التراث السلفي.. والعقيدة

يعتبر المنهج السلفي في الدراسات العقدية منهجا قائما بذاته خلافا للمناهج التي اعتمدتها سائر المذاهب الإسلامية، ولذلك يمكن اعتبار السلفية في هذه الناحية طائفة خاصة، واعتبار سائر المسلمين طائفة أخرى.
وذلك الخلاف يشمل كل شيء ابتداء من المصادر العقدية، ومنهج الاستنباط منها، وانتهاء بالقضايا العقدية نفسها.
فالسلفية جعلوا من مصادرهم العقدية أحاديث الآحاد حتى لو كانت ضعيفة، أو موقوفة على الصحابي، أو لم ترفع أصلا إلى رسول الله k.. بل حتى لو كانت اجتهادا اجتهدوه أو اجتهده سلفهم.. وهم في ذلك كله مخالفون لكل المدارس الإسلامية التي تشددت في العقائد، فلم ترتض منها إلا القطعي الوارد عن المعصوم مع وضوح دلالته، وثبوت سنده.
وهم كذلك وضعوا تصنيفات خاصة في العقائد، وخاصة في أبواب الإلهيات منه تخالف ما عهده سائر المسلمين من تصنيفات.. بل تخالف نفس ما ورد في النصوص المقدسة من تصنيفات.
بالإضافة إلى ذلك كله أضافوا الكثير من الفروع الفقهية، والمسائل الخلافية، فجعلوها من المسائل العقدية الكبرى التي تفرق بينهم وبين سائر المسلمين.
ولذلك كله، كثرت تصانيفهم في العقائد، بل لا يكاد يوجد علم من أعلامهم إلا وترك الكتب الكثيرة فيها، لأنهم يحتاجون كل حين للرد على كل الذين يخالفونهم، وما أكثرهم، لأنهم يشملون كل من عداهم.
ولكن مع ذلك فإن استعراض ما كتبوه، والاطلاع على فهارسه ومحتوياته وأغراض مؤلفيه تكاد تجعل من كل ذلك التراث العقدي الكبير شيئا واحدا، أو عملا مكررا، يمكن جمعه في مجامع محدودة كما فعل ابن تيمية عندما جمع في كتبه العقدية كل ما كتبه سلفه، إما مشيرا إليهم، أو ناقلا من غير إشارة.
وحتى لا يدعي علينا مدع بأننا نقولهم ما لم يقولوا، فإننا نذكر هنا المصادر الكبرى التي نرجع إليها عند حديثنا عن عقائدهم أو غيرها، وهي مصادر معتمدة لديهم، ويكنون لها كل الاحترام والتقدير.. وهي كذلك مطبوعة، وأكثرها محقق تحقيقا جيدا، وأكثرها إن لم نقل كلها منشور على النت، يمكن مطالعته أو تحميله.. ولذلك يمكن للقارئ الكريم أن يتأكد من كل ما نقوله عنهم.
فمن هذه المصادر ـ وهي مرتبة بحسب وفيات مؤلفيها ـ: الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ، والرد على الجهمية لعبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي المتوفى سنة 229هـ، والإيمان لابن أبي شيبة المتوفى 235هـ، والحيدة في الرد على الجهمية لعبد العزيز بن يحيى المكي المتوفى سنة 240 هـ، والسنة للإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، والرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، والتوحيد في صحيح البخاري للبخاري المتوفى سنة 256هـ، والرد على الجهمية للبخاري، والسنة لأبي بكر الأثرم المتوفى سنة 272هـ، والسنة لأبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال تلميذ الإمام أحمد المتوفى سنة 273هـ، والسنة لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ، والاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لعبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ، والرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280هـ، والرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 280هـ، وإنكار البدع والحوادث لمحمد بن وضاح المتوفى سنة 286هـ، والسنة لأبي بكر عمرو بن أبي عاصم المتوفى سنة 287هـ، والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل المتوفى سنة 290 هـ، والسنة لأبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي المتوفى سنة 292هـ، والسنة لمحمد بن نصر المروزي المتوفى سنة 294هـ، والسنة لأحمد بن محمد بن هارون الخلال المتوفى سنة 311هـ، والتوحيد لابن خزيمة المتوفى سنة 311 هـ، والعقيدة الطحاوية([1]) للإمام أبي جعفر الطحاوي المتوفى سنة 321هـ، والرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم المتوفى سنة 327هـ، وشرح كتاب السنة للحسن بن علي البربهاري المتوفى سنة 329هـ، والسنة لأبي أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصفهاني العسال المتوفى سنة 349هـ، والسنة لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني المتوفى سنة 360هـ، والشريعة لأبي بكر الآجري المتوفى سنة 360 هـ، والسنة لعبد الله بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة 369هـ، والسنة لعمر بن أحمد بن عثمان البغدادي (ابن شاهين) المتوفى سنة 385هـ، والإبانة لابن بطة المتوفى سنة 387هـ، والتوحيد لمحمد بن إسحاق بن مندة المتوفى سنة 395هـ، والرد على الجهمية لمحمد بن إسحاق بن مندة المتوفى سنة 395 هـ، وشرح السنة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المتوفى سنة 399 هـ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي المتوفى سنة 418هـ، والأصول لأبي عمر الطلمنكي المتوفى سنة 429هـ، والسنة والصفات لأبي ذر عبد الله بن أحمد بن محمد الأنصاري الهروي المتوفى سنة 434هـ، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث لإسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة 449هـ، والاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي المتوفى سنة 458هـ، ولمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لعبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة 620هـ.
بالإضافة إلى ذلك مؤلفات ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، الكثيرة في العقيدة كالعقيدة الواسطية والفتوى الحموية والرسالة التدمرية.. ومؤلفات تلميذه ابن القيم المتوفى سنة 751هـ، كاجتماع الجيوش الإسلامية والكافية الشافية والصواعق المرسلة، وشفاء العليل.. ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ في الاعتقاد مثل كتاب التوحيد وله شروح كثيرة، كتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وكشف الشبهات، وأصول الإيمان.
بالإضافة إلى ذلك ما كتبه المعاصرون في شكل شروح لكتب سلفهم، أو في شكل رسائل مستقلة، أو كتب أكاديمية ونحو ذلك مثل: شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد خليل الهراس، والعقيدة الصحيحة وما يضادها للشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، وعقيدة أهل السنة والجماعة للشيخ محمد بن صالح العثيمين، وشرح أصول الإيمان له، ومفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل، ومباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة له، ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، ومجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر العقل، وعقيدة أهل السنة والجماعة: مفهومها وخصائصها، وخصائص أهلها للشيخ محمد بن إبراهيم، وغيرها كثير.
والملاحظة العامة في هذه الكتب جميعا أنها لا تستعمل المناهج العقلية التي استعملها المتكلمون أو الفلاسفة، بل هي في أكثرها نقول وروايات عن سلف السلفية الأوائل، والتي فسروا بها القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية، أو ابتدعوها ابتداعا، بالإضافة إلى تلك الأحكام الشديدة القاسية التي تختم بها كل عقيدة، وهي تبدأ بالحكم بالبدعة، وتنتهي بالحكم بالزندقة.
ولذلك فإن هذه الكتب تشكل شاحنا مهما للأحقاد ولجميع الأمراض النفسية، فلا يخرج قارئها بطمأنينة الإيمان، ولا تسليم الإسلام، وإنما يخرج منها بقلب ممتلئ بالغيظ، حانق على الجميع لا يكاد يطيق نفسه.
انطلاقا من هذا سنحاول هنا أن نذكر أهم الانحرافات التي وقع فيها التراث السلفي في هذه الناحية المهمة من الدين.. بل هي أهم ناحية فيه لأنها تتعلق بالتصورات التي يبني عليها المؤمن دينه ومواقفه جميعا.
وقد لاحظنا من خلال الاستقراء أنه يمكن تصنيفها إلى انحرافين كبيرين: أولهما يتعلق بتحريف العقائد الإسلامية التي ورد بها القرآن الكريم، إما عن طريق التأويل والتفسير، أو عن طريق الروايات الكثيرة وخاصة الإسرائيلية منها، والثاني هو ابتداع عقائد جديدة لم ترد في القرآن الكريم، ولا في السنة المطهرة، ومع ذلك أولاها السلفية وسلفهم أهمية كبرى، صنفوا المؤمنين على أساسها.
أولا ـ تحريف العقائد الإسلامية:
لا يسعى الشيطان ـ عند قيامه بتحريف دين من الأديان ـ كما يسعى لتحريف العقائد، لأنه إن حرفها انحرفت معها رؤية الإنسان للوجود، ولنفسه وللكون جميعا.. وانحرف معها بعد ذلك سلوكه ومواقفه لأنها جميعا وليدة الفكر.. والفكر وليد الرؤية الكونية التي يتشكل من خلالها وعي الإنسان ولاوعيه، أو عقله الظاهر وعقله الباطن.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلا على ذلك بما حصل لليهود من تقديمهم للسامري الوثني على هارون المنزه، ومن تقديمهم للعجل المصنوع من الذهب على الله الذي ليس كمثله شيء.
وهكذا دخل الشيطان إلى هذه الأمة عندما عزلت هارونها، وعزلت معه الخلف الصالح الذي خلف النبي k، وراحت تستبدلهم بمن رق دينهم، وضعف عقلهم، فلم يجدوا في القرآن الكريم ما يغنيهم، فلجأوا إلى سامريين كثيرين يخلطون دينهم بدينهم، وعقائدهم بعقائدهم.
وقد كان سلف السلفية هم الثغرة التي شكلت فرصة الشيطان لتغيير عقائد الإسلام وتحريفها.. وسنحاول هنا من خلال التراث السلفي أن نرى بعض المظاهر الكبرى لهذا التحريف، والذي خصصناه بكتابين من هذه السلسلة [السلفية والوثنية المقدسة] وهو يتعرض بتفصيل للتحريفات المرتبطة بالعقيدة في الله.. وكتاب [السلفية والنبوة المدنسة]، ويتعرض بتفصيل للتحريفات المرتبطة بالعقيدة في الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومن خلالنا اطلاعنا على التراث العقدي السلفي نجد أن تحريفاتهم امتدت لكل أبواب العقيدة ابتداء من العقيدة في الله، وانتهاء بالعقيدة في القضايا الغيبية المختلفة.
يقسم السلفية العقيدة في الله، والتي يطلقون عليها كثيرا لقب [التوحيد] إلى ثلاثة أقسام: (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات)، وهذا التقسيم ليس تقسيما تصنيفيا فقط، بل هو تقسيم له دلالاته التحريفية الخطيرة التي أشار إلى بعضها الباحث الكبير المتحرر الشيخ حسن بن علي السقاف، فقال: (لقد أرسل الله تعالى سيدنا محمدا k بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله k)، وحث عليها ووعد قائلها ومعتقدها الجنة، وقد وردت بذلك الآيات والاخبار الصحيحة .. فمن هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتضح وضوحا جليا أن الله سبحانه بين لنا أن التوحيد هو (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولم يذكر الله تعالى في كتابه، ولا النبي k في سنته أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية وتوحيد أسماء وصفات، بل لم ينطق بهذا التقسيم أحد من الصحابة، بل ولا أحد من التابعين، بل ولا أحد من السلف الصالح.. بل إن هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة حدثت في القرن الثامن الهجري، أي بعد زمن النبي k بنحو ثمانمائة سنة، ولم يقل بهذا التقسيم أحد من قبل، والهدف من هذا التقسيم عند من قال به هو تشبيه المؤمنين الذين لا يسيرون على منهج المتمسلفين بالكفار، بل تكفيرهم بدعوى أنهم وحدوا توحيد ربوبية كسائر الكفار بزعمهم، ولم يوحدوا توحيد ألوهية، وهو توحيد العبادة الذين يدعونه)([2])
فالهدف ـ كما يشير السقاف، وكما سنشرحه بتفصيل ـ من هذا التقسيم ثلاثة أمور:
الأول: احتقار ما ورد في القرآن الكريم من أسماء حسنى باعتبارها لا تدل عند السلفية سوى على توحيد الربوبية الذي يشترك فيه المسلمون مع المشركين، كما يذكرون.
الثاني: الاهتمام بالتجسيم ومقتضياته وربطه بالعقيدة، باعتباره هو التوحيد بالأسماء والصفات، ولهذا كفروا جميع مذاهب الأمة بسبب قولها بالتنزيه.
الثالث: تكفير من بقي من المسلمين ممن لم يكفر بسبب تنزيهه بما يسمى بتوحيد الألوهية، أو إضافة كفر جديد للمنزهة بسبب توسلهم بالأنبياء والأولياء أو زيارتهم للأضرحة أو نحو ذلك.
وبذلك فإن العقيدة السلفية ابتداء وانتهاء عقيدية تكفيرية، تركز على ما تسميه نواقض الإيمان أكثر من تركيزها على ما يساهم في ترسيخه وتثبيته وطمأنينة القلب به.
ونحب قبل أن نتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد كما نص عليها التراث السلفي أن نلخص ردودا ذكرها الشيخ السقاف في رسالته [التنديد بمن عدد التوحيد] على هذا التقسيم، فقد ذكر لذلك وجوها، هذا ملخصها ([3]):
الوجه الأول: لا يعرف في الشرع اطلاق اسم موحد على من كفر ولو بجزء من العقيدة الإسلامية، وذلك بنص الكتاب والسنة، بل لا يجوز أن نقول الشرع ما لم يقل ولم يرد، فلا يحل لنا أن نطلق على من كان يقر بوجود الله ويدرك أنه هو الإله المستحق للعبادة دون أن يذعن ويدخل في هذا الدين بأنه موحد، بل نطلق عليه أنه كافر، بدليل قول الله تعالى: { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر: 3]، فقد وصفهم الله تعالى بالكذب وبالكفر، بل وصفهم بصيغة مبالغة وهى (كفار).. فكيف يقال إنهم موحدون توحيد ربوبية والله تعالى وصفهم بالكفر صراحة؟!
الوجه الثاني: هؤلاء الكفار الذين كانوا يقولون فيما وصفهم الله تعالى بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [الزمر: 38]، والذين كانوا يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ما كانوا يقرون بتوحيد ربوبية لو سلمنا جدلا بقسم توحيد الربوبية، وما كانوا يقرون بوجود الله تعالى، وإنما قالوا ذلك عند محاججة النبي k ومجادلته إياهم وإفحامه لهم بالأدلة التي تثبت وجود الله تعالى وتبطل إلهية ما يعبدون من دون الله سبحانه.
فلما كان k يثبت لهم وجود الله ووحدانيته وأن لا إله إلا هو سبحانه ويلزمهم بترك عبادة هذه الاصنام التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها من دون الله، كانوا يتحرجون ولا يعرفون بماذا سيجيبون فكانوا يقولون عند سؤال النبي k لهم: من خلق السموات والارض؟ (الله).. وهذا كذب صريح منهم لأنهم ما كانوا يعتقدون بوجود الله الذي خلق السموات والارض البتة بدليل أن الله أمرهم في القرآن الكريم أن يتفكروا في خلق السموات والارض ليعرفوا أن لها إلها خلقها وأوجدها فيؤمنوا به، كما قال تعالى: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية: 17 – 20]، فكانوا يردون قائلين: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، ولو كانوا مقرين بأن الله سبحانه هو خالق السموات والأرض وما فيهن، لما ذكر الله لهم تلك الآيات الآمرة بالتفكر في الابل كيف خلقت، وفي الجبال كيف نصبت، وفي الأرض كيف سطحت، وفي السماء كيف رفعت، فقولهم عند سؤال النبي k لهم وقت إلزامهم الحجة في المناظرة: (من خلق السموات والارض؟!) فيقولون: الله، ما هو إلا كذب وكفر بنص القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] وكما قال تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] فلا يجوز أن يستنبط بعد هذا البيان أنهم كانوا موحدين توحيدا يسمى توحيد ربوبية، بل هذا استنباط معارض لنص القرآن الذي حكم عليهم بالكفر بل بالمبالغة بالكفر.
الوجه الثالث: أن أولئك الكفار اشتهر عنهم أنهم كانوا يعبدون تلك الاصنام ويحجون لها ويتقربون إليها: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74]، بل واشتهر عنهم أنهم كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر، كما قال تعالى مخبرا لنا عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، بل قال أحدهم للنبي k: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78]، فرد الله عليه: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، فهل يجوز لنا بعد هذا أن نصف من لا يقر بأن الله خالق ومحيي بأنه موحد توحيد ربوبية.
بل بلغ من كفرهم ما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز إذ قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، فهل هؤلاء يقولون بوجود الرحمن الرحيم؟! ولو كانوا يقرون أن الله هو الخالق لما قال الله لهم: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 91]، وعبر بالاله أيضا ولم يعبر بالرب إشارة الى أنهم لا يوحدون لا الرب ولا الإله، ولأن الرب هو الاله، والاله هو الرب.
الوجه الرابع: أن ابن تيمية الذي اخترع تقسيم التوحيد الى ألوهية وربوبية يقول إن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية وأن المسلمين الذين يخالفونه في آرائه كذلك وحدوا ربوبية ولم يوحدوا ألوهية، فهو يكفرهم بذلك، وهذا مراده من هذا التقسيم، كما قال في (منهاج السنة) بعد أن دمج وخلط بعض أئمة الاسلام كالسهروردي وأبي حامد الرازي والآمدي وغيرهم بمن يخالفهم في آرئهم من الفلاسفة كأرسطو والفارابي وابن سينا ما نصه: (دخلوا في بعض الباطل المبدع، وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الالهية وإثبات حقائق أسماء الله ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شئ وهذا التوحيد كان يقر به المشركون)([4])، وهذه مغالطة منه وتلبيس، وهل يعقل عاقل أو يقول إنسان بأن فرعون الذي كان من جملة المشركين كان يوحد ربوبية ولا يوحد ألوهية، وهو الذي يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، ولو كان يقر بالربوبية لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، بل قال بدلها: (أنا إلهكم الأعلى)
ولو تذكر ابن تيمية قول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 76]، وقول يوسف عليه السلام {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف: 39]، وقول ابراهيم عليه السلام: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86]، وقول الكفار حينما دعاهم الرسول k إلى كلمة التوحيد: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] لاستحيا أن يتفوه بذلك.
انطلاقا من هذا سنحاول هنا أن نشرح هذه الأقسام الثلاثة، والانحرافات الخطيرة التي حواها التراث السلفي حولها.
توحيد الألوهية:
يعتبر توحيد الألوهية بالمفهوم السلفي الذي نظر له ابن تيمية، وركز عليه خصوصا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتبنته بعد ذلك كل التنظيمات الإرهابية هو الأداة الكبرى التي حكم بها هذا الاتجاه على أكثر المسلمين بالشرك ومقتضياته.
فمفهوم الشرك المرتبط بهذا النوع من التوحيد ـ عند السلفية ـ يختلف عن مفهومه عند جميع المدارس والفرق الإسلامية، ذلك أنه لا يعني فقط جعل الند مع الله تعالى، وإنما يضيفون إليه الكثير من السلوكات التي يمارسها المسلمون سلفهم وخلفهم بنية تعظيم من أمر الله بتعظيمه من الصالحين والأولياء ونحو ذلك، فيعتبرون تلك السلوكات التعظيمية شركا جليا بالله تعالى.
ولهذا يدخل في الشرك الجلي عندهم التوسل بالأولياء، أو الاستغاثة بهم، أو النذر لهم، أو القسم بهم، أو طلب الشفاعة منهم، أو زيارة أضرحتهم، أو البناء على قبورهم.. وغير ذلك، مما يسمونه (نواقض التوحيد)
فكل من فعل هذا عندهم مشرك، وإن صلى وصام وحج وعمل بكل ما طلبته الشريعة من تكاليف، يقول محمد بن عبد الوهاب في رسالة له في (معنى لا إله إلا الله): (إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله k كانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل، ولكنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وذلك أن المشركين كانوا يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزير وغيرهم من الأولياء، فكفروا بهذا مع اقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، واذا عرفت هذا عرفت معنى (لا اله الا الله)، وعرفت أن من دعا نبيا أو ملكا أو ندبه او استغاث به، فقد خرج من الإسلام)([5])
وهم لأجل هذا يعتبرون جميع المسلمين في جميع البلاد الاسلامية كفارا ومشركين، وقد ورد في (الدرر السنية) الذي يعتبر المصدر الأكبر للفكر السلفي في (رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أهل المخلاف السليماني يعرفهم بدين الإسلام): (إن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا k إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم; فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له; ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله ; فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه; وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم)([6])
بل إنه يرى أن المسلمين في زمانه – بسبب تلك السلوكات – أكثر شركا من المشركين الذين أرسل إليهم رسول الله k، يقول في ذلك: (المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله k من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء; وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67]. والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة)([7])
ولا يزال السلفية إلى الآن يتبنون هذه المواقف المتشددة من عموم المسلمين([8])، يقول محمد حامد الفقي – وهو علم من كبار أعلام السلفية في مصر-: (كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم.. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني; كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر من متأخري الحنابلة.. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت.. وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به، وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره، وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا.. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى، كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم)([9])
وبذلك لم يبق أحد من المسلمين – في نظر هؤلاء – إلا وهو كافر أو مشرك، ولم يسلم من هذا التكفير إلا الدولة السعودية – في شقها الوهابي([10]) – والتي اعتبرها علم كبير كأبي بكر جابر الجزائري الدولة الوحيدة الممثلة للإسلام، يقول: (هذه الدّولة الّتي كانت معجزة القرن الرّابع عشر، هذه الدّولة التي لا يواليها إلاّ مؤمن ولا يعاديها إلاّ منافق كافر مادامت قائمة بأمر الله)([11])
ويقول: (إنّه لا يوجد مسلم صحيح الإسلام، ولا مؤمن صادق الإيمان وفي أي بلد إسلامي، كان، إلاّ ويتمنّى بكلّ قلبه أن يحكمه ابن السعود وإنّه لو يدعى إلى مبايعته مَلِكاً أو خليفةً للمسلمين لما تردد طرفة عين، كان ذلك من أجل أنّ هذه الدّولة تمثّل الإسلام وتقوم به وتدعو إليه…)([12])
ويقول عن دورها في تهديم الآثار والأضرحة: (وهيهات هيهات أن يتنكر آل سعود لمبدأ الحق الذي أقاموا ملكهم عليه، ووقفوا حياتهم على حمايته ونصرته ونصرة الدّاعين إليه، والهادين إلى مثله، إنه لو لم يبق إلاّ عجوزٌ واحدة من آل سعود لم يكن لها أن تتنازل عن مبدأ الحقّ)([13])
ولهذا نرى هؤلاء يفتون بجواز الخروج على الحكام، والمشاركة في المظاهرات، بل والخروج المسلح على الحكام، ما عدا السعودية، باعتبارها في تصورهم تمثل الحكومة الإلهية العادلة التي لا يحل الخروج عليها، أو كما عبر أبو بكر الجزائري، فقال: (هذه الدّولة الإسلامية تمثّل العدالة الإلهية في الأرض)([14])
ونحب أن ننقل هنا بعض التعليقات التي كتبها الشيخ حسن بن فرحان المالكي([15]) على بعض كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذا النوع من التوحيد، وخصوصا كتابه الذي يعتبر إنجيل السلفية في الحكم على المخالفين [كشف الشبهات]
وقد اخترنا كلامه هنا باعتباره ابن هذه المدرسة، وابن البيئة السلفية الوهابية المتشددة، وهو لذلك أدرى بها وبأهلها..
قال في تعليقه على مقدمة الكتاب، عند ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن دعوته امتداد لدعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو ما يذكره السلفية عادة عند افتخارهم بدعوتهم وبمشايخهم: (كان الشيخ يُواجه من خصومه، بأن من تقاتلهم وتكفرهم مسلمون يصلون ويصومون ويحجون فكان الرد منه على هذه الشبهة – وهي شبهة قوية- حاضرة في ذهن الشيخ عند تأليفه الكتب أو كتابته الرسائل؛ فبالغ في تأكيده من باب ردة الفعل.. وتكرر عرضه لمحاسن كفار قريش وأصحاب مسيلمة والمنافقين في عهد النبوة والغلاة الذين قيل أن الإمام علياً حرقهم، فتكرر من الشيخ تفضيلهم على المسلمين في عصره من علماء وعامة! حتى يبرهن أنه لم يقاتل إلا أناساً أقل فضلاً من كفار قريش ومن المنافقين ومن أصحاب مسيلمة! وهذا خطأ بلا شك، مع ما في مقارناته التي يكتبها بين هؤلاء وهؤلاء من أقيسة تهمل فوارق كبيرة، فلذلك تجد استهلاله السابق ينبئ عن قلقله من الشبهة القوية التي كان الخصوم يواجهونه بها)([16])
وأورد قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وآخر الرسل محمد k وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..)([17])
ثم علق عليه بقوله: (هكذا يرسم الشيخ سامحه الله صورة جميلة وغير صحيحة عن كفار قريش ليبني على ذلك تكفير مسلمين (يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..!!)، وهذا قياس مع الفارق الكبير.. ثم ذكر الشيخ الصفة التي يرى أنه من أجلها قاتل الرسول k الكفار وقاتل الشيخ المسلمين فقال: (لكنهم – يعني كفار قريش – يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله!) يعني فجاز قتالهم ويجوز لنا نحن قتالهم للسبب نفسه.. سبحان الله، كفار قريش الذين لا يقولون (لا إله إلا الله) ولا يؤمنون بيوم القيامة ولا البعث ولا جنة ولا نار ولا يؤمنون بنبي ويعبدون الأصنام ويقتلون ويظلمون ويشربون الخمور ويزنون ويأكلون الربا ويرتكبون المحرمات مثلهم مثل المسلمين المصلين الصائمين الحاجين المزكين المتصدقين المجتنبين للمحرمات والفاعلين مكارم الأخلاق.. {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]) ([18])
ثم يبين الفوارق الكثيرة بين المسلمين والمشركين الذين يحرص السلفية على تشبيههم بهم، فيقول: (لا، ليسوا سواء، المسلمون ليسوا كالكفار حتى وإن تأول علماؤهم وجهل عوامهم فالتأويل والجهل باب واسع لكن لا يساوى فيه من يقوم بأركان الإسلام مع من ينكرها.. ولا يتساوى من يؤمن بالنبي k نبياً ورسولاً ومن يكذبه ويظنه ساحراً أو كاهناً.. ولا يتساوى من يتوسل بالنبي k ويتبرك بالصالحين – وإن أخطأ- مع من يرجم النبي k ويقتل الصالحين.. لا يتساوى من يؤمن باليوم الآخر والجنة والنار مع من يقول: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا..).. لا يتساوى من قال: (لا إله إلا الله) مع من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً).. لا، لا يتساوى من آمن ومن كفر.. من صدق الرسل ومن كذبهم.. من آمن بالبعث ومن كفر به.. لا يتساوى من طلب شفاعة الأنبياء والصالحين ممن يطلب شفاعة الجماد.. لا يتساوى ممن يطلب شفاعة الأنبياء وهو يعرف أنهم عبيد الله ممن يطلب شفاعة الأصنام ويجعلهم مشاركين لله في الألوهية… لا يا شيخنا هناك فرق كبير بين هؤلاء وهؤلاء) ([19])
ويورد قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وإلا فهؤلاء المشركون –يعني كفار قريش- يشهدون أن الله هو الخالق وحده، لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره..)([20]) ثم سرد الآيات في ذلك.
ثم يعلق عليه بقوله: (هنا أيضاً رسم صورة زاهية
للمشركين؛ ولم يذكر تكذيبهم بالبعث، ولا اعتقادهم أن الذي
يهلكهم هو الدهر، ولا اعتقادهم أنهم يمطرون بنوء كذا وكذا، ولا أكلهم الربا، وقتلهم النفس، ودفنهم البنات ولا غير ذلك
من المظالم والجرائم؛ ولا ذكر وصفهم للنبي k بأقبح الأوصاف وتكذيبهم له، وتعذيبهم المسلمين وقتلهم
المستضعفين.. فالشيخ محمد أخذ الآيات التي تدل على إيمانهم على وجه
الجملة بأن الله هو الخالق الرازق.
مع أن هذه الاعترافات التي اعترف بها المشركون؛ قد أجاب عنها بعض العلماء؛ وذكروا أن المشركين إنما
اعترفوا بها من باب (الإفحام والانقطاع)،
وليس من باب الاقتناع، ولو كانوا صادقين في
اعترافهم؛ لأتوا بلوازم هذا الاعتراف؛ فلذلك يأمر الله نبيه k أن يذكّرهم بلوازم هذا
الاعتراف كما في قوله تعالى:
(فقل:
أفلا تتقون) (قل: أفلا
تذكرون)؟!.. فكأن الله عز وجل يوبخهم بأنهم كاذبون، وأنهم لا يؤمنون بالله عز
وجل خالقاً ورازقاً، كما لا يستطيعون في الوقت نفسه أن يقولوا أن الأصنام
هي التي خلقت السماوات والأرض!!
فبقوا بين الاعتراف بالقول (انقطاعاً) وممارسة ما
يخالفه واقعاً، وهذا الجواب الذي أجاب به بعض العلماء إن كان ضعيفاً
فأضعف منه الزعم بأن كفار قريش أفضل من المسلمين في عصر الشيخ، والحاصل: أنه لا يجوز للشيخ ولا
لغيره أن يذكر فضائل الكفار ويهمل أخطاءهم، بينما يختار أخطاء
المسلمين وينسى فضائلهم!. ولا يجوز أن نختار الآيات التي قد نوهم بها العوام – ولو دون
قصد- بأن فيها ثناء على الكفار،
ونترك الآيات التي تذمهم وتبين كفرهم وظلمهم وتكذيبهم
بالبعث.. لا يجوز أن نقوم بكل هذا حتى نسوغ به قتالنا للمسلمين
الركع السجود؛ بزعمنا أنهم مثل الكفار تماماً الذين (يصلون ويحجون
ويتصدقون ويذكرون الله..) ([21])
وفي موضع آخر يرد ردا بليغا على تشبيه الوهابية المسلمين بالمشركين بقوله: (.. ثم إن المسلمين لا يعبدون إلا الله بخلاف هؤلاء المشركين؛ الذين يسجدون للأصنام؛ وإذا لم يكن هذا واضحاً؛ فلن نستطيع التفريق بين أمور أخرى أشد التباساً، ومن تلك الأمور الملتبسة اتهام بعض العلماء للشيخ محمد وأصحابه بأنهم خوارج؛ فهم يرون أن خصائص الخوارج مجتمعة فيهم لأنهم: يكفرون المسلمين.. ويستبيحون دماءهم.. وأنهم في آخر الزمان.. ويخرجون من قبل المشرق.. وينزلون الآيات التي نزلت في المشركين على المسلمين.. وأنهم يقرأون القرآن بما فيه من أوامر ونواه، فلا يتجاوز حناجرهم فلذلك لم تمنعهم هذه القراءة من تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وظلمهم مع النهي عن ذلك في النصوص القرآنية ومع نهي القرآن عن الظلم ولبس الحق بالباطل!.. وأن سيماهم التحليق.. فإذا كانت التسوية بين الخوارج والوهابية ظلماً – مع وجود هذا التشابه عند المخالفين لهم- فالتسوية بين كفار قريش والمسلمين أكثر ظلماً، وأبعد عن الحق، وإن كان الشيخ معذوراً في تفضيل كفار قريش على علماء زمانه؛ فالذي يجعل علماء الدعوة من الخوارج يكون أولى بالعذر؛ لأن الخوارج – مع هذا- مسلمون على الراجح، ولم يكفرهم الصحابة بينما كفار قريش لا يشك أحد في كفرهم)([22])
هذه نماذج عن بعض تعليقات الشيخ حسن بن فرحان المالكي على أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي صرح فيها بالحكم بالشرك على جميع المسلمين قياسا لهم على مشركي قريش وغيرهم.. ويوجد أمثالها كثير من أعلام المسلمين الذين عاصروا الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو عاصروا أبناءه وتلاميذه الذين أكملوا مسار الشيخ في تكفير المسلمين وقتالهم بسبب هذا النوع من التوحيد.
ومن بين تلك الردود المهمة ردود الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وهو أخ للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان يشغل منصب القضاء في (حريملاء)، وقد ألف رسالة في نقد أخيه سماها (الصواعق الإلهيّة في الرّد على الوهابيّة)([23])، ومما جاء فيها قوله: (ابتلى الناس بمن ينتسب الى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما، ولا يبالي من خالفه، واذا طلبت منه ان يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله ويمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال اهل الاجتهاد، ولا والله عشر واحدة ومع هذا، فراج كلامه على كثير من الجهال فإنا لله وانا اليه راجعون، الأمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة، بل كلهم كفار أو جهال (اللهم) اهدالضال ورده الى الحق)([24])
وهم – كما يذكر سليمان بن عبد الوهاب – لم يكتفوا بالحكم عليهم بالكفر فقط، بل حكموا على البلاد التي يسكنونها بأنها بلاد حرب، فيقول: (تكفرون عوام المسلمين وتستبيحون دماءهم وأموالهم، وتجعلون بلادهم بلاد حرب، ولم يوجد منهم عشر معشار ما وجد من هولاء، وإن وجد منهم شئ من أنواع الشرك سواء شرك أصغر أو أكبر فهم جهال، لم تقم عليهم الحجة الذي يكفر تاركها)([25])
ونجد من خلال رسالته حرقة كبيرة تدل على مدى الألم الذي أصاب الناس بسبب أخيه، فهو يقول: (ياعباد الله تنبهوا وارجعو الى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا، ولا يستغركم الشيطان ويزين لكم تكفير أهل الإسلام، وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الاسلام موافقتكم)([26])
ويقول: (يا عباد الله.. اتقوا الله خافوا ذا البطش الشديد لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: 58]، والله ما لعباد الله عند الله ذنب إلا أنهم لم يتبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة بإسلامه وأجمع المسلمون على إسلامه فإن اتبعوكم أغضبوا الله تعالى ورسوله k وإن عصوا آراءكم حكمتم بكفرهم وردتهم)([27])
ويقول: (فأنتم الآن تكفرون بأقل القليل من الكفر، بل تكفرون بما تظنون أنتم أنه كفر، بل تكفرون بصريح الإسلام، فإن عندكم أن من توقف عن تكفير من كفرتموه خائفاً من الله تعالى في تكفير من رأى عليه علامات الإسلام فهو عندكم كافر)([28])
هذا موقفهم من توحيد الألوهية وإنما أطلنا الحديث عنه، وأكثرنا من ذكر النقول ردا على احتيال السلفية لأنفسهم ولمشايخهم بأنهم ليسوا من المكفرة، مع أنه لا يوجد في الأمة من كفر الأمة، وفعل بها الأفاعيل مثلهم..
توحيد الربوبية:
يقصد السلفية بتوحيد الربوبية كل ما ورد من معاني الأسماء الحسنى في القرآن الكريم كرزق الله لعباده، ورحمته بهم، وإحسانه إليهم، ونحو ذلك.. وككون الله تعالى هو الخالق البارئ المصور.. وهكذا..
ومع كون القرآن الكريم أعطى هذا النوع من المعرفة بالله الحظ الأعلى، بل جعله هو الباب الوحيد لمعرفة الله تعالى، إلا أن السلفية ـ كما رأينا ـ يحتقرون هذا النوع من المعرفة، لأنهم يتصورون أن المشركين يشاركونهم فيها.. ولهذا فإن التوحيد الكامل عندهم هو إما توحيد الألوهية ـ كما رأينا ـ أو توحيد الأسماء والصفات.. وهو كما سنرى لا يقصدون منه إلا التجسيم والتشبيه.
وقد حاولت كثيرا أن أجد كتابا سلفيا في شرح الأسماء الحسنى غير مختلط بالتجسيم فلم أجد.. وأتحدى من يجد هذا النوع من الكتب.. لأنهم ـ حتى لو ذكروا الأسماء الحسنى ـ فإنهم يمرون عليها مرور الكرام، ليتفرغوا بعدها للساق والضرس والحقو والقعود والجري والهرولة.
ولهذا لا نجد كتابا من كتبهم خصوه لأي اسم من أسماء الله الحسنى، بينما خصوا الصورة والوجه والحد والقعود والجلوس ونحوها بكتب ورسائل كثيرة كما شرحنا ذلك في [السلفية والوثنية المقدسة]
وسأستعرض هنا للدلالة على هذا فهرس كتاب سلفيا في التوحيد ألفه من يسمونه إمام الأئمة: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)، وهو [كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل] لنرى من خلاله حظ هذا الكتاب من أسماء الله الحسنى، أو مما يسمونه توحيد الربوبية:
[ذكر البيان من خبر النبي k في إثبات النفس لله عز وجل.. باب ذكر إثبات العلم لله بالوحي المنزل على النبي المصطفى k، الذي يقرأ في المحاريب والكتاتيب من العلم الذي هو من علم العام، لا بنقل الأخبار التي هي من نقل علم الخاص، ضد قول الجهمية المعطلة الذين لا يؤمنون.. ذكر إثبات وجه الله الذي وصفه بالجلال والإكرام.. باب ذكر البيان من أخبار النبي المصطفى k في إثبات الوجه لله جل ثناؤه.. باب ذكر صورة ربنا جل وعلا وصفة سبحات وجهه عز وجل تعالى ربنا أن يكون وجه ربنا كوجه بعض خلقه، وعز ألا يكون له وجه، إذ الله قد أعلمنا في محكم تنزيله أن له وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى عنه الهلاك.. باب ذكر أخبار رويت عن النبي k: تأولها بعض من لم يتحر العلم على غير تأويلها ففتن عالما من أهل الجهل والغباوة، حملهم الجهل – بمعنى الخبر – على القول بالتشبيه، جل وعلا عن أن يكون وجه خلق من خلقه مثل وجهه، الذي وصفه الله بالجلال والإكرام.. باب ذكر إثبات العين لله جل وعلا على ما ثبته الخالق البارئ لنفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه k.. باب إثبات السمع والرؤية لله جل وعلا الذي هو كما وصف نفسه: سميع بصير، ومن كان معبوده غير سميع بصير، فهو كافر بالله السميع البصير.. باب البيان من سنن النبي k على تثبيت السمع والبصر لله.. باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا والبيان: أن الله تعالى له يدان.. باب ذكر البيان من سنة النبي k على إثبات يد الله جل وعلا موافقا لما تلونا من تنزيل ربنا لا مخالفا قد نزه الله نبيه.. باب ذكر قصة ثابتة في إثبات يد الله جل ثناؤه بسنة صحيحة عن النبي k بيانا أن الله خط التوراة بيده لكليمه موسى، وإن رغمت أنوف الجهمية.. باب ذكر سنة ثالثة في إثبات اليد لله الخالق البارئ وكتب الله بيده على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وفي هذه الأخبار التي نذكرها في هذا الباب إثبات صفتين لخالقنا البارئ، مما ثبتها الله لنفسه في اللوح المحفوظ والإمام المبين ذكر النفس واليد جميعا وإن رغمت أنوف.. باب ذكر سنة رابعة مبينة ليدي خالقنا عز وجل مع البيان: أن لله يدين، كما أعلمنا في محكم تنزيله، أنه خلق آدم بيديه، وكما أعلمنا أن له يدين مبسوطتين، ينفق كيف يشاء.. باب ذكر سنة خامسة تثبت أن لمعبودنا يدا يقبل بها صدقة المؤمنين عز ربنا وجل عن أن تكون يده كيد المخلوقين.. باب ذكر صفة خلق الله آدم عليه السلام والبيان الشافي أنه خلقه بيديه، لا بنعمتيه، على ما زعمت الجهمية المعطلة، إذ قالت: إن الله يقبض بنعمته من جميع الأرض قبضة، فيخلق منها بشرا، وهذه السنة السادسة في إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا.. باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله.. باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح: أن لخالقنا جل وعلا يدين كلتاهما يمينان، ولا يسار لخالقنا عز وجل، إذ اليسار من صفة المخلوقين، فجل ربنا عن أن يكون له يسار.. باب ذكر سنة تاسعة تثبت يد الله جل وعلا وهي إعلام النبي k أن الله غرس كرامة أهل الجنة بيده وختم عليها.. باب ذكر سنة عاشرة تثبت يد الله وهو إعلام النبي k أمته قبض الله الأرض يوم القيامة، وطيه جل وعلا سماواته بيمينه، مثل المعنى الذي هو مسطور في المصاحف، متلو في المحاريب، والكتاتيب، والجدور.. باب ذكر إمساك الله تبارك وتعالى اسمه وجل ثناؤه السماوات والأرض وما عليها على أصابعه جل ربنا عن أن تكون أصابعه كأصابع خلقه.. باب ذكر إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية.. باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء، على عرشه فكان فوقه.. باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء.. باب ذكر سنن النبي k المثبتة أن الله جل وعلا فوق كل شيء وأنه في السماء.. باب ذكر الدليل على أن الإقرار بأن الله عز وجل في السماء من الإيمان.. باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي k في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة..
وهكذا يستمر الكتاب من أوله إلى آخره في بحث هذه المسائل، وفي الدلالة عليها من أخبار الرواة المجسمة، سواء كانوا عقلاء أو مجانين عربا أو عجما مسلمين أو يهود.. فالهدف هو إثبات تلك الأعضاء لله، ولا يهم المصدر المثبت لها.
توحيد الأسماء والصفات:
وهذا هو التوحيد الذي يعطيه السلفية أهمية كبرى بعد توحيد الألوهية باعتباره أكبر مصدر تكفيري للأمة جميعا، لأن السلفية وحدهم من بين الأمة من يقول بهذا النوع من التوحيد.. فالصفات عندهم لا تقتصر على الصفات المعنوية أو المعاني كما ينص الأشاعرة، وإنما تشمل اليد والأصابع والوجه ونحوها.. بل هذه الصفات، وهي التي يسمونها صفات الذات من الأهمية ما لا تعدله أي صفات أخرى.
وهم في تصنيفهم للصفات ينطلقون من الإنسان، باعتبار الله تعالى ـ كما يرون ـ خلق الإنسان على صورته.. ولذلك فإن كل ما للإنسان من صفات وأعضاء يوجد مثله لله.
ولهذا نرى علما كبيرا من أعلامهم هو القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) ينطلق من حديث الصورة الذي يعظمونه كثيرا ليصف الله تعالى بكل ما تقتضيه الجسيمة من أوصاف.
ومثلما استعرضنا في العنوان السابق فهرس كتاب التوحيد لابن خزيمة، نستعرض باختصار فهرس أبواب كتاب [إبطال التأويلات لأخبار الصفات]، وهو مطبوع ومحقق ومنتشر على النت بكثرة:
[فصل في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها.. فصل في إطلاق القول بأنه خلق آدم على صورته وأن الهاء راجعة على الرحمن.. فصل في إثبات رؤيته لله سبحانه في تلك الليلة.. فصل وضع الكف بين كتفيه.. فصل جواز إطلاق تسمية الصورة عليه.. فصل إثبات صفة الساق لربنا سبحانه.. فصل إثبات صفة الشخص والغيرة لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة اليد واليمين والقبض لله تعالى.. فصل إثبات الرجل والقدم لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة الضحك لربنا، تبارك وتعالى.. فصل صفة العلو لربنا، تبارك وتعالى.. فصل إثبات صفة الفرح لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة العجب لربنا، تبارك وتعالى.. فصل إثبات صفة النزول لربنا، تبارك وتعالى.. فصل بيان أن الله تعالى حجابه النور أو النار.. فصل إثبات رؤية المؤمنين لربهم جل وعز في الآخرة.. فصل إثبات صفة الكف للرحمن جل شأنه.. فصل إثبات صفة الأصابع للرحمن سبحانه.. فصل إثبات صفة القبض والبسط لربنا تعالى.. فصل إثبات السمع والبصر لله تعالى.. فصل إثبات صفة العينين لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة الحياء لربنا جل شأنه.. فصل إثبات صفة النفس لربنا جل شأنه.. فصل في المقام المحمود لنبينا k]
وحتى لا يتصور القارئ أن الفصل الأخير لا علاقة له بالتجسيم، وأنه يذكر فقط مكانة رسول الله k والمقام المحمود الذي خصه به، نذكر الروايات التي أوردها المؤلف في هذا الفصل لنعلم من خلالها أن التجسيم والوثنية السلفية دخلت في كل محل..
فمن الروايات التي أوردها ما رواه عن ابن عمر، عن النبي k في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: (يجلسه معه على السرير)([29])
وروى عن عائشة قالت: سألت رسول الله k عن المقام المحمود فقال: (وعدني ربي القعود على العرش) ([30])
وروى عن عن عبد الله بن سلام أنه قال: (إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم k فأقعد بين يدي الله تعالى على كرسيه)، قال: فقلت: يا أبا مسعود إذا كان على كرسيه أليس هو معه؟ قال: (ويلكم هذا أقر حديث في الدنيا لعيني)، قال حجاج في حديثه: (إذا كان يوم القيامة نزل الجبار جل اسمه على عرشه، وقدماه على الكرسي، ويؤتي بنبيكم k، فيقعد بين يديه على الكرسي، فقالوا للحسن: إذا كان على الكرسي هو معه؟ قال: نعم، ويلكم هو معه هو معه) ([31])
وقد علق الشيخ أبو يعلى على هذه الروايات وغيرها بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأنه يجلسه معه على عرشه وسريره بمعنى يدنيه من ذاته ويقربه منها)([32])
2 ـ التصورات الإسرائيلية للنبوة:
لم يكتف السلفيون بما ورد في القرآن الكريم من تلك الحقائق الجميلة الطاهرة حول الأنبياء عليهم السلام، ولم يسمعوا لقوله تعالى وهو ينهى المؤمنين عن سؤال أهل الكتاب أو غيرهم عن تلك الحقائق الجميلة، كما قال تعالى: { وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]
بل راحوا يحادون الله تعالى، ويستفتون من هب ودب عن الأنبياء عليهم السلام، ليشوهوا صورتهم الجميلة التي رسمها القرآن الكريم لتكون للمؤمنين موضع قدوة.
وكان منطلقهم في ذلك هو نفس منطلق اليهود من قبلهم.. وهو أن الأنبياء بشر.. وما داموا بشرا، فلا حرج أن يكونوا قدوة للمؤمنين في المعصية، كما أنهم قدوة لهم في الطاعة.
وقد عبر ابن تيمية عن ذلك، فقال: (إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف.. وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ولم ينقل عنهم ما يوافق القول وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة ثم عن بعض المعتزلة ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين. وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقرون عليها ولا يقولون إنها لا تقع بحال وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك: الرافضة فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل.. فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة، وقد يكفرون من ينكر القول بها، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والاثني عشرية)([33])
ونحب أن نذكر تعليقا على هذا بأن المغالطة الكبرى الموجودة في هذا الكلام هو عن مفهوم العصمة عند ابن تيمية وعند سلفه.. فإن كان هذا المفهوم قاصرا على ترك الكبائر، فإن الأمة جميعا إلا ما شذ منها معصوم.. ولا مزية في هذا.. بل إنهم في تراجمهم لمن يسمونهم أئمة السلف يذكرون تنزههم منذ صغرهم عن الصغائر، فكيف بالكبائر، في نفس الوقت الذي يجيزون فيه على الأنبياء الوقوع في الكبائر حال صغرهم.
فمن الأمثلة التي يوردونها كثيرا في خطبهم قولهم: (قال البخاري: ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.. وقال الشافعي: لو أعلم أن الماء يفسد عليَّ مروءتي ما شربته.. وقالوا لمحمد بن واسع: ألا تتكيء، فقال: إنما يتكيء الآمن، وأنا لا زلت خائفاً.. وحج مسروق فما نام إلا ساجداً..).. وهكذا نجد أمثال هذه الأوصاف عند ذكرهم لأئمتهم المعصومين.
ولم يكتف ابن تيمية بما ذكره من اتفاق سلفه ومن شايعهم في هذه المسألة، بل يضيف إليه اعتبار ما قاله المنزهة من تنزيه الأنبياء تحريفا للدين، يقول في (منهاج السنة): (تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.. وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه)([34])
وهكذا أصبح تنزيه الأنبياء بدعة.. وأصبح رميهم بالكبائر والصغائر والموبقات عند ابن تيمية والسلفية سنة..
ولو أننا بحثنا جيدا في مصدر هذه المقولة لوجدناهم اليهود.. فاليهود الذين تتملذ عليهم أسلاف السلفية الأوائل هم الذين رووا تلك الروايات الكثيرة التي استند إليها السلفية في إثبات المعاصي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد ورد في (سفر الملوك: إصحاح 8، عدد 46): (لأنه ليس إنسان لا يخطئ)، وورد في (سفر أيوب: إصحاح 15، عدد 14-16) (من هو الإنسان حتى يزكو، أو مولود المرأة حتى يتبرر؟. هوذا قديسوه لا يأتمنهم، والسماوات غير طاهرة بعينيه، فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء!)، وورد في (سفر المزامير، المزمور 14، 1: 53، 2: 53، 3: 53) (فسدوا ورجسوا بأفعالهم، وليس من يعمل صلاحا، الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر: هل من فاهم طالب الله؟ كلهم قد ارتدوا معا، فسدوا. ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد)
وبناء على هذه النصوص وغيرها كثير يقصر اليهود العصمة على التبليغ، يقول ابن كمونه (وأما داود وسليمان فلم يكونا من المعصومين عن الخطأ لأنهما لم يكونا من المرسلين، وإنما يجب عصمة النبي المرسل فيما أرسل فيه، وفيما عدا ففي العصمة شك) ([35]).
وما ذكره ابن كمونة هو نفس ما يذكره السلفية الذين يقصرون العصمة على التبليغ، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: (قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – ولاسيما محمد صلى الله عليه وآله وسلم – معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل.. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله قولاً وعملاً وتقريراً، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم)([36])
وقال ابن تيمية: (فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقاً وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه)([37])
ولم يكتف السلفية بهذا الاقتباس من أهل الكتاب، بل راحوا في تفاصيل حديثهم عن الأنبياء يذكرون نفس ما يذكره أهل الكتاب، ويصورون الأنبياء بتلك الصورة المشوهة التي صور بها الأنبياء، مبتعدين عن الصورة الجميلة التي صورهم بها القرآن الكريم.
بل إننا نجد من أعلامهم أو المتأثرين بهم من ذهب إلى جواز النقل المباشر من كتب أهل الكتاب بدل الاكتفاء بما يقوله كعب الأحبار أو وهب بن منبه..
وقد ذكرنا في كتاب [السلفية والنبوة المدنسة] الكثير من الأمثلة عن تلك التحريفات الخطيرة التي شوه بها السلفية وسلفهم النبوة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى درجة قولهم بجواز الكفر عليهم، بل وقوعه منهم.
بل إلى درجة اعتبار إبراهيم عليه السلام وبعد تلك الابتلاءات العظيمة التي مر بها ونجح فيها جميعا متشككا في قدرة الله تعالى، كما فسروا بذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260]
فقد رووا أن إبراهيم u حصل له شك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولهذا أراد أن يتأكد، وقد رجح الطبري هذا كما رجحه الكثير من السلفية، بناء على حديث يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)([38])
بل إنهم يذكرون في هذا أمرا عمليا خطيرا، وهو أن الشك لا يؤثر في الإيمان، ولذلك يعتبرون أن حكاية الله لشك إبراهيم u وعدم عقوبته عليه أرجى آية في القرآن الكريم، وقد رووا في ذلك عن سعيد بن المسيب، قال: اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم k: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260] ([39])
وقد رجح الطبري هذا القول، فقال تعقيبا على الروايات التي أوردها في ذلك: (وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟)، وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا: من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: (أولم تؤمن)؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت)([40])
وبهذا أعطى السلفية المبرر لكل من يطلب الشواهد الحسية ليؤمن، كما فعل بنو إسرائيل عندما طلبوا أن يروا الله جهرة..
3 ـ التصورات الخرافية للعوالم الغيبية:
لم يكتف السلفية بتشويه العقائد المرتبطة بالله تعالى، وبرسله عليهم الصلاة والسلام، بل راحوا يشوهون جميع الحقائق الغيبية التي وردت في القرآن الكريم حول عوالم الغيب من الملائكة والجن وغيرها، فقد حولوا من تلك العوالم خرافات ممتلئة بالغرابة.
فقد حولوا الملائكة من مخلوقات نورانية مقدسة لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف فقط بعض صفات كمالها، وبعض الوظائف التي انتدبت لها إلى مخلوقات غريبة ضخة تتشكل بأشكال الحيوانات المختلفة، وتتصرف التصرفات الغريبة.
ومن تلك الأحاديث التي رووها في الدلالة على ذلك ما رووه عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت سحابة، فقال: تدرون ما هذه، قالوا: سحاب، قال: والمزن، قا لوا: والمزن، قال: والعنان، ثم قال: تدرون كم بعد ما بين السماء والأراضين، قالوا: لا، قال: إما واحدة أو اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك)([41])
وعلى الرغم من الغرابة الشديدة لهذا الحديث إلا أن ابن تيمية انتصر له انتصارا شديدا، ومما قاله في الانتصار له: (إن هذا الحديث قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف، ولم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد، كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته)([42])
بل انتصر له كل المعاصرين يقول ابن جبرين: (فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف على نقله وقبوله ولم يتعرضوا لرده ولا تأوله ولا تشبيهه ولا تمثيله)([43])
ومع هذا، فقد نقلوا في روايات أخرى أن حملة العرش كانو بصور أخرى.. وهي (ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر)([44])، ورووا عن ابن الكواء أنه قال لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين إن في كتاب الله لآية قد أفسدت علي قلبي، وشككتني في ديني، فقال له أمير المؤمنين: (ويحك يابن الكواء، وما هذه الآية التي أفسدت عليك قلبك وشككتك في دينك؟ فقال له ابن الكواء: قول الله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]، ما هذه الصلاة؟ وما هذا الصف؟ وما هذا التسبيح؟ فقال له أمير المؤمنين: يابن الكواء إن الله تعالى خلق الملائكة في صور شتى، وإن لله ملكا في صورة ديك أشهب، براثنه في الأرض السفلى السابعة، وعرفه مثنى تحت عرش الرحمن، له جناح بالمشرق من نار، وجناح بالمغرب من ثلج، فإذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه، وأقام عرفه تحت العرش، ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم، فلا الذي من النار يذيب الثلج، ولا الذي من الثلج يطفئ الذي من النار، ثم نادى بأعلى صوته: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وأشهد أن محمدا خير النبيين، فتسمعه الديكة في منازلكم فتصفق بأجنحتها فتقول كنحو من قوله، فهو قول الله عز وجل في كتابه: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41])([45])
ورووا عن رسول الله k قوله: (العرش على ملك من لؤلؤة في صورة ديك رجلاه في التخوم السفلى وعنقه مثنية تحت العرش، وجناحاه في المشرق والمغرب فإذا سبح الله ذلك الملك لم يبق شيء إلا سبح)([46])
هذا حديثهم عن عالم الملائكة، أما حديثهم عن عالم الجن، فأعجب وأغرب، فهم لا يستندون فيه لا إلى الإسرائيليات ولا إلى غيرها، بل يستندون إلى اتصالهم المباشر بهذا العالم، لأنهم يعتبرون إمكانية التواصل مع هذا العالم عبر الرقية المبتدعة التي يمارسونها أو عبر غيرها.
ولهذا نرى ابن تيمية عند حديثه عن الجن يطرح كل أدواته الاستدلالية التي يسخر من خصومه بسبب عدم تمسكهم بها، لأنه لا يحتاج إليها في التعرف عليهم، وكيف يحتاج إليها وهو يتواصل مباشرة معهم هو وجميع إخوانه من السلفيين.. وقد ذكر ذلك في مواضع كثيرة منها قوله: (.. أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم؛ إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين، ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب، وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به)([47])
ويذكر ابن تيمية رؤيته لخط الجن وكتابتهم مرات متعددة، فيقول: (وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أن الحلاج فيرونه في صورته عيانا وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن وقد رأيت خط الجن غير مرة وفيه كلام من كلام الجن)([48])
بل إن ابن تيمية يذكر حب بعض الجن له، وسعيهم في خدمته، ومن تلك الحكايات قوله: (كما جرى مثل هذا لي كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو وأخبر بذلك ملك ماردين وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولا وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك، قال لي طائفة من الناس فلم لايجوز أن يكون ملكا قلت لا إن الملك لا يكذب وهذا قد قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك)([49])
وبناء على هذا التواصل المباشر من السلفية ومن ابن تيمية خصوصا مع عالم الجن، نجدهم يذكرون عنهم معلومات كثيرة لا توجد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا حتى في الإسرائيليات نفسها، لأنهم استفادوها مباشرة من التواصل مع إخوانهم من الشياطين وعالم الجن.
ومن تلك المعلومات ذكرهم لأنواع التواصل مع الجن وأغراضه، كما عبر ابن تيمية على ذلك، فقال: (.. والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال: فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه. ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول: كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص: إما فاسق وإما مذنب غير فاسق وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات: مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به)([50])
ومن ذلك قول ابن تيمية عند حديثه عن أسباب الصرع: (وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف.. وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من الفواحش التى حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس، وإن كان برضى الآخر فكيف إذا كان مع كراهته فإنه فاحشة وظلم، فيخاطب الجن بذلك، ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة، أو فاحشة وعدوان لتقوم الحجة عليهم بذلك، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذى أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وما كان من القسم الثانى فان كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك فى داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز، وأنتم ليس لكم أن تمكثوا فى ملك الإنس بغير أذنهم، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات، ولهذا يوجدون كثيرا فى الخراب والفلوات ويوجودون فى مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والمقابر والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا الى هذه الأماكن التى هى مأوى الشياطين)([51])
بل إن ابن تيمية وتلاميذه من السلفية لا يكتفون بإمكانية التواصل مع عالم الجن فقط، بل يضمون إلى ذلك إمكانية الاستعانة بهم والاستفاده منهم، يقول ابن تيمية في [النبوات]: (والجني قد يحب الإنسي كما يحب الأنسي الانسي وكما يحب الرجل المرأة، والمرأة الرجل ويغار عليه ويخدمه بأشياء واذا صار مع غيره فقد يعاقبه بالقتل وغيره كل هذا واقع ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئا من أموال الناس مما لم يذكر اسم الله عليه ويأتونه إما بطعام وإما شراب واما لباس واما نقد وإما غير ذلك وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك وليس شيء من ذلك من معجزات الانبياء ولا كرامات الصالحين فإن ذلك انما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة وهو لو كان مباحا لم يجز أن يفعل بهذا السبب فكيف اذا كان في نفسه ظلما محرما لكونه من الظلم والفواحش ونحو ذلك وقد يخبرون بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه ويدخلون في جوف الانسان قال النبي k: (ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم)([52])
ويقول في [دقائق التفسير]: (وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء فى أغراضهم وهؤلاء لهؤلاء فى أغراضهم فالجن تأتيه بما يريد من صورة او مال أو قتل عدوه والانس تطيع الجن فتارة تسجد له وتارة تسجد لما يأمره بالسجود له وتارة تمكنه من نفسه فيفعل به الفاحشة وكذلك الجنيات منهن من يريد من الانس الذى يخدمنه ما يريد نساء الانس من الرجال وهذا كثير فى رجال الجن ونسائهم فكثير من رجالهم ينال من نساء الانس ما يناله الانسى وقد يفعل ذلك بالذكران)([53])
وسئل الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين عن الحكم الشرعي للاستعانة بالجن في الكشف عن الجرائم والسرقات الخطيرة ونحو ذلك، فقال: (لا شك أن في الجن مسلمون وصالحون، ولا شك أنهم جميعا يروننا ونحن لا نراهم، وأنهم يتكلمون وقد نسمع كلامهم وقد لا نسمعه، فعلى هذا لا ينكر أنهم يخبرون بعض البشر بأشياء لا يعلمها الإنس لأنهم لخفتهم يقطعون المسافات الطويلة في زمن قصير، وقد حكى الله عنهم قولهم: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } [الجن: 8، 9]، ففي الإمكان أن يعلموا عن السارق ومكان الضالة ومجتمع أهل الإجرام ومكائد الأعداء وموضع ذخائرهم ونوعها، ولكنهم لا يعلمون الغيب.. فأما الاستعانة بهم فأرى أنه لا يجوز لأن في ذلك استخدام لهم وقد لا يخدمون إلا بتقرب إليهم واستضعاف لهم، فأما إن تلبس أحدهم بإنسان وسألناه عن بعض ما لا نعلمه فلا مانع من اعتبار خبره، مع أنه قد يظن ظنا، وقد يتعمد الكذب أما إن تحقق من بعض الصالحين منهم خبر بواسطة بعض الصالحين من البشر فلا مانع من قبوله دون طلب ذلك من أحدهم وقد تواتر عن بعض الصالحين من الناس أن هناك من يوقظهم للصلاة آخر الليل ولا يرون أحدا وإنما هم من صالحي الجن)([54])
وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: (والاستعانة بالجن الأصل فيها المنع، وقد أجاز بعض العلماء أنه إذا عرض الجني أحيانا وهذه نادرة للمسلم في إبداء إعانة له فإن له أن يفعل ذلك وهذا ليس من هدي النبي k ولا صحابته، وقد أدت الاستعانة بمن زعموا أنهم من مسلمين الجن من قبل بعض الراقين إلى فتن وشحناء ومشكلات بين الناس فيقول الراقي إن الجن يقول إن الحاسد أو العائن هو الزوجة الثانية أو السحر من قبل أهل الزوجة أو من فلان من الأقرباء وهكذا، مما يؤدي إلى القطيعة والشحناء والشرور.. وهنا أمر نلفت إليه وهو أن عدالة الجن لا تعلم حتى لو كان قرينا للإنسان وهل الجن فيما يخبر به عدل أو غير عدل، ولهذا ذكر علماء الحديث في كتب المصطلح أن رواية مسلمي الجن ضعيفة لأن الرواية في صحتها موقوفة على معرفة العدالة والثقة في الراوي، وهذا لا سبيل للوصول إليه بالنسبة للجن فكيف يقبل من يقولون بأنهم مسلمي الجن إما فلان مسحور على يد فلان أو أنه محسود بعين فلان)([55])
وقال الدكتور أحمد بن ناصر بن محمد الحمد: (إن المؤمنين من الجن كالمؤمنين من الإنس من حيث أنهم مأمونو الجانب، فلا يدعون إلى غير عبادة الله تعالى، ولا يكونون عونا على الظلم والعدوان، وحصول الخير منهم غير مستنكر، بل هو مأمول، وعونهم لإخوانهم من الإنس ممكن، وقد يحصل من غير أن يراهم الإنس، أو يشعروا بمساعدتهم حسيا بحسب قدرتهم، كما يعين الإنس بعضهم بعضا، وكثيرا ما يعدم التعاون بين الإنس مع اتحاد جنسهم، فعدمه حال اختلاف الجنس أقرب وأحرى، لكن أن تحصل السيطرة والتسخير من الإنسي للجني فهذا أمر ليس ممكنا للاختلاف في الخلقة، من حيث أن الإنسي لا يرى الجن، ومن ثم لا يستطيع السيطرة والتحكم، وهذا الأمر ليس من متطلبات النفوس، فلا أحد تميل نفسه إلى أن يسخر ويكون عبدا إلا بالقوة والقهر، وعليه.. فلن يرضى هذا الأمر أحد رغبة له. ويحصل من الشياطين نتيجة سيطرة بعضهم على بعض فيكون المسخر للإنسي من الجن مستذلا من قبل أمثاله من ذوي السيطرة من الشياطين، وذلك مقابل تحقيق الإنسي لذلك المسيطر من الشياطين ما يريد منه، من الكفر والفسوق والعصيان، والخروج على تعليمات الدين، فيكون المستعبد في الحقيقة الإنسي للشيطان)([56])
بل إن السلفية وابن تيمية لا يكتفون بكل ذلك، بل يضمون إليه إمكانية ضرب الجن، وإلحاق مختلف العقوبات بهم، يقول ابن تيمية: (ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربا كثيرا جدا، والضرب إنما يقع على الجني، ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع، ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسي لقتله، وإنما هو على الجني والجني يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربنا مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين)([57])
وقال: (وإذا ضرب بدن الإنسي؛ فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ويخرج منه ألم الضرب، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه)([58])
وقال: (فإنه يصرع الرجل؛ فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثَّر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله)([59])
بل إن ابن تيمية نفسه استعمل هذه الوسيلة في عقاب الجن، فقد حكى ابن مفلح – وهو تلميذ لابن تيمية– فقال: (كان شيخنا – يعني شيخ الإسلام ابن تيمية – إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه وأمره ونهاه، فإذا انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق؛ ضربه حتى يفارقه)([60])
ولم يكن هذا خاصا بابن تيمية، فقد قال القاضي أبو الحسن بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي: سمعت أحمد بن عبيد الله قال: سمعت أبا الحسن علي بن علي بن أحمد بن علي العكبري قدم علينا من عكبرا في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة قال: حدثني أبي عن جدي قال: كنت في مسجد أبي عبدالله أحمد ابن حنبل، فأنفذ إليه المتوكل صاحبا له يعلمه أن له جارية بها صرع وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له وقال له: امض إلى دار أمير المؤمنين وتجلس عند رأس هذه الجارية وتقول له – يعني للجني – قال لك أحمد: أيما أحب إليك تخرج من هذه الجارية أو تصفع بهذه النعل سبعين، فمضى إليه وقال له مثل ما قال الإمام أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به.. وخرج من الجارية.. وهدأت ورزقت أولادا، فلما مات أحمد عاودها المارد فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروزي وعرفه الحال.. فأخذ المروزي النعل ومضى إلى الجارية فكلمه العفريت على لسانها: لا أخرج من هذه الجارية ولا أطيعك ولا أقبل منك، أحمد بن حنبل أطاع الله فأمرنا بطاعته)([61])
أما خلف السلفية والمعاصرون منهم، فقد قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز جوابا لمن سأله عن جواز الضرب والخنق والتحدث مع الجن لمن يعالج المرضى بقراءة القرآن؟ فأجاب: (هذا قد وقع شيء منه من بعض العلماء السابقين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله تعالى – فقد كان يخاطب الجني ويخنقه ويضربه حتى يخرج، وأما المبالغة في هذه الأمور مما نسمعه عن بعض القراء فلا وجه لها)([62])
وقال: (يجب الحذر كل الحذر من مسألة الضرب فهي مسألة خطيرة يترتب عليها آثار خطيرة خصوصا إذا لجأ إليها من لا يعرف استخدام الضرب.. فقد يضرب المصروع على أن به جن وما به جن فيقع الضرب على بدن الآدمي وينتج عن ذلك أمور خطيرة. وقد يضرب المريض في أماكن خطيرة، إلى غير ذلك من المحاذير، وقد بالغ بعض القراء في مسألة الضرب وبعضهم يستخدم الصعق الكهربائي وهذا خطأ.. والحاصل أن مسألة الضرب تحتاج إلى مقياس ومعرفة بحيث يعرف متى يضرب وأين يضرب ومقدار الضرب وهل هو محتاج إليه؟ إلى غير ذلك من القيود والضوابط)([63])
وقال الأستاذ وائل آل درويش مبينا كيفية التعامل مع الجن قبل عقوبته: (والحاصل أنه يؤمر – يعني الجني الصارع – بالمعروف وينهى عن المنكر فتبدأ معه بالترغيب والترهيب والنصح والإرشاد والعلم والتعريف ثم الزجر ثم قد يصل الأمر إلى الضرب والعقاب ثم الحرق بآيات الكتاب، إلا أنه ينبغي أن يتفطن المعالِج فلا يستخدم الضرب إلا عن بصيرة وقلب حاضر ونظر ثاقب، إذ من الجن من يفر ويهرب، وقد يترك الجسم ويخرج عند نزول الضرب عليه، فيقع الضرب على المريض فيشعر به، وهذا واقع مشاهد)([64])
لم يكتف السلفية بتلك التحريفات الخطيرة التي شوهوا بها العقيدة الإسلامية الصافية، وإنما أضافوا إلى ذلك عقائد جديدة ممتلئة بالغرابة، ليس لها دليل لا من العقل ولا من النقل.. وإنما دليلها الوحيد هو سلف السلفية..
ولم يكتف السلفية بذكر تلك العقائد، ويخيروا الناس بين قبولها ورفضها، بل ألزموهم بها إلزاما شديدا، وكأنها هي الدين بأصوله وفروعه.
ويمكننا تصنيف تلك العقائد الجديدة إلى ركنين كبيرين: أولهما العقيدة في الصحابة، والثاني العقيدة في بعض الفروع الفقهية الخلافية.
يعتبر السلفية العقيدة في الصحابة الركن السابع من أركان الإيمان، إن لم تكن الركن الأول منه، ذلك أن النبي k عندما ذكر الأركان الست للإيمان في حديث جبريل نسي أو أخطأ ـ باعتباره بشرا في تصورهم ـ فلم يذكر هذه العقيدة الخطيرة التي تعتبر أهم العقائد، لكن سلف السلفية بحمد الله استدركوا ذلك لاحقا، فأضافوا هذه العقيدة العظيمة إلى العقائد الإسلامية.
وسبب إضافة هذه العقيدة هو أن من أغراض رسالة النبي k الكبرى ـ كما يصور السلفية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ـ بيان فضل الصحابة، وأن انتقادهم أو تخطئتهم ونحو ذلك كفر وضلال وزندقة.
ومن النصوص القطعية المتواترة التي يستدل بها السلفية على هذه العقيدة الجديدة، قول الإمام العظيم أيوب السختياني: (من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان استنار بنور الله عز وجل، ومن أحب عليا فقد أخذ بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب رسول الله k فقد برئ من النفاق ومن ينتقص أحدا منهم أو يبغضه لشيء كان منه فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، والخوف عليه أن لا يرفع له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه لهم سليما)([65])
ولست أدري من أين له كل هذه الأحكام الخطيرة التي تحتاج إلى معصوم لإثبات أي حرف منها، فهل صارت إقامة الدين جميعا متوقفة على حب أبي بكر.. وهل صار حب عثمان سببا للاستنارة بنور الله.. ومن أين استنبط كل هذه الأنواع العجيبة من الجزاء والعقوبة، أم أن الجزاء والعقوبة محل اجتهاد، ويحق للسلف أن يتحدثوا فيها بما شاءوا، ويفرضوا على الله أن يجزي بها من شاءوا؟
ومثل ذلك ما رواه ابن كثير عن بعض السلف قال: (بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمر، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض علي فذاك خصمه النبي، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية، إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية)([66])
ومثل ذلك أو أخطر منه ما يروونه كل حين عن أبي زرعة من قوله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله k فاعلم انه زنديق، وذلك أن الرسول k عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله k، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) ([67])
ويروون عن عبدالله بن المبارك قوله: (خصلتان من كانتا فيه نجا: الصدق، وحب أصحاب محمد k)([68])
ورووا عن بشر بن الحارث قوله: (من شتم أصحاب رسول الله k فهو كافر وإن صـام وصلى وزعـم أنـه من المسـلمين) ([69])
وعند تتبعنا لحقيقة كلامهم ومرادهم منها لا نجد اهتماما كبيرا بأولئك الصادقين السابقين الذين أوذوا في الله، والذين لا يعيرهم السلفية أي اهتمام، بل إنهم مجهولون عندهم، لا قيمة لتضحياتهم، ولا عبرة بجهادهم.. وإنما العبرة عندهم بأولئك الطلقاء الذين قضوا حياتهم في حرب رسول الله k.
ولذلك نراهم يؤلفون الكتب الكثيرة في فضل معاوية وهو الطليق بن الطليق الذي قضى حياته كلها في حرب رسول الله k هو وأبوه وأمه وأهله جميعا، لكنهم لم يؤلفوا ولا نصف كتاب في عمار بن ياسر ذلك الرجل العظيم الذي اعتبره رسول الله k محكا ومعيارا لتمييز الفئة الباغية الظالمة من الفئة المحافظة على دين الله الأصيل.
ولهذا ـ أيضا ـ نراهم في كتب العقائد التي وضعها سلفهم يضمنون العقائد في معاوية إلى جانب العقيدة في الله ورسله وملائكته، كما قال الآجري في (الشريعة): (معاوية رحمه الله كاتب رسول الله k على وحي الله عز وجل وهو القرآن بأمر الله عز وجل وصاحب رسول الله k ومن دعا له النبي k أن يقيه العذاب ودعا له أن يعلمه الله الكتاب ويمكن له في البلاد وأن يجعله هادياً مهدياً.. وهو ممن قال الله عز وجل { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } (التحريم: 8) فقد ضمن الله الكريم له أن لا يخزيه لأنه ممن آمن برسول الله k)([70])
وقال ابن بطة في (الإبانة الصغرى): (تترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوج النبي k خال المؤمنين أجمعين وكاتب الوحي وتذكر فضائله)([71])
ولهذا ـ أيضا ـ نراهم يجيزون نقد عمار والطعن فيه وتأويل ما ورد في فضله من نصوص، بينما يعتبرون الكلام في معاوية طامة كبرى، وزندقة عظمى، وبدعة ليس لصاحبها قرار سوى في النار.. لأن سلفهم هو الذي قرر ذلك، ولا راد لقراره.
فقد رووا عن سلفهم عبد الله بن المبارك قوله: (معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شَزْراً؛ اتهمناه على القوم، أعني على أصحاب محمد k)([72])
ورووا عن الربيع بن نافع قوله: (معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله k فإذا كشف الرجل الستر اجترئ على ما وراءه)([73])
ورووا كذبا وزورا عن النسائي أنه سُئِلَ عن معاوية، فقال: (إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية؛ فإنما أراد الصحابة)([74])
أما ما ورد من النصوص في الدعاء عليه، فإنهم يفرضون على المسلم تأويله حتى يصير من الفرقة الناجية، قال الألباني: (.. فسره بعض المحبين قال: لا أشبع الله بطنه، حتى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة، لأن الخبر عنه أنه قال: (أطول الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة)([75]).. وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً في معاوية، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك.. ولذلك قال الحافظ ابن عساكر (إنه أصح ما ورد في فضل معاوية) فالظاهر أن هذا الدعاء منه k غير مقصود، بل هو ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله k في بعض نسائه (عقرى حلقى) و(تربت يمينك)، ويمكن أن يكون ذلك منه k بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متواترة، منها حديث عائشة قالت: (دخل على رسول الله k رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان؟ قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، قال: (أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً)([76])
بل إنهم ولمبالغتهم في شأن معاوية حرموا الكثير من علماء المسلمين من الانتماء للفرقة الناجية بسبب نقدهم لمعاوية ولاستبداده وطغيانه.
ومن أمثلة ذلك تلك الانتقادات الشديدة لسيد قطب بسبب نقد علمي بسيط ذكره في كتابه (كتب وشخصيات) عن معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، قال فيه: (إن معاوية وزميله عمراً لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس، وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع. وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لايملك علي أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل، فلا عجب ينجحان ويفشل. وإنه لفشل أشرف من كل نجاح)([77])
وهو كلام طبيعي يبين فيه سيد قطب فضل السابق على الطليق، وأن أخلاق تلاميذ رسول الله k لا يمكن أن يعادلها أحد غيرهم.. لكن السلفية لم يعجبهم هذا، لأن النصب الذي ورثوه من أسلافهم جعلهم يفضلون من حيث لا يشعرون معاوية على علي، لأن معاوية هو الذي آوى سلفهم أبا هريرة وكعب الأحبار وغيرهما، بينما كان علي بن أبي طالب هو عدو سلفهم من اليهود وتلاميذ اليهود.
والعجب أن الذين ينكرون هذا في حق معاوية مع ما فعله من جرائم في حق هذه الأمة هم أنفسهم الذين يجيزون الكبائر على الأنبياء، ويرون أن نقدهم فيها سنة، والدفاع عنهم والقول بعصمتهم المطلقة بدعة.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز تعليقا على النص الذي أوردناه لسيد قطب: (هذا كلام قبيح سب لمعاوية وسب لعمرو بن العاص؛ كل هذا كلام قبيح، وكلام منكر.. معاوية وعمرو ومن معهما مجتهدون أخطأوا. والمجتهدون إذاأخطأوافالله يعفوا عنا وعنهم).
وعندما سئل: ألا ينهى عن هذه الكتب التي فيها هذاالكلام؟ أجاب: (ينبغي أن تمزق)([78]) مع أنه هو نفسه يثني ويحقق الكتب الممتلئة بسب الأنبياء، بل بسب سيد الأنبياء k.
هذا مجرد نموذج عن موقف كبير من كبار سلفية العصر من سيد قطب بسبب هذا الموقف البسيط، أما صغار السلفية، وما كتبوه في ذلك، فحدث ولا حرج.
بناء على هذه الرؤية في الصحابة، والتي تخص الطلقاء أكثر من السابقين، والمنحرفين أكثر من المعتدلين، والمشوهين لرسالة رسول الله k أكثر من المحافظين عليها نرى السلفية يضعون في كتب عقائدهم هذه العقيدة المخالفة للقرآن والعقل والفطرة ولكل شيء.
يقول الذهبي معبرا عن هذه العقيدة: (فمن طعن فيهم، أو سبهم فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله k من ثنائه عليهم، وفضائله، ومناقبهم، وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق، ومن الزندقة، والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار)([79])
وكما أن كل عقيدة تحتاج إلى تفاصيل وفروع، فقد وضع السلفية الكثير من الفروع لهذه العقيدة الجديدة، ومنها عقيدة وجوب السكوت عن تلك الحروب المستعرة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس، لأن كل الذين كانوا يحاربون كانوا يستعملون سيوفهم فقط، أما قلوبهم فقد كانت ممتلئة بالطهارة والنبل والصفاء.. فقد رروا وعن شهاب بن خراش قوله: (أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة وهم يقولون: اذكروا مجالس أصحاب رسول الله e ما تألف عليه القلوب، ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتحرشوا عليهم الناس)([80])
ويقول ابن حجر بجرأة عجيبة: (واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وان المصيب يؤجر أجرين)([81])
وهكذا أصبح القاتل الظالم المحرف لدين الله مأجورا على ذلك رغم أنف كل الأحاديث المطهرة التي تحذر من تلك الفتنة العظيمة التي حولت دين الله إلى دين البشر.
ومن تلك العقائد عقيدة التفاضل بين الصحابة.. فلا يحل لأحد عند السلفية أن يختار من يشاء من الصحابة، ويعطيه المزيد من المحبة، بل عليه أن يعطيهم من المحبة بحسب ما تمليه العقيدة السلفية، فقد رووا أن الإمام أحمد سئل عن رجل ذكر أنه يحب أصحاب رسول الله k ولا يفضل بعضهم على بعض، فقال: (السنة أن يفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي من الخلفاء)([82])
وبناء على هذا فقد وضعوا سلما للتفاضل بين الصحابة عبر عنه ابن كثير بقوله: (وأفضل الصحابة، بل أفضل الخلق بعد الأنبياء – عليهم السلام -: أبو بكر الصديق ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب)([83])
وقال: (هذا – أي الترتيب بين الأربعة في الفضل كالترتيب بينهم في الخلافة – رأي المهاجرين والأنصار، حين جعل عمر الأمر من بعده شورى بين ستة، فانحصر في عثمان، وعلي، واجتهد فيهما عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها حتى سأل النساء في خدورهن على علي، وولاه الأمر قبله، قال: ولهذا قال الدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وصدق رضي الله عنه وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس مأواه)([84])
وقد حصل الخلاف بين السلف الأول في المفاضلة بين عثمان وعلي، لكن ذلك الخلاف ترجح أخيرا لصالح عثمان، وهذا شيء طبيعي، لأن سلف السلفية لا يعيرون اهتماما كبيرا لعلي بن أبي طالب، ويجيزون سبه خلافا لسائر الصحابة، بل إنه لولا توليه الخلافة لتلك الفترة القصيرة لكان شأنه شأن عمار وبلال وزنيرة وسمية وغيرهم من الصحابة الذين لا يسمع بهم أحد.
وقال ابن تيمية في (منهاج السنة) في ذكر الخلاف الحاصل بين أيهما أفضل علي أم عثمان؟: (وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان، وعليه استقر أمر أهل السنة، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وأصحابه، وذكر أن هذا هو مذهب جماهير أهل الكلام، ونقل عن أبي أيوب السختياني قوله: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قال: وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما)([85])
ويفسر ابن تيمية سر ذلك التقديم بأنه: (لو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم)([86])
بل إن السلف الأول كانوا متوقفين في الأفضل بعد عثمان، فقد روى اللالكائي في عقيدته عن الإمام أحمد قوله: (وخير الأمة بعد نبيها k أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان. نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله k لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد كلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام، ونذهب إلى حديث ابن عمر (كنا نعد ورسول الله k حي وأصحابه متوافرون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان)([87])
لكن السلفية ومراعاة للأحاديث الكثيرة في مناقب الإمام علي وفضله، والتي لم يظفر سائر الصحابة بعشر عشيرها اضطروا لأن يجعلوه الرابع مع إتاحة المجال لمن يجعله الخامس أو السادس، فقد روى الخلال عن الإمام أحمد قوله: (من قال: أبو بكر وعمر وعثمان فقد أصاب. وهو الذي العمل عليه، ومن قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فصحيح أيضا جيد لا بأس به وبالله التوفيق)([88])
وفي رواية أخرى عن محمد بن عوف الحمصي: (وخير الناس بعد رسول الله k: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فقلت له يا أبا عبد الله، فإنهم يقولون: إنك وقفت على عثمان؟ فقال: كذبوا والله علي، إنما حدثتهم بحديث ابن عمر – وذكر الحديث – ولم يقل النبي k: لا تخايروا بعد هؤلاء بين أحد، ليس لأحد في ذلك حجة، فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلي فهو على غير السنة يا أبا جعفر)([89])
وقد قال ابن تيمية معبرا على ما انتهى إليه الخلاف السلفي: (فليس في أهل السنة من يقدم عليه – أي علي – أحدا غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه، بل غاية ما يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى)([90])
وبناء على هذا فقد وقع خلافهم أيضا في تبديع من قدم عليا على عثمان، وقد عبر الخلال بعد ذكره لعدة روايات عن أحمد بن حنبل فيمن قدم عليا على عثمان فقال: (فاستقر القول من أبي عبد الله أنه يكره هذا القول ولم يجزم في تبديعه، وإن قال قائل: هو مبتدع لم ينكر عليه)([91])
بناء على الأنانية والطائفية التي تشكل لب العقل السلفي، فقد راح إلى بعض القضايا الفرعية الفقهية التي وقع الخلاف فيها بين علماء الأمة إلى اعتبارها من أصول الدين وعقائده الكبرى، في نفس الوقت الذي راح فيه إلى آراء لمخالفيه استنبطوها من القرآن الكريم يحكم باعتبارها من العقائد المبتدعة، مع كونها من فروع الدين، بل مع كونها وردت الدلالة عليها في القرآن الكريم، وهذا يؤكد ما ذكرناه في كتاب [هكذا يفكر العقل السلفي] من تقديمهم المدنس على المقدس، والهوى على الشرع.
ومن الأمثلة على ذلك اعتبارهم للمسح على الخفين سنة يتميز بها السني عن المبتدع، بينما المسح على القدمين بدعة ضلالة حتى لو ورد للدلالة عليه القرآن الكريم.
ولهذا نجد في كل كتب عقائدهم المسندة وغير المسندة عقيدة المسح على الخفين، فقد ذكرها الطحاوي في عقيدته المشهورة([92])، وأبو عثمان الصابوني (توفي 449هـ) في (عقيدة أهل الحديث)، وقوام السنة الأصفهاني (توفي 534هـ) في كتابه (الحجة في بيان المحجة) وابن بطة في الإنابة الصغرى ([93])، والبربهاري في شرح السنة ([94])، وابن خفيف في عقيدته ([95])، وأبو عمرو الداني في الرسالة الوافية ([96]).. وغيرهم كثير.
وقد رووا في ذلك عن سلفهم سفيان الثوري – مخاطباً من سأله عن معتقده -: (يا شعيب بن حرب، لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قديمك)([97])، ورووا عنه قوله: (من لم يسمح على الخفين فاتهموه على دينكم) ([98]).
وقد ذكروا من أسباب إيراد هذه المسألة الفرعية في كتب العقائد مخالفة الروافض والخوارج الذين لا يجيزون المسح على الخفين، كما قال الإمام محمد بن نصر المروزي (توفي 294هـ): (وقد أنكر طوائف من أهل الأهواء والبدع من الخوارج والروافض المسحَ على الخفين) ([99])
وقد قال صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان تعليقا على ما جاء في الطحاوية: (ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر) مجيبا عن التساؤل عن سر وضع هذه المسألة الفقهية في العقيدة: (لأن هذه المسألة أنكرها المبتدعة، وأثبتها أهل السنة، والمسح على الخفين تواترت به الأحاديث عن النبي k. وممن اشتهر عنهم إنكار المسح على الخفين: الرافضة، ويخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك، ويخالفون الأحاديث الثابتة، فالمسح ثابت، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وهذه رخصة وتسهيل من الله على عباده. فالرافضة ينكرون المسح على الخفين، ويقولون بالمسح على الرجلين، وهذا من أكبر المغالطة، فلا أحد يقول بالمسح على الرجلين، وهكذا من ترك الحق ابتلاه الله بالباطل)([100])
ثم راح ينتقد الرافضة بسبب قولهم بالمسح على الرجلين، فقال: (استدل الرافضة على المسح على الرجلين: بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة: 6] بقراءة الجر، حيث عطف الأرجل على الرؤوس في هذه القراءة، والرؤوس ممسوحة وعندهم الكعبان معقد الشراك، مجمع القدم مع العقب ويسمى عرش الرِّجْل. وعند أهل السنة والجماعة أن المراد بالكعبين: العظمان الناتئان في أسفل الساق، مجمع الساق مع الرجل)([101])
ثم قال مستدلا بهذا الاستدلال العجيب الذي يخطئ من خلاله قراءة صحيحة متواترة: (فالمسح للرجلين باطل؛ لأن المشهور من قراءة الآية: الفتح، عطف على المغسولات، على {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وأدخل الممسوح بين المغسولات من أجل الترتيب، ولو أخر لفهم أن مسح الرأس يكون بعد غسل الرجلين) ([102])
ثم راح يؤول النص القرآني الصريح الدال على المسح بصنوف من التأويل التي يحرم على خصومه أن يستعملوها، فقد قال: (أما قراءة (وأرجلكم) بالجر فهي صحيحة، ولكن عنها أربعة أجوبة: الأول أن وجه الجر هنا على المجاورة، وهذه لغة عند العرب، مثل أن تقول: هذا جحر ضب خربٍ، خربٍ ليست صفة لضب، إنما هي صفة لجحر، وجحر مرفوع. ولكن من أجل المجاورة، ومن أجل سهولة النطق جُرّت للمجاورة.. والثاني: أن المراد بالمسح: الغسل، فالغسل يسمى مسحاً، تقول: تمسحت بالماء، يعني اغتسلت به، فالمراد بمسح الرجلين غسلهما، بدليل قراءة النصب.. الثالث: أن المشهور من القراءتين: قراءة النصب وهنا لا إشكال.. الرابع: أن غسل الرجلين هو صفة وضوء رسول الله k التي نقلها عنه أصحابه، لم يرد في حديث واحد -ولو ضعيف- أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مسح رجليه، وكذلك ما ثبت ذلك عن أصحابه، بل لما رأى k رجلاً في رجله لمعة لم يصبها الماء، أمره بإعادة الوضوء، وقال عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار)([103])؛ لأن صاحبها يغفل عنها، وقد لا يصيبها الماء وذلك بسبب التساهل والغفلة، والأمر في هذا واضح)([104])
وليته بعد هذا اعتبر المسألة خلافية بناء على الدليل القرآني القوي([105])، والأدلة الأخرى من الأحاديث التي تؤكد هذا، والتي رويت من ثقاة الشيعة المعتبرين لديهم، بل فيها ما رواه المحدثون من السنة([106]).. لكن العقل السلفي لا يقبل هذا، فهو يقبل فقط من سلفه من اليهود وتلاميذ اليهود، أما المحبين لعترة النبي k، فهم محرومون مطرودون لا يحق لهم الحديث في الدين حتى في أبسط فروعه المسح على الرجلين.
ولهذا نراهم ابتداء من سلفهم الأول يقرنون اليهود بالشيعة بسبب إنكارهم للمسح على الخفين، حيث يروون عن الشعبي (توفي 104 هـ) قوله: (واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة)([107])، ولست أدري هل عند اليهود المسح على الرأس وسائر أركان الوضوء.. أم لا؟
ولم يكتف السلفية بهذا، بل راحوا إلى فروع كثيرة وقع فيها الخلاف، وللمخالفين فيها من الأدلة ما لا يقل عن الأدلة التي يستند إليها السلفية، ومع ذلك نراهم يتشددون عليهم، ويعتبرون المسائل الفرعية مسائل عقدية يبدع المخالف لها.
ومن تلك المسائل (ترك الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية)، حيث اعتبروها من عقائد أهل السنة خلافا للشيعة، ولمن تبعهم في ذلك من أهل السنة، وقد حصلت بسبب ذلك الفتن الكثيرة في التاريخ الإسلامية.
يقول سفيان الثوري في اعتقاده: (وإخفاء البسملة أفضل من الجهر)([108])، ويقول ابن بطة: (من السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) ([109]).
بل إن من سلف السلفية من اتهم الشافعي بالرفض بسبب قوله بالجهر بالبسملة، واعتبر ذلك من تأثير رحلته للعراق، ولهذا اعتبر السلفية من السنة ترك السنة إذا صارت شعارا للمبتدعة وخاصة الرافضة منهم، يقول ابن تيمية: (إنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً، ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنه لم يترك واجباً بذلك، لكن قال في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميَّز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب، وهذا الذي ذهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يُجعل المشروع ليس بمشروع دائماً) ([110])
ومن هذا الباب فقد شرع السلفية الكثير من الشعائر التي تخالف السنة بسبب ممارسة غيرهم لها، فالأولوية عندهم للتميز وليس للسنة، يقول ابن عبد البر: (وقد كان التختم في اليمين مباحا حسنا، لأنه قد تختم به جماعة من السلف في اليمين، كما تختم منهم جماعة في الشمال وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوجهان جميعا، فلما غلبت الروافض على التختم في اليمين ولم يخلطوا به غيره كرهه العلماء منابذة لهم، وكراهية للتشبه بهم، لا أنه حرام ولا أنه مكروه وبالله التوفيق)([111])
ويقول ابن تيمية: (وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم، ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك لأن هذا كان من شعار الرافضة، ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع)([112])
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: اعتبارهم المبادرة بصلاة المغرب بمجرد غياب قرص الشمس، ولو بجبل، ومثل ذلك الفطر، ولهذا نراهم ينكرون التوقيت الفلكي في الغروب ([113])، يقول ابن بطة: (ومن السنة المبادرة بصلاة المغرب إذا غاب حاجب الشمس قبل ظهور النجوم)([114])
وهذا خلافا للشيعة الذين يستدلون لتأخير صلاة المغرب والإفطار بقوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فقد رووا عن الشعبي قوله: (واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم.. وكذلك الرافضة)([115])
وقال ابن تيمية عن الخلاف الشيعي في المسألة: (فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالاً في غاية الفساد، مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود، وقد تواترت النصوص عن النبي k بتعجيل المغرب)([116])
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: قولهم بوجوب صلاة الجمعة والجماعة خلف كل بر وفاجر خلافا للشيعة الذين يشترطون عدالة الإمام.
وقد نص على هذه العقيدة سفيان الثوري فقال: (يا شعيب، لا ينفعك حتى ترى الصلاة خلف بر وفاجر)، قال شعيب: فقلت لسفيان: يا أبا عبد الله! الصلاة كلها؟ قال: (لا؛ ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخيَّر، لا تصلِّ إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة) ([117])
ومما ورد في اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل: (وصلاة الجمعة خلفه ([118]) وخلف من ولي جائزة تامة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع تارك للأثر مخالف للسنة..) ([119]).
وقد نص ابن تيمية على وجه ذكر هذه العقيدة فقال ـ كعادته في الكذب على المخالفين ـ: (والرافضة لا يصلون إلا خلف المعصوم، ولا معصوم عندهم، وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة، فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم، كما هو دين الخوارج والمتعزلة وغيرهم، وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة)([120])
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: قولهم بضرورة الفصل بين الفرض والنفل في صلاة الجمعة، وقد علل ابن تيمية سر وضع هذه المسألة في العقيدة بقوله: (فإن كثيراً من أهل البدع لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلَّموا، وما سلموا، فيصلون ظهراً، ويظن الظان أنهم يصلون السنة، فإذا حصل تمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة)([121])
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: قولهم بمشروعية إقامة صلاة التراويح وسنيتها خلافا للشيعة لاعتبارهم صلاة التراويح حدثت في عهد عمر بن الخطاب، وهي بذلك بدعة لا سنة، ولهذا نص أبو عبد الله محمد بن خفيف في (عقيدته) على هذه العقيدة، فقال: (والتراويح سنة) ([122])، وقال قوام السنة الأصفهاني في عقيدته: (ومن السنة صلاة التراويح في شهر رمضان في الجماعة) ([123]).
وفي فتاوى ابن تيمية أنه سئل عمن يصلي التراويح قبل العشاء الآخرة، كان من جوابه: (ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح، فإذا صلوا قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح، فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة) ([124]).
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: كراهتهم للقنوت مع ورود السنة به، خلافا للشيعة، قال ابن بطة: (ومن السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا تقنت في الفجر إلا أن يدهم المسلمين أمرٌ من عدوهم فيقنت الإمام فيتبعه)([125])
ومن المسائل الفرعية التي وضعها السلفية وسلفهم في العقائد: قولهم بمشروعية القتال مع أولي الأمر من المسلمين برّهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، فقد قال سفيان الثوري عند بيانه لعقيدته: (والجهاد ماض إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جائر أو عدل) ([126])، وقال الإمام أحمد: (والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك) ([127])، وقال محمد بن أبي زمنين (توفي 399 هـ): (ومن قول أهل السنة أن الحج والجهاد مع كل برٍّ أو فاجر من السنة والحق، وقد فرض الله الحج فقال: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، وأعلمنا بفضل الجهاد في غير موضع من كتابه، وقد علم أحوال الولاة الذين لا يقوم الحج والجهاد إلا بهم، فلم يشترط ولم يبين وما كان ربك نسياً) ([128]).
وقال قوام السنة الأصفهاني: (والجهاد ماضٍ منذ بعث الله نبيه k إلى آخر عصابة تقاتل الدجال) ([129])
وهكذا نجد هذه العقيدة الخطيرة عند علي بن المديني ([130])، والطحاوي ([131])، وابن بطة ([132])، والبربهاري ([133])، والصابوني ([134])، وابن قدامة في اللمعة ([135])، وابن تيمية ([136]) وغيرهم.
وقد قرروا هذه المسألة في العقيدة خلافا للشيعة الذين يشترطون في جهاد الطلب توفر الإمام المعصوم، كما روي عن الإمام الصادق قوله: (القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير) ([137])
وقد كانت تلك العقيدة سببا في كثرة الحروب في التاريخ الإسلامي، حيث أن الحاكم يجد في المسلمين المتبعين لمنهج السلف آذانا صاغية تأتمر لكل معركة يريد خوضها، ولا يسألونه عن السبب، لأن طاعة الإمام عندهم من طاعة الله، ولا يهم إن كان ذلك الإمام برا أو فاجرا.. بل حتى لو كان الحجاج نفسه.. وكيف لا يقولون هذا، وكل الملوك الذين يؤيدونهم ويدافعون عنهم ظلمة ومستبدون ومجرمون أولهم وآخرهم.
هذه بعض الفروع التي حولها السلفية من فروع فقهية إلى مسائل عقدية، ليخرجوا بها من شاءت لهم أهواؤهم من زمرة الفرقة الناجية، ليضعوهم في الزمر الهالكة.
ولو طبقنا هذه القضايا العقدية جميعا، لأخلينا الجنة من سواهم، ولملأنا النار من غيرهم.. وبذلك فإن أهمية العقيدة عندهم
تكمن في أنها السوط الذي يلهبون به ظهور مخالفيهم.. لأن الله تعالى ـ كما يذكرون ـ
يعفو ويسمح في الفروع لكنه لا يفعل ذلك في الأصول.. وقد سلم الأصول لهم ولسلفهم حتى لا
يجاورهم في الجنة غيرهم.
([1]) يقول السقاف عنها: (اعلم أن متن الطحاوية وهو الكتاب الذي صنفه الامام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى كتاب صحيح مستقيم من أحسن كتب العقيدة التي تمثل اعتقاد السلف الصالح، ولانه أيضا – أعني الطحاوي – ذكر في مقدمة ذلك الكتاب أنه عقيدة الامام الاعظم أبو حنيفة رضي الله عنه وصاحبيه محمد بن الحسن والقاضي أبو يوسف رحمهما الله تعالى، وأما شرحه المنتشر في الاسواق لابن أبي العز ففيه أمور كثيرة مخالفة للكتاب الاصلي – متن الطحاوية -، وفيه أيضا عقائد فاسدة كإثبات قدم العالم بالنوع وتسلسل الحوادث الى غير أول، وإثبات الحد لذات الله تعالى، وإثبات الحرف والصوت لكلامه سبحانه وقيام الحوادث بذات الله سبحانه إلى غير ذلك من أخطاء جسيمة، وأغلاط أليمة، فتنبهوا) (التنديد بمن عدد التوحيد – حسن بن علي السقاف ص 15)
([2]) التنديد بمن عدد التوحيد – حسن بن علي السقاف ص 8.
([3]) انظر: التنديد بمن عدد التوحيد – حسن بن علي السقاف ص 9، فما بعدها.
([4]) منهاج السنة (2 / 62)
([5]) نقلا عن: عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، صالح بن عبد الله العبود.
([6]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 265)
([7]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 41)
([8]) لا نحتاج إلى استدلال على هذا الكلام، لأن الذي يزعم أنه سلفي أو وهابي ثم لا يقف هذا الموقف من المسلمين لا يعتبر سلفيا ولا وهابيا، لأن النصوص الواردة عنهم تقيد السلفي والوهابي بهذا القيد، فيما يسمى عندهم بالولاء والبراء.
([9]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ص220.
([10]) لأن هؤلاء يكفرون شيعة السعودية ومن فيها من الصوفية.
([11]) وجاءوا يركضون مهلاً يا دعاة الضلالة، أبو بكر جابر الجزائري، دار الحرمين، 1413، ص17.
([12]) الإعلام بأن العزف والغناء حرام. أبوبكر جابر الجزائري، ص 57.
([13]) وجاءوا يركضون، ص17.
([14]) الإعلام بأن العزف والغناء حرام، ص62.
([15]) وذلك في كتابه [داعية وليس نبياً!] (قراءة لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التكفير مع نقد تفصيلي لكتابه كشف الشبهات)
([16]) داعية وليس نبياً!، ص67.
([17]) كشف الشبهات، ص5-6.
([18]) داعية وليس نبياً!، ص71.
([19]) داعية وليس نبياً!، ص73.
([20]) كشف الشبهات، ص7.
([21]) داعية وليس نبياً!، ص77.
([22]) داعية وليس نبياً!، ص82.
([23]) ويسمى أيضا (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب)، وذكر بعضهم أنه عنوان لكتاب آخر.
([24]) الصواعق الإلهيّة في الرّد على الوهابيّة، الشيخ سليمان بن عبد الوهاب النجدي، ص4.
([25]) الصواعق الإلهيّة، ص28.
([26]) الصواعق الإلهيّة، ص24.
([27]) الصواعق الإلهيّة، ص27..
([28]) الصواعق الإلهيّة، ص29.
([29]) إبطال التأويلات (ص: 476)
([30]) إبطال التأويلات (ص: 476)
([31]) إبطال التأويلات (ص: 477)
([32]) إبطال التأويلات (ص: 479)
([33]) مجموع الفتاوى (4/ 319)
([34]) منهاج السنة النبوية (2/ 435)
([35]) ابن كمونه، سعد بن منصور، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، دار الأنصار، ص، 15-18 بتصرف.
([36]) فتاوى ابن باز ج6/371.
([37]) مجموع الفتاوى ج18 / 7.
([38]) رواه البخاري (4/ 179، 6/ 39) ومسلم (ص/ 133، 1839) وابن ماجة (ح/ 4026) وأحمد (2/ 326)
([39]) تفسير الطبري (5/ 489)
([40]) تفسير الطبري (5/ 491)
([41]) رواه وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية: (5/ 93)، والدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 448..
([42]) الفتاوى (3/192)، ومثله مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه، انظر: تهذيب التهذيب: (7/ 92، 93)
([43]) وهو عبد الله الجبرين في التعليقات على متن لمعة الاعتقاد 84
([44]) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494 ..
([45]) العرش وما روي فيه لابن أبي شبية (ص: 448)
([46]) أورده السيوطي في الحبائك: ص 59، و68، وعزاه إلى ابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس.
([47]) مجموع الفتاوى: 4/232.
([48]) دقائق التفسير: 2/143.
([49]) دقائق التفسير (2/ 142)
([50]) مجموع الفتاوى (11/ 307)
([51]) مجموع الفتاوى: (19/39)
([52]) النبوات:(1/279)
([53]) دقائق التفسير:(2/137)
([54]) القول المعين في مرتكزات معالجي الصرع والسحر والعين، وانظر: الفتاوى الذهبية، ص 198.
([55]) مجلة الدعوة، العدد 1683 من ذي القعدة 1419 هـ، ص23.
([56]) السحر بين الحقيقة والخيال – ص 211.
([57]) مجموع الفتاوى 19 / 60.
([58]) مجموع الفتاوى 10 / 349.
([59]) مجموع الفتاوى 24 / 277.
([60]) الفروع 1 / 607.
([61]) أحكام الجان – نقلا عن طبقات أصحاب الإمام أحمد – ص 152.
([62]) الدعوة – العدد 1456- فتاوى العلاج بالقرآن والسنة – ص 69.
([63]) فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين، ص 133.
([64]) منة الرحمن في العلاج بالقرآن ص 44، 45.
([65]) الاعتصام (1/60-68)، الكبائر للذهبي (1/236)، كتاب الشفا (2/47) .
([66]) البداية والنهاية 6/184.
([67]) الكفاية في علم الرواية (1/49)
([68]) كتاب الشفا (2/43)
([69]) الشرح والإبانة للإمام ابن بطة (162) .
([70]) الشريعة [ 3 / 496.
([71]) الإبانة الصغرى [ ص: 299 ].
([72]) تاريخ دمشق59/209.
([73]) تاريخ بغداد 1/209.
([74]) تهذيب الكمال 1/339-340، وهذا من الكذب عليه، لأن المؤرخين يذكرون تعرضه لمحنة سببها كتابه في في فضل الإمام علي بن أبي طالب الذي جمع فيه الاحاديث الواردة في فضل الامام علي وأهل بيته .. فقد ذكر المؤرخون أنه بعد أن ترك مصر في أواخر عمره قصد دمشق ونزلها ، فوجد الكثير من أهلها منحرفين عن الامام علي بن أبي طالب، فأخذ على نفسه وضع كتاب يضم مناقبه وفضائله رجاء أن يهتدي به من يطالعه أو يلقى إليه سمعه ، فأتى به والقاه على مسامعهم بصورة دروس متواصلة.. وبعد ان فرغ منه سئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: (أما يرضى معاوية ان يخرج رأسا برأس حتى يفضل؟)، وفي رواية: (ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك)، فهجموا عليه وداسوه حتى أخرجوه من المسجد ، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها ، فتوفى بها، انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ص699 ،ووفيات الأعيان لابن خلكان ج1 ص77 والمقفى الكبير للمقريزي ج1 ص402 ، والبداية والنهاية لابن كثير ج11 ص124 وغيرها كثير.
([75]) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث قوي بشواهده، كما في سير أعلام النبلاء 3/123.
([76]) السلسلة الصحيحة 1/164.81.
([77]) كتب وشخصيات) (ص242)
([78]) شرح رياض الصالحين، بتاريخ يوم الأحد 18/7/1416.
([79]) الكبائر للذهبي (1/236)
([80]) سير أعلام النبلاء (8/285)
([81]) فتح الباري(13/34)
([82]) رواه الخلال في (السنة) (2/ 372).
([83]) الباعث الحثيث (ص: 183).
([84]) الباعث الحثيث (ص: 183)، وانظر (محاسن الاصطلاح) (ص: 433).
([85]) منهاج السنة) (4/ 202).
([86]) مجموع الفتاوى) (4/ 428).
([87]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) (1/ 159).
([88]) السنة) للخلال (2/ 410).
([89]) طبقات الحنابلة (1/ 313).
([90]) منهاج السنة (2/ 206).
([91]) السنة للخلال (2/ 382).
([92]) شرح العقيدة الطحاوية 2/552.
([93]) انظر الإنابة الصغرى ص 287.
([94]) شرح السنة ص 30.
([95]) انظر الفتوى الحموية، لابن تيمية ص 443 .
([96]) انظر الرسالة الوافية ص 145.
([97]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنةفي أصول السنة 1/154، وانظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 4/151.
([98]) أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/32.
([99]) السنة ص 104، وانظر المجموع للنووي 1/500، والمغني لابن قدامة 1/360، ومقالات الإسلاميين للأشعري 2/161، وفقه الإمامية للسالوس ص 112.
([100]) التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص: 184)
([101]) التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص: 184)
([102]) التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص: 184)
([103]) أخرجه البخاري (رقم60، 96، 163) ومسلم (رقم241)
([104]) التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص: 185)
([105]) يذكر الشيعة أنه على كلا القراءتين فإن النص القرآني يدل على المسح: أمّا قراءة الجر (وَأَرْجُلِكُمْ) وجه هذه القراءة واضح، لانّ الواو عاطفة، تعطف الارجل على الرؤوس، الرؤوس ممسوحة فالارجل أيضاً ممسوحة (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ)، بناء على هذه القراءة تكون الواو عاطفة، والارجل معطوفة على الرؤوس، وحينئذ تكون الاية دالّة على المسح بكلّ وضوح.
أمّا بناء على القراءة بالنصب (وَأَرْجُلَكُمْ) الواو عاطفة، وأرجلكم معطوفة على محلّ الجار والمجرور، على محلّ رؤوسكم، ومحلّ رؤوسكم منصوب، والعطف على المحل مذهب مشهور في علم النحو وموجود، ولا خلاف في هذا على المشهور بين النحاة، وكما أنّ الرؤوس ممسوحة، فالارجل أيضاً تكون ممسوحة.. فبناء على القراءتين المشهورتين تكون الاية دالّة على المسح دون الغسل.
([106]) من ذلك ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف النبي k عنا في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقنا العصر (أي أخرنا العصر) فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا) رواه البخاري (163) ومسلم (241)
فمن هذا الحديث يظهر أنّ أصحاب النبي k لم يغسلوا أرجلهم في الوضوء، وإنّما مسحوا، لكنّهم لمّا مسحوا لم يمسحوا كلّ ظهر القدم وبقيت الاعقاب لم يمسّها الماء، فاعترض عليهم رسول الله k، لأنهم لم يمسحوا كلّ ظهر القدم، ولم يقل رسول الله k: لماذا لم تغسلوا؟
ولهذا قال ابن رشد تعقيبا على الحديث: (هذا الاثر وإنْ كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه على منعه، وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين. (بداية المجتهد 1 / 16)
وقال صاحب المنار: هذا أصحّ الاحاديث في المسألة، وقد يتجاذب الاستدلال به الطرفان أي القائلون بالمسح والقائلون بالغسل (تفسير المنار 6 / 228)
([107]) منهاج ا السنة النبوية 1/33.
([108]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنةفي أصول السنة 1/152.
([109]) الإنابة الصغرى ص 288، وانظر الإبانة الكبرى 2/ 287.
([110]) منهاج السنة النبوية 4/149، 150، 154 باختصار.
([111]) التمهيد (6/80)
([112]) الفتاوى الكبرى (2/166)
([113]) لأهمية المسألة سنتحدث عنها ببعض التفصيل عند حديثنا عن التراث السلفي والفقه..
([114]) الإنابة الصغرى ص 287.
([115]) منهاج السنة النبوية 1/31.
([116]) منهاج السنة النبوية 5/173.
([117]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنة1/ 154.
([118]) أي خلف إمام المسلمين.
([119]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنة1/161، وانظر اعتقاد علي بن المديني في أصول السنة للالكائي 1/168.
([120]) منهاج السنة 5/175.
([121]) مجموع الفتاوى 24/ 203.
([122]) الفتوى الحموية ص 444.
([123]) الحجة في بيان المحجة 2/409.
([124]) مجموع الفتاوى 23/120، 121، وانظر مختصر الفتاوى المصرية ص 81.
([125]) الإبانة الصغرى ص 488.
([126]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنة1/154.
([127]) أخرجه شرح أصول اعتقاد أهل السنة1/160.
([128]) أصول الدين لابن أبي زمنين ص 288.
([129]) الحجة 2/266.
([130]) انظر: أصول السنة للالكائي 1/167.
([131]) انظر شرح الطحاوية 2/555.
([132]) انظر الإنابة الصغرى ص 278.
([133]) انظر: شرح السنة للبربهاري ص 51.
([134]) انظر عقيدة السلف للصابوني ص 294.
([135]) انظر لمعة الاعتقاد ص 37.
([136]) انظر: مجموع الفتاوى 28/260، 35/38.
([137]) الكافي 1/334، وانظر مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 221.