم الفلك بشيء فضلا عن القول بحركة الأرض وثبات الشمس، والرجم بالغيب عن أبعاد الكواكب ومقادير أجرامها وغير ذلك مما أودعه الصواف في رسالته. ثم التابعون وتابعوهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم، ولاسيما الأئمة الأربعة وأقرانهم من أكابر العلماء، فهؤلاء هم العلماء الأعلام على الحقيقة، ولم يقل أحد منهم بحركة الأرض وثبات الشمس، ولم يرجموا بالغيب عن أبعاد الكواكب ومقادير أجرامها، وغير ذلك مما أودعه الصواف في رسالته ونسبه إلى العلماء الأعلام، وهو بذلك قد افترى عليهم، ونسب إليهم ما لم يؤثر عن أحد منهم، وإنما هو مأثور عن أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم، فهم في الحقيقة خلفاء الصواف الذين زعم أنهم عظام، وعلماؤه الذين زعم أنهم العلماء الأعلام)([59])

هذه ردوده على مواقف الصواف العامة، أما التفاصيل المرتبطة بالحقائق الكونية البديهية، فهي كثيرة جدا، ومنها رده على ما يورده علماء الفلك الحديث من ضخامة الكون، وأن الأرض لا تشكل إلا حيزا بسيطا فيه، أو كما عبر الصواف بقوله: (ولعل أدق وصف للأرض بالنسبة للكون هو أنها هباءة دقيقة لا ترى إلا بالمجهر في هذا الفضاء الفلكي الواسع بالنسبة إلى الأجرام السماوية المتناثرة في أنحاء الكون) ([60])

واستشهد لهذا ببيت لجميل صدقي الزهاوي يقول فيه:

وما الأرض بين الكائنات التي ترى

 
  بعينيك إلا ذرة صغرت حجما

وقد رد التويجري على هذا بقوله ـ على الطريقة السلفية ـ: (والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: ما يدري جميلا الزهاوي أن الأرض كالذرة بين الكائنات التي يراها الإنسان بعينيه { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35]، وما يُدري الصواف أن الأرض ما هي إلا فقاعة في محيط وأنها هباءة دقيقة لا ترى إلا بالمجهر في هذا الفضاء الفلكي الواسع، هل وجد ذلك في كتاب الله تعالى أو فيما صح عن رسول الله k، أو أنزل عليه الوحي بذلك، وإذا كان كل هذا معدوما، فلا شك أنه وصاحبه قد قفوا ما ليس لهما به علم، وليس لهما مستند فيما زعماه سوى التخرص واتباع الكذب.. الوجه الثاني: أن الله تعالى عظَّم شأن الأرض في كتابه، ونوه بذكرها أكثر مما عظم من شأن الشمس والقمر والكواكب، وقرن خلقها مع خلق السموات في عدة آيات من القرآن، وأخبر أنه خلقها وما فيها في أربعة أيام وأنه خلق السموات وما فيهن في يومين وذلك يدل على عظم الأرض.. وقد جاء في تعظيم خلق الأرض أحاديث كثيرة عن النبي k منها ما رواه الإمام أحمد والشيخان.. عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله k فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي k حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله k {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67])([61])

ثم راح يسرد أمثال هذه الأحاديث التجسيمية التي يعشقها السلفية، ويفسرون الكون كله على أساسها، ثم علق عليها بقوله: (والأحاديث الدالة على عظم الأرض كثيرة جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية إن شاء الله تعالى. وفيما ذكرته من الآيات والأحاديث أوضح دليل على عظم الأرض، وفيها أبلغ رد على من صغَّر الأرض وحقرها، وزعم أنها كالذرة أو كالفقاعة في المحيط أو كالهباءة التي لا ترى إلا بالمجهر بالنسبة إلى أجرام الكواكب) ([62])

ثم أخذ يذكر بعض الأحاديث يقوي ما ضعف منها على طريقة المحدثين، ويلفق بينها جميعا، ليستخرج منها حجم الأرض مقارنة بالكون، ثم يعلق عليها جميعا بقوله: (وفيما ذكرنا دليل على عظم الأرض لأن الشمس والقمر والنجوم تنتثر يوم القيامة في البحر فيسعها كلها. ولو كانت الأرض كالذرة أو كالفقاعة في المحيط أو كالهباءة التي لا ترى إلا بالمجهر بالنسبة إلى أجرام الكواكب لما وسعت الأرض كوكبا واحدا ولا بعض كوكب، وهذا ظاهر البطلان لمخالفته لما دلت عليه الآيات والأحاديث التي ذكرنا)([63])

ثم بين سر ضلالة الصواف وغيره من المتعلقين بالعلوم الحديثة، فقال: (ومن أعرض عن أدلة الكتاب والسنة وتمسك بما سواهما من أقوال الناس وآرائهم فقد ابتغى حكما غير الله ورسوله ولم يؤمن بأن كلمة الله تعالى قد تمت صدقا وعدلا) ([64])

ثم ذكر أمثلة على ذلك، منها: (الإعراض عما أخبر الله به من جريان الشمس وسبحها في الفلك ودؤبها في الجريان وأنه يأتي بها من المشرق. وما أخبر به من طلوعها ودلوكها وغروبها. وما أخبر به رسول الله k من جريانها وطلوعها وزوالها وغروبها وغير ذلك مما جاء في الأحاديث الصحيحة. والعدول عن ذلك إلى ما تخرصه فلاسفة الإفرنج من ثبات الشمس وما تخيله الصواف بعقله من كونها تدور على نفسها كما تدور المروحة السقفية الكهربائية على محورها. فهذا التخرص والتخيل ناشئ عن ابتغاء حكم غير الله تعالى وعن عدم الإيمان بأن كلمة الله قد تمت صدقا وعدلا. ولو كان يرى وجوب التحاكم إلى الله تعالى ويؤمن بأن كلمة الله تعالى قد تمت صدقا وعدلا لما زعم أن أقل ما يقال في النصوص الدالة على جريان الشمس وسبحها في الفلك أنها ظنية وليست قطعية الدلالة وأن التوقف فيها أو تفويض الأمر فيها أسلم وأحكم وأن في تأوليها عن ظاهرها مندوحة. وما علم المسكين ما يلزم على هذا القول الباطل من تكذيب الله تعالى وتكذيب كتابه ورسوله k) ([65])

وبناء على هذا رد على اعتبار الصواف علم الفلك (من أول العلوم التي لفتت أنظار العلماء المسلمين وجلبت اهتمامهم وعنايتهم بها)([66])

وقد أجاب التويجري على هذا بقوله: (والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال لم يكن علم الفلك من أول العلوم التي لفتت أنظار علماء المسلمين وجلبت اهتمامهم وعنايتهم كما زعمه الصواف. بل ولم يكن من آخرها. وإنما العلوم التي لفتت أنظار علماء المسلمين وجلبت اهتمامهم وعنايتهم هي العلوم الشرعية التي قد اشتمل عليها الكتاب والسنة. وأعظمها وأهمها علم التوحيد فهو الذي كان المسلمون يهتمون به ويعتنون بتعلمه وتعليمه قبل العلوم كلها، وقد مكث النبي k في أول البعثة عشر سنين يدعو إلى التوحيد ويعتني بتعليمه وتبليغه. ثم بعد ذلك كان يعلم أمته أنواع العلوم الشرعية شيئا فشيئا حتى أكمل الله له الدين. وبلغ البلاغ المبين. وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ومع شدة حرصه k على تعليم أمته كل شيء فلم يُذكر عنه أنه كان يعلمهم البروج الإثني عشر ومنازل الشمس والقمر ودرجات الفلك وعرض البلدان وطولها والسمت والنظير وفصول السنة وأوقات الكسوف والخسوف وغير ذلك مما يعتني به الفلكيون فضلا عما يهذو به فلاسفة الإفرنج ومقلدوهم من ضعفاء البصيرة من المسلمين فيما يتعلق بالأرض والشمس والقمر والنجوم، بل قد ثبت عنه k أنه ذم الكلام في النجوم. فروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة بأسانيد صحيحة عن ابن عباس قال: قال رسول الله k: (من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: (فقد صرح رسول الله k بأن علم النجوم من السحر وقال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]) ([67])

هذه مجرد أمثلة عن موقف التويجري من علم الفلك وغيره من العلوم الحديثة، ومن خلالها نلاحظ الطريقة التي يفكر بها العقل السلفي وكيف يتعامل مع النصوص المقدسة، وهي نفسها الطريقة التي يستعملها ليثبت التجسيم أو ليفرق صف الأمة أو ليملأ حياة المسلمين بالخرافة والشعوذة.

ثانيا ـ المعارف السلفية في العلوم الكونية:

بما أنه سبق لنا في الكتب السابقة الحديثة عن الكثير من المعارف السلفية المرتبطة بالفلك والجغرافيا وغيرها من العلوم عند حديثنا عن الخرافة وتسربها للتراث العقدي والتفسيري وغيرهما، وذكرنا تأييد ابن تيمية وغيره من السلف للكثير من تلك الأساطير والخرافات..

بناء على هذا، فإننا سنقتصر هنا على علم خطير برع فيه السلفية المحدثون، ولقوا بسببه الكثير من الرعاية والاهتمام من لدن عوام الناس وخواصهم، وهو علم الطب بجميع فروعه النفسية والجسدية والعصبية.. وكل ما خطر على بال، وما لم يخطر.

فالسلفي الملتزم بسنة السلف الصالح يمكنه عبر دورة قصيرة، أن يتعلم كيف يعالج جميع الأمراض، مهما اشتدت على الأطباء، وصعب عليهم علاجها بسبب عدم انتهاجهم منهج السلف الصالح الذين لم يذكروا شيئا إلا وورثوا فيه علما.

وقد كتبوا في هذا المجال ثروة عظيمة جدا من الكتب تسمى جميعا باسم [الرقية الشرعية]، وهي أكثر الكتب مبيعا في المكتبات، ويتميز كل واحد منها بتجارب الراقي الشخصية، والتي استطاع من خلالها أن يتفوق على كل الأطباء، فيعالج الأمراض المستعصية بطريقة سهلة بسيطة لا تكلف فيها ولا كلفة.. اللهم إلا ذلك المبلغ الذي يقدمه المريض للراقي نتيجة تعبه في قراءة القرآن والمعوذات.

وهذه الكتب مملوءة بذكر التجارب الناجحة للشفاء.. ومن كل الأمراض.. ما يخطر منها على البال، وما لا يخطر.. وفيها فوق ذلك الكثير من أوصاف الأعراض، وما يدل عليه كل عرض من أمراض، وكيف تعالج.. وفيها شروط المعالج، وخطوات العلاج ونحو ذلك.

وحتى لا يشوش القارئ الكريم بالتناقضات الكثيرة التي تمتلئ بها هذه الكتب في حال عرضها جميعا، لأن كل واحد منها يشكل مدرسة طبية قائمة بذاتها، فإنا سنكتفي هنا بذكر نموذج واحد منها، وهو لكتاب معتمد لدى السلفية بعنوان [مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول] الذي ألفه أبو القاسم بن عمر، ونشرته شبكة الألوكة السلفية، واخترناه لكونه من أكثرها اعتدالا.. ولو شاء القارئ أن يطلع على المتطرفة منها، فسيرى العجب العجاب.

وقد ذكر الكاتب في مقدمة كتابه دوافعه من تأليفه، فقال: (إنّ ما يشهده العالم من تطور في ميدان الطبّ جعل الكثير من النّاس يظنّون أنّهم يمكنهم الاستغناء عن المعالج بالرقية الشرعية وأنّ دوره أصبح غير ضروري، وهذا خلط منهم بين وظيفة الطبيب ووظيفة المعالج، والواقع أن لكل واحد منهم اختصاصه. وتبرز أهميّة دور المعالج بالرقية الشرعية في التخفيف على المصابين بالأمراض الشّيطانيّة التي ليس لها في الطبّ الحديث دواء، فكم من أرحام قطعت وكم من أسر فرقت وبعثرت، فهذه الأمراض لا يعلم كربها وضنكها على المريض وأهله إلا الله سبحانه، ومع كثرة أصحاب النّفوس المعرضة عن ذكر الله وانتشار المنكر وقلة الأمر بالمعروف أصبحت النّاس في أشدّ الحاجة إلى المعالجين بالرقية الشرعية)([68])

وهذا الكلام وحده كاف للدلالة على أن للسلفية منظومة طبية كاملة مثل منظوماتها في الفلك وغيره تنافس بها سائر المنظومات العلمية إن لم تكن في تصور السلفية تتفوق عليها.

ذلك أن مجال الرقية ـ حسبما يذكرون في الأعراض المرتبطة بكل مرض ـ تشمل جميع أنواع الأمراض ما دق منها وما جل، وما يسر علاجه وما صعب، وسنرى الأمثلة الدالة على ذلك.

ويذكر السلفية فرقا مهما بين طبهم وطب سائر الأطباء، وهو أنهم لا ينالون فقط تلك الأموال السخية من المرضى الذين يزرونهم، وإنما ينالون بالإضافة إلى ذلك حسنات كثيرة تمكنهم من نيل الكثير من قصور في الجنة، وفي كل قصر ما لا يعلمه إلا الله من الحور العين..

يقول الكاتب مشجعا إخوانه من السلفية على العمل في هذا المجال الطبي الخطير: (إنّ عمل المعالج بالرقية الشرعية هو سبيل لكسب الحسنات وفعل الخيرات والاستكثار من الأعمال الصالحات، وذلك بدفع الضرّ عن المضرورين ونصرة المظلومين وتفريج كرب المكروبين وإدخال البهجة والفرحة لعائلات المبتلين بالأمراض الروحية، وإن المعالج بعمله هذا مجاهد في سبيل الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين، فإنّه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشّياطين عن بني آدم بما أمر الله به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا يفعل ذلك)([69])([70])

وهكذا أصبح السلفية ـ كما ينص ابن تيمية ـ مثل الرسل والأنبياء، ومثل تلاميذ المسيح عليه السلام الذين أرسلهم لإخراج الشياطين.

وبناء على هذا، فإن الرقية حق لكل سلفي حتى لو كان عاميا بسيطا لا حفظ له من العلم والثقافة ما دام صحيح الاعتقاد، ومتمسكا بحبل السلف الصالح المتين، يقول الكاتب: (إنّ تعلم الرقية الشرعية من الأمور التي على كل عبد متوكل على الله أن يتعلمها وأن يعمل بها وينفع بها نفسه وأهله، فهي غير مقتصرة على أناس دون غيرهم ولكنه علم يكتسب، يقول الشيخ عبد الله بن جبرين: (الصواب أنه يجوز استعمال الرقية من كل قارئ يحسن القرآن ويفهم معناه ويكون حسن المعتقد صحيح العمل مستقيما في سلوكه، ولا يشترط إحاطته بالفروع ولا دراسته للفنون العلمية)([71])

وهو يوضح غرضه من الكتاب، فيقول: (وإنّي في هذا الكتاب أمهد الطريق للّذين سيختصون في العلاج بالرقية الشرعية ويفتحون أبوابهم للنّاس لمدّ المساعدة لهم، حتّى يكون صاحب هذا العمل آمنا من الفتن والمحظورات التي يمكن أن يتفاداها لو أحاط بها علما مسبقا وأن يتدارك النقائص بحسن الاستعداد والتدبير، فيقبل على عمله على بصيرة ويتجنب الاندفاع في عمل دون أن يدرس مخاطره، كالذي يقذف نفسه في البحر لينقذ غيره وهو لم يقف على حقيقة إمكانياته في السباحة، أو لم يخطر بباله سبل النجاة بنفسه إن لم يستطع إنقاذ غيره، والمقبل على عمل المعالج يجب أن يعلم أنه مقبل على وظيفة لابد أن تتوفر فيه أغلب شروط المترشح المناسب لهذه المهمّة من كفاءة علمية وعملية وأخلاقية لتكون أمامه أوفر الفرص للنجاح في هذه الوظيفة)([72])

وهكذا أصبحت الرقية عند السلفية وظيفة لا تختلف عن سائر الوظائف، لأن الذي يعمل فيها سيتفرغ لها، وسيفتح بابه ليزوره المرضى، وسيجعل محلا خاصا بذلك، ويوفر كل الإمكانيات التي تتطلب ذلك..

ومثلما يحتاج الأطباء إلى مؤتمرات توضح لهم كل جديد في عالم الطب، حتى يستفيدوا من كل جديد، ويصححوا كل خطأ، فكذلك للرقاة مؤتمراتهم الخاصة بهم، كما عبر الكاتب عنها بقوله: (إن الدورات العلمية في مجال الرقية الشرعية ذات نفع جليل في تنوير الأذهان وتبديد الجهل الواقع بين الناس في هذا المجال، إذا كانت من أهل الاختصاص الثّقات، ممّا يساعد المرضى على فهم حالاتهم وكيفية العلاج الشرعي الذي يحبه الله ويرضاه لعباده والطريقة الأمثل للوقاية من هذه الأمراض الشّيطانيّة وللتغلب عليها، كما أنها تساعد أهل المريض على مدّ المساعد لذويهم، وهي أيضا تمهيدا للمقبلين على عمل المعالج وإثراء علميا للمعالجين، تزيد الذين أوتوا العلم من أهل الخبرة علما)([73])

بعد تلك المقدمة التي وضح فيها الكاتب دوافعه وأغراضه وبين أهمية العمل في هذا المجال، افتتح أول عنوان في كتابه وهو [لماذا تريد أن تكون معالجا؟]، وقد دعا فيه إلى النية الطيبة والإخلاص، والعمل لوجه الله.. ولا بأس أن يكون مع ذلك الإخلاص والنية الطيبة بعض المال الذي هو حظ عاجل، لا ينقص أبدا من حظ الراقي الآجل..

يقول الكاتب: (وحظه من عمله بحسب نيته، فإن كان ينوي بعمله السمعة وحب الظهور والشهرة كان له ذلك فحسب، وإن كان يريد كسب المال والتآكل على جيوب المرضى كان له ذلك فحسب، ولكن هل هذه المكاسب تعادل ما يقدمه المعالج للمرضى وما سيلقاه من مشقة من هذا العمل، وإن أجاز العلماء أخذ الأجرة على الرقية، فلا ينبغي للمعالج أن يتخذه موردا للرزق والتكسب، ولو أن المعالج أخذ ما يقدمه إليه المريض عن طيب خاطر فلا بأس بذلك أو يكتفي بأخذ ما يغطي المصاريف اللازمة، كثمن الماء أو الزيت أو اقتناء معدات الحجامة.. ويكون محتسبا أجر جهده على الله)([74])

وما ذكره الكاتب هنا عن قلة المال في هذه الصناعة هو نوع من التواضع، وإلا فإن للرقاة ـ خاصة في سوق الخرافة والدجل الذي بناه السلفية بعقائدهم ـ من المكاسب ما يربوا على ما يكسبه الأطباء المتخصصون الذي أفنوا أعمارهم في البحث والدراسة.

لكن بما أنهم سلفية، فإن المال ـ كما ينص مشايخهم ـ حلال عليهم حتى لو كان كثيرا، بشرط أن لا يكون فيه استغلال للضعفاء والفقراء..

ولكن مع ذلك أيضا، والحق يقال، فإن مشايخ السلفية وإدراكا منهم لما يجري في الواقع من استغلال لهذه الوظيفة الخطيرة، فقد نصحوا أتباعهم بأن يقنعوا بالقليل، خاصة إن كان صاحب القليل فقيرا.. ولهذا فإن الشيخ السلفي الكبير عبدالكريم بن صالح الحميد عاتب واحدا من هؤلاء بشدة، فقال: (بلغني أن بعضهم يأخـذ (خمسمائـة) ريال مقابل ورقة يكتبهـا لا تساوي ربع ريال!.. وبعضهم قد جعل لمحله بوابا أجنبيا يأخذ ممن يريد الدخول على هذا الراقي خمسة ريالات (رسم الدخول!)، وهذا ليس أجرة الرقية، فتلك شيء آخر. وبعضهم ينفث في ماء مخلوط بزعفران، ثم يأتي برزمة أوراق فـيدخل عودا في الزعفران، فيخط في كل ورقة خطوطا ليس فيها حرفا واحدا ويضع الورقة في الظرف ويبيعها وتباع لـه!، بل وبعضهم يأتي بورقة طويلة بطول القامة، ثم يكتب فيها بعض الآيات ويسميها [البـدن]، ثم يجعل قيمتها ثمانمائة وخمسين ريالا!؛ وهذا كله من أكل أموال الناس بالباطل تحيـلا بالدين بلا شرط على الشفـاء)([75])

وهكذا قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ: (فلا مانع أن يأخذ الراقي أجرا على رقيته هذه، لا مانع منه، لكنني أنصح أولئك الذين امتهنوا الرقية أن يتقوا الله في أنفسهم، وألا يستغلوا ضعف المريض وعجزه؛ فإن المريض يتطلع إلى العلاج بكل وسيلة، وربما استعملوا أكاذيب وأشياء لا حقائق لها ليظهروا أنهم مهرة في رقيتهم، وأنهم حذاق في هذا الأمر، فليتق الله أولئك الراقون، وليراقبوا الله، وليبتعدوا عن الكذب والدجل، وليكن همهم منفعة المريض، ولا شك أن الأخذ (أخذ الأجرة) جائز لهم، ولكن لتكن هذه الأجرة بالمعقول، ولا تكن استغلالية ولا انتهازية، فليتقوا الله في أمورهم)([76])

 وقال ابن جبرين: (والأولى بالقراء عدم الاشتراط، وأن تكون الرقية لنفع المسلمين وإزالة الضرر والمرض؛ فإن دفعوا له شيئا بدون اشتراط، أخذه دون أن يكون هو قصده، وإن دفعوا له شيئا أكثر مما يستحق، رد الزائد إليهم، وإن اشترط فلا يشدد في الاشتراط، بل بقدر الحاجة الضرورية)([77])

ولكن مع ذلك فإن هذه مجرد نصائح، ولا تحمل أي حكم شرعي، ويمكن للسلفي الراقي أن يتجاوزها خاصة إن جاءته الأموال والهدايا عن طيب خاطر.. وله في مشايخه السلفية الكبار أصحاب القصور الكثيرة قدوة وأسوة، فهم قد نالوا هداياهم من الأمراء.. وهو قد نالها من عامة الناس البسطاء.. فلا فرق بينهما إلا في ذلك.

بعد أن ملأ الكاتب قارئ كتابه بتلك النية الطيبة والإخلاص العظيم الذي يجمع فيه الراقي بين حظوظ الدنيا والآخرة، راح يصف له التكوين الخاص به.. وهو إن كان أقل بكثير من التكوين الذي يحتاجه الطبيب العادي، إلا أن فيه بلسما مهما هو بلسم السلف الصالح، ولذلك لن يصيب المتكون في هذا المجال أي عنت أو عياء أو جهد..

فهو تماما مثل علماء الفلك السلفيين الذين استطاعوا أن يكتشفوا جميع الكون من عرشه إلى فرشه من غير استعمال تلسكوبات ولا دراسة رياضيات ولا فيزياء ولا أي علم من العلوم التي ينقضي العمر دون آحادها.

يقول الكاتب في فصل عنونه بـ [الصفات الأنسب لشخصيّة المعالج]: (إن عمل المعالج بالرقية الشرعية يستلزم منه أن يكون سليما من أي مرض قد يعيق عمله، عضويا كان أو والروحيا أو نفسيا، إلى جانب ذلك فإنّه من الأنسب أن تتوفر فيه عدة صفات حسب الأدوار التي تقع على عاتقه، فهو أولا الداعيّة إلى الله الذي يقرب المريض من ربه ويثبت عزيمته ليواصل العلاج في طاعة الله، هو الطبيب المشفق على المرضى تارة، وتارة أخرى هو المقاتل العنيد الذي لا يستسلم لأعدائه) ([78])

فهذه هي الصفات الأساسية التي يحتاجها الراقي السلفي، وأهمها أن يمارس الدعوة إلى سبيل السلف، لأن الشياطين ستعود من جديد لتتلبس بمن لم يصدق في سلفيته.. وهو يحتاج كذلك لأن يكون شجاعا، لأنه لن يحارب فيروسات ولا ميكروبات دقيقة، بل سيحارب جنا وشياطين.. ولذلك يحتاج إلى قوة نفسية عظيمة.

أما الشروط العلمية كدراسة بعض الطب، أو التعرف على وظائف الأعضاء، فكل ذلك لا حاجة له.. يقول الكاتب: (وليس من شروط الدعوة أن يكون المعالج من العلماء أو من طلبة العلم ولكنّه يكفيه أن يعلق المريض بربه، فيدعه إلى التقرب إلى الله بتقواه والاستقامة والمحافظة على الصلوات والعبادات وتلاوة القرآن وفعل الخيرات وترك المنكرات، ويدعوه إلى المواظبة على علاجه تعبدا لله، بإتباع ما أحله الله من الأمور المشروعة لرفع الداء واجتناب ما نهاه عنه من العلاجات المحرمة، وموالاة لأولياء الله من المعالجين واجتناب لأعداء الله من السحرة والمشعوذين ومعصيته لشيطانه فيما يدفعه إليه، وبمجاهدته والصبر على الأذى والرضا بالقضاء حتى يأذن الله بالنّصر والشفاء. وهذا الدور يجيده من امتلأ قلبه بحبّ الخيّر للنّاس وبتوحيد ربّ النّاس، مستعين في ذلك بحسن الخلق والتودد إلى المرضى والتلطف معهم والسؤال عن أحوالهم وإظهار الاهتمام بأمرهم وواختيار الأسلوب الصحيح للنّصح لهم والصبر على أخطائهم حتى يرتاح المريض إلى المعالج فيتقبلون منه النّصح والإرشاد) ([79])

بعد هذه الأوصاف السهلة التي يمكن للراقي أن يحصل عليها بسهولة، والتي لا يحتاج فيها لأي شهادة، ولا لأي امتحانات أو تزكية، فيكفي فقط أن يوصي بعض أقاربه وأصدقائه لينشروا عنه أخبار ما حصل له من معجزات الشفاء ليبز كل أقرانه، ويستولي وحده على هذا السوق.

بعد هذا نبه الكاتب إلى بعض المحاذير الخطيرة عند التعامل مع المرضى.. فأكثر المرضى من النساء، وفيهن شابات صغيرات.. والراقي يضطر إلى أن يبقى معهن وقتا طويلا، ويتردد على زيارتهن كل حين.. وفي ذلك كله فتنة..

لذلك ينصح الكاتب الراقي أو الطبيب السلفي بقوله: (لما كان نجاح المعالج في عمله مشروط بسلامته وسلامة المرضى من مخاطر الوقوع في الفتن والمشاكل كان لا بد من تحذيره عند التعامل معهم من بعض المسائل لعل أبرزها وأدقها تعامل المعالج مع النّساء ومع من يشكون من مشاكل صحية وأمراض مزمنة أو خطيرة)([80])

ولهذا فإن (من أهمّ التحصينات للمعالج في هذا الجانب أن يكون متزوجا.. فالزواج من أهمّ التحصينات للمعالج الذي يتعامل مع النّساء وبدونه سيكون في مرمى عدوه، فلا يدري لعله يصيب منه مقتلا فتزل قدم بعد ثبوتها، والزواج أحفظ للعبد من الصوم، ولمّا كان من طبيعة عمل المعالج أن يتعرض للفتن كان عليه أن يتحصّن بأشدّ الحصون، ويكون الصوم كافيا بإذن الله إذا تجنب المعالج التعامل مع النّساء واقتصر عمله على معالجة الرّجال فحسب)([81])

 وعلى الطبيب السلفي أيضا أن يجتنب (لمس النّساء أثناء الرقية وذلك بأي حجة كانت.. كما عليه أن يحفظ بصره وسمعه عنهنّ.. فيغص المعالج بصره عنهنّ ما استطاع ذلك ويلزمهنّ بما يساعده على ذلك، وينبغي على المرأة أن تلبس السروال تحت جلبابها حتى لا تتكشف إذا صرعت وأن تغطي وجهها وأن تأتي للعلاج تافلة غير متبرجة بزينة ولا متعطرة بعطر تجنبا لأي زيغ للقلوب، وليحذر المعالج من اللواتي يخضعنّ بالقول فيأمرهنّ بالاعتدال في القول والاقتصاد فيه على ما فيه الحاجة والكفاية، ولا يدخل معهنّ في مواضيع جانبية حتى لا يفتح الباب للكلام، ولا يلين لبعضهنّ في القول حتى لا يفهم من كلامه أنّه يميّزها عن غيرها بأيّ معاملة يستغلها الشيطان لإثارة الفتنة، ولا يتفاعل مع حالات النّساء أكثر من تفاعله مع الرّجال فإنّما عمل المعالج إلا سببا في الشفاء ولكن الأمر كله لله وحده)([82])

بالإضافة إلى هذه المحاذير ينبه الكاتب هذا الطبيب الراقي الذين لا يشترط أن يكون عالما ولا طالب علم، ولا متكونا في أي علم من العلوم إلى أن يطلع على (الحالة الصحية للمريض ليتعامل معها بحذر شديد ويوفر لها العناية الخاصة، ويكون البرنامج العلاجي مناسبا لحالة المريض الصحية والأدوية التي يتعاطاها. ومن هذه الحالات المرضى بالأمراض المزمنة عامّة وأمراض القلب والسكري خاصة، والمرأة الحامل، كما يجب الانتباه إلى المرضى اللّذين يستعملون أدوية أعصاب ويباشرون العلاج مع طبيب نفسي)([83])

بالإضافة إلى ذلك ينبهه ـ وهو العامي البسيط ـ إلى أن (بعض الأعشاب التي تأذي الجانّ قد لا تتلاءم مع الحالة الصحية للمريض وكذلك الأمر بالنسبة للحجامة والرقية الجماعية، فالمريض بالقلب والمرأة الحامل مثلا يمنعون إحتياطا من تناول الأعشاب ومن الحجامة ومن الرّقية الجماعيّة، فقد يتعرضون للاعتداء من طرف بعض المرضى الذين لا يتحكمون في حركاتهم، كما أنّ الرّقية المطولة قد تثيرهم فلا يسيطرون على أنفسهم فيتضررون بكثرة التخبط أو قد يصاب جنين المرأة بالأذى والمعالج في غفلة عنهم)([84])

وهو يحذر الرقاة الذين ينصحون مرضاهم بالتوقف عن العلاج الذي يعطيه لهم غيرهم من الأطباء، فيقول: (وإذا وصف لهم الرّقية الشّرعيّة لم ينههم عن أخذ الأدوية الحسية، فمن الخطأ أن يظنّ المعالج أن الأدوية الحسيّة المباحة تبطل العلاج بالقرآن ولهذا السبب يدفع بعض المعالجين المريض بأمراض روحية إلى ترك المتابعة مع طبيبه أو التوقف عن استعمال أدويته، وهذا خطأ تقنيّ من جهة وخطأ منهجيّ من جهة ثانية. أولا لأن الأدوية المباحة لا تنقص من تأثير الرّقية على الأمراض الشيطانية، ثانيا حتى لا يتحمل المعالج تبعات ذلك على صحّة المريض، ففي بعض الأحيان يتوجه المصاب إلى طبيب نفسي قبل المعالج بالرقية الشّرعية فيصف له الدواء لأنّه شخص الحالة على أنها مرض نفسي، فبالرغم أن المعالج بالرقية الشرعية متأكد من أنّ المريض يشك من مرض شيطاني وأن الدواء الذي يأخذه قد تكون له آثر جانبيّة على صحته إلا أنّه لا يطلب منه أن يتوقف عن استعمال الأدوية ولكن يباشر علاجه بصفة عاديّة ثم بعد أن تتحسن حالته يطلب منه أن يراجع طبيبه ليوقف الدواء بالطريقة الصحيحة التي تضمن سلامته)([85])

وما ذكره هذا الكاتب ليس معتمدا بالضرورة لأن السلفية فتحوا جميع أبواب الاجتهاد لأطبائهم من الرقاة، والتي اغلقوها في سائر المجالات.. فللراقي أن يجرب كيف يشاء، يقول الكاتب: (إنّ بعض الأمراض المستعصية على الطبّ الحديث قد يكون سببها الأمراض الشيطانية وقد تمت معالجتها بفضل الله بالحجامة أو بعض الخلطات من الأعشاب أو الرقية الشّرعية، وإن اتخاذ المعالج بأسباب الشفاء لا يعني أن يستعين بها كلها جملة واحدة بل يتخذ منها ما ينفع المريض وتناسب حالته الصحية، فبعض الأمراض العضويّة قد تحول دون استعمال دواء لعلاج أمراض أخرى، وان الشفاء شيء متجزئ من الكلّ إلى البعض، وأفضل العلاجات هو الذي يحقق التوازن بين أعلى نسب الشفاء من الداء وبين تحقيق أقل نسبة من الأضرار أو الآثار الجانبيّة، وإنّ الاستغناء عن بعض أسباب الشفاء في بعض الحالات الخاصة لا يغير من قضاء الله وإنّه أسلم للمعالج من المتربصين به)([86])

بعد هذه التحذيرات عقد المؤلف فصلا بعنوان [الإعداد النفسي والبدني للمعالج]، وقدم له بقوله تعالى: { وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُم }(الأنفال 60)، وذلك بناء على أن المسألة ليست سهلة لأن الطبيب السلفي لن يصارع هنا الجهمية ولا الصوفية ولا الرافضة، وإنما سيدخل في صراع مع الشياطين نفسها.

لهذا على المعالج ـ كما يذكر الكاتب ـ (أن يتدرب على تحصين نفسه وأهله وبيته من أعداءه كما يعود نفسه على تحمل الضغوط النفسية والبدنيّة التي تفرضها طبيعة العمل.. ومن العدّة التي يعدها المعالج ليأمن مكر العدوّ والتي من المهم أن يدرّب نفسه عليها، حتى يسهل عليه المواظبة عليها، هي بناء الحصون المتينة التي تمنع العدو من الوصول إليه، فإن لم ينل المعالج من عدوه سلم ونجا من أذيته)([87])

ومن تلك الحصون المداومة على قراءة (سورة البقر، فإنّها مقياس لاختيار القائد المناسب لخوض المعارك.. ولفضل سورة البقرة في حفظ المعالج وأهله من العدوّ فإنه من الأفضل تكون في صدر المعالج قبل ممارسته للعلاج، وعليه أن يحافظ على قراءتها ويداوم على ذلك في كل أحواله. وبقدر التزام المعالج عليها يوميا في فترة تربصه يسهل عليه المواظبة عليها بعد ذلك وتكون علامة على حسن استعداده لعمله، فهي من أقوى الحصون من كيد عدوه بإذن الله)([88])

وبذلك تحولت سورة البقرة من سورة تمثل منهج حياة كاملة تبنى على ضوئها شخصية المؤمن الفكرية والسلوكية إلى حرز وحصن يتحصن به الراقي أو السلفي من إذية الشياطين.

 وهكذا تحولت الأذكار عندهم من وسائل يعرج بها المؤمن إلى الله، ويتصل بواسطتها به، إلى مجرد وسيلة للتحصن من إذية الشياطين، يقول الكاتب: (ومن الحصون المنيعة التي يستتر بها المعالج من عدوّه ذكر الله عزّ في حركاته وسكناته، فيحافظ على أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم واليقظة والأذكار عند المطعم والملبس والدخول إلى الخلاء والخروج منه)([89])

ومن الحصون كذلك التي (يمكن للمعالج أن ينتفع بها كشرب الماء المقروء عليه والاغتسال به ورشه في البيت أو دهنّ الجسد بالزيت المرقى)([90])

بالإضافة إلى هذه الحصون (يحتاج المعالج إلى تأهيل بدني حتى يتمكن من القراءة بصوت مسموع وبصورة مطولة على المرضى، ولذلك عليه أن يدرب حنجرته على ذلك، فيقرأ بشكل يومي القرآن الكريم بصوت مسموع ولمدّة طويلة على قدر الاستطاعة، ثمّ يطيل هذه المدّة أكثر فأكثر، حتى تتقوى حباله الصوتيّة ويتحسن تنفسه)([91])

وينبه الكاتب الطبيب الراقي إلى أنه (قد يتعرض في بعض الأحيان إلى الاعتداءات من الشياطين في النّوم، فيستيقظ عدّة مرّات في اللّيلة الواحدة ولا يجد الراحة في نومه، ولقلة النّوم عدة تأثيرات على صحة المعالج ونفسيته، وهذا الأسلوب تتبعه الشياطين مع المصابين أيضا، وبغض النظر عن التحصينات التي تمنع مثل هذه الاعتداءات بإذن الله، على المعالج أن يتهيأ إلى مثل هذه الهجمات وذلك بأن يتدرب على قلة النّوم والاستيقاظ عدّة مرات في الليل، حتى إذا ما حصل له مثل هذه الاعتداءات وجد نفسه مستعدا لها فلا تجدي معه نفعا بإذن الله، فيبدأ المعالج بالتدرب على الاستيقاظ من النّوم لمرة أو مرتين في الليلة حتى إذا تعود على ذلك زاد في عدد المرات، وإذا أصبح هذا التدريب سهلا زاد في فترة الاستيقاظ، فيتوضوء ويصلي ركعتين كلما استيقظ من النّوم)([92])

بعد هذا يوجه الكاتب الرقاة إلى [الإعداد العلمي والمعرفي] الخاص بهم.. وهو طبعا ليس كتب الطب التي كتبها الكفار أو تلاميذ الكفار، فسلف السلفية قد أغنوا مريديهم عن غيرهم.. لذلك يكتفي الراقي بمطالعة ما كتب في الرقيا من كتب (فيدرس الكتب التي تتحدث عن الأمراض الشيطانيّة والرقيّة الشرعيّة وطرق العلاج المشروعة، ويتابع الدورات العلمية في هذا المجال ويأخذ الخبرة من المعالجين الثّقات حتى يقوى عوده ويكتسب الخبرة منهم فيتهيّأ لعمله)([93])

بل إن عليه ألا يكتفي بذلك، وإنما يضيف إليه إن أراد (الاختصاص في العلاج بالرقيّة الشرعيّة أن يلتحق بمراكز التكوين في هذا المجال إن أمكنه ذلك، فإن لم يستطع يبدأ بدراسة كتب أهل الاختصاص في هذا المجال حتى يفهم الأمراض الشيطانية أو الروحية، فيدرس المسّ والسحر والعين والحسد ويدرس المصطلحات المستعملة في هذا المجال، والأعراض التي تصاحب هذه الأمراض وعلاماتها ومصدرها وأسبابها وكيفية الوقاية منها وعلاجها بالطرق الشرعيّة، حتى يتمكن من التميّيز بين الأمراض الشّيطانيّة عن غيرها من الأمراض النّفسية والعضوية، ويمكنه من تحديد نوع الإصابة بالأمراض الروحي)([94])

وينصح الكاتب بالتحري في المطالعة حتى لا يخرج القارئ عن كتب السلف، فيقول: (وأمام الزّخم من المعلومات لا بدّ للمعالج من ميزان يعدّل به ما قد يجده في كتب أهل الاختصاص من اجتهادات واختلافات، مراعيا في ذلك لأمرين أساسيين، أولا من النّاحية الشرعية، على ما ورد في كتاب الله والسنة النبوية الشريفة بتفسير العلماء من الصحابة الذين عاشوا مع رسولنا نزول الآيات، ففهموا مقاصد الآيات قبل أن يحفظوها ويعملوا بها. ثانيا من النّاحية الصحيّة للمريض وسلامته من كل المخاطر مستندا في ذلك على العلوم الطبيّة ونصائح الأطباء)([95])

بعد هذا يبدأ الكاتب في توضيح كيفية العلاج ومراحله، والتي تبدأ بتشخيص الأمراض باعتباره (أول مراحل العلاج حيث يكون العلاج مبنيا عليه، والتشخيص الصحيح هو أقرب طريق للشفاء بإذن الله تعالى، والتشخيص هو الاستنتاج الذي يخلص إليه المعالج بعد الاستقصاء عن الأعراض التي تصاحب المريض في اليقظة والنّوم ونوع المشاكل التي يتعرض لها، ومن خلال هذه المعطيات يحدد المعالج نسبيّا نوع المرض ونوع الإصابة)([96])

بعد ذلك التشخيص الذي لا يحتاج من المعالج السلفي إلى أي تحليل أو أشعة أو غيرها، (يميز المعالج نوعيّة المرض، فإمّا أن يكون المرض من الأمراض الشيطانيّة أو غيرها من الأمراض التي تستوجب أخصائي في علوم الطبّ والصيدلة أو الطبّ النفسي، ودور المعالج أن يرشدّ المريض إلى التوجه السليم، وتتمثل صعوبة تحديد نوعيّة المرض في أنّ الأمراض الروحية قد تسبب أمراض نفسيّة وأخرى عضويّة، فمن لا يستطيع أن يفرق بين أنواع الأمراض عليه أن لا يقوم بالتشخيص للمرضى إلا مع شيخه الذي يتابع تربصه معه)([97])

وبعد أن يميز المعالج المرض، ويتبين له (أنّ المرض من الأنواع الشيطانية، يدقق في أعراض المسّ حتى يتبين له إن كان مسّ داخليّا أو خارجيّا، فإذا تأكد من وجوده بحث في أسباب تسلطه على المريض من خلال الأعراض المصاحبة للمرض)([98])

والمشكلة أن التشخيص ليس واحدا، فقد (يكون سهلا في بعض الأحيان لوضوح الأعراض، وقد يكون صعبا لتداخل أعراض لأنواع مختلفة من الإصابات، فبعض الأعراض تظهر بنسبة متساوية لأنّهما متلازمتان، فمثلا المصاب بسحر للإضرار بالمسحور تظهر عليه أعراض الحسد ويتأثر برقية الحسد لأنّ المسحور لا يكيده إلاّ حاسد، وفي بعض الحالات قد تختفي أعراض الإصابة الأصلية وراء أعراض جانبيّة قويّة، وذلك لأنّ طول فترة الإصابة تأثر على تغير الأعراض التي تظهر على المريض، ولأنّ أعراض الإصابات الجديد تبدو أوضح من القديمة، ولذلك على المعالج أن لا يستعجل بإعلام المريض بنوع الإصابة حتى يتأكدّ من سلامة التشخيص وأصل الإصابة التي تسلط بها العارض)([99])

بعد التشخيص (يبدأ المعالج في ضبط العلاج المناسب حسب تشخيصه للأعراض، إن كان متأكدا من نوع الإصابة، وأمّا إذا تنوعت الأعراض وتعددت الاحتمالات فإنّه يبدأ في ضبط علاج لنوع الإصابة التي أعراضها قويّة وظاهرة، وإن كانت إعراض الإصابة الأصلية ضعيفة في البداية فإنّها ستقوى بعد استعمال العلاج. كما يدرج المعالج في برنامجه العلاجي الحلول لمشاكل المريض التي يعانيها في حالة اليقظة والنّوم، فمثلا إذا كان المريض مصاب بعين ويتعرض إلى الاعتداء بالفاحشة فيدرج المعالج رقيّة الفاحشة مع رقية العين في برنامجه العلاجي)([100])

والسلفية الذين حرموا قول صدق الله العظيم باعتباره بدعة، وحرموا قول: تقبل الله بعد الصلاة، لعدم فعل السلف لذلك.. وكفروا الصوفية بسبب أورادهم التي يسيرون بها إلى الله.. لا يجدون مضاضة في أن يضعوا لطرد الشياطين ما شاءت لهم أهواؤهم من الآيات القرآنية أو الأدعية وبالأعداد التي يرغبون.. فلا بدعة في شيء من ذلك.. لأن سلفهم أباحوا لهم ذلك.

والكاتب يستدل لذلك بقوله: (وكان شيخ الإسلام ابن تيميّة يعالج الرعاف بآية في معناها إشارة إلى حبس السائل وتغيظه، فكان يكتب على جبهة المريض {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود 44]) ([101])

ويستنتج الكاتب من هذا الاقتباس عن ابن تيمية أنه يمكن (أن يختار المعالج الآيات الأقرب لما ينويه بقراءتها، فمثلا يستعمل الآيات الّتي فيها معنى إبطال الله للسحر، كآيات موسى وسحرة فرعون، لإبطال سحر المريض ويستعمل الآيات التي في معناها طمس العيون وإخراجها لإبطال الإصابة بالعين. وليحسن المعالج اختيار الآيات الأنسب للعلاج، عليه أن يعلم أن العارض يتأثر بالرقيّة الّتي تتضمن في كلّماتها مواضيع تهمّ العارض من عدّة أوجه، كنوع الإصابة، فمثلا إذا كانت الإصابة بالسّحر تأثر العارض بآيات الّتي يذكر فيها السّحر وآيات إبطال عمل الكفار، ويتأثّر العارض بالرّقية الّتي تتضمن الهدف من السّحر، فمثلا يتأثّر عارض سحر التفريق بالرّقية الّتي تتضمن آيات التفريق بين الأزواج وآيات الطلاق، ويتأثّر العارض بالرّقية الّتي تتضمن طريقة عمل السّحر أو مكانه، فيتأثّر عارض السّحر المدفون في المقابر بالآيات الّتي فيها ذكر المقابر والموتى. وكذلك في حالة الإصابة بالعين، يتأثّر العارض بآيات العين والتّعوذ منها، ويتأثّر بالرّقية الّتي يذكر فيها بمكان الإصابة كحفلة أو العمل، ويتأثّر بالرّقية الّتي تتضمن النّعمة الّتي أصيبت بالعين، كالمال أو الجمال أو النّجاح أو العضو الّذي تأذّى بتلك العين. كما يتأثّر العارض بالآيات الّتي يذكر فيها مكره بالمريض، فيتأثّر العارض الذي يتعرض للمريض بالفاحشة بآيات ذمّ الفاحشة، ويتأثّر العارض بآيات الظلم بصف عامّة لأنّ وجود في بدن المريض ظلم وعدوان. كما يتأثّر العارض بالرّقية الّتي تتضمن صنفه من الجنّ، فمثلا يتأثّر العارض من نوع الحيات بالآيات الّتي تذكر فيها الحيات، وتتأثر الأنواع الطائرة بالآيات الّتي تذكر فيها الطيور، ويتأثّر أيضا بالرّقية الّتي تتضمن مادة خلقته. كما يتأثّر العارض بآيات الّتي فيها ديانته، فأنّ كان يهوديا تأثر بالرّقية الّتي فيه ذكر اليهود وكذلك باقي الأديان. ومن هذا نفهم طريقة اختيار الآيات المناسبة لكلّ حالة) ([102])

وهكذا استطاع السلفية أن يجدوا المحل الوحيد الذي يفعلوا فيه القرآن الكريم في الواقع.. وبهذا الدجل الخطير الذي يتلاعبون به بصحة الناس.

وهم ـ الذين حكموا ببدعية كل شيء ـ لا يتحرجون من وضع الصيغ البدعية لطرد الشياطين أو الحماية من العين، وهم يستندون في ذلك لما ذكره ابن القيم تلميذ شيخهم ابن تيمية بقوله في [فصل ذكر رقية ترد العين]: (ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله؛ فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة فاضطربت، وسقطت؛ فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه فدل فوقف عليه وقال: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه: { {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 3، 4]، فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها)([103])

ويتعجب السلفية كثيرا من هذه الكلمات العظيمة التي قتلت إنسانا من أجل ناقة.. لا لأنه قتلها أو سرقها وإنما لأنه أعجب بها.

بناء على هذا، سأذكر للقارئ الكريم الأمراض الكبرى التي يعالجها السلفية، والأعراض المرتبطة بها، فإن آنس في نفسه أي عرض من هذه الأعراض، فإنه يمكنهم أن يزروهم، ويصحب معه بعض المال، ويجتهد ألا يستخدم عقله معهم، حتى لا يتهموه بالزندقة، ويجتهد ألا يضحك أيضا عند علاجهم له حتى لا يتهم بالسخرية من سنة رسول الله k.

أما أول مرض، وأخطر مرض يعالجه رقاة السلفية فهو السحر، وأعراضه كما يذكرونها في كتبهم هي([104]):

  1. الشرود والذهول والنسيان الشديد والتخبط في الكلام.
  2. عدم الاستقرار في مكان واحد وعدم الاستمرار في عمل معين.
  3. الحالات الشديدة ينطلق المريض بالسِّحر على وجهه لا يدري وربما ينام في الأماكن المهجورة.
  4. حب الصمت والوحدة وكراهية الاجتماعات.
  5. الصداع الدائم وكثرة الوسواس والشكوك.
  6. الأحلام المفزعة في المنام كأن يسقط من مكان مرتفع أو حيوانات متوحشة وسوداء تطارده.
  7. سماع أصوات في المنام واليقظة ولا يرى الأشخاص.
  8. الصرع أحياناً.
  9. تظهر أعراض في النساء بعدم انتظام الدورة الشهرية وآلام في الرحم.
  10. غثيان وشعور بالتقيؤ وآلام شديدة في البطن.

أما المرض الخطير الثاني الذي يعالجه السلفية في عياداتهم ومستشفياتهم المتخصصة، فهو المس الشيطاني، ومن أعراضه التي يشترك فيها الرجال والنساء([105]):

  1. تغير مفاجئ من حب إلى كراهية ومن الصحة إلى المرض ومن الفرح إلى الحزن.
  2. سرعة الغضب والانفعال.
  3. تزداد الحالة عند قراءة القرآن أو الرقيَّة عليه.
  4. تصرفات غير إرادية.
  5. آلام في أسفل الظهر.
  6. بكاء عند سماع القرآن الكريم.
  7. كثرة النوم.
  8. الصداع الدائم بشرط أن لا يكون هناك مرضٌ عضوي.
  9. الصدود عن طاعة الله – عز وجل -.
  10. الشرود الذهني.
  11. الصرع فمنه عضوي بانسداد عرق في الرأس ومنه مس شيطاني.
  12. حب الوحدة والظلام.
  13. محبة الهدوء وعدم الإزعاج الدائم.
  14. أمراض نفسية مزمنة.
  15. أمراض عضوية يعجز عنها الطب البشري.

أما أعراضه الخاصة بالنساء، فهي([106]):

  1. تشكو المرأة آلام شديدة في أسفل الظهر.
  2. آلام والتهابات في منطقة الرحم.
  3. عدم انتظام الدورة الشهرية.
  4. وجود نزيف أحياناً.

أما المرض الخطير الثالث الذي يعالجه السلفية فهو العين، ومن أعراضه([107]):

  1. أمراض عضوية لا تستجيب للعلاج الطبي.
  2. آلام في المفاصل والأرق والحبوب والتقرحات التي تطهر على الجلد.
  3. النفور من البيت والمجتمع والدراسة.
  4. شحوب البشرة وخاصة الوجه.
  5. ضيق التنفس أحياناً.
  6. التنهد والنسيان والثقل في مؤخرة الرأس.
  7. الثقل في الأطراف وحرارة في البطن وبرودة في الأطراف.
  8. كثرة التبول.
  9. التوتر والعصبية الزائدة مع الغضب.
  10. عدم الرغبة في الأكل.
  11. العزلة أحياناً.
  12. التجشؤ والتثاؤب المستمر.
  13. نحافة البدن.
  14. الشعور أحياناً بالصداع والدوار ويستمر حتى مع أخذ المسكن.
  15. عدم الاستمرار في أي عمل من الأعمال.

ومن الأعراض التي تظهر على المريض بالعين أثناء الرقية، والتي من خلالها يشخص له الطبيب السلفي حالته المرضية([108]):

  1. كثرة التثاؤب المصحوب بالدموع.
  2. التثاؤب والنعاس والرغبة في النوم.
  3. الشعور بالتمدد كالذي يفعله الإنسان عندما يستيقظ من النوم.
  4. حصول إغمائه قليلة.
  5. الشعور بخدر عامة البدن أو في بعض أجزائه.
  6. تصبب العرق من الجبين ومنطقة الظهر.
  7. يجد المعيون خاصةً رغبة في البكاء أحياناً.
  8. برودة في الأطراف وحرارة في البطن.
  9. زيادة في نبضات القلب.
  10. رمش العين بشكل سريع.

فكل من حصلت منه هذه الأفعال أثناء علاج الراقي له، فهو مصاب بالعين لا محالة، كما يقرر السلفية، فلذلك يحتاج من يزورهم أن يكون شبع قبل ذلك نوما حتى لا يتثاءب أمامهم، لأنه بمجرد تثاؤبه يحكمون عليه بكونه مصابا بالعين.. وتبقى جلساتهم الطويلة معه على أساس هذا التشخيص.

هذه مجرد نماذج عن العبث السلفي بالدين وبصحة الناس وبأموالهم وبالأمة جميعا.. وهي وحدها كافية للدلالة على ظلامية هذا المنهج، وأنه ليس سوى وساوس شيطانية لعقول فارغة.


([1])   جواهر القرآن (ص: 45)

([2])   جواهر القرآن (ص: 45)

([3])   جواهر القرآن (ص: 45)

([4])   جواهر القرآن (ص: 46)

([5])    مرآة الجنان (1: 304)

([6])  الإمام علي الرضا ورسالته في الطب النبوي، ص121.

([7])  معجم البلدان (3/ 377)

([8])  سير أعلام النبلاء (14/ 270)

([9])  المنقذ من الضلال (ص: 140)

([10])  المنقذ من الضلال (ص: 141)

([11])  موقع الشيخ حسن بن فرحان المالكي، تحت عنوان: ابن تيمية وتحريم الكيمياء.

([12])  العنوان الكامل للكتاب: مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي، ق:2-13ه- للدكتور خالد كبير علال، حاصل على دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي من جامعة الجزائر.

.

([13])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص80.

([14]) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 8 ص: 170 .

([15])  ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3 ص: 24  .

([16]) ابن العماد الحنبلي: شذرات، ج 7 ص: 85.

([17])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص80.

([18])  الذهبي: السيّر، ج17 ص: 15.

([19])  المقري:   نفح الطبيب، ج 1 ص: 221 .

([20])  الذهبي: السير، ج 19، 334  ،و ج20 ص: 124 .

([21])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص81.

([22])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص85.

([23]) الذهبي: ميزان الاعتدال، ج3 ص: 407.

([24]) ميزان الاعتدال ، ج13 ص: 449 .

([25]) ميزان الاعتدال ، ج 13 ص: 449.

([26]) ميزان الاعتدال ، ج13 ص: 449 ..

([27])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص85.

([28])  ابن حجر: لسان الميزان، ج4 ص: 411 .

([29])  الذهبي: السيّر، ج 21 ص: 10، 211  .

([30])  الذهبي: السيّر،  ج 21، ص: 180، 207، 210، 211.

([31])  نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب (1/ 221)

([32])  مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص92.

([33])  يعتبر من كبار علماء السلفية باليمن وأحد رواد الحديث، قام بالدعوة السلفية في اليمن، وأنشأ مدرسة علمية سلفية بدماج سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن، ومن بلدان أخرى، وتخرج على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.

([34])  البركان لنسف جامعة الإيمان (ص 5)

([35])  إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال (ص: 17)

([36])  الصبح الشارق، ص6.

([37])  الصبح الشارق، ص13.

([38])  توحيد الخالق، ص (41)

([39])  الصبح الشارق، ص48.

([40])  توحيد الخالق، ص (44)

([41])  الصبح الشارق، ص51.

([42])  الصبح الشارق، ص124.

([43])  الصبح الشارق، ص124.

([44])  درء تعارض العقل والنقل (ج1 ص78)

([45])  الصبح الشارق، ص124.

([46])  الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 7)

([47])  الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 44)

([48])  الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 44)

([49])  الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 44)

([50])  الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 45)

([51])  ذيـل الصواعق، ص7.

([52])  المسلمون وعلم الفلك، ص11.

([53])  ذيـل الصواعق، ص10.

([54])  المسلمون وعلم الفلك، ص12.

([55])  ذيـل الصواعق، ص14.

([56])  ذيـل الصواعق، ص14.

([57])  ذيـل الصواعق، ص14.

([58])  ذيـل الصواعق، ص14.

([59])  ذيـل الصواعق، ص15.

([60])  المسلمون وعلم الفلك، ص109.

([61])  ذيـل الصواعق، ص16.

([62])  ذيـل الصواعق، ص16.

([63])  ذيـل الصواعق، ص18.

([64])  ذيـل الصواعق، ص28.

([65])  ذيـل الصواعق، ص28.

([66])  المسلمون وعلم الفلك، ص30.

([67])  ذيـل الصواعق، ص40.

([68])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص3.

([69])  مجموع الفتاوى (19/ 57)

([70])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص3.

([71])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص3.

([72])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص3.

([73])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص4.

([74])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص5.

([75])  بيان الأدلة العقلية والنقلية في الفرق بين الرقية الشرعية والرقية التجارية (9، 10).

([76])  صحيفة الجزيرة، العدد (10097)، فاسألوا أهل الذكر.

([77])  الفتاوى الذهبية في الرقى الشرعية..

([78])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص9.

([79])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص9.

([80])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص10.

([81])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص10.

([82])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص10.

([83])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص11.

([84])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص12.

([85])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص12.

([86])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص13.

([87])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص14.

([88])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص14.

([89])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص14.

([90])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص15.

([91])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص16.

([92])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([93])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([94])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([95])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([96])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([97])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([98])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([99])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([100])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([101])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([102])  مدارج الوصول للعلاج بقول الله والرسول، ص17.

([103])  زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 160)

([104])   إضاءات حول الرقية الشرعية، ص15.

([105])   إضاءات حول الرقية الشرعية، ص20.

([106])   إضاءات حول الرقية الشرعية، ص20.

([107])   إضاءات حول الرقية الشرعية، ص20.

([108])   إضاءات حول الرقية الشرعية، ص20.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *