البداية

البداية

أذكر جيدا أنني كنت حينها متألما غاية الألم بسبب ما أراه حولي من ضجيج وصخب ولغو يستعمل الدين مطية ليفرق القلوب والأجساد، وينشر الفتنة، ويملأ الأرض خرابا ودمارا.. كان الكل كالمجانين الذي أعمتهم الأحقاد، فصاروا لا يرون ما يحل بهم، وما يخطط لهم، وما يكادون به.

ومما زاد في ألمي علمي بأن الأمة التي أنتمي إليها.. والتي تمتلئ بالضعفاء حتى إنها تكاد تمثلهم.. فيها من الصالحين والأولياء والمقربين ما لم تظفر أمة من الأمم بعشر عشيره.. ولكن العدو مع ذلك تسلل إليها في كل مرحلة من مراحل تاريخها عبر أهواء ينشرها، ثم ينشر خلفها أوتاد التعصب.. لتنقلب بعد ذلك رماحا نقاتل بها بعضنا بعضا، وننسى عدونا الذي بنظر إلينا بشماتة متربصا لحظة انطفاء النيران بيننا ليزيد من وهجها بحطب جديد ووقود جديد..

تذكرت الخلافات التي تؤرخ لها كتب الملل والنحل.. والتي لا ترضى إلا أن تكون حطبا ووقودا يزيد نار الخلاف وهجا واتقادا.. وهي تبشر بفرقة الأمة، وتأبى إلا أن تجعلها سبعين طائفة، وفي كل طائفة سبعين.. ثم لا ينجو من هذا الفتات المتناثر إلا طائفة واحدة منصورة، ويرمى غيرها في أطباق جهنم..

وزاد من ألمي ما تسطره الأخبار كل يوم عن التفجيرات التي تقوم بين الحين والحين في مساجد هذه الطائفة أو تلك الطائفة.. وكل يزعم أنه ممثل الدين والنائب عن رب العالمين.. ولا يرى له من تمثيل غير الإبادة.. إبادة إخوانه ليغرس على جثثهم بذور الدين الذي لا يرى دينا غيره.

لقد عرفت صدق نبوءته صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال:(إن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يهلك أمتي بسنَة بعامة وألا يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض. فقال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكتهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا)([1])

دب إلى نفسي غول الألم من جديد، وأنا أتذكر هذا الحديث، وأقول لنفسي: لا مناص لنا من هذا.. فهذا قدر مقدور كتب في جبين هذه الأمة.. وسيبقى بأسها بينها شئنا أم أبينا..

ما وصل بي الخاطر إلى هذا المحل حتى شعرت بيد تربت على كتفي، ولست أدري هل كنت حينها نائما أم مستيقظا أم بين النوم واليقظة..

التفت فإذا بي أرى رجلا ممتلئا أنوارا، يقول لي، وهو يبتسم: أنت تبحث عن سر الوحدة.. فهلم لتنهل من معارفها ما يملؤك بالقوة والأمل..

قلت: أي قوة؟.. وأي أمل؟.. وأي وحدة؟.. لقد سطرت آلام الفرقة في جسدنا.. ولا مفر لنا منها، ولا مخرج.

قال: ألم تتعلم من القرآن الصامت والناطق مزاحمة الأقدار بالأقدار؟

قلت: بلى.. ولكن تلك أجسادنا التي لم تتوزع شتاتا كما توزعت طوائف الأمة.

قال: ولكن الأمة جسد واحد كذلك.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([2])

قلت: ولكن الذي قال هذا هو الذي أخبر بما أخبر به من فرقة الأمة.

قال: أخبرنا بذلك لنحذر ونهيئ أنفسنا لمواجهة أخطار الفرقة التي يمكن أن نتعرض لها.. ولم يخبرنا بذلك لنبرر لأنفسنا ما نقع فيه من اختلاف وفرقة.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينشر فينا الإحباط، بل ينشر فينا الحذر.

قلت: وما جدوى الحذر؟

قال: سأضرب لك مثالا يبين جدواه.. وتفهم من خلاله النصوص كما يجب أن يفهمها المؤمن السامع من الله.. أتعرف الصبغيات التي تتشكل من أنواعها خريطة الإنسان المكانية والزمانية؟

قلت: أجل.. وقد أصبت في ربط الصبغيات بالزمان.. فللجسم ساعة بيولوجية تجعله يتغير بتغير الدقائق والثواني.

قال: فالصبغيات إذن عبارة عن حروف لأقدار مكتوبة لا بد أن تصيب صاحبها لا محالة.

قلت: أصبت وأخطأت.. أصبت في كونها حروفا لأقدار مكتوبة، وأخطأت في إصابتها لصاحبها لا محالة.. فقد توصل العلم الحديث إلى إمكانية الابتعاد عن تلك الحروف التي تحمل أقدارا تجلب لنا بعض الضرر.

قال: وضح لي مرادك.

قلت: قد يعرف الأطباء المختصون أن فردا من الناس يحمل جينا مسؤولا عن مرض معين.. فينصحونه بمحاولة تفاديه.

قال: وكيف يتفاداه وقد رسم في جيناته؟

قلت: لكل مرض سببان: أصلي، وهو ما رسم في جيناته من حروف العلة، واستفزازي، وهو ما يوفر للمرض دواعي الظهور.

قال: وهل يمكن أن يحلم حامل المرض الوراثي أن لا يظهر عليه المرض المسطر في جيناته؟

قلت: أجل.. إذا عرف كيف يترك علته في طور الكمون بأن لا يوفر لها دواعي الظهور.

قال: فقد فهمت إذن سر إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن إمكانية تعرض الأمة للفتن فيما بينها.

قلت: لم أفهم.. لقد كنا نتحدث عن جسد الأفراد، لا عن جسد الأمة.

قال: خالق الجسدين واحد.. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المؤمنين كالجسد.. فاعبر من جسد الفرد إلى جسد الأمة.

قلت: لا طاقة لي بالعبور.

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الأمة تحمل جينات قد تسبب تفرقها واختلافها.. وهو ما قد يجر إلى أن يكوون بأسها بينها شديدا.

قلت: وهذا هو المقدور.

قال: لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث ينبئنا عن المقدور فقط، بل كان ينبئنا عما يجب أن نفعله لنتفادى هذا الذي سطر في جينات الأمة.

قلت: كيف نتفاداه وهو مقدور؟

قال: كما يتفادى العليل علله الوراثية بأصناف التحصينات التي تمنع استفزاز علله.

قلت: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينصحنا إذن.

قال: كل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصائح لا يستطيع أي شيء في الدنيا أن يعوضها.. ولكنكم تحولونها إلى أشواك تزرع اليأس وتجني الإحباط.

قلت: ولكن كيف لا نحبط.. وقد خصت هذه الأمة بهذه الجينات الخطيرة.. ألا يصاب المريض بالحزن إن علم أن بعض جيناته تختزن السم الزعاف؟

 قال: هذا الجين الذي أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم دليل على كمال الأمة، وبشارة بانتشارها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: كل كمال لا بد أن يحمل بذور التعدد.. وبذور التعدد هي التي قد تنشئ الاختلاف.. وهو الذي قد ينشئ العداوة.

قلت: فقد انتهى الأمر إلى العداوة.

قال: وقد ينتهي إلى تعدد الكمال..

قلت: لا أفهم هذا.

قال: هذه الأمة تضم الأجناس والألوان المختلفة.. وهي تضم معهم ألسنة متشعبة، وأعرافا متباينة، ومشارب تختلف أذواقها.. وكل هذا الاتساع والانتشار في الطبيعة ينشئ اتساعا وانتشارا في الفكر والفهم والسماع.. وهذا كله موصل للكمال.

قلت: لا أزال قاصرا عن إدراك سر علاقة الكمال بهذا.

قال: أرأيت لو أن تلميذا من الله عليه، فتتلمذ على مشايخ تتعدد مشاربهم ولغاتهم.. فكل يعبر له عن المعلومة بأسلوبه ولغته.. أيهما أكمل: أهو، أم ذلك الذي لم يغادر بلده، ولم يتلق من غير معلم قريته؟

قلت: لا شك أن الأول يكون أكثر نضجا وعمقا، وأقرب إلى الكمال من الثاني.

قال: فكذلك هذه الأمة.. لقد خصها الله بميزتين استدعت ظهور الاختلاف: أما أولهما، فهو أنها عامة للبشر جميعا بطبائعهم المختلفة، وأما الثاني، فهو أنها الرسالة الخاتمة التي هيمنت على الكل، ولم يبق بعدها أي رسالة تنسخها.

قلت: فهمت سر الكمال المؤدي إلى الاختلاف في الأول، ولم أفهمه في الثاني.

قال: إن كونها الرسالة الخاتمة يستدعي ضمها لكل الاحتياجات، ويستدعي كذلك تقبلها لكل المشارب.. وهذا مما ينشئ الخلاف.

قلت: كيف ينشئ الخلاف؟

قال: ينشأ الخلاف عندما ينشأ المتعصبون الذي يتصورون الدين قاصرا على ما فهموه منه.

قلت: فكيف نتفاداه؟

قال: بعلوم وأخلاق من تعلمها وتخلق بها حفظ من آثار هذا لجين الفاتك، فلم يمد سيفه على أخيه، ولم يسلط جيوش لسانه عليه.

قلت: فأين أتعلم هذه العلوم.. وأتدرب على هذه الأخلاق؟

قال: هنا في حصن الوحدة.. فهو الحصن الذي يدرب المستضعفين على ضم القلوب والأرواح لتتوحد في عبوديتها لله.. فعبودية الله تجمع ولا تفرق.

قلت: أرى أجنحة كثيرة في هذه الحصن.. وأرى فيها أمورا لم أرها من قبل.

قال: لهذا الحصن قصة.. ولن تعرف في هذا الحصن من هذا الحصن إلا هذه القصة، وأحسب أنها تكفيك.

قلت: فمن يقصها علي؟

قال: سأفصها عليك أنا..

قلت: أنت !؟

قال: أجل.. لأنها حدثت بين قومي.. وقد تعلمت منها ما رضي قادة هذا الحصن أن يجعلوه برنامجا تدريبيا للمستضعفين فيه.

***

كانت هناك نخلة قريبة منا تمتلئ بأعذاق التمر الطيب.. فطلبت من صاحبي أن نجلس تحتها لنسمع قصة مدينته التي صارت مدرسة للوحدة في هذا الحصن.

سكت صاحبي برهة، وكأنه يسترجع ذكرياته.. ثم قال: في تلك السنين كنا أهون المستضعفين.. لقد وفر أعداؤنا على أنفسهم شراء السلاح، واكتفوا بأن يبيعوا السلاح لنا لنقدم لهم أجسادنا وفوقها أموالنا.

قلت: أي جنون أصاب قومك يا هذا؟

قال: هو نفس الجنون الذي يصيب قومك.. ألا تراهم بارعون في قتال بعضهم بعضا؟.. ألا ترى أنهم انشغلوا عن التحذير من الشيطان وأولياء الشيطان بالتحذير من تلك الطائفة وتلك الطائفة؟.. ألا ترى أنهم يعبدون أنفسهم وأهواءهم وأعراقهم ومذاهبهم، وهم يحسبون أنهم يعبدون الله.

قلت: صدقت في هذا.. أكمل حديثك عن قومك..

قال: قومي كقومك.. كانوا لا يعرفون من الدين إلا مواطن الخلاف، يحفظونها وينشرونها ويربون أبناءهم عليها.. حتى إذا كبر أبناؤهم حملوا السلاح ليضرب به بعضهم بعضا..

قلت: عرفت كل هذا من قومي.. فحدثني كيف صار هؤلاء المتنافرون مدرسة من مدارس الوحدة.

قال: لقد ولد فينا شباب طيبون اعتزلوا كفتية أهل الكهف لا نراهم ولا نسمع أخبارهم حتى نزلوا علينا ذات يوم، ونحن نشهر أسلحتنا للمعركة الفاصلة بيننا وبين أعدائنا من إخواننا.

قلت: فماذا فعلوا؟

قال: لقد كان في وجوههم من نور الإيمان وسلامة اليقين وأدب الحديث ما جعل الكل يلتفت إليهم، ليسمع منهم.

قلت: أهم من طائفتك أم من غيرهم؟

قال: هم من طائفتنا ومن غيرهم، ولكن النور الذي ينتشر على وجوهم جعل منهم طائفة خاصة لا تماثلها أي الطوائف.

قلت: كم كانوا؟

قال: سبعة رجال.. كل واحد منهم جبل من جبال الحكمة.. لقد وقفوا بشجاعة بين الصفين، وطلبوا من كلا الفريقين أن يسمعوا منهم.

قلت: فهل أجابوا؟

قال: لم يملكوا إلا أن يجيبوا.. ولكنهم ظلوا مشهري أسلحتم، وأبوا تركها.

قلت: فماذا فعل حكماؤكم السبعة؟

قال: تقدم أحدهم ورفع صوته الذي امتلأ إيمانا صائحا في الجموع: يا إخواننا.. لا نشك في غيرتكم وإخلاصكم.. ولا نشك في إيمانكم بربكم وتعظيمكم له.. ولهذا نناشدكم الله أن تسمعونا.. لا نقول لكم: ارموا سلاحكم، فنحن نعلم ما له من قيمة عندكم.. ولكنا نطلب منكم أن تسمعوا كلمة من كل واحد منا..

لقد التجأنا إلى الله في كل تلك السنوات الطويلة أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وقوتها، فعلم كل واحد منا كلمة من كلمات الوحدة، وسرا من أسرار الاجتماع.. فاسمعوا منا جميعا.. ثم افعلوا بعد ذلك ما بدا لكم.

قلت: فهل سمعوا منه؟

قال: لم يملكوا إلا أن يسمعوا.. فقد كان لكلماته من الإخلاص ما جعلها بلسما لا تملك القلوب إلا أن تذعن له.

قلت: فهل ستحدثني عن خبر هؤلاء الحكماء مع قومك؟

قال: أجل.. فعلوم هؤلاء الحكماء هي التي يلقنها أهل هذا الحصن للمستضعفين المتشتتين.

قلت: فحدثني حديثهم.. فقد اشتقت إليه.

بدأ صاحبي يتحدث.. وسرح خيالي معه يرسم الأحداث ويعيشها.


([1]) رواه أحمد.

([2]) رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *