أولا ـ العبودية

أولا ـ العبودية

تقدم الحكيم الأول بين الصفين، وقال: أول كلمة تجعل قلوبكم على قلب رجل واحد هي العبودية لله.. فأساس كل خلاف تقعون فيه هو عبوديتكم لأهوائكم ونفوسكم وجذوركم..

قالوا: أين الدليل على هذا.. فقد قرأنا الوحيين جميعا فلم نجد فيه ما ذكرت؟

قال: لقد قال الله تعالى مشيرا إلى هذا الأصل العظيم الذي يقوم عليه بنيان التوحيد:{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:92)

قام أحدهم، وقال: هذه الآية تخبر عن أمرين، أما أولهما، فهو الدلالة على وحدة هذه الأمة، والثاني إخبار من الله تعالى لعباده بربوبيته، وأمر لهم بمراعاتها بعبادته.. فأين وجه استدلالك؟

قال الحكيم: من اقتران كلا المعنيين يتولد أصل ابتناء الوحدة على العبودية.. فكأن الله تعالى يذكر لنا وصفة لتحقيق الوحدة والحفاظ عليها.. وهي عبادة الله، والاستغراق في عبادته.

قال الرجل: ولكن القرآن الكريم لم يذكر هذا الارتباط الذي تتوهمه.

قال الحكيم: من تتبع القرآن الكريم وعرف أسرار الارتباط فيه استنبط منه من أنواع العلاج ما لا يستطيع العقل المجرد التعرف عليه..

قام رجل مشهرا سيفه، وهو يقول: لا نريد ان نناقشك في وجه استدلالك.. ولكنا لا نراه في الواقع.. فنحن نقوم الليل، ونصوم النهار ونقرأ القرآن، وأولئك الذين نشهر سيوفنا في وجوههم لا يقلون عنا نشاطا وعبادة..ثم نحن بعد ذلك ـ كما ترانا ـ لاننتهي من حرب حتى ندخل في غيرها.. فكيف تزعم أن العبودية هي أصل الوحدة؟

قال الحكيم: هذا من العبودية.. وليس هو العبودية.. لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن أقوام ذوي صلاة وصيام وقراءة.. وأخبر أنهم لا يجاوزون بقراءته حناجرهم، فقال:(يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)([1]) وفي رواية:(لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)، وفي رواية:(شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه)

اشرأب أحدهم بسيفه وصاح: أراك تدعونا لما تنهانا عنه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بقتلهم.. فكيف تنهانا عنه؟

التفت إليه الحكيم بهدوء، وقال: فأنت تضع نفسك موضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فتزعم بأن غيرك من الفئة المارقة، وأنك أنت من الفئة المنصورة.

قال: فكيف تريدني أن أرى نفسي؟.. أتريدني أن أراها مارقة، فأقتلها؟

قال الحكيم: إذا رأيتها مارقة، فاقتلها بأسياف الرياضة لتعود إلى عبودية ربها.. فإن طغيانها هو الذي صور لها أحقيتها وضلال غيرها..

قال الرجل: ولكني أعين خصومي بذلك على نفسي.. فهم يعتبرونني من المارقين، ويسلون سيوفهم علي لأجل ذلك.. أفأعين على نفسي؟

قال الحكيم: بئس من لم يعن غيره على نفسي.. واسمع مني.. واسمعوا مني كلكم.. لو أن كل واحد منكم نظر إلى نفسه بهذا المنظار، فراح يصحح عبوديته لله.. وراح يتهم نفسه بتجاوزها لحدها وتدخلها فيما لا يعنيها.. ثم راح يسل سيفه على نفسه التي سولت له مزاحمة الربوبية ليعيدها إلى عبوديتها.. حينذاك فقط تتوحد قلوبكم على عبودية الله.

نادى رجل من بعيد: أتريدنا أن نفعل ما أمر به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54).. ألا تعلم أنا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا من بني إسرائيل؟

قال الحكيم: وهل لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلهها الخاص بها.. ولبني إسرائيل إلههم الخاص بهم.. أليس الرب واحدا؟

قال الرجل: ولكنهم أمروا بقتل أنفسهم، ولم نؤمر بذلك.

قال الحكيم: فما دمتم لم تؤمروا بذلك فلم تفعلونه؟

قال الرجل: وهل ترانا نفعل ذلك؟

قال الحكيم: لا أراكم تفعلون إلا ذلك.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (الحجرات: 11)؟

قال الرجل: بلى.. وهي في سورة الحجرات.. وهي تنهى عن اللمز.

قال الحكيم: فهل رأيت رجلا يلمز نفسه؟

قال الرجل: الناس يلمز بعضهم بعضا، ولا يلمزون أنفسهم.

قال الحكيم: ولكن الله تعالى ذكر لمز النفس، ولم يذكر لمز الغير.

قال الرجل: لقد قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان في تفسيرها:(لا يطعن بعضكم على بعض)، فالنفس هنا يراد بها الغير.

قال الحكيم: فقتلكم لبعضكم بعضا إذن قتل لأنفسكم؟

سكت الجميع، فقال: لقد ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29)، فقتل النفس هنا ـ كما يشير إلى قتل النفس ـ يشير إلى قتل الغير.

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر حب الغير، واعتبارهم كالنفس من علامات الإيمان، فقال:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره شره)([2])

قال رجل منهم: نحن نسلم لما تقول.. بل نسلم لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يحل لامرئ أن يقدم رأيه على كلام الله أو كلام رسوله.. ولكنا مع ذلك نرى رأيا لا نشك في موافقتك لنا عليه.

قال الحكيم: وما ترون؟

قال الرجل: أرأيت لو أن عضوا من أعضائك ـ لا قدر الله ـ لم يعد صالحا إلا للبتر، أكنت تتركه ليملأ نفسك ألما، وجسمك سقما.

قال الحكيم: معاذ الله أن أتركه.. ومعاذ الله أن أتسرع في قطعه.

قال الرجل: ولم لا تتسرع بإزالة الداء؟

قال الحكيم: أرأيت لو أصاب الألم رأسك أكنت تذهب للجزار ليقطعه لك؟

قال الرجل: لا.. بل أسرع إلى المسكنات والمهدئات.. ولعلي أظفر بالترياق الذي يسد منافذ الخلل، ويعيد الصحة، وينفي العلل.

قال الحكيم: فافعلوا ذلك مع إخوانكم..

قال الرجل: للرأس حكمه الخاص.. وللرجل أحكامها الخاصة.. فالرجل يمكن أن أتسرع فيها، بخلاف الرأس.

قال الحكيم: ولماذا تعتبر إخوانك أقداما يمكنك أن تبترها، ولا تراها رؤوسا محترمة يعز عليك قطعها.

سكت الجميع، فقال: هذا يعود بنا إلى العبودية.. فالعبودية تجعلك تنظر إلى الخلق، وأنت عبد بسيط متواضع لا تملك إلا ما أعطاك الله، فلا تتكبر على أحد من خلق الله، ولا تفخر عليه لأنه أعطاك ما لم يعطه.

قالوا: أنحن نفعل هذا؟

قال: أجل.. وتتشبهون بالشيطان في فعله.. ألم يتكبر إبليس على آدم، بل على أمر الله، لأنه ظن نفسه أعز وأكرم من أن ينحني بهامته لذلك الطين.

قال أحدهم: ما أبعد البون بيننا وبين إبليس، هو تكبر بنفسه وبناره..

قاطعه الحكيم قائلا: وأنتم تتكبرون بآرائكم وطوائفكم ومذاهبكم.. كل يزعم لنفسه احتكار الحق.. بل كل يزعم أنه الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأنه يوم القيامة سيكون الفائز الوحيد بالشرب من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أما سائر الناس، فيساقون إلى جهنم ليسقيهم إبليس من شرابه.

قال رجل منهم: ولكن الحق معنا.. ولنا من الروايات ما يعضده.

قال الحكيم: ولغيركم من الروايات ما يعضد الحق الذي يؤمن به.

قال الرجل: ولكن الحق لا يخفى.. ونور حقنا يطغى على ظلمة باطلهم.

قال الحكيم: فلماذا استعنتم بالسيوف إذن؟.. هل ترون الشمس تبسط أشعتها تحت أسنة الرماح.. دعوا أنوار الحقائق تشهر نفسها بنفسها.. ودعوا ظلمات الباطل تنكمش بنور الحق.

قال رجل منهم: أنت تريد أن تصدنا عن غضبة غضبناها لله.. نصرة لدين الله.. وحفاظا على صفائه.

قال الحكيم: فهل معكم توكيل من الله لتنصروه بهذا الأسلوب؟

قال الرجل: لا نحتاج إلى هذا التوكيل، فما بثه الحق فينا من قوة جعلنا نستشعر الفرق بين أهل الجنة وأهل النار.. المغفور لهم من أهل الإيمان، والذين حبطت أعمالهم من أهل البدع والزندقة.

قال الحكيم: فأنت لا تختلف عن ذلك الذي أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه اعتقد نفسه موكلا بخزائن الرحمة والمغفرة يصرفها لمن يشاء، ويحرم منها من يشاء.

لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)([3])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله)([4])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل)([5])

وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له)([6])

وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين)([7])، فقال:(ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار)([8])

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال:(إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم)([9])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)([10])

قال الرجل: ولكنا لا نقول ذلك.

قال الحكيم: بل تقولونه، وتصرون عليه.. أليس كل منكم يزعم أنه الفرقة الناجية.

سكت الجميع، فقال: وذلك لا يفهم إلا على معنى واحد، وهو أن غيره هالك.. لقد قيل لكم لا تقولوا لغيركم:(هالك)، فتلاعبتم كما تلاعب أهل السبت، فقلتم:(ليس ناج)، وأنتم تعلمون أن عدم نجاته لا يعني إلا هلاكه.

قال الرجل: ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن نجاة الواحدة.. أفتلغي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الحكيم: وهل عندك صك بأنك منها.

قال الرجل: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن أوصافها، فذكر أنها ما عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.

قال الحكيم: وهل تطيق أن تنسب لنفسك هذا.. إن الذين كانوا معه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعظم تواضعا من أن ينسبوا لأنفسهم ما تنسبونه لأنفسكم.. بل كانوا يتخوفون على أنفسهم من النفاق.. ألم تسمع ما ورد عن سلفكم في ذلك؟

قال أحدهم: بلى.. وأروي من ذلك الكثير، ومن ذلك قول ابن أبي مليكة:(أدركت ثلاثين ومائة – وفي رواية خمسين ومائة – من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخافون النفاق)

وقيل للحسن: إن قوماً ما يقولون إنا لا نخاف النفاق، فقال:(والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهباً)، وكان يقول:(إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب، والسر والعلانية، والمدخل والمخرج)

قال آخر: وقد كانوا يستدلون بالخوف من النفاق على الإيمان، وقد روي أن رجلا قال لحذيفة:(إني أخاف أن أكون منافقاً)، فقال:(لو كنت منافقاً ما خفت النفاق إن المنافق من أمن النفاق)

قال آخر: وكانوا يرون كل المظاهر التي حادت بالمسلمين عن الجادة من النفاق، حتى قال حذيفة: المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه).. وقيل للحسن البصري:(يقولون: أن لا نفاق اليوم)، فقال:(يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق).. وقال هو أو غيره:(لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنا)

قال الحكيم: فهل منكم من يرى نفسه بهذه الرؤية؟.. أم أنكم تكتفون بأن تجعلوا من أنفسكم قضاة محصنين بالصكوك التي تحميكم، ولا تحمي سواكم.

سقط سيف أحدهم، وقال: صدقت ـ سيدنا الحكيم ـ.. لقد أنطقك الله بالحكمة.. لقد كنت إلى هذه اللحظة أعتبر نفسي على الحق الذي لا يخالفني فيه إلا مبطل..

لقد كتبت رسالة في العقيدة، قلت في خاتمتها بكل كبرياء:(فمن أقر بما في هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفا منه فهو صاحب سنة وجماعة كامل قد كملت فيه الجماعة ومن جحد حرفا مما في هذا الكتاب أوشك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى)([11])

ناداه صاحبه: ويلك يا هذا أتترك دينك لهوى نطق به من زعم لنفسه الحكمة؟

رد عليه: ابتعد عني.. فوالله ما شجعني على تلك المقولة وغيرها غيركم.. أنتم الذين نفختم في أهواء الكبرياء.. فرحت أتكبر على طوائف الأمة ومذاهبها أوزع الضلال.. وأرمي بالبدعة.. كل من لم يبلغ عقلي مبلغ علمه.

أذكر مرات كثيرة أني كنت أطلب من يخالفني أو من يريد أن يحاورني بالمباهلة..

وإذا ذهبت إليها صببت عليه اللعنات والدعوات، وأنا أستشعر بأني إله يطرد من يشاء، ويقبل من يشاء.

وأذكر مرة أن بعضهم أجلسني بجانب بعض هؤلاء، فامتلأت نفسي غيظا أن أجلس بجانبه..

لقد نسيت كل ما ورد في النصوص الكثيرة من الكبر الذي سماه الشيطان لي عزة بالحق.. نسيت ما روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في جماعة من أصحابه فذكروا رجلا فأكثروا من الثناء عليه ـ كما يثني علي أصحابي ـ فبينما هم كذلك إذ طلع رجل عليهم ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء، وقد علق نعله بين يديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أرى على وجهه سفعة من الشيطان) فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟) فقال:(اللهم نعم)([12])

قام أحدهم، وقال: نسلم لكل هذا.. ولكن أليس من شروط الإيمان الجزم.. ولا يصح إيمان الشاك الذي يشك في كونه على الحق أو الباطل.

قال الحكيم: أنا لم أقل لكم شكوا في الحق الذي أنتم عليه.. ولكني قلت لكم: اعبدوا الله وأنتم تتناولون الحق من الله.

قال الرجل: أبالصلاة، أم بالصيام؟

قال الحكيم: بالصلاة والصيام، ألم يقل الله تعالى:{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)

قال الرجل: فنحن نعبده بهما.

قال الحكيم: الصلاة تصلك بالله.. فترى الحق الذي عندك هبة من الله.. ولولا أن الله هداك إليه ما اهتديت.

قال الرجل: فإلام تؤديني هذه المعرفة؟

قال: إلى بحر التواضع والتسليم لله.. فترى من عين العبودية أن الله يمكن أن يحول من السحرة أولياء.. ومن الأولياء أشقياء.. ألم تسمع خبر سحرة موسى u.

قال الرجل: بلى.. فقد أصبحوا أشقياء.. وأمسوا أولياء.. وباتوا شهداء.

قال الحكيم: وخبر بلعم بن باعوراء؟

قال الرجل: ذاك الشقي الذي آتاه الله العلم، فانسلخ منه إلى الهوى، فصار أدنى منزلة من الكلاب.

قال الحكيم: فعبوديتك لله تجعلك ترى كل من تعتبره صاحب هوى كسحرة موسى يمكن أن يسبقوك في أي لحظة.. ويجعلك ترى من نفسك.. أو في زاوية من زاوية نفسك شقيا يمكن أن ينقض على حقائقك كل لحظة، فيحولها دعاوى، ويحولك دعيا.

قال الرجل: صدقت.. ولهذا يستشعر الصالحون أن الهداية التي ينعمون بها هدية إلهية، لا جهدا اجتهدوه يحق لهم أن يفخروا به على غيرهم..

قال آخر: صدقت.. فالله تعالى يذكر عن الصالحين أقوالا تنبئ عن هذه العبودية الخالصة، فالله تعالى يقول:{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأنعام: 71)، وهو يقول:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (لأعراف:43)، ويقول على ألسنتهم:{ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (ابراهيم:12)، ويقول:{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8)

قال آخر: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم عين البراءة من نسبة الأشياء إليه، وقد كان يرتجز مع أصحابه:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا

   ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

  وثبت الاقدام إن لاقينا

قال الحكيم: تلك الصلاة.. وهي تهديك إلى الصيام الذي يطهر يدك من قتل أخيك.. ويطهر لسانك من اللمز والنبز.. ويطهر قلبك من الحقد والحسد.. فلا تكمل صلاة من امتلأ قلبه أحقادا وعللا.

قام رجل مشهرا سيفه، وهو يقول: نحن لا تمتلئ قلوبنا أحقادا.. بل تمتلئ بغضا في الله.. فنحن الذين هدانا الله إلى الإيمان الحق نغضب أن يمس صفاء الإيمان أو يحرف.. ألا ترى أنك تغضب إن أصيبت الهدية التي تهدى إليك من محبوبك بأي أذى؟

قال الحكيم: نعم، إن الإيمان هدية من الله.. ولكن من قال لك أو لغيرك أنك ظفرت بذلك الإيمان الحق الذي يخول لك أن تحمل غيرك عليه بالسيف.

قال الرجل: هذا من البداهة.. فنحن نستشعر الحق الذي وهبناه ونتذوقه..

قال الحكيم: لقد كان السلف الذين أراكم جميعا تعتبرونهم مصادركم المعرفية والسلوكية على غير هذا المنهاج.. لقد كان سفيان الثوري يقول:(من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة)، قيل له: فماذا تقول؟ قال:{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } (البقرة: 136)..

وكان يقول:(نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى؟)

 وقيل للحسن: أمؤمن أنت؟ فقال إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله سبحانه:(كذبت يا حسن) فتحق علي الكلمة.

وكان يقول:(ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، وقال اذهب لا قبلت لك عملاً؛ فأنا أعمل في غير معمل)

وقال إبراهيم بن أدهم:(إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله)، وقال مرة:(قل أنا لا أشك في الإيمان، وسؤالك إياي بدعة)

وقيل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله.

نادى رجل من القوم: أراك تريد إقناعنا بالتخلي عن أصل من الأصول التي لا يكون الإيمان إيمانا إلا بتوفرها.

قال الحكيم: تقصد الجزم وترك الارتياب..

قال الرجل: أجل.. فما وجه ما ذكرت من الاستثناء مع أن المؤمن ينبغي أن يجزم إيمانه، بل لا يصح إيمانه إلا بذلك، ألم تسمع الآيات الكثيرة التي تصف المؤمين ببرد اليقين، يبنما تصف الجاحدين والكافرين بالشك والريبة، فالله تعالى يذكر الكفار فيقول:{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النمل:66)، ويقول:{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} (سـبأ:54)، ويقول:{ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (صّ:8)، ويقول:{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} (الدخان:9)

بينما يصف المؤمنين باليقين وزيادة الإيمان وترك الشك، فيقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)، ويقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (لأنفال:2)، ويقول:{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:124)

بل فوق ذلك يصفهم بخلاف ما ذكرت من الإعلان بالإيمان والفخر به، فالله تعالى يقول عن المؤمنين:{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة:83)، ويقول:{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة:111)، ويقول:{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون:109)، ويقول:{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (القصص:53)، ويقول على لسان الجن:{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} (الجـن:13)

قال الحكيم: صدق الله العظيم.. ولا يصح إيمان بلا جزم ويقين وثبات.. وأنا لا أتحدث عن هذا، إنما أتحدث عما يتنافى مع العبودية من ادعاء الإيمان.. ففرق بين الإيمان وادعاء الإيمان.. ألم تسمع الله تعالى ينفي الإيمان عن أقوام كثيرين ادعوه؟

قال الرجل: بلى.. فالله تعالى يقول:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة:8)، ويقول عن بعض الأعراب:{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14)، ويقول عن غيرهم من المنافقين وأهل الكتاب:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (المائدة: 41)، ويقول:{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} (المائدة:61)

قال الحكيم: ولهذا وقف الصالحون العارفون بالله مع هذه النصوص، فراحوا يتهمون أنفسهم وقصورهم..

ثم التفت للرجل، وقال: أجبني.. هل يمكن أن تصف نفسك بأنك من الخاشعين أو المقربين أو الصديقين؟

قال الرجل: لا.. وأنا عند نفسي أقل من ذلك بكثير.. ثم إني سمعت الله تعالى وهو ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول:{ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)، ويقول:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:49)

قال الحكيم: ومثل ذلك الإيمان.. بل الإيمان هو الأساس لكل أوصاف الكمال.. فلا يكون الشخص مقربا ولا صديقا ولا خاشعا بدون إيمان.. ولهذا خشي الصالحون أن يدعوا ما هم مقصرون فيه.

قال الرجل: ولكن الشك محرم.

قال الحكيم: شك الصالحين ليس شكا في إيمانهم، وإنما هو شك في قبول ذلك منهم، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60)

قال الرجل: بلى.. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن تفسيرها، وهل هي في الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل)([13])

قال الحكيم: فهذا يدل على ذلك ويؤكده.. بل ورد هذا النص القرآني في سياق يبين الحال التي يكون عليها المؤمن من الخشية والعبودية والتواضع، فالله تعالى يصف عباده المؤمنين بالخشية المؤدية للتواضع قبل وصفهم بالإيمان، فيقول:{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:56 ـ 57)، أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم.

قال الرجل: بورك فيك.. وقد ذكرتني بقول الحسن البصري:(إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا)

قال الحكيم: فقارن بين هذا وبين من يستعلي بإيمانه، ويتسلط به، ويقاضي الخلق على أساسه، ثم لا يرضى إلا أن يرميهم بالكفر أو البدعة أو الزندقة.

نهض رجل آخر، وقال: نحن نسلم بهذا.. وهذا قد يصح مع الأعمال لا مع أصل الإيمان.. أرأيت لو أنك أخبرت عن نفسك بأنك رأيت شيئا قد رأيته حقيقة.. أليس ذلك شيئا طبيعيا لا حرج عليك في ذكره: ولا تعتبر بأنك زكيت نفسك بذلك؟

قال الحكيم: ولكن الإيمان أخطر من ذلك بكثير.. إن الإيمان غيب.. وهو إيمان بالغيب.. بخلاف ما ذكرت من الشهادة..

قال الرجل: ولكن هذا الغيب له ما يدل عليه في الشهادة.

قال الحكيم: وهذا هو الذي يمنعك من التعالي بالإيمان.. ألم تسمع الله يقصر وصف الإيمان على أناس مخصوصين بلغوا القمم العالية من العمل الصالح؟

قال الرجل: بلى.. فالله تعالى يقول:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (لأنفال:74)

ويعبر القرآن الكريم بصيغة الحصر التي تقصر الإيمان على من اتصفوا بأوصاف معينة، فيقول تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (لأنفال:2)، ويقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)

ويصف الصادقين بأوصاف كثيرة، فيقول:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)، فشرط عشرين وصفاً كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد.

ومثل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الإيمان بضع وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق)([14])

قال الحكيم: فبمثل هذا تصنف درجات المؤمنين..

قال الرجل: وهل ترانا نصنف الناس بغير ذلك؟

قال الحكيم: أجل.. أنتم تصنفون المؤمنين بحسب مواقفهم من بعض فروع العقائد.. فترفعون الفاسق غليظ القلب الذي يعتقد ما تعتقدونه إلى أعلى درجات الإيمان.. بل وتفضلونه على الصائم القائم الخاشع القانت إذا كان يخالفكم في تلك الفروع التي قسمتم الخلق على أساسها.

قال الرجل: ولكن البدعة أخطر من الفسق.. ألم تسمع قول ابن تيمية يحكي حكاية حصلت له مع بعض المبتدعة، فقال:(كان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي)([15])

قال الحكيم: كلا من البدعة والفسوق انحراف عن الطريق الصحيح الذي يقتضيه الإيمان.. ولكن هناك فرقا بينهما لم تلاحظوه.

قال الرجل: وما هو؟

قال الحكيم: إن الفسق لا شك فيه من ناحية تحريم الشرع له، وتأثيره على الذات والمجتمع.. ولكن البدعة محل شك.. لأن كل فرقة تعتقد بدعية من خالفها.. وهي تتوهم أفضليتها بحسب ذلك.

بل ليس الأمر قاصرا على ذلك، فبعضهم يرمي بالبدعة أبسط التصرفات مع أن الشرع وسع فيها.. وستسمعون من إخواني من الحكماء من يوضح لكم هذا.

نهض رجل آخر، وقال: فنحن بحمد الله قد جمعنا من أوصاف المؤمنين ما ورد في النصوص.. ونحن لا نتحدث عن ذلك تزكية.. وإنما تحدثا بنعمة الله.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)

قال الحكيم: فرق بين أن تتحدث بنعمة الله عليك، وبين أن تتباهى بها، وتلعن مخالفيك لأجلها.. ثم من يضمن لك بأن هذه النعمة ستسمر لك.. أين الأمن من مكر الله؟

قال الرجل: وأين حسن الظن بالله؟

قال الحكيم: حسن الظن بالله يدعوك للتواضع لله ولعباد الله، فلا تحكم على أحدهم بالشقاء ما دامت فيه عين تطرف، فقد يتوب الله عليه في أي لحظة، ولا تحكم لنفسك بالسعادة، فقد يأتيك الشقاء من حيث لا تعلم.. ألم تسمع الصالحين، وهم يتخوفون من سوء الخاتمة؟

قال الرجل: بلى.. وقد كان أبو الدرداء يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه.. وقد قال بعض العارفين:(لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار؟)

قال الحكيم: أتدري ما مثل ذلك؟

قال الرجل: ما مثله؟

قال الحكيم: مثله مثل رجل صائم.. فإن صومه متعلق باستمراره على صومه إلى أن تغرب الشمس، فلو لم يبق بينه وبين المغرب غير لقمة واحدة، فأكلها بطل صومه جميعا.

فلذلك انشغل الأذكياء بمراعاة خواطرهم حتى لا تفسدها الوساوس والأوهام، وانشغل المغفلون بالبحث في سرائر الناس لا ليصلحوهم، وإنما ليتيهوا عليهم.. ويلمزوهم، وينبزوهم، ويقاتلوهم، ويقتلوهم.

ما وصل الحكيم من حديثه إلى هذه الموضع حتى انحنت كثير من السيوف، وسقط بعضها.. وهرع رجال يقبلون إخوانهم ممن كانوا يهمون بقتالهم، ويعانقوهم، ويذرفون الدمعات بين ذلك.


([1]) رواه البخاري ومسلم.

([2])  رواه ابن عساكر.

([3]) رواه مسلم.

([4]) رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.

([5]) رواه الطبراني في الكبير.

([6])  رواه الطبراني في الكبير.

([7]) معنى يتألى : يحلف والالية اليمين.

([8])  رواه البخاري في التاريخ.

([9])  رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود .

([10])  رواه أحمد ومسلم وأبو داود .

([11]) شرح السنة : 58.

([12])  رواه أحمد والبزار والدارقطني.

([13])  رواه أحمد الترمذي وابن أبي حاتم.

([14]) رواه البخاري ومسلم.

([15]) جامع الرسائل: 1/72.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *