التراث السلفي.. والحديث

لا يستطيع أي عاقل في الدنيا أن ينكر اهتمام السلفية ـ سلفهم وخلفهم ـ بالحديث، فالحديث هو مهنتهم الأولى، وهو بضاعتهم التي يقدمونها للناس، كما أنه الأداة التي من خلالها يزنون من يقبلون من الناس، ومن يرفضون منهم.
ولأجل ذلك سمى أسلافهم أنفسهم [أهل الحديث]، والأثريين، بل إنهم ـ وبثقة عظيمة ـ أنزلوا كل ما ورد في السنة المطهرة حول شرف أهل الحديث عليهم.. فهم المقصودون بقوله k حتى ولو لم ينص الحديث على ذلك.. لأن سلفهم أخبروا بذلك، وما كان لسلفهم الربانيين المتقين أن يتقولوا على رسول الله k ما لم يقله.
ولذلك تراهم إذا قرأوا قوله k: (نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع)([1]) نقلوا معه قول أبي بكر بن العربي في تفسيره: (قال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهة نضرة لقول النبي k: (نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع) الحديث.. وهذا دعاء منه عليه السلام لحملة علمه، ولابد بفضل الله من نيل بركته)([2])
ونقلوا معه قول أبي العباس العزفي([3]):
أهل الحديث عصابة الحق… فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم زهر منضرة……. لألاؤها كتألق البرق
يا ليتني معهم فيدركني… ما أدركوه بها من السبق
وإذا قرأو قوله k: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) ([4]) نصوا على أن أهل هذا العلم هم أهل الحديث، وأنهم لذلك عدول بتعديل رسول الله k كما قال الحاكم: (لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد، لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد) ([5])
وقال بعده النووي: (هذا إخبار منه k بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وإن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئا من علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئا منه)([6])
وهكا إذا رووا قوله k: (أولى الناس بى يوم القيامة أكثرهم على صلاة)([7])، فإنهم وبتحد عجيب يحملونها على أنفسهم، لا على أصحاب الطرق الصوفية الذين اتخذوا الصلاة على رسول الله k وظيفة دائمة لا يتوقفون عنها، يقول أبو حاتم: (في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسول الله k في القيامة يكون أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه k منهم)([8]).. ويقول أبو اليمن بن عساكر: (ليهن أهل الحديث هذه البشرى، فقد أتم الله نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله k، فإنهم يخلدون ذكره في دروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكراتهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم وحشرتنا في زمرتهم) ([9]).
وهكذا إذا رووا قوله k: (لا تزال طائفة من أمتى منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)([10]) ، فإنهم يروون معه قول على بن المدينى: (هم أصحاب الحديث)([11]).. ويروون عن أحمد قوله لما سئل عن الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث: (إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم)، وقول الحاكم معقبا: (فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة التي يدفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهل البدع والمخالفين، بسنن رسول الله k وعلى آله أجمعين) ([12]).
وهكذا نجدهم مع كل الأحاديث الواردة في فضل نقل السنة أو الاهتمام بها أو تمحيصها، فإنهم يعتبرون أنفسهم المقصودون بالحديث، ما عدا حديثا واحدا، فإنهم ـ ومع كونه k ذكر فيه أهل الحديث ـ إلا أنهم لا ينسبونه لهم، وهو قوله k: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ([13])
ونحن لا ننكر أن يكون لأهل الحديث ـ الذين يعتبرهم السلفية سلفهم الأول ـ جهودهم في البحث عن السنة وتدوينها ووضع القواعد المرتبطة بتمحيصها.. ولكنا ننكر عليهم ذلك الغرور العظيم الذي جعلهم ينفصلون عن الأمة انفصالا تاما، ليصبحوا طائفة خاصة، وكأن رسول الله k لم يحدث سواهم، ولم تشمل رحمته التي وسعت العالمين غيرهم.
ولذلك فإن مبدأ الانحراف في التراث السلفي هو تلك الطائفية المقيتة التي جعلتهم يتصورون أنهم وحدهم أهل الحديث.. وأن غيرهم من الأمة ليس كذلك.. حتى لو أمضى حياته كلها متتبعا سنة رسول الله k بمفهومها القرآني الشامل..
لأن التصور السلفي أعطى لأهل الحديث شروطا، ووضع لهم قواعد، فمن كان معهم فيها، فهو من أهلهم، ومن أهل الحديث، وتنطبق عليه كل الأحاديث التي وردت في فضلهم، ومن لم يكن معهم، فلا حظ له من أجر، ولا حق له في ثواب.. لأنهم هم من يوزع الثواب.
يقول الخطيب البغدادي ـ مبينا سر ذلك ذلك الشرف الذي خص به أهل الحديث ـ: (لولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها، واستنباطها من معادنها، والنظر في طرقها لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة، ومستفادة من السنن المنقولة، فمن عرف للإسلام حقه، وأوجب للدين حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه، وأعلى مكانه، وأظهر حجته، وأبان فضيلته، ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين، وخزنة العلم، الذين ذكرهم الله في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [التوبة: 100] وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقرونا باسم رسول الله k، وذكره متصلا بذكره {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } [الجمعة: 4]) ([14])
ويقول ابن تيمية مبينا سر ذلك التميز الذي تميز به أهل الحديث عن غيرهم من الأمة: (من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم.فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى ؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك، وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها: فهم أكمل الناس عقلا ؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا.وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل) ([15])
ويقول باستعلاء وكبرياء كل حين: (وبهذا يتبيّن أنّ أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنّة الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلا رسول الله k، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها وأئمّتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعٌ لها: تصديقًا وعملاً وحبًّا وموالاةً لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يَرُدون المقالات المجملةَ إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا يُنَصِّبُون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجُمل كلامهم إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسول k بل يجعلون ما بعث به الرسول k من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه)([16])
وهكذا أصبح أهل الحديث بمنطق ابن تيمية وجميع السلفية هم زبدة الأمة وخلاصتها، لذلك فإنهم، وبهذا الاعتبار، لا يختلفون عن الصحابة، لأنهم تسنى لهم ـ بسبب الحديث ـ الإطلاع على جميع أحواله k كما قال قائلهم:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
وما دام قد ورد النهي عن التعرض للصحابة ـ كما ينص السلفية ـ فقد ورد النهي عن التعرض لهم أيضا، بل إن حرمتهم تزيد على حرمة الصحابة الذين لم يكفر السلفية سابيهم ولاعنيهم والطاعنين فيهم([17])، بينما كفروا من يطعن في أهل الحديث.
فقد رووا عن محمد ابن إسماعيل الترمذي قوله: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل فقال له أحمد بن الحسن: يا أبا عبد اللّه ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء. فقام أبو عبد اللّه وهو ينفض ثوبه فقال: (زنديق زنديق زنديق)، ودخل البيت ([18]).
ورووا عن أحمد بن سنان القطان قوله: (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه)، وروى عن أحمد بن سلام الفقيه قوله: (ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد)([19])
وقد علق الحاكم على هذين الأثرين بقوله: (وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة، ويسميها الحشوية، سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه وهو يناظر رجلا، فقال: الشيخ: حدثنا فلان، فقال له الرجل: دعنا من حدثنا، إلى متى حدثنا، فقال له الشيخ: (قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا)، ثم التفت إلينا، فقال: (ما قلت قط لأحد لا تدخل داري إلا لهذا)([20])
بناء على هذا، فإن جذور المشكلة في التراث السلفي تكمن في هذه الطائفية المقيتة، ولو أن السلفية وسلفهم تعاملوا مع الحديث النبوي الشريف كما تعاملت الأمة مع القرآن الكريم لما كان الأمر بهذه الصورة، ولما وقعوا في تلك الانحرافات الكثيرة.. ذلك أن القرآن والحديث كلاهما وحي إلهي، وكلاهما مصدر أساسي للدين.. فلم التمييز بينهما؟
ولكن المشروع الشيطاني في هذه الأمة، والذي لم يستطع أن يمس كتابها بالتحريف كما حرف كتب الأمم السابقة راح يحارب الكتاب بالحديث، ولينجح في مشروعه اتخذ له من هذه الطائفة الناجية أمة من الناس تفسر الدين بحسب ما وصلها من روايات اختلط فيها الحابل بالنابل والطيب بالخبيث والعقل بالخرافة والمقدس بالمدنس.
وسنحاول هنا باختصار أن نبين الانحرافات الكبرى التي وقع فيها التراث السلفي في تعامله مع الحديث النبوي الشريف، وقد رأينا من خلال الاستقراء أنها خمسة أخطاء كبرى تساهم جميعا في حرب السنة النبوية المطهرة، وإحلال السنة المذهبية بدلها، والسنة المذهبية ليست سوى تلك الآراء التي تبناها سلف السلفية، وراحوا يفسرون بها القرآن الكريم والحديث وكل شيء.
وهي مرتبة بهذا الترتيب:
أولا ـ الطائفية في التعامل مع الحديث رواية ودراية.
ثانيا ـ الذاتية في قبول الرواة ورفضهم.
ثالثا ـ الذاتية في تحديد علل الحديث.
رابعا ـ الذاتية في تفسير الأحاديث وتأويلها.
خامسا ـ مزاحمة الحديث بالرواية عن السلف.
وبهذا الترتيب لن ينجو من منخل أهل الحديث إلا ما يرتضونه من أحاديث، أو ما وضعه لهم سلفهم من الحديث.. اللهم إلا الأحاديث التي لا تضرهم، ولا تصيب مقاتلهم، فإنهم يتركونها تمر، فالشيطان لا يأتي من أبواب الشر المجردة، بل يخلط الخير بالشر، حتى يعبث من خلال ذلك بالعقول.
وأول ما يبدؤون به فرزهم للحديث بحسب أهوائهم هو حرمانهم لمن لا ينتسب لهم من الكلام في الحديث حتى لو بلغ ما بلغ من الحفظ والإتقان.. وهكذا يتعاملون مع رواة الأحاديث، فمن حدث بما يوافق أهواءهم قبلوه ووثقوه، ومن خالفها ضعفوه ووهنوه واتهموا حديثه.. فإن نجا الحديث منهم بصحة السند، ذكروا أن السند لا يكفي وحده للصحة، بل قد يضعف لعلة خفية فيه.. ثم راحوا يذكرون أي علة، ولا يحاسبهم أحد في ذلك، لأن العلل الخفية قد لا يطاق التعبير عنها.. فإن نجا الحديث منهم بعد ذلك كله فسروه أو أولوه بما يتناسب مع مزاجهم.. فإن نجا من ذلك ولم يكن هناك محمل آخر يمكن حمله عليه زاحموه بأقوال السلف التي يعتبرونها أكثر حرمة من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
هذا هو منهج السلفية وسلفهم في التعامل مع الأحاديث التي لا تتناسب مع معتقداتهم، وسنفصل الكلام في هذا وأدلته في المباحث التالية:
أولا ـ الطائفية في التعامل مع الحديث رواية ودراية:
لعل أكبر انحراف وقع فيه التراث السلفي ورجاله هو تلك النبرة الطائفية المقيتة التي تعاملوا بها مع الحديث، ومع أهل الحديث، حيث أنهم وضعوا قوانين للمحدثين تفتقد للمصداقية والعلمية والموضوعية، وهي فوق ذلك تمتلئ بكل متطلبات الذاتية والقناعات الشخصية، فأصبح علم الحديث بذلك وسيلة لخدمة أغراضهم، لا كونه العلم الذي نعرف من خلاله السنة المطهرة.
ومن الأدلة على ذلك موقفهم من المحدثين الكبار الذين يخالفونهم في الرأي، أو يذهبون خلاف مذاهبهم العقدية الممتلئة بالتجسيم والوثنية، أو يخالفونهم لكونهم ارتضوا لأنفسهم منهجها معينا، أومدرسة معينة.
وقد أشار ابن حجر العسقلاني(ت 825هـ) إلى هذه الطائفية المقيتة، فقال: (واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن بسبب اختلافهم في العقائد فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف بعض الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعّف من هو أوثق منه أو أعلى قدراً أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به)([21])
وبذلك تحولت غاية علم الحديث من كونه العلم الذي تعرف به سنة رسول الله k إلى العلم الذي ينتصر لأهواء المحدثين، ورغباتهم الشخصية، وكأنهم يشرطون على رسول الله k وعلى سنته أن توافق أهواء سلفهم من اليهود أو تلاميذ اليهود، أو يرمى بها عرض الجدار.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المحدث الكبير أحمد بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه (المداوي لعلل المناوي) منتقدا تلك المواقف السلبية من علماء الجرح والتعديل من الرواة المتعلقين بحب أهل البيت مقارنة بموقفهم من أعدائهم، فقد قال عند حديثه عن بعضهم: (وهذا الرجل ـ يعني عبدالسلام بن صالح الهروي ـ ممن ظلمه أهل الجرح والتعديل لأجل تشيعه لأهل البيت، وقد وثقه أهل التحقيق منهم، كما بينته في (فتح الملك العلي)([22])
وقال منتقدا بشدة موقف الذهبي والمناوي من الإمام جعفر الصادق: (هذه غلطة شنيعة من الشارح وغفلة عظيمة راج عليه معها نصب الذهبي، فهل أنت يا مناوي مجنون تعلل الحديث بجعفر الصادق أحد كبار الأئمة وسادات الأمة وبحور العلم والمعرفة من آل البيت الأطهار؟! وتجعله في مصاف الضعفاء والمتروكين الذين يردُّ بهم الحديث.. غرضه الأكيد هو جلب الطعن فيه من إخوانه النواصب، وإدراج هذا الإمام ـ يعني جعفر الصادق ـ في دفتر الضعفاء والمتروكين، فإنه ذكر فيه أيضاً جميع الأئمة المشاهير المتبوعين من سادات أهل البيت رضي الله عنهم) ([23])
وقال عند ذكره لبعض الرواة الذين اتهمهم الذهبي زورا وبهتانا: (والذهبي إنما أورده لما قيل فيه من التشيع، وهو لا يترك شيعياً إلا أورده في الضعفاء) ([24])
وهكذا انتقد موقفهم من المحدثين والرواة الذين اختاروا لأنفسهم منهج التصوف كوسيلة للسلوك إلى الله، فقد قال منتقدا موقفهم من أبي عبدالرحمن السلمي الصوفي المشهور، صاحب الطبقات والأربعين وحقائق التفسير، وغيرها: (هو ثقة تكلم فيه بلا حجة، كما هي عادة أهل الحديث مع أمثاله من الصوفية، فيعاب على الشارح تعليل الحديث به لاسيما وهو من العارفين بقدر الرجل ومنزلته وجلالته) ([25])
وقال: (تعليل الحديث بأبي عبدالرحمن السلمي من جهل الشارح، بل من قلة حيائه، لأنه يدعي التصوف وإجلال الصوفية، ومن يجهل قدر أبي عبدالرحمن السلمي ويقبل قول الخطيب فيه فلم يشم للتصوف رائحة ولا قرب من ساحة ميدان الحديث، والذهبي على بغضه للصوفية وتعنته عليهم قد أورده في (تذكرة الحفاظ) وامتدحه وأطراه، وتكلم فيه من أجل مالم يفهمه من تصوفه، ونقل كلام من تكلم فيه كما هو الشأن في كتب الرجال، فقال في (التذكرة): أبوعبدالرحمن السلمي الحافظ العالم الزاهد شيخ المشايخ محمد بن الحسين بن محمد بن موسى النيسابوري الصوفي الأزدي الأب السلمي الأم، سمع خلقاً كثيراً، وكتب العالي والنازل، وصنف وجمع، وسارت بتصانيفه الركبان، حمل عنه القشيري والبيهقي وأبوصالح المؤذن وخلق سواهم، إلا أنه ضعيف، قال الخطيب: محله كبير، وكان مع ذلك صاحب حديث مجوداً، جمع شيوخاً وتراجم وأبواب، وله دويرة للصوفية، وعمل سنناً وتفسيراً وتاريخاً) ([26])
ومن الأمثلة على ذلك انتقادات العلامة المحدث محمود سعيد ممدوح لتفريط الأمة في تراث أهل البيت الحديثي لأسباب سياسية ومذهبية وطائفية، سواء في كتبه أو في محاضراته ولقاءاته، والتي كانت سببا في حرق كتبه في دول الخليج، وكانت سببا في الحملة الإعلامية الشديدة عليه على الرغم من إقرارهم له بالتمكن من علم الحديث.
فمما قال في بعض الحوارات التي أجريت معه جوابا عن سؤال حول حكم روايات آل بيت رسول الله k في غير دواوين أهل السنة: (المعول هنا على الإسناد فإذا ثبت الإسناد لأئمة آل البيت فهو كذلك وإلا فلا، ثم اعلم أن الله تعالى لم يقصر الثابت بأقسامه على كتب أهل السنة فقط ففي كتب السادة الزيدية جمع عظيم من الأحاديث النبوية الشريفة الثابتة، وعلى سبيل المثال بين يدي الآن شرح تجريد فتاوى الإمامين القاسم الرسي وحفيده الإمام الهادي عليهما السلام، والشرح للحافظ الفقيه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون الحسني المتوفى سنة 416 هـ وهو مخطوط ومصور في ستة أجزاء ضخام بحجم مستدرك الحاكم، والكتاب قد امتلأ بالأحاديث المرفوعة المسندة من طريق آل البيت وغيرهم، والإمام المؤيد بالله له شيوخ كثيرون، وبينه وبين الطحاوي واسطة واحدة، وهذا الشرح أعني شرح التجريد، علق أسانيده الإمام المجتهد أحمد بن سليمان من ذرية الإمام الهادي يحي بن الحسين عليهم السلام المتوفى سنة 566هـ وجمع متونه في كتاب مفرد اسمه أصول الأحكام الجامع لأدلة الحلال والحرام، وهو مطبوع في مجلدين.. وفقه وحديث آل البيت عليهم السلام يحتاج لتوجه صادق وبحث وجَلَد وقبل ذلك تقوى واستعانة بالله تعالى)([27])
وقال جوابا على سؤال حول رأيه في (مسند الإمام الشهيد زيد بن علي)، وهل تصح نسبته إليه: (مسند الإمام زيد بن علي عليهما السلام صحيح النسبة إليه، وقد تلقاه ائمة آل البيت عليهم السلام بالقبول، وجميعهم بالنسبة لأحاديثه وآثاره بين عامل به أو متأول له، وهذا معنى التلقي بالقبول، وراوي المسند عن الإمام زيد عليه السلام، هو أبو خالد الواسطي قد قدح فيه غير واحد من ائمة الجرح والتعديل، لكن جرحهم مردود بتلقي ائمة آل البيت للمسند بالقبول، وأحاديث المسند معروفة ومشهورة وقد شرحها عدد من العلماء وخرجت واعتبرت.وأرجوا من الأستاذ الهولي الشافعي مراجعة مقدمة الروض النضير للعلامة الكبير السياغي الصنعاني رحمه الله تعالى فقد أفاض وأجاد وأتى بالمراد وفيه غنية وكفاية لإثبات صحة ونسبة مسند الإمام زيد بن علي له.والمسند مطبوع بمصر وعليه تقريظات عدد من علماء الأزهر، ثم اعلم أنه إذا كان العمل على القبول رد الجرح، وأنت إذا تأملت الجرح الذي جاء في عدد من ائمة الفقه وأن العمل على خلافه انحلت لك المشكلة، فهذا هو الإمام أبو حنيفة النعمان قد قدح في عدالته وضبطه عدد كبير من الحفاظ والفقهاء، وصنف ابن حبان الحافظ في علل أحاديثه، وهذا لم يحدث لأبي خالد الواسطي راوي المسند ومع ذلك كان العمل على خلاف هذا الجرح، وهذان محمد بن شجاع الثلجي، والحسن بن زياد اللؤلؤي من أجل المجتهدين والرواة من أصحاب الإمام أبي حنيفة معتمدان في النقل والفقه عند السادة الحنفية مع أنهما كذابان عند ائمة الجرح والتعديل بل قال أبوثور ما رأيت أكذب من اللؤلؤي، وللشيخ الكوثري رسالة خاصة اسمها (الإمتاع) خاصة بالثلجي واللؤلؤي فإنها مطبوعة، وللثلجي واللؤلؤي نظائر كالحارثي والحسن بن عمارة، وابن حبيب، والحاصل أن أبا خالد الواسطي حديثه مقبول عند قرناء الكتاب أعني ائمة آل البيت عليهم السلام طبقة بعد طبقة مع توفر كتب الرجال عندهم، وفي هذا القدر كفاية لقبول حديث الرجل)([28])
وقال جوابا عن سؤال حول رأيه في كتاب (العتب الجميل) الذي انتقد فيه صاحبه ذاتية المحدثين، وكيلهم بالمكاييل المزدوجة، حين وثقوا النواصب وضعفوا الموالين لأهل البيت: (كتاب (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) لسيدي العلامة المبجل الشريف محمد بن عقيل بن يحيى باعلوي الشافعي، كتاب رائد في بابه، تعرض لمشكلة من أهم المشكلات في الجرح والتعديل، ألا وهي توهين وجرح وظلم آل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وتوثيق ومدح النواصب المجرمين، وهي مسألة عظيمة تعرض لها السيد محمد بن عقيل، فأزاح الستار عن سببها وأثرها، وذكر نماذج لها، فلله دره) ([29])
ولم يقتصر أمر السلفية على توهينهم المخالفين لهم من الرواة القدامى بسبب آرائهم ومواقفهم، بل شمل ذلك أيضا كبار علماء هذا العصر، ومن المحدثين الذي شهد لهم الجميع بالقدرة والوثاقة.
وسنسوق هنا بعض الأمثلة على ذلك للدلالة على أن العقل السلفي القديم هو نفسه العقل السلفي الجديد، وأن السلفية لم يطوروا أنفسهم، ولم يراجعوا آراءهم، ولم يصححوا منهجهم.
المثال الأول: موقف السلفية من الكوثري:
يعتبر محمد زاهد الكوثري من كبار أعلام هذا العصر في كثير من العلوم الشرعية، ومنها علم الحديث، الذي ترك فيه آثار رائعة تدل على قدراته النقدية.
وقد شهد له بهذا كبار الأعلام المعاصرين، كتلميذه أحمد خيري، الذي شهد له بقوله: (كان ذا ذاكرة فذة، ولاسيما في حفظ الأسماء فكان إذا سمع شيئا أو رأى أحدا مرة واحدة ذكره ولو بعد سنوات، وهيأ له ذلك مع إطلاعه على المخطوطات النادرة في الآستانة ومصر والشام إلى أن أصبح حجة لا يبارى في علم الرجال وجمع إلى براعته في الحديث ورجاله مهارة فائقة في علم الكلام وتنزيه الله سبحانه وتعالى، كما كان أستاذ العصر في علمي الأصول والفقه، وكان على عبقريته المدهشة يحب أن يتعقّبه العلماء)([30])
وشهد له الشيخ الكبير محمد أبو زهرة، فقال: (لا أعرف عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين كما خلا مكان الإمام الكوثري،لأنه بقية السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلما لغاية.. لقد تحقق فيه القول المأثور (العلماء ورثة الأنبياء)، وما كان يرى تلك الوراثة شرفا يفتخر به ويتسلط به على الناس،بل كان يراه جهادا في إعلان الإسلام وبيان حقائقه وإزالة الأوهام التي لحقت جوهره)([31])
وقال فيه: (لم يكن الكوثري من المنتحلين لمذهب جديد أو داعيا إلى مذهب لم يسبق إليه، لهذا كان ينفر من من يسمهم العامة وأشباه المثقفين بسمة التجديد، ومع ذلك فقد كان من المجددين بالمعنى الحقيقي للتجديد والذي هو إعادة رونق الدين وجماله وإزالة ما علق به من الأوهام، إنه لمن التجديد أن تحي السنة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين)([32])
وقال فيه الأستاذ محمد بن يوسف البنوري، أستاذ الحديث بدار العلوم بباكستان، بعد أن ساق ما ذكره مسروق في حق عبد الله بن مسعود حيث قال: (لقد جالست أصحاب محمد k فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ): (إنها تصدق هذه الكلمة في محقق العصر، الجهبذ الناقد البحاثة الخبير…فكان رجلا يتجلى فيه بعصره هذه المزية بأجلى منظرها، رجل جمع بين غاية سعة العلم والاستبحار المدهش ودقة النظر، والحافظة الخارقة، والاستحضار المحيّر، والجمع بين علوم الرواية على اختلاف فروعها وشعبها، وعلوم الدراية على تفنن مراميها)([33])
لكن كل هذه الشهادات وغيرها للرجل، وقدرته، وعلمه، واجتهاده، وصدقه لم تنفعه عند السلفية لسبب بسيط، وهو أنه يخالفهم في عقائدهم التجسيمية، وفي مواقفهم من التوسل وفي عبوديتهم لابن تيمية، فهو من العلماء الكبار الذين ردوا عليه، فقد كتب كتابه (البحوث الوفية في مفردات ابن تيمية) تعقّبت فيه كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية فيما أورده من مسائل منافية لأحاديث صحيحة وصريحة حول فضائل الإمام علي.. ومنها كتابه (التعقّب الحثيث لما ينفيه ابن تيمية من الحديث)، والذي تعقّبت فيه ما نفاه من أحاديث في كتابه منهاج السنة رغم وروده في كتب السنة.. ومنها كتابه (محق التقول في مسألة التوسل) والذي رد فيه على ابن تيمية والوهابية من رميهم المتوسلين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأهل بيته بالشرك.. وغيرها من الكتب الكثيرة.
وبما أن السلفية يجعلون ابن تيمية قسيم الجنة والنار، فقد اعتبروا كلام الكوثري في ابن تيمية دليلا على أنه من أهل النار.
وقد كتبوا في الرد عليه والتحذير منه الكثير من الرسائل والكتب، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم فيه: (رمز التعصب والتقليد حامل لواء الجهمية في هذا العصر ناشر للبدع ويثني على أهلها يعول عليه أهل البدع كثيرا وبخاصة الأشعرية والماتريدية والصوفية وغيرها من الفرق الضالة وبخاصة أهل الرفض يحتجون بكلامه ضد أهل السنة والجماعة ومحاربته لأهل الحديث وأعلام السنة والتوحيد)([34])
وقال الألباني عنه في مقدمة (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل): (فإني أقدم اليوم إلى القراء الكرام كتاب التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل.. بين فيه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة تجني الأستاذ الكوثري على أئمة الحديث ورواته ورميه إياهم بالتجسيم والتشبيه وطعنه عليهم بالهوى والعصبية المذهبية حتى لقد تجاوز طعنه إلى بعض الصحابة مصرحا بأن أبا حنيفة رغب عن أحاديثهم وأن قياسه مقدم عليها فضلا عن غمزه بفضل الأئمة وعلمهم فمالك مثلا عنده ليس عربي النسب بل مولى والشافعي كذلك بل هو عنده غير فصيح في لغته ولا متين في فقهه والإمام أحمد غير فقيه وابنه مجسم.. وهكذا لم يسلم من طعنه حتى مثل الحميدي وغيرهم، ثم هو إلى طعنه يضعف الثقات من الحفاظ والرواة وينصب العداوة بينهم وبين أبي حنيفة لمجرد روايتهم عنه بعض الكلمات التي لا تروق لعصبية الكوثري وجموده المذهبي وهو في سبيل ذلك لا يتورع ان يعتمد على مثل ابن النديم الوراق وغيره ممن لا يعتد بعلمه في هذا الشأن.وهو على النقيض من ذلك يوثق الضعفاء والكذابين إذا رووا ما يوافق هواه، ومنه يتبين للناس ما كان خافيا من حقيقة الكوثري وأنه كان يجمع في نفسه بين صفتين متناقضتين فهو في الفقهيات وعلم الكلام مقلد جامد وفي التجريح والتعديل والتوثيق والتضعيف وتصحيح الحديث وتوهينه ينحو منحى المجتهد المطلق غير أنه لا يلتزم في ذلك قواعد أصولية ولا منهجاً علمياً فهو مطلق عن كل قيد وشرط لذلك فهو يوثق من شاء من الرواة ولو أجمع أئمة الحديث على تكذيبه ويضعف من يشاء ممن أجمعوا على توثيقه ويصرح بأنه لا يثق بالخطيب وأبي الشيخ ابن حيان ونحوهما ويضعف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه ولو كان مما خرجه الشيخان في صحيحهما ولا علة قادحة فيه)([35])
وقال فيه سلفي آخر: (.. وهذه الدراسة تتناول علما من أعلام عصره وهو الشيخ محمد زاهد الكوثري (1296-1371 هـ) حيث إنه كان من أشد المنافحين عن مذهب الماتريدية وله أثر كبير على أبناء عصره.. والكوثري أدرك إحياء الدعوة السلفية بمصر، وكان شديد المعارضة لها، فتجده ينكر طبع المخطوطات السلفية ويتألم لإخراجها مثل (السنة) لعبدالله بن أحمد و(نقض الدرامي) للدارمي و(التوحيد) لابن خزيمة وكتب شيخ الإسلام وغيرها والتي نشط علماء السلف لإخراجها وطبعها حتى إنه كتب في ذلك مقالا بعنوان: (تحذير الأمة من دعاة الوثنية)، ويقصد به دعاة السلف رحمهم الله)([36])
وقال مبينا سبب طعن السلفية فيه: (إن الكوثري رد وطعن على كثير من أئمة السلف قديماً وحديثاً، فمنهم من طعن ورد عليه، ومنهم من طعن عليه وغمزه فعل ذلك لأجل إثباتهم صفات الله وفق معتقد السلف، فقد رد على ابن خزيمة وعلى سفيان الثوري والأوزاعي.. وعلى الحافظ صالح التميمي المشهور بصالح جزرة.. وعلى عبد الله بن أحمد وعلى الإمام ابن أبي حاتم فقد رد عليه مطولا متهما إياه بالجهل بالتوحيد وسوء المعتقد والتشبيه.. وعلى الإمام عبيد الله العكبري (ابن بطة).. وعلى عثمان الدارمي وعلى مجاهد بن جبر.. وعلى ابن المديني والدراقطني وابي حاتم.. ونعيم بن حماد طعن في معتقده.. وأما طعونه في شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فشيء كثير متفرق في رسائله وتعليقاته) ([37])
وهكذا صار الطعن في هؤلاء أو نقدهم سببا لتجريح كل عالم حتى لو كان محدثا كبيرا، لأن من أول شروط المحدث عند السلفية أن يكون سلفيا، وأن يقدم كل قرابين الطاعة لابن تيمية وابن بطة والدارقطني وكل مجسم ومشبه.
ولذلك كان من انتقاداتهم الشديدة عليه، والتي كفروه بسببها، هو ما ذكره بعضهم من أنه (حاول إرجاع معتقد من أثبت الصفات من السلف إلى جهل رواة الحديث وبساطتهم بسبب الأعراب وغيرهم، فنقلوا أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وربما رفعوها إلى النبي k فوجد التشبيه وشاع) ([38])
وبذلك صار قول الحقيقة التي يدل عليها كل شيء سببا في التجريح.. كما عبر عن ذلك الشيخ مقبل بن هادي، فقال: (محمد بن زاهد الكوثري مبتدع لا يعتمد عليه في علم الحديث)([39])
وهذا أكبر دليل على الذاتية والطائفية المسيطرة على السلفية، الذين يصدقون الكاذب المجسم، ويكذبون الصادق المنزه.
المثال الثاني: موقف السلفية من الغماري:
يعتبر الشيخ العلامة المحدث عبد الله بن محمد بن الصديق الغُماري من كبار محدثي هذا العصر، الذين شهد له الكل بتمكنه وقدراته، لكن السلفية وبسبب مواقفه من آل البيت الكرام، أو من الصوفية، أخرجوه من زمرة أهل الحديث، وحرموه من كل ما ورد في النصوص من فضلهم.
ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يبدعونه ويكفرونه، هو وكل من سار على منهجه من المحدثين، غير مراعين ما يذكرونه كل حين من حرمة الطعن في أهل الحديث أو التعرض لهم، واعتبار التعرض لهم زندقة.
وممن تولى كبر ذلك منهم شيخهم الكبير المعاصر الشيخ الألباني الذي لم يكن يدع مناسبة إلا وهجم عليه فيها، ومن ذلك قوله في الرد عليه بسبب نصرته للمسبحة التي يستعملها جميع المسلمين في جميع العصور، وخاصة الصوفية منهم، لكن السلفية انفردوا دون الأمة جميعا بالقول ببدعيتها: (.. وجهل ذلك أو تجاهله بعض من ألف في سنية السبحة من أهل الأهواء من المعاصرين مقلداً في ذلك شيخه عبد الله الغماري الذي تجاهل هذه الحقائق وأورد هذا الحديث ليتوصل منه إلى تجويز السبحة لمريديه، ثم إلى تجويز تعليقها على العنق كما يفعل بعض مشايخ الطرق)([40])
وقال فيه: (هناك في المغرب رجل ينتمي إلى العلم، وله رسائل معروفة ويزعم أنه خادم الحديث الشريف، وهو الشيخ عبد الله بن الصدِّيق الغُماري.. معروف بعدائه الشديد منذ القديم لأنصار السنّة، ولِكل من ينتمي إلى عقيدة السلف، مما يدل العاقل أنه لم يستفد من الحديث إلا حمله! ولا أدل على ذلك من كتيب له طُبع بعنوان: (القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع)، أقول: إن كل من يقرا هذا العنوان من القرَّاء همهما كان اتِّجاهه- يتسائل في نفسه متعجباً: ماذا ارتكب الألبانيُّ من البدع – وهو المعروف بمحاربته إياها في محاضراته وكتبه، ومن مشاريعه المعروفة (قاموس البدع)، وقد نص على الكثير منها في فصول خاصة في آخر بعض كتبه، مثل بدع الجنائز، وبدع الجمعة، وبدع الحج والعمرة، فما هي البدع التي جاء بها الألباني حتى وصمه الغُماري بـ (المبتدع)؟ مع أنه كان {أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} لأنه هو المعروف بالابتداع شي الدين، والانتصار للمبتدعة والطُرُقِيِّين، كما يشهد بذلك كل من اطلع على شيء من رسائله، وحسب القارئ دليلًا على ما أقول. أنه شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية الصديقية، وهو يفخر بذلك في بعض كتاباته، كما يفخر بأنه خادم السنة، وليته كان خادماً لها. بل نقنع منه أن لا يكون من الهادمين لها)([41])
بل إن السلفية كعادتهم في كتابة الكتب في الرد على مخالفيهم أفردوه بالكثير من الكتب، ومنها كتاب (الفتح المبين بالرد على نقد عبد الله بن محمد الصديق الغماري لكتاب الأربعين) للشيخ علي ناصر الفقيهي، والذي انتقده في أمور كثيرة، يتبين من خلالها الذاتية والطائفية والغلو فيهما عند السلفية.
ومن الأمثلة على ذلك انتقادهم لموقفه من راو من الرواة اشتهر بالروايات التجسيمية هو حماد بن سلمة، وهو موقف طبيعي من محدث يتهم راويا من الرواة، وهم يمارسونه ذلك دائما، بل يستحيل أن يكون المحدث محدثا، وهو لا يوثق الرواة أو يضعفهم.. لكنهم لا يقبلون ذلك إلا منهم وفيهم وعلى منهجهم، فقد قال فيه: (ومن البلايا والطوام لعبد الله بن الصديق الغماري الوقيعة في الإمام حماد بن سلمة.. إن وقيعته في حماد بن سلمة يخشى عليه من قول ابن المديني: (من سمعتموه يتكلم في حماد فاتهموه).. وقال أحمد ويحيى: ثقة وقال ابن المديني: من سمعتموه يتكلم في حماد فاتهموه، إلا ان حماد بن سلمة كان شديدا على المبتدعة ولهذا لم يسلم من ألسنتهم كما فعل الكوثري قبل عبد الله الغماري وذلك سيكون زيادة في حسناته إن شاء الله تعالى)([42])
وهكذا أصبح الرأي والمذهب والأيديولوجيا هي الحكم، لا الموضوعية العلمية التي تتنزه عن كل ذاتية وطائفية.
وهكذا كان موقفه منه أيضا بسبب دعوته لعرض الحديث على القرآن الكريم، والتي يخالفها السلفية بشدة، فقد قال فيه: (ومما ينبغي الإشارة إليه هنا بمناسبة رد الناقد والاستدلال بالحديث بعد صحته بحجة إنه يخالف القرآن: أن رسول الله k قد أخبر عن جماعة يأتون آخر الزمان يردون سنته بحجة أنهم لم يجدوا ما أمر به أو نهي عنه k في القرآن ويسمون أنفسهم قرآنيين ومنهم جماعة في العصر الحاضر ولا أظن أن الناقد – عبد الله الغماري – منهم) ([43])
ثانيا ـ الذاتية في قبول الرواة ورفضهم:
يذكر السلفية كثيرا وبإعجاب شديد تورع سلفهم من أهل الحديث في الحكم على الأحاديث أو الحكم على رواتها الذين نقلوها، فهم يصورونهم وكأنهم معصومون لا يخطئون، مع أن أحدهم قد يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث، وبأسانيدها ورجالها، مع اتصالها وانفصالها، ومواضع العلل فيها.
والعجيب في الأمر أن من يقول هذا هو نفسه من يجوز صدور المعاصي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قبل النبوة وبعدها، ويعتذر لذلك بأنهم ـ ومع كون الوحي يتنزل عليهم ـ إلا أنهم بشر.. وما داموا بشرا فلا مانع أن يخطئوا.. بل من الغلو أن نعتبرهم لا يخطئون.
لكنك إن قلت لأحدهم: قد يكون هذا الحديث الذي رواه البخاري أخطأ فيه، أو حصل له سهو في بعض ألفاظه، أو أنه وثق فيمن ليس أهلا لأن يثق فيه أقام الدنيا عليك ولم يقعدها، بل ونادى فيك، كما نادى سلفه: زنديق.. زنديق.. زنديق.
ثم ألقى عليك محاضرة في ورع المحدثين وعدم مداهنتهم ومجاملتهم لأي كان، وروى لك بسنده عن البيهقي أحمد بن الحسين (ت 458هـ) قوله: (ومن أنعم النظر في اجتهاد أهل الحفظ في معرفة أحوال الرواة، وما يقبل من الأخبار وما يرد، علم أنهم لم يألوا جهداً في ذلك حتى إذا كان الابن يقدح في أبيه إذا عثر منه على ما يوجب رد خبره، والأب في ولده، والأخ في أخيه لا تأخذه في الله لومة لائم ولا تمنعه في ذلك شجنة رحم ولا صلة مال، والحكايات عنهم في ذلك كثير)([44]).
فإن رأى في وجهك بعض الاستغراب أخبرك أن علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري (ت 234هـ) سئل عن أبيه فقال: (اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه وقال: هذا هو الدين، أبي ضعيف)([45])
ثم أردف بأن حمزة بن يوسف السهمي (ت427هـ) قال: سمعت أبا مسعود الدمشقي يقول: سمعت الزينبي ببغداد يقول: دخلت على محمد بن محمد الباغندي فسمعته يقول: لا تكتبوا عن ابني فإنه يكذب، فدخلت على ابنه فسمعته يقول: لا تكتبوا عن أبي فإنه يكذب)([46])
ثم روى لك أن شعبة بن الحجاج أبو بسطام الواسطي (ت 160هـ) قال: (سميت ابني سعداً، فما سعد ولا فلح، كنت أقول له: اذهب إلى هشام الدستوائي فيقول: اليوم أريد أن أرسل الحمام)([47])
ثم حدثك عن هشام بن حسان القردوسي، (ت148هـ) أن ابن عدي روى عنه، فقال: (لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان كان ختني([48])، ولكن لم يكن يحفظ)([49])
ثم حدثك عن أبي عروبة الحسين بن محمد الحرّاني (318هـ) أنه جرّح خال أمه: الحسين بن أبي السري العسقلاني (240هـ) حيث قال: كذاب هو خال أمي([50]).
ثم حدثك كيف كانت صلابة المحدثين إذا ما طلب منهم أن يكفوا عن بعض من يتهمونهم، وروى لك من أخبار ذلك عن عباد بن عباد المهلبي قال: أتيتُ شعبة أنا وحماد بن زيد فكلمناه في أبان بن أبي عياش فقلنا له: يا أبا بسطام تمسك عنه، فلقيهم بعد فقال: ما أراني يسعني السكوت عنه([51]).
بل إنهم لصلابتهم في مواقفهم لم يكونوا يبالون بتلك الأيدي التي ترفع للسماء للدعاء عليهم، وروى لك من ذلك أن الحسن بن عمارة ـ وهو أحد الذين اتهمهم شعبة ـ كان يقول: (الناس كلهم مني في حل، خلا شعبة فإني لا أجعله في حل حتى أقف أنا وهو بين يدي الله عز وجل فيحكم بيني وبينه)([52])، ومع ذلك فإن شعبة لم يهم بذلك، بل ظل على اتهامه له ([53]).
لكن كل هذا الذي ذكروه ليس سوى زخرف من القول، لا يصح الاعتماد عليه، أو هو مجرد خطب مؤثرة يضحكون بها على أصحاب العقول الضعيفة، وليس لها حظ من الحقيقة، لأنهم هم أنفسهم يرمي بعضهم بعضا، ويتهم بعضهم بعضا، ولو طبقنا عليهم المقاييس التي يتعاملون بها مع خصومهم، فلن يبقى أحد منهم أهلا للرواية، ولا أهلا للحكم على الأحاديث.
لكن عند البحث بموضوعية وجرأة في كتب علم الحديث، وخاصة علم الرجال وعلم الجرح والتعديل ـ وهما العلمان اللذان يقوم عليهما الحكم على الحديث قبولا ورفضا ـ نجد كل أنواع المكاييل المزدوجة التي تخول للمحدث التلاعب برفض ما يشاء من الأحاديث، وقبول ما يشاء منها، لأنه لا يوجد راو في الدنيا إلا وهناك من ضعفه، وبذلك يتسنى للمحدث أن يستعمل هذا السلاح مع المخالف إن أورد أي حديث لا يوافق هواه.
وقد حاول المتقدمون والمتأخرون من المحدثين أن يسدوا هذه الثغرة، لكن لم يستطيعوا، فراحوا يضعون قواعد لأنفسهم تمكنهم من استعمال هذا السلاح متى شاءوا، من دون أن يسمحوا لخصومهم باستعماله.
ومن أمثلة ذلك ما نص عليه ابن البر (ت463هـ) بقوله عند الحديث عن تجريح أهل الحديث لبعضهم بعضا: (.. هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لاتدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته علي طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأمّا من لم تثبت إمامته ولا عرف عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه والدليل، على أنه لايقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول أحد من الطاغين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض السيف تأويلاً واجتهاداً لا يلزم تقليدهم في شيء من دون برهان ولا حجة توجبه([54]).
وقال عبد الله بن وهب (ت197هـ): (لا يجوز شهادة القارئ على القارئ – يعني العلماء – لأنهم أشد الناس تحاسداً وتباغضاً، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار)([55]).
وقال أحمد بن صالح المصري (ت284هـ): قلت لابن وهب: ما كان مالك يقول في ابن سمعان – يعني عبد الله بن زياد بن سمعان – قال: (لا يقبل قول بعضهم في بعض([56]).قلت: وإن كان ابن سمعان من معاصري الإمام مالك إلا أن كلام الإمام مالك فيه كان بحجة، بدليل أن العلماء مجمعون على ترك حديثه وكذّبه غير واحد منهم([57]).
ولهذا نرى الذهبي (ت748هـ) المشهور بعلم الرجال، وبتشدده في الأحكام عليهم يستعمل هذا السلاح الخطير في تراجمه، فمن كان على مذهبه في التجسيم ونحوه دافع عنه، ومن كان مخالفا لمنهجه نقل فيه أحكام خصومه وأقرها، ومن ذلك موقفه من أبي نعيم (ت430هـ) الذي روى الكثير من الأحاديث التجسيمية في كتبه، فقد قال مدافعا عنه ضد من جرحه من كبار المحدثين: (وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر بل هما عندي مقبولان، لا أعلم لهما ذنباً أكثر من روايتهما الموضوعات ساكتين عنها، قرأت بخط يوسف ابن أحمد الشيرازي الحافظ، رأيت بخط ابن طاهر المقدسي يقول أسخن الله عين أبي نعيم، يتكلم في أبي عبد الله بن مندة وقد أجمع الناس على إمامته، وسكت عن لاحق وقد أجمع الناس على أنه كذّاب، قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم([58]).
وقال في ترجمة أبي عبدالله محمد بن حاتم بن ميمون السمين (ت 316هـ): (وذكره أبو حفص الفلاس فقال: ليس بشيء، قلت: هذا من كلام الأقران الذي لا يسمع له فإن الرجل ثبت حجة)([59]).
وقال في ترجمة أبي بكر بن أبي داود السجستاني (ت 316هـ): (قلت: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه كما لم نعتد بتكذيبه لابن صاعد، وكذا لا يسمع قول ابن جرير فيه فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض)([60])
وقد كان ابن تيمية يستعمل هذا المنهج في رده ما يشاء من الأحاديث، وقبوله ما يشاء منها، حتى عاتبه عليه كبار المحدثين، كقول الألباني في نقد رد ابن تيمية لبعض الأحاديث: (من العجيب حقاً أن يتجرأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنة كما فعل بالحديث المتقدم هناك، مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير أن الموالاة هنا ضد المعاداة وهو حكم ثابت لكل مؤمن وعليّ رضي الله عنه من كبـارهم يتولاهم ويتولونه، ففيه رد على الخـوارج والنواصب)([61])
وقال مبينا سبب إطالته في بيان صحة الحديث: (فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ضعّف الشطر الأول من الحديث، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها، والله المستعان)([62])
وقد ساعدهم على كل هذا المنهج الذي اختاروه في الجرح والتعديل، وفي الكلام في الرجال، فقد كانوا يضعون المحاسن والمساوئ، والمناقب والمثالب عند ذكر كل راوية حتى يتخير المحدث بعد ذلك ما شاء لرفض الحديث أو قبوله، وهم يعدون أن ذلك من محاسنهم، ويغفلون عن الآثار الخطيرة التي جلبها هذه المنهج.
يقول ظفر بن أحمد العثماني التهانوي (ت 1394هـ) في بيان ذلك: (إذا كان الراوي مختلفاً فيه، وثقه بعضهم، وضعّفه بعضهم فالاقتصار على ذكر التضعيف والسكوت عن التوثيق عيب شديد، وكذا بالعكس، إلا أن يكون ممن ثبتت عدالته وأذعنت الأمة لإمامته فلا بأس بالاقتصار على التوثيق إذاً، بل قد يجب ذلك إذا تبين صدور الجرح فيه من متعصب أو متعنت أو مجروح ينفسه أو متحامل عليه للمعاصرة أو المنافرة الدنيوية، أو ممن لا يلتفت إلى كلامه لكونه جاهلاً بحال الراوي، وهذا كله ظاهر بعد التأمل فيما ذكرنا من أصول الجرح والتعديل)([63])
وبناء على هذا عاب الذهبي المنهج الذي اعتمده ابن الجوزي في كتابه (الضعفاء والمتروكين)، والذي كان يورد الجرح في الراوي ولا يورد التعديل، ومن الأمثلة على ذلك اعتراضه عليه في ترجمته لأبان بن يزيد العطار إذ قال: (وقد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في الضعفاء ولم يذكر فيه أقوال من وثّقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق)([64])
وبناء على هذا نجد المحدثين يقعون في تناقضات كثيرة في أحكامهم على الأحاديث بسبب تغليب الذاتية، وكون علم الحديث أدة طيعة لتحقيق الذاتية.
ثالثا ـ الذاتية في تحديد علل الحديث:
لم يكتف المحدثون بما وضعوه من قواعد تتعلق بالسند تخول لهم التحكم في الأحاديث قبولا ورفضا، بل أضافوا إلى ذلك قاعدة أخرى، وهي أنه ليس كل ما صح سنده صح متنه، أو كما عبر ابن القيم، فقال: (وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحته فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها صحة سنده وانتفاء علته وعدم شذوذه ونكارته وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات أو شذ عنهم)([65])
وهي قاعدة مهمة لو أحسنوا تطبيقها، فاعتبروا العلة مخالفة الحديث للقرآن الكريم، أو للمتواتر المشهور من السنة، أو لما اتفق عليه العقلاء، أو أن الحديث يحتاج إلى نقل كثير باعتباره مما تعم به البلوى.
لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل تركوا العلة لمزاجهم، وأذواقهم التي قد تختلف بين حين وحين، فإن سئلوا عن سر رفضهم لبعض الأحاديث قالوا: لعلة خفية فيه، فإن سئلوا: ما العلة؟ نقلوا له من كلام أئمتهم أنها (الإلهام)([66])
أو يقولون له ما قال ابن كثير: (وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والسيوف، والدنانير والفلوس، فكما لا يتمارى هذا، كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة الرسول k التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس)([67])
أو يقولون له ما قال الحاكم: (إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير المخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم، لزم صاحب الحديث التنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته)([68])، وقال: (وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث، يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير) ([69])
أو ما قال الخطيب عن علم العلل: (فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به)([70])
أو ما قال ابن حجر: (هو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقبا، وحفظا واسعا، ومعرفة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون. ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين والدارقطني.. وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم)([71])
أو ما قال السخاوي: (ولخفائه (يعني علم العلل) كان بعض الحفاظ يقول: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل، وقال ابن مهدي: هي إلهام، لو قلت للقيم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة، يعني يعبر بها غالبا، وإلا ففي نفسه حجج للقول وللدفع)([72])
وقال: (ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين. فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله)([73])
وبناء على هذا أصبح كل محدث متحكما في الحديث كما يشاء، لا يسأل عن قوله، ولا عن حكمه، وكيف يسأل الخبير عن ذلك، كما قال الزركشي عند حديثه عن زيادة الثقة وموقف المحدثين منها: (الذي يظهر من كلامهم خصوصا المتقدمين كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وهذه الطبقة ومن بعدهم كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين ومسلم والترمذي والنسائي وأمثالهم والدارقطني والخليلي كل هؤلاء مقتضى تصرفهم في الزيادة قبولا وردا الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند الواحد منهم في كل حديث ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث وهذا هو الحق)([74])
وبناء على هذه كله أعطى السلفية لأنفسهم حق التحكم في الأحاديث قبولا ورفضا بحسب ما يمليه عليهم مزاجهم، ولهذا نراهم يهشون ويبشون للأحاديث الممتلئة بالتجسيم، لأن بصائرهم ترى من خلال كل لفظة منها نور النبوة.
وكمثال على ذلك موقفهم من الحديث الطويل الذي رووه عن لقيط بن عامرٍ مرفوعا إلى النبي k وفيه: (فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد)([75])
وهو حديث يخالف القرآن الكريم والعقل والفطرة السليمة وحتى الموازين التي وضعها المحدثون للتمييز بين الصحيح والضعيف، ولكن بسبب موافقته مزاج المحدثين في التجسيم، أقروه ودافعوا عنه، كما قال ابن القيم تلميذ ابن تيمية النجيب بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة.. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان،..وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم)([76])
بل إنه يرتب على منكر هذا حكما خطيرا، فينقل عن سلفه أبي عبد الله بن مندة مقرا له: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة)([77])
ثم لا يكتفي بذلك.. بل يذهب يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه كل صنوف التجسيم والتشبيه، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله..والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل.. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح)([78])
وما فعله سلف السلفية هو نفس ما فعله خلفهم حين استنهضوا هذه الخاصية الممنوحة لهم من طرف سلفهم ليبحثوا في الحديث من جديد، فيضعفوا ما شاءوا ويصححوا ما شاءوا.
وقد أشار الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عند رده على الألباني إلى استغلاله لهذه الناحية للتعامل مع الحديث بمزاجية، فقال: (الشيخ ناصر الدين الألباني شديد الولوع بتخطئة الحذاق من كبار علماء المسلمين ولا يحابي في ذلك أحدا كائنا من كان، فتراه يوهم البخاري ومسلما ومن دونهما.. ويكثر من ذلك حتى يظن الجهلة والسذج من العلماء أن الألباني نبغ في هذا العصر نبوغا يندر مثله. وهذا الذي ينم عنه ما يتبجج به الألباني في كثيرمن المواطن، ويلفت إليه أنظار قارئيه، فتارة يقول: أغتنم هذا التحقيق فإنك لا تجده في غير هذا الموضع ـ يعني عند غيره من المصنفين ـ وتارة يدعي أنه خصه الله تعالى في هذا العصر بالوقوف على زيادات الحديث الواردة في مختلف طرقه المنتشرة في الكتب المبعثرة، وبذلك وصل إلى ما لم يصل إليه غيره من المحققين السابقين ولا اللاحقين.. هذا مبلغ علم الألباني، فإذا نظرت في كتبه تجد الدليل فإنه يذكر فيما يسميها بالصحيحة ما يناقض ما يسميها بالضعيفة، فتراه يغير على الأحاديث النبوية الشريفة بما لا يجوز عند أهل العلم بالحديث، فيضعف الصحيح، ويجود الضعيف، وهذا شأن من لم يشم رائحة العلم، وسبيل من لم يعرف له شيوخ الحديث، وسماع من ألفاظهم، ولا أراه إلا مطالعا من المطالعين الذين ظنوا أن الكتب تغني عن الشيوخ والتلقي، فإنا لم نجد في ترجمة لحافظ أو محدث أنه اقتصر على المطالعة من غير أن يدور على الشيوخ، ويسمع منهم كما سمعوا ممن قبلهم على عادة أهل الإسناد، ومن معايبه تطاوله على الأئمة الكبار، ويكفيه ذما أنه تطاول على البخاري ومسلم فأغار على صحيحيهما ولم يسلما منه، وليته ضعف تلك الأحاديث بعلم ومعرفة، ولكن بجهل ووقاحة، ومن نظر في كتبه وكان له معرفة وفهم وبعدعن التعصب الأعمى والجهل القتال تبين له أن الألباني ضعيف في علم الحديث متنا ورجالا.. ومن معايبه أيضا لمزه لن يخالفه بالابتداع فهو ومن كان معه على زعمه سني يستحق الجنة، ومن خالفه فهو مبتدع يستحق النار، وقصده بهذا الشهرة، ومراده أنه أوحد عصره، وأنه سبق معاصريه، وتفوق على متقدميه.. وبالجملة فالألباني في فتاويه واستنباطاته بلايا وطامات، وسقطات عظيمة تراه يبدع من يذكر بالسبحة، أو يقرأ القرءان على الميت، وتجد في كتبه ولا سيما شرح الطحاوي الضلال والفساد)([79])
بل إننا نجد هذا النقد من نفس المدرسة السلفية، فقد قال الشيخ مقبل الوادعي منتقدا منهج الألباني في الحكم على الحديث: (.. العلماء المتقدمون مقدمون في هذا، لأنهم كما قلنا قد عرفوا هذه الطرق، ومن الأمثلة على هذا: ما جاء أن الحافظ يقول في حديث المسح على الوجه بعد الدعاء: أنه بمجموع طرقه حسن، والإمام أحمد يقول: إنه حديث لا يثبت، وهكذا إذا حصل من الشيخ ناصر الدين الألباني هذا؛ نحن نأخذ بقول المتقدمين ونتوقف في كلام الشيخ ناصر الدين الألباني، فهناك كتب ما وضعت للتصحيح والتضعيف، وضعت لبيان أحوال الرجال مثل: الكامل لابن عدي والضعفاء للعقيلي، وهم وإن تعرضوا للتضعيف، فهي موضوعة لبيان أحوال الرجال، وليست بكتب علل، فنحن الذي تطمئن إليه نفوسنا أننا نأخذ بكلام المتقدمين، لأن الشيخ ناصر الدين الألباني ما بلغ في الحديث مبلغ الإمام أحمد بن حنبل، ولا مبلغ البخاري، ومن جرى مجراهما. ونحن ما نظن أن المتأخرين يعثرون على مالم يعثر عليه المتقدمون اللهم إلا في النادر، فالقصد أن هذا الحديث إذا ضعفه العلماء المتقدمون الذين هم حفاظ، ويعرفون كم لكل حديث من طريق، فأحسن واحد في هذا الزمن هو الشيخ ناصر الدين الألباني، فهو يعتبر باحثا، ولا يعتبر حافظا، وقد أعطاه الله من البصيرة في هذا الزمن ما لم يعط غيره، حسبه أن يكون الوحيد في هذا المجال، لكن ما بلغ مبلغ المتقدمين)([80])
رابعا ـ الذاتية في تفسير الأحاديث وتأويلها:
المنهج الرابع الذي يعتمده المحدثون لحرب الأحاديث التي لا تتناسب مع أمزجتهم هو تفسيرها وتأويلها وحملها على ما يتناسب مع أهوائهم.
وكمثال على ذلك موقف السلفية من الأحاديث التي تثبت جواز التوسل برسول الله k، فهم بعد أن رموا الكثير منها بالضعف والكذب والوضع، مع كونها ليس كذلك، راحوا إلى حديث لم يمكنهم أن يكذبوه، فلذلك استبدلوا تكذيبه بتأويله تأويلا باردا يجعله خاصا بشخص معين، وفي زمن معين مع أن صيغة الحديث لا تحتمل ذلك.
وسأورد الحديث، ثم أورد أقوالهم في تأويله ليتبين لنا كيفية تلاعب السلفية الحديث سندا ومتنا.
والحديث هو ما روي عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(ادع الله أن يعافني)، فقال:(إن شئت أخرت ذلك وهو خير، وإن شئت دعوت)، قال:(فادعه) قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن، ثم يصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء، فيقول:(اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم شفعه في وشفعني فيه) ([81])
فالحديث ـ كما هو ظاهر ـ ورد مطلقا، ومن التأويل تقييده بما لم يدل الدليل على تقييده، بل إن رسول الله k يصف فيه هيئة خاصة بصلاة الحاجة، وذكر فيه صيغة خاصة بها، وهو لا يحتاج بعد ذلك إلى أي دليل خارجي يدل على أنه عام يصلح تطبيقه في كل الأزمنة، ومع ذلك ورد ذلك الدليل الخارجي.
ففي الحديث عن عثمان بن حنيف: أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد k نبي الرحمة، يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي)، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى أروح معك.فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال له ما حاجتك فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا.ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في.فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله k وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره.فقال له النبي k: أو تصبر؟ فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي.فقال له النبي k: ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات) قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط ([82]).
ومع كل ذلك نرى ابن تيمية وجميع السلفية يؤولون الحديث بصنوف من التأويلات ليصرفوه عن ظاهره الذي لا يروقهم، فمن التأويلات البعيدة التي أول بها ابن تيمية الحديث قوله: (وكذلك لو كان كل أعمى توسل به، ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه) ([83])
وما ذكره ابن تيمية من التأويل بعيد جدا ذلك أن من الصحابة من رضي بحاله، ولم يسأل الله تغييره رضى بقسمة الله، بل في حديث الأعمى دليل على استحباب ذلك، وقد ورد في الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبها طيف، فقالت:(يا رسول اللّه إني أصرع، وأتكشف، فادع اللّه أن يشفيني)، فقال:(إن شئت دعوت لك أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)، فقالت:(بل أصبر ولي الجنة، ولكن ادع اللّه لي أن لا أتكشف)، فدعا لها فكانت لا تتكشف([84]).
بالإضافة إلى أن اشتراط تأييد كل ما ورد من الأحاديث القولية أو الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآثار الدالة على الفعل به من الصحابة يكلفنا شططا، بل يلغي أكثر السنن.
وهكذا نجد الألباني في كتابه الذي خص به التوسل يتلاعب بكل صنوف التأويلات ليخرج الحديث من مضمونه، فقد قال ـ بعد ذكر الحديث، وعدم قدرته على تضعيفه ـ: (يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي k أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي k علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً، وأما نحن فنرى ان هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي k ليدعو له، وذلك قوله: (أدعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه k، لأنه يعلم أن دعاءه k أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي k أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي k، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل.. ثانياً: أن النبي k وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له.. ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول k دعا له، لأنه k خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه k دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي k الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي k له.. وهكذا فلم يكتف الرسول k بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه)([85])
وهكذا يمضي الألباني كما مضى قبله ابن تيمية في رد الحديث والتلاعب بتأويله ليصرف صرفا تاما عن معناه الواضح الذي لا يحتاج إلى كل ذلك التكلف.
هذا موقفهم من حديث التوسل الذي لا يرضيهم، فلذلك تلاعبوا به كما شاءت لهم أهواؤهم، في نفس الوقت نجد حديثا آخر، يرتبط بحادثة خاصة، وموقف خاص، ولكن لكونه يرتبط بأهواء سلفية، عمموه ولم يقولوا بتخصيصه، وأطلقوه ولم يقولوا بتقييده، بل لم يكتفوا باعتباره من مسائل الفروع، وإنما حولوه إلا مسائل الأصول التي يرتبط بها الكفر والإيمان.
والحديث هو ما رواه أبو سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله k: (لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)([86])
ففي هذا الحديث يقول k لخالد ـ الذي أسلم متأخرا، أي بعد الفتح ـ: (لا تسبوا أصحابي)، يقصد عبد الرحمن بن عوف وأمثاله، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان؛ والحديث يقصدهم، لأن الرسول k لم يقل لخالد: (أنت من أصحابي فلا تسب أصحابي)
وهذا بظاهره يدل على أن الصحبة خاصة بالسابقين الأولين ـ باعتبار عبد الرحمن بن عوف هو المراد في الحديث بالنهي عن سبه، أو قد تعمم إلى كل من أسلم قبل الفتح، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]
لكن السلفية يعممون هذا الحديث على كل من رأى رسول الله k حتى الذين سماهم رسول الله k طلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم.
وهذا هو التناقض والمزاجية والهوى بعينه.. فإما أن يقولوا بتعميم الجميع، وإما أن يسمحوا بتخصيص الجميع.. أو يسمحوا على الأقل لغيرهم أن يخصص كما سمحوا لأنفسهم، ويعتبروا ذلك من مسائل الاجتهاد.. لكنهم لا يفعلون.
وهكذا في التصرف في الحديث بإطلاق معناه مع كونه مقيدا بمعنى خاص، وهو تحريم السب.. والسب معروف، وهو بذاءة اللسان والفحش.. لكن السلفية يطلقونه على كل ناقد محقق حتى لو انتقد خطأ لبعض الصحابة بأدب، فإن القيامة تقوم عليه، بينما لو نزه لسانه عن تخطئة الأنبياء عليهم السلام، فإنهم يعتبرونه مبتدعا، لأن عصمة الأنبياء عندهم بدعة.
خامسا ـ مزاحمة الحديث بالرواية عن السلف:
لم يكتف السلفية بكل تلك المناخل التي يميزون بها الأحاديث التي تتناسب مع أهوائهم عن غيرها، بل راحوا إلى الأحاديث التي صحت، ولم يجدوا كيف يدفعوها إلى اشتراط موافقة السلف على العمل بها وإقرارها، وكأن السلف هم رسل الله لا محمد k.
ولهذا نرى كتبهم المسماة بكتب السنة مشحونة بأقوال سلفهم، مع اعتبار الجميع واحدا، وكأن رسول الله k ليس سوى فرد من أفراد السلف.
وليته كان كذلك عندهم، فلعله ينال من الحرمة ما ناله سلفهم، ذلك أنهم إذا تناقض قوله مع قولهم قدموه عليهم، لأنهم الأدرى، وهم الأعلم، ولا يمكن لأحد أن يفهم من الحديث ما لم يفهموه.
وقد اتفق سلفهم وخلفهم على هذا الاعتبار الخطير الذي يعزل رسول الله k عزلا تاما، وعن كبرى القضايا ليدع له هامشا محدودا في فضائل الأعمال ونحوها.
وهم يروون في هذا عن مالك بن أنس قوله: (سمعت من ابن شهاب أحاديث لم أحدث بها إلى اليوم، قلت: لِمَ يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكن العمل عليها فتركتها)([87])
ويروون عن الإمام أحمد قوله لبعض أصحابه:(إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)([88])، ويروون قوله في رواية الميموني:(من تكلم في شئ ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ)([89]) والإمام كما يفهمونه هنا هو سلفهم الذي يشاركهم في عقائدهم ومواقفهم.
ولهذا نراهم يعتبرون من يرجع للسنة وحدها دون أقوال السلف فيها مبتدعا ومنحرفا، فلذلك يعتبرون من عيوب أبي القاسم عبد العزيز بن عبد الله الشافعي المعروف بالدّاركي أنه (ربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم! حدث فلان عن فلان عن رسول الله k بكذا وكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة)([90])
وقد علق الذهبي على كلام الدّاركي بقوله:(قلت:هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء هذين الإمامين مثل مالك، أو سفيان، أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتاً سالماً من علة، وبأن لا يكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثاً صحيحاً معارضاً للآخر، أما من أخذ بحديث صحيح وقد تنكبه سائر أئمة الاجتهاد، فلا)([91])
وقد عبر ابن رجب عن موقف السلفية من هذا الشرط، فقال:(فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان، إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به)([92])
وهكذا نرى ابن تيمية يشترط على من يسميهم المبتدعة مراعاة إجماع سلفه، فلا يكفي تحاكمهم للقرآن والحديث دون مراعاة ما قال السلف، يقول في ذلك: (كان الإمام أحمد يقول:أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، ولهذا نجد المعتزلة المرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة، ولهذا لا تجدهم يعتمدون على أحاديث النبي k والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب والكلام التي وضعتها رؤوسهم،وهذه طريقة الملاحدة أيضا، إنما يأخذون ما في كتب الفلاسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلايلتقون، وهؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم،وفهمهم بلا آثار عن النبي k وأصحابه، وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهــل البدع)([93])
ويقول: (وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم، بل قالوا على خلافه، فإنه قول باطل)([94])
ويقول:(فمن بنى الكلام في العلم:الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة)([95])
ويقول:(وقد نص أحمد على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم، أ رأيت إن أجمعوا له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا)([96])
ويقول: (ومن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل كان مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله k، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً)([97])
وقد سار على هذا المنهج خلفهم من السلفية المحدثين، وقد قال الألباني: (فقد قلنا: إن العلم النافع يجب أن يكون على منهج السلف الصالح، فحينما يحيد كثير من الدعاة الإسلاميين اليوم عن التقيد بهذا القيد الثابت، الذي أشار إليه الإمام ابن القيم في شعره السابق حين قال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه، فعدم الالتفات إلى ما كان عليه السلف الصالح يعود بالناس بعد أن اتفقوا إلى الفُرقة التي تُبَاعِدُ بينهم، كما باعدت من قبل بين كثير من المسلمين، فجعلتهم شيعاً وأحزاباً)([98])
وقال ردا على الصوفية الذين يـحـتجون بقوله k: (لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله، الله) على جواز بل على استحباب ذكر الله عز وجل باللفظ المفرد (الله، الله): (إن هذا التفسير لو كان صحيحاً لجرى عليه عمل سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فإذْ لم يفعلوا دل إعراضهم عن الفعل بهذا التفسير على بطلان هذا التفسير)
قال عند شرحه لحديث جابر بن عبد الله (كنا في سفر مع رسول الله k فلما قدمنا المدينة قال لي: ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين): (وظاهر الأمر يفيد وجوب صلاة القدوم من السفر في المسجد، لكني لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إليه، فإن وجد من قال به صرنا إليه، والله أعلم)([99])، وهكذا لم يكتف الألباني بالحديث، بل تصور أنه يحتاج إلى سلفه ليؤكدوه له.
وهكذا قال الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: (كان جواب شيخنا الألباني على سؤال له: لم الإقتصار على القول بكراهة الجماعة الثانية، وقد قامت الأدلة على منعها، والأصل في العبادات التوقيف، فما المانع من القول بحرمتها أو بدعتها؟ فقل حفظه الله: ما رأينا في ذلك لنا سلفا)([100])
وقد سئل الألباني: (هل هناك مسألة علمية أخذ بها المتأخر لم يقل بها من المتقدمين أحد أعني في علم الحديث؟)، فأجاب: (لا أعتقد أنه يوجد شيء من هذا، هذا علمي، لكني لا أستبعد أن يكون هناك قول قديم أخذ به بعض المتأخرين مرجحين له على غيره، هذا ممكن وهذا في الحقيقة الذي أنا أفهمه كأن القول في هذه المسألة الحديثيه كالقول في غيرها من المسائل الفقهية، أي: أنه كما أنه لا يجوز أن يتبنى الفقيه حقاً في هذا الزمان قولاً محدثاً لم يسبق إليه من أحد الأئمة المتقدمين كذلك لا يجوز لمن كان عالما بعلم الحديث أن يتبنى رأياً جديداً لم يسبق إليه من أحد من العلماء المتقدمين،كل ما يجوز لهؤلاء وهؤلاء هو أن يرجحوا أو يتبنوا رأيا ًمن رأيين أو أكثر أما أن يبتدعوا فلا،وعلى هذا أقول:لا أعتقد أن هناك مسألة لم يقل بها أحد أو رأى لم يقل به أحد)([101])
هذه خلاصة موجزة، أو مفاتيح لمنهج تعامل التراث
السلفي مع السنة النبوية المطهرة، والتي يغلب عليها المزاج والذاتية وإقصاء
الآخر.. فأفكارهم ومذاهبهم وطائفتهم هي السنة، وما رسول الله k في تراثهم إلا خادم بسيط لتلك المذاهب
والأفكار، فإن لم تتوافق أقواله أو أفعاله k مع مزاجهم رموا بما قال عرض
الجدار، أو أولوه، أو حرفوه، أو كتموه وتواصوا على كتمانه.
([1]) سنن الترمذى (2869)
([2]) مقدمة تحفة الأحوذى ص 13.
([3]) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (ج 2 / ص 36)
([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي(135)
([5]) الحطة ص 39، مقدمة تحفة الأحوذي ص 15.
([6]) الحطة في ذكر الصحاح الستة ص 39.
([7]) سنن الترمذى(486) والفتح 11/167 .
([8]) تحفة الأحوذي (ج 2 / ص 20)
([9]) مقدمة تحفة الأحوذي ص 12-13.
([10]) رواه أحمد: 5/34.
([11]) سنن الترمذى (2351) صحيح
([12]) معرفة علوم الحديث للحاكم ص 107-108.
([13]) البخاري (3611) ومسلم (1066) وأبو داود (4767) والنسائي (7/ 119).
([14]) الكفاية في علم الرواية (ج 1 / ص 5) والكفاية للخطيب البغدادي (1/ 51-52)
([15]) مجموع الفتاوى (ج 4 / ص 9)
([16]) مجموع الفتاوى (٣٤٧/٣)
([17]) وخاصة سيد الصحابة الإمام علي الذي لم يتعرض أحد للإذية والسب والطعن مثلما تعرض له، وأول من تعرض له هم سلف السلفية، وعلى رأسهم ابن تيمية كما ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [شيخ الإسلام في قفص الاتهاما]
([18]) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)
([19]) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)
([20]) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 4)
([21]) انظر: ابن حجر العسقلاني (هدى الساري مقدمة فتح البارئ ص 385)
([22]) المداوي لعلل المناوي: 1 / 207.
([23]) المداوي لعلل المناوي: 1 / 250.
([24]) المداوي لعلل المناوي: 1 / 563.
([25]) المداوي لعلل المناوي: 1 / 530.
([26]) المداوي لعلل المناوي: 1 / 627.
([27]) من حوار مطول أجري معه في منتدى المنزهون من أهل الحديث.
([28]) المرجع السابق.
([29]) المرجع السابق.
([30]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص13.
([31]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص14.
([32]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص15.
([33]) مقدمة تاريخ الكوثري، ص3.
([34]) جهود الكوثري في علوم الحديث (ص 204-205)
([35]) مقدمة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (ص 3-7)
([36]) زاهد الكوثري وآراؤه الاعتقادية، عرض ونقد (ص 8)
([37]) زاهد الكوثري وآراؤه الاعتقادية، عرض ونقد (ص 10-18)
([38]) زاهد الكوثري وآراؤه الاعتقادية، عرض ونقد (ص 10-18)
([39]) المخرج من الفتنة (ص 29)
([40]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (1/ 189)
([41]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (3/ 8)
([42]) الفتح المبين في الرد على نقد كتاب الأربعين (ص 49-50)
([43]) الفتح المبين في الرد على نقد كتاب الأربعين (ص 53)
([44]) انظر: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة 1/ 47)
([45]) انظر: محمد بن حبان البستني (المجروحين 2/15)
([46]) حمزة السهمي (سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدار قطني وغيره من المشايخ في الجرح والتعديل ص 132)
([47]) محمد بن عمرو العقيلي (الضعفاء الكبير2/ 118)
([48]) هو أبو امرأة الرجل وأخو امرأته وكل من كان من قبل امرأته.
([49]) الكامل في ضعفاء الرجال 7/2570.
([50]) عبد الرحمن بن أبي حاتم (الجرح والتعديل 2/289)
([51]) الكامل في ضعفاء الرجال: 1/377.
([52]) الجرح والتعديل 9/ 130.
([53]) ذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي سبب اتهام شعبة له، فقال: (كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع الضعفاء، كان يسمع من موسى بن مطير وأبي العطوف وأبان بن أبي عياش وأضرابهم، ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات، فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه، وأطلق الجرح، ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليسهم عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار، حتى التزقت الموضوعات به) (انظر: الجرح والتعديل 1/299)
([54]) نزهة النظر بشرح نخية الفكر، ص 442.
([55]) تاج الدين السبكي (قاعدة في الجرح والتعديل – ضمن أربعة رسائل في علوم الحديث،
ص
(15- 16)
([56]) انظر: تهذيب التهذيب 5/220.
([57]) انظر: الامصدر السابق 5/219/-221.
([58]) ميزان الإعتدال 1/ 111.
([59]) سير أعلام النبلاء 11/451.
([60]) تذكرة الحفاظ 2/772.
([61]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (5/ 264)
([62]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 344)
([63]) ظفر بن أحمد التهانوي (قواعد في علوم الحديث ص 281)
([64]) الذهبي محمد بن أحمد (ميزان الإعتدال في نقد الرجال 1/16)
([65]) الفروسية (ص: 245)
([66]) فتح المغيث شرح ألفية الحديث للشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي ج1 ص235.
([67]) اختصار علوم الحديث (ص: 64)
([68]) معرفة علوم الحديث: 1/59.
([69]) معرفة علوم الحديث: 1/ 112.
([70]) الجامع (2/255)
([71]) نزهة النظر 1/114.
([72]) فتح المغيث 1/289 .
([73]) فتح المغيث 1/289.
([74]) النكت على مقدمة ابن الصلاح لبدر الدين الزركشي ج2 ص175 ــ 176.
([75]) أحمد (١٦٢٠٦) وابن أبي عاصمٍ في (السنَّة) (٦٣٦)، وابن خزيمة في (التوحيد) (١/ ٤٦٠، ٤٧٠)، والآجريُّ في (كتاب التصديق بالنظر)، وأبو داود (٣٢٦٦)، وعبد الله بن أحمد في (السنَّة) (٢/ ٤٨٥)، والطبرانيُّ في (الكبير) (١٩/ ٢١١، ٢١٤)، والحاكم في (المستدرك) (٤/ ٥٦٠)
([76]) زاد المعاد 3/677-682 .
([77]) زاد المعاد 3/677-682 .
([78]) زاد المعاد 3/677-682 .
([79]) الألباني أخطاؤه وشذوذه 1/9..
([80]) المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح، ص41.
([81]) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، ورواه أحمد وابن ماجة والحاكم وابن السني.
([82]) الطبراني في المعجم الكبير (9 / 17)
([83]) الرد على البكري، ابن تيمية، 1/268.
([84]) رواه ابن مردويه وغير واحد من أهل السنن وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
([85]) التوسل أنواعه وأحكامه، ص60.
([86]) مسلم رقم 2540 وغيره.
([87]) رواه أبو نعيم في الحلية (6/322)، انظر السير للذهبي (8/107)
([88]) إعلام الموقعين (4/266)
([89]) الآداب الشرعية لابن المفلح (2/60)
([90]) وفيات الأعيان (3/189)
([91]) سير أعلام النبلاء (16/405)
([92]) فضل علم السلف على الخلف، ص31.
([93]) كتاب الإيمان (ص 113- 114)
([94]) منهاج السنة (5/262)
([95]) مجموع الفتاوى(10/363)
([96]) المستدرك على مجموع الفتاوى(2/ 113)
([97]) مجموع الفتاوى ( 13 / 361)
([98]) في شريط الأجوبة الألبانية على الأسئلة الكويتية.
([99]) الثمر المستطاب (2/628)
([100]) إعلام العابد (ص10) بالهامش.
([101]) شريط رقم (852)من سلسلة الهدى والنور.