مشروع النهضة

مشروع النهضة

أرى نفسي بحكم الورع الذي أخبرتكم عنه سابقا مضطرا لأن أذكر لكم الطريقة التي استطعت أن أصل بها إلى هؤلاء المتحاورين الجدد، ذلك أن الطريق إلى الدخول إلى القواقع التي يجرون فيها حواراتهم صعب جدا، بل يكاد يكون مستحيلا.

وقد حسبت في تلك الأيام السنوات التي أحتاجها للوصول إلى رأس نظامهم الهرمي، فوجدته خارج إطار عمري الممدود أو المحدود.. ووجدتني حتى لو وصلت إلى مرتبة أدنى من ذلك بكثير، فإني لن أكون أنا حينها، بل سأكون شخصا آخر تماما.. لأني سأتحول بحركة جوهرية عميقة إلى كيان جديد ليس فيه من ذاتي المتحررة سوى الاسم واللقب، وقد يتغيران في درجة من درجات الهرم، ليذهب بعدها اسمي ورسمي كلاهما.

ذلك أن أول مرحلة تبدأ فيها المسيرة في هذا النظام الهرمي هو محو شخصية الداخل ليتحول إلى أداة ووسيلة عمياء منقادة، بدل كونه إنسانا بصيرا حرا، فأول درس يقدم هناك هو (الجندية) و(الطاعة).. وأول ممارسة سلوكية هي (البيعة) و(العهد)

ولذلك لجأت إلى كبير في قريتنا أستشيره عن كيفية الدخول، ولو لعشر دقائق لسماع ما يدور هناك من حديث..

وقد استفزني إليه – خصوصا في تلك الأيام – الحديث عن مشروع عظيم لتغيير خطير لا يحتاج سوى مائة يوم لا يتعداها ولو بيوم واحد.

لقد زاد عجبي حينها.. لا في المشروع فقط.. ولكن في الأيام المعدودة التي يمكن أن يتحقق فيها..

عندما ذكرت لقريبي الشيخ ذلك تعجب هو الآخر، وراح يفكر معي في الحيلة التي نستطيع بها أن ندخل تلك السراديب، ونقتحم تلك الكواليس.

وبما أن قريبي  كان ملما بما يسميه علوم الحكمة وأسرار الحروف.. وغيرها.. فقد قال لي: لاشك أن هؤلاء ظفروا بالخاتم الذي ضاع منذ زمان طويل.. لقد قرأت كل كتب الحكمة، ومارست جميع الطقوس.. وحرقت جميع أنواع البخور لأحصل عليه.. فلم أستطع.. فكيف تسنى لهم ذلك . لا شك أن لهم قدرة سحرية عجيبة..

ثم التفت إلي، وقال: لقد شوقتني يا ولد إلى الدخول إلى عالمهم..

سكت هنيهة، ثم صاح: وجدتها.. وجدتها..

قلت: ما وجدت؟

قال: تستطيع أن تقتحم قوقعتهم حتى لو كانت من خرسانة مسلحة.. وتستطيع أن تدخل عالمهم حتى لو كان محصنا بالجن الأزرق والأحمر.

قلت: كيف؟

قال: لدي بعض الأسماء.. سأسلمك إياها.. رددها فقط مئات الآلاف من المرات.. وستجد نفسك حينها بينهم تراهم ولا يرونك.. لكن لا تنس أن تحضر لي معك التميمة التي استطاعوا أن يتحصلوا بها على خاتم النهضة العجيب.. بل إن استطعت أن تحضره معك فافعل.. فما أجمل أن يكون لدى كل واحد منا خاتم نهضة!

أعطاني سيدي الشيخ تلك الأسماء.. وطبعا لن أذكرها لكم فقد عاهدته على ذلك.. وعندما وصلت إلى رقم مكون من أربع سبعات أو خمسة.. وجدت نفسي أتحرك بشفافية، وكأنني صورة لا جسد يحملها.. كنت أرى الناس، بل أدخل في ثنايا أجسامهم من دون أن يشعروا بي.. بل استطعت أن أخترق جبلا من دون أن يشعر بي هو الآخر.

طبعا.. قضيت بعض الساعات مستمتعا بعالم تحولي إلى صورة.. لكني بعد أن ذهب الانبهار خطر على بالي الدخول إلى القوقعة التي كنت أبحث عن الأسرار التي تجري في خلالها.

دخلت بعض المقرات المحترمة.. وتنصت على بعض القيادات المهمة إلى أن عرفت أن هناك اجتماعا سريا جدا سيعقد ذلك اليوم، وفي مكان لن أسميه طبعا لدواع أمنية.

دخل المجتمعون صفوفا متراصة منتظمة ممتلئة بالاحترام.. وكان الكثير منهم يشبهون الإنسان الآلي.. حتى أني قرصت أحدهم لأتأكد: هل هو إنسان حقيقي أم لا؟ وطبعا لكوني صورة لم يشعر بقرصتي.. ولكني رأيت داخل أذنه جهازا صوتيا اقتربت منه.. فسمعت فيه لغة غريبة اكتشفت أنها الرموز التي يتلقى بها هؤلاء الأوامر.

خفت أن يكون حوارهم بعد ذلك من جنس تلك الرموز الغريبة.. لكن بحمد الله.. لم يكن كذلك.

دخل المرشد أولا.. وجلس في أعلى المنصة.. ثم دخل اثنان وجلسا دونه.. ثم دخل أربعة.. وجلسا دون السابقين.. ثم ثمانية.. ثم ستة عشر.. وهكذا بمتتالية هندسية لم أحص نهايتها.

وجدت محلا صالحا أمام المرشد، فرحت أجلس بجانبه، فقد كان أكثر الأماكن رفاهية، وكان سماع الحوار بصورة دقيقة.. لأني قرأت في بعض المنشورات هناك أن الحوار فقط سيكون بين الصفوف الثلاثة الأولى.. أما سائر الصفوف.. فدورها فقط هو تنفيذ الأوامر التي ترد إليهم.

بدأ الحوار من سؤال من الصف الثاني حول مشروع النهضة.. فكدت أطير فرحا.

قال السائل: يا مولانا المرشد.. أطال الله بقاءك.. وأدام عزك.. ألا ترى أن الأيام المئة التي حددتها أدنى من أن تحقق هذا المشروع الضخم؟

ابتسم المرشد ابتسامة صفراء، وقال: أجل.. صحيح.. الأيام المئة لا تكفي لأن تقيل النائب العام، فكيف تكفي لمشروع النهضة؟

قال آخر: النائب العام!.. وما علاقة النائب العام بمشروع النهضة؟

قال المرشد: النائب العام هو الحجرة الأولى التي نحتاج إلى قلعها لإقامة مشروعنا.

قال آخر: وهل هناك أحجار الأخرى؟

قال المرشد: أجل.. الكل.. الدولة العميقة.. والدولة السطحية.. الأقزام والعمالقة.. الشرطة والعسكر..  الفنانون والإعلاميون.. كلهم حجارة.. ولا يمكن أن  تقوم لنا قائمة في ظل وجودهم.

قال آخر: لكن كيف.. ألا ترى من الصعب فعل ذلك؟

قال المرشد: بمشروع النهضة نفعل ذلك.

قال الأول: ولكن المدة التي حددتموها لمشروع النهضة لا يمكن أن تفعل شيئا.

قال المرشد: أجل.. لقد قلت لي ذلك سابقا.. أذكره جيدا.. وقد أجبتك، ولا حاجة لإعادة الجواب.

قال آخر: يا مولانا.. هلا تفضلت وشرحت لنا الكيفية العملية التي يمكننا من خلالها أن ننفذ هذا المشروع.

ابتسم المرشد، وقال: هذا ما أريده منكم.. الكيفية العملية.. نحن قوم عمليون.. ولا يصح أن نبقى نسأل ونسأل..

الكيفية العملية بسيطة جدا.. وهي أن نتغلغل في كل المؤسسات لنزيح تلك الحجارة التي تحول بيننا وبين تحقيق مشروعنا.

ثم قهقه قليلا، وقال: أما مشروع النهضة.. ومائة يوم.. فهي وسيلتنا لتحقيق ذلك.. فالناس كما تعلمون يحبون الأرقام، ويحبون الأرقام القريبة العاجلة.. ولو ذكرنا لهم أن مشروع النهضة سيستغرق مائة عام لأنفوا وشمخوا بأنوفهم، وللجأوا إلى أعدائنا.. ولذلك لم نفعل سوى أن حولنا (العام) إلى (يوم)، فبدل مائة عام صارت مائة يوم.

ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: في جلسة من جلساتي التدبرية مع القرآن الكريم لاحت لي هذه الفكرة.. لقد قرأت قوله تعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج:47] 

 فقلت في نفسي: أجل.. لم لا نستفيد من هذه الآية في مشروعنا.. فما الفرق بين مائة يوم أو مائة عام..

وبما أن البشر بطبيعة العجلة التي يحملونها، لن يرضوا مشروعا بمائة عام.. فقد اختصرت مائة عام في مائة يوم.. وأمرتكم بالتبشير بمشروع نهضتنا الذي لن يكلفنا سوى مائة يوم.

صاح اللذان في الصف الأول بالتكبير والتحميد.. ثم صاح من بعدهما.. ثم من سائر الصفوف إلى أن صمت أذناي من كثرة الأصوات وارتفاعها.. وللأسف كان لتلك الأصوات تأثيرها الخطير على طاقة الإخفاء التي بذلت جهدي في الحصول عليها.

لهذا لم أجد نفسي إلا في المحل الذي كنت فيه أشم أريج البخور، وأردد الأسماء بلا شعور.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *