أدعية العترة.. والسير التحققي والتخلقي

أدعية العترة.. والسير التحققي والتخلقي

عندما نتأمل تلك المعاني القدسية العظيمة النابعة من بحار القرآن الكريم، والواردة عن العترة المطهرة من آل بيت النبوة، ندرك بعض معاني وصيته صلى الله عليه وآله وسلم بهم، واعتبارهم حبلا من حبال النجاة، وسفينة من سفنها.

لكن هذه الأدعية للأسف الشديد ـ مع أهميتها وجلالة المعاني التي تدل عليها ـ لم تلق العناية الكافية من طرف الطائفة الأكبر في الأمة، والتي اختارت لنفسها أن تسمى [أهل السنة والجماعة]، وهذا من كيد الشيطان لتفرقة صف الأمة، وصدع وحدتها.

وإلا فما الضرر الذي تحمله تلك الأدعية الطاهرة على منهج أهل السنة والجماعة.. فكلها توحيد خالص.. وكلها قيم رفيعة، ومعان سامية.. وكلها تحلق بالروح في الآفاق العليا من العرفان.. وتحلق بالنفس في أسمى القيم الإنسانية الرفيعة.

وليس فيها جميعا تعرض لأي مقدس من المقدسات التي فرضها التاريخ على المسلمين.. ليس فيها تعرض للصحابة، ولا لغيرهم.. ولا فيها ذكر لأحداث التاريخ.. ولا لشيء من تلك القضايا الخلافية التي تناسى المسلمون بسببها كونهم أمة واحدة.

بل إنها أحسن مثال على المشتركات التي يتفق فيها المسلمون جميعا، وهي فوق ذلك كله صادرة من العترة الطاهرة الذين كانوا أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والذين كانوا أكثر فهما للدين، ووعيا له، وتحققا به..

فهي جميعا صادرة إما عن الإمام علي أو ابنيه الحسن والحسين أو السجاد أو الباقر أو الصادق أو الكاظم أو غيرهم ممن يتفق السنة والشيعة جميعا على ولايتهم وصلاحهم وعلمهم، بالإضافهم إلى اتفاقهم على تبجيلهم لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثيلهم الصحيح للدين وقيمه.

وكمثال على ذلك أدعية الإمام السجاد الكثيرة، والتي لا يزال الشيعة يرددونها، بينما يغفل عنها أهل السنة مع اعترافهم بفضل السجاد ومكانته وكثرة عبادته وطاعته.. ولكنهم ـ للأسف ـ يكتفون بذلك، ويتوقفون عنده، ولا يسألون عن تراثه العرفاني العظيم، والمتمثل في تلك الأدعية التي هي امتداد للقرآن والنبوة والطهارة.

وكنموذج على ذلك ـ لا نجد له نظيرا في كل التراث السني ـ ما يسمى بالمناجيات([1]) الخمسة عشر، وهي مناجيات تشمل معاني مختلفة مصنفة إلى خمسة عشر صنفا([2])..

أولها مناجاة التائبين.. وهي مناجاة تبدأ بهذا المقطع الجميل الذي يملأ النفس بجميع معاني العبودية والخضوع لله، وكأنها تعلم التائب كيف يقف بين يدي ربه متضرعا معترفا منبيا: (إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي وجللني التباعد منك لباس مسكنتي وأمات قلبي عظيم جنايتي فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي وياسؤلي ومنيتي، فوعزتك ماأجد لذنوبي سواك غافرا ولا أرى لكسري غيرك جابرا وقد خضعت بالإنابة إليك وعنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ، فوا أسفاه من خجلتي وافتضاحي ووالهفاه من سوء عملي واجتراحي)([3])

وثانيها مناجاة الشاكين، وهي مناجاة يتوجه فيها العبد إلى الله تعالى شاكيا إليه أعداءه الذين يحولون بينه وبين التوجه إليه، وأولهم النفس الأمارة بالسوء، يقول السجاد في مناجاته: (إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل طويلة الامل إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع ميالة إلى اللعب والله ومملوة‌ بالغفلة والسهو تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة)([4]).. إلى آخر المناجاة التي تزرع في نفس تاليها تلك المعاني التي أكد عليها القرآن الكريم، والتي تختصر العداوة في النفس والشيطان والقلب القاسي الغليظ.

وثالثها مناجاة الخائفين، وهي مناجاة تختصر لتاليها كل المعاني التي تملأ قلبه بالخوف، بل ترفعه إلى مقامه الرفيع، وما يثمره من سلوك تحققي وتخلقي.. يقول السجاد في بداية هذه المناجاة: (إلهي أتراك بعد الايمان بك تعذبني أم بعد حبي إياك تبعدني أم مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني أم مع استجارتي بعفوك تسلمني؟ حاشا لوجهك الكريم أن تخيبني! ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي أم للعناء ربتني؟ فليتها لم تلدني ولم تربني وليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني وبقربك وجوارك خصصتني، فتقر بذلك عيني وتطمئن له نفسي. إلهي هل تسود وجوها خرت ساجدة لعظمتك، أو تخرس ألسنة نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك..) ([5])

ورابعها مناجاة الراجين، وهي مناجاة تملأ القلب بمعاني الرجاء في الله وفي فضله العظيم، لتضع المداوم عليها في هذا المقام الرفيع، وما يثمره من قيم سلوكية وعرفانية.. يقول السجاد في مقدمة هذه المناجاة: (يا من إذا سأله عبد أعطاه وإذا أمل ماعنده بلغه مناه وإذا أقبل عليه قربه وأدناه وإذا جاهره بالعصيان ستر على ذنبه وغطاه وإذا توكل عليه أحسبه وكفاه، إلهي من الذي نزل بك ملتمسا قراك فما قريته ومن الذي أناخ ببابك مرتجيا نداك فما أوليته؟ أيحسن أن أرجع عن بابك بالخيبة مصروفا ولست أعرف سواك مولى بالاحسان موصوفا؟ كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك أأقطع رجائي منك وقد أوليتني مالم أسأله من فضلك، أم تفقرني إلى مثلي وأنا أعتصم بحبلك؟!)([6])

وخامسها مناجاة الراغبين، وهي مناجاة تملأ القلب بالرغبة في الله والتعرف عليه والسير إليه، يقول السجاد في مقدمتها: (إلهي إن كان قل زادي في المسير إليك فلقد حسن ظني بالتوكل عليك وإن كان جرمي قد أخافني من عقوبتك فإن رجائي قد أشعرني بالأمن من نقمتك، وإن كان ذنبي قد عرضني لعقابك فقد آذنني حسن ثقتي بثوابك، وإن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبهتني المعرفة بكرمك وآلآئك)([7])

وسادسها مناجاة الشاكرين، وهي مناجاة ترفع القائل لها، والمداوم عليها إلى مقام الشكر، وتعرفه بحقيقته ومنازله، وفيها يقول السجاد: (إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك، وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالآمال والتضييع وأنت الرؤوف الرحيم البر الكريم الذي لا يخيب قاصديه ولا يطرد عن فنائه آمليه بساحتك تحط رحال الراجين وبعرصتك تقف آمال المسترفدين فلا تقابل آمالنا بالتخييب والاياس ولا تلبسنا سربال القنوط والابلاس)([8])

وسابعها مناجاة المطيعين لله، وهي مناجاة تحث على طاعة، وتعلم المناجي بها كيف يجعل الله مقصده الأعلى والأهم والأولى من كل شيء.. يقول السجاد فيها: (اللهم احملنا في سفن نجاتك ومتعنا بلذيذ مناجاتك وأوردنا حياض حبك وأذقنا حلاوة ودك وقربك واجعل جهادنا فيك وهمنا في طاعتك وأخلص نياتنا في معاملتك، فإنا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلا أن)([9])

وثامنها مناجاة المريدين، وهي مناجاة التوجه الصادق لله، والإرادة الخالصة له، والتي عبر عنها قوله تعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادقين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وقد عبر السجاد في هذه المناجاة عن معنى هذه الإرادة وحدودها ووجهتها، فقال ـ مخاطبا الله تعالى ـ: (فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي ولقاؤك قرة عيني ووصلك منى نفسي وإليك شوقي وفي محبتك ولهي، وإلى هواك صبابتي ورضاك بغيتي ورؤيتك حاجتي وجوارك طلبي وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك روحي وراحتي وعندك دواء علتي وشفاء غلتي وبرد لوعتي وكشف كربتي، فكن أنيسي في وحشتى ومقيل عثرتي وغافر زلتي وقابل توبتي ومجيب دعوتي وولي عصمتي ومغني فاقتي، ولا تقطعني عنك ولا تبعدني منك يا نعيمي وجنتي ويادنياي وآخرتي يا أرحم الراحمين)([10])

وتاسعها مناجاة المحبين، وهي مناجاة ممتلئة بمعاني المحبة لله، والشوق إليه والأنس به، وهي تضع صاحبها المدمن عليها في تلك المقامات العالية التي هي غاية آمال العارفين المحققين، والتي عبر عنها الله تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].. يقول السجاد في هذه المناجاة: (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك وأخلصته لودك ومحبتك وشوقته إلى لقائك ورضيته بقضائك ومنحته بالنظر إلى وجهك وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك وخصصته بمعرفتك وأهلته لعبادتك، وهيمت قلبه لإرادتك واجتبيته لمشاهدتك واخليت وجهه لك وفرغت فؤاده لحبك ورغبته فيما عندك وألهمته ذكرك وأوزعته شكرك وشغلته بطاعتك)([11])

وعاشرها مناجاة المتوسلين، وهي مناجاة يتوسل فيها الإمام زين العابدين لله تعالى بفضله وعطفه ورأفته وأسمائه الحسنى، ويستشفع فيها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول فيها: (إلهي ليس لي وسيلة إليك إلا عواطف رأفتك ولا لي ذريعة إليك إلا عوارف رحمتك وشفاعة نبيك نبي الرحمة ومنقذ الامة من الغمة، فاجعلهما لي سببا إلى نيل غفرانك وصيرهما لي وصلة إلى الفوز برضوانك، وقد حل رجائي بحرم كرمك وحط طمعي بفناء جودك فحقق فيك أملي واختم بالخير عملي واجعلني من صفوتك الذين أحللتهم بحبوحة جنتك وبوأتهم دار كرامتك وأقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك وأورثتهم منازل الصدق في جوارك)([12])

والحادية عشرة منها مناجاة المفتقرين، والتي يعبر فيها الإمام السجاد عن معنى الافتقار الخالص لله، والذي هو ذروة مقام المعرفة والتحقيق، وهو أساس كل القيم والأخلاق الرفيعة، يقول فيها السجاد: (إلهي كسري لايجبره إلا لطفك وحنانك وفقري لايغنيه إلا عطفك وإحسانك وروعتي لايسكنها إلا أمانك وذلتي لايعزها إلا سلطانك وأمنيتي لايبلغنيها إلا فضلك وخلتي لايسدها إلا طولك وحاجتي لايقضيها غيرك وكربي لايفرجه سوى رحمتك وضري لايكشفه غير رأفتك وغلتي لايبردها إلا وصلك ولوعتي لايطفيها إلا لقاؤك وشوقي إليك لايبله إلا النظر إلى وجهك وقراري لايقر دون دنوي منك ولهفتي لايردها إلا روحك وسقمي لايشفيه إلا طبك وغمي لايزيله إلا قربك وجرحي لايبرئه إلا صفحك ورين قلبي لايجلوه إلا عفوك ووسواس صدري لايزيحه إلا أمرك..)([13])

والثانية عشرة منها مناجاة العارفين، وهي مناجاة تدل على المنهج الحقيقي للتعرف على الله، وهو التوجه الخالص إليه، فلا يعرف بالله إلا الله، ولا يضع بذور الإيمان والمحبة في القلب غيره، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [المجادلة: 22].. يقول السجاد في هذه المناجاة: (إلهي قصرت الالسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك وعجزت العقول عن إدراك كنه جمالك وانحسرت الابصار دون النظر إلى سبحات وجهك ولم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك، إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الافكار يأوون وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون وشرايع المصافات يردون، قد كشف الغطاء عن أبصارهم وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم..)([14])

والثالثة عشرة منها مناجاة الذاكرين، وهي مناجاة تعلم الذاكر لله آداب الذكر والحضورمع الله، وتبين قيمته وأهميته ودوره في التحقق بمعرفة الله، يقول فيها السجاد: (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك عن ذكري إياك على أن ذكري لك بقدري لابقدرك وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلا لتقديسك ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك، إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء والملاء والليل والنهار والاعلان والاسرار وفي السراء والضراء وآنسنا بالذكر الخفي واستعملنا بالعمل الزكي والسعي المرضي وجازنا بالميزان الوفي، إلهي بك هامت القلوب الوالهة وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة فلا تطمئن القلوب إلا بذكرك ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك، أنت المسبح في كل مكان والمعبود في كل زمان والموجود في كل أوان والمدعو بكل لسان والمعظم في كل جنان، وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك ومن كل راحة بغير أنسك ومن كل سرور بغير قربك ومن كل شغل بغير طاعتك..)([15])

والرابعة عشرة منها مناجاة المعتصمين، وهي ترجمة لكل ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى اللجوء إلى الله، والفرار إليه، والاستعاذة به، والتحصن في حصونه.. يقول فيها السجاد: (اللهم يا ملاذ اللآئذين ويامعاذ العائذين ويامنجي الهالكين ويا عاصم البائسين وياراحم المساكين ويا مجيب المضطرين ويا كنز المفتقرين وياجابر المنكسرين ويامأوى المنقطعين وياناصر المستضعفين ويامجير الخائفين ويامغيث المكروبين وياحصن اللا جئين، إن لم أعذ بعزتك فبمن أعوذ وإن لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ؟ وقد ألجأتني الذنوب إلى التشبث بأذيال عفوك وأحوجتني الخطايا إلى استفتاح أبواب صفحك ودعتني الاسأة إلى الاناخة بفناء عزك وحملتني المخافة من نقمتك على التمسك بعروة عطفك، وما حق من اعتصم بحبلك أن يخذل ولا يليق بمن استجار بعزك أن يسلم أو يهمل؟..)([16])

والخامسة عشرة منها مناجاة الزاهدين، وهي مناجاة يستعيذ فيها السجاد من الدنيا وإغرائها وتلاعبها بأهلها، وهي تعلم المدمن عليها التالي لها قيمة الزهد وأهميته ودوره في السير التحققي والتخلقي، يقول فيها السجاد: (إلهي أسكنتنا دارا حفرت لنا حفر مكرها وعلقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها فإليك نلتجي من مكائد خدعها وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها فإنها المهلكة طلابها المتلفة حلالها المحشوة بالآفات المشحونة بالنكبات، إلهي فزهدنا فيها وسلمنا منها بتوفيقك وعصمتك وانزع عنا جلابيب مخالفتك وتول أمورنا بحسن كفايتك وأوفر مزيدنا من سعة رحمتك وأجمل صلاتنا من فيض مواهبك..)([17])

هذه مجرد نماذج ومقتطفات قليلة جدا بجنب ذلك التراث الكبير الذي تركه لنا السجاد، وتركته لنا العترة الطاهرة من أدعية وأذكار ومناجاة.. كلها تمتلئ بالمعاني السامية الرفيعة..

وهي جميعا تخلو من كل تلك الأكاذيب التي يروجها المتطرفون من أنها تتعرض للصحابة أو لغيرهم بالطعن والإساءة.. بل إنها على العكس من ذلك، فمن الأدعية الواردة في الصحيفة السجادية، والتي لا يزال يرددها الشيعة اقتداء بإمامهم السجاد ذلك الدعاء المخصص للصحابة.. لا لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل لصحابة جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو الدعاء المسمى [الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم]، وفيه يقول السجاد: (اللهم وأتباع الرسل ومصدقوهم من أهل الأرض بالغيب عند معارضة المعـاندين لهم بالتكذيب والاشتياق إلى المرسلين بحقائق الايمان. في كل دهر وزمان أرسلت فيه رسولا، وأقمت لأهله دليلا، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآلـه من أئمة الهـدى، وقادة أهـل التقى على جميعهم السلام، فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان. اللهم وأصحاب محمد خاصة الـذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في إعزاز دينـك من مظلومهم)([18])

وهكذا نجد فيها الدعاء للتابعين لهم بإحسان، يقول السجاد: (اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا وجهتهم، ومضوا على شاكلتهم، لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم، مكانفين وموازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم. أللهم وصل على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين، وعلى أزواجهم، وعلى ذرياتهم، وعلى من أطاعك منهم صلاة تعصمهم بهامن معصيتك، وتفسح لهم في رياض جنتك، وتمنعهم بها من كيد الشيطان، وتعينهم بها على ما استعانوك عليه من بر، وتقيهم طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، وتبعثهم بها على اعتقاد حسن الرجـاء لك، والطمع فيما عندك، وترك النهمة فيما تحويه أيدي العباد لتردهم إلى الرغبة إليك والرهبة منك، وتزهدهم في سعة العاجل وتحبب إليهم العمل للاجل، والاستعداد لما بعد الموت وتهون عليهم كل كرب يحل بهم يوم خـروج الانفس من أبدانها، وتعافيهم مما تقع به الفتنة من محذوراتها، وكبة النار وطول الخلود فيها، وتصيرهم إلى أمن من مقيل المتقين) ([19])

لكن التكفيريين للأسف لا ينظروف لمئات الأدعية الممتلئة بمثل هذه المعاني السامية، ويذهبون إلى بعض الأدعية التي ورد الخلاف في شأنها، وهي لا تشكل إلا جزءا ضئيلا جدا من ذلك التراث العظيم من المعاني التحققية والتخلقية..

وحتى تلك التي يشيرون إليها ليس فيها أي تصريح بأي اسم من الأسماء، بل هي تشير إلى وجود من سعى إلى تغيير الدين وتبديله وتحريفه وتشويهه.. وكل ذلك صحيح وإن وقع الخلاف في المصاديق.

لكن التكفيريين لا ينظرون إلى كل ذلك، ولا يهتمون به، لأن هدفهم ليس التحقق ولا التخلق، وإنما هدفهم تفريق الأمة وتشتيتها، ولو بحرمانها من ذلك التراث العظيم الذي أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، ودعا إلى التمسك بهم، والاهتداء بهديهم.


([1]) جمع مُنَاجَاة : مُنَاجَيَات، بقلب الألف إلى أصلها الياء، وذلك مثل: [مباراة ومباريات]

([2]) ربما يكون الذي قام بذلك المؤلفون والمصنفون لا الإمام السجاد نفسه.

([3]) بحار الأنوار: 94 / 142.

([4]) بحار الأنوار: 94 / 143.

([5]) بحار الأنوار: 94 / 143.

([6]) بحار الأنوار: 94 / 144..

([7]) بحار الأنوار: 94 / 145..

([8]) بحار الأنوار: 94 / 146..

([9]) بحار الأنوار: 94 / 147..

([10]) بحار الأنوار: 94 / 147.

([11]) بحار الأنوار: 94 / 148.

([12]) بحار الأنوار: 94 / 149..

([13]) بحار الأنوار: 94 / 149.

([14]) بحار الأنوار: 94 / 150.

([15]) بحار الأنوار: 94 / 151..

([16]) بحار الأنوار: 94 / 152..

([17]) بحار الأنوار: 94 / 152..

([18]) الصحيفة السجادية (ص: 39)

([19]) الصحيفة السجادية (ص: 40)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *