لا تقف ما ليس لك به علم

لا تقف ما ليس لك به علم

أيها الرفيق العزيز.. لو أنك تأملت قوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36] لخففت عن عقلك حمل تلك الأسفار الكثيرة التي ينوء بها ظهره، والتي لا مصدر لها إلا الظن المجرد.

فهي في عقلك مثل ذلك الطعام الكثير الذي يملأ معدتك من غير أن يكون له أي نفع لجسدك، بل هو مجرد ثقل كبير، تعاني جميع أجهزتك من هضمه وامتصاصه، ثم لا يكون بعد ذلك إلا شحوما زائدة تشوه منظرك، وتملأ حياتك بالأمراض.

وهكذا الطعام الذي تدخله على عقلك من غير أن تعرف مصدره، ولا منافعه أو مضاره، فإنه يوهمك بالري والشبع، ويجعلك بين الناس كالمنتفخ بالعلوم، لكنك في حقيقتك لست سوى جائع مريض بالبدانة؛ فلا تزيدك تلك العلوم إلا عللا وأمراضا وإرهاقا.

لذلك كانت الرياضة حلا لجسدك وعقلك.. فكلاهما يحتاجان إلى طرح الزوائد؛ فرياضة الجسد تزيل الشحوم التي ترهقك وتشوهك، ورياضة العقل بالتأمل والتفكير والتدبر تزيل كل تلك التي توهمتها علوما، وهي ليست سوى جهل مركب.

لست أدري هل فهمت عني ـ أيها الرفيق العزيز ـ ما قصدت، أم لم تفهم.. ولذلك سأذكر لك بعض مصادرك ومواردك، لعلنا جميعا، نكتفي بما ينفعنا، وندع ما يضرنا حتى نلقى الله، وعقولنا سليمة، وقلوبنا طاهرة.. فلا يمكن للقلوب أن تتطهر والعقول مدنسة.

لقد سمعتك قبل أيام تتحدث عن أهل الكهف الذين ذكرهم القرآن الكريم، وكان في إمكانك أن تكتفي بما ذكره، ففيه من العبر ما يفيدك في دنياك وأخراك.. لكنك خشيت أن يسيء الحضور بك الظن، ويتوهموا أنه ليس لك من العلم بما حدث لأصحاب الكهف إلا بما ذكره القرآن الكريم، وتكون بذلك مساويا للعوام.. فلذلك رحت تتفنن في ذكر تفاصيل أعدادهم وأسمائهم ومكانهم وزمانهم، وتروي الروايات الكثيرة في ذلك، حتى أصيب الحضور بالانبهار لعلومك الكثيرة، والتي لا سند لها إلا الظن المجرد.

ولو أنك عدت للقرآن الكريم، وتأملت قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف:22)، لفهمت أن الله تعالى لو علم حاجتك لمعرفة عددهم لذكره؛ فكيف تستدرك على الله ما لم يذكره، ومن غير سلطان، ولا حجة إلا الظن المجرد، وأنت تعلم أن الظن أكذب الحديث.

وهكذا لو عدت إلى القرآن الكريم في إخباره عن مدة لبثهم في الكهف، لعلمت أن البحث في ذلك لا يجدي من دون مصادر موثوقة معصومة، حتى لا تملأ ذاكرتك وعقلك بتلك الأكاذيب التي تمليها عليك الظنون، فقد قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 25، 26]

وهكذا دعانا القرآن الكريم إلى التحري والتدقيق.. فالعبرة ليس في أن تكثر علومنا ومعارفنا، ولكن العبرة في أن يكون ما نعرفه صحيحا، حتى لا تغير جيوش الجهل على ما لدينا من علوم، فتقضي عليها.

وهذا هو خطر تلك المعارف التي نملأ بها عقولنا، والتي أملاها علينا أولئك المدنسون بالأهواء، حيث أنها لم تستعمر فقط مداركنا العقلية، وإنما استعمرت مداركنا الوجدانية، وتسللت بعدها إلى سلوكنا وأخلاقنا، وهذا ما جعلنا نزاحم الحقائق بالجهل، ونخلط اليقين بالظن، ونملأ بعد ذلك عقولنا شحوما زائدة، تملأه بالأمراض.

لست أدري هل فهمت قصدي ـ أيها الرفيق العزيز ـ بعد هذا المثال أم لا.. وإن لم تفهمه.. فاطرح على عقلك هذا السؤال، واجعله نوعا من الرياضة التي تطهره مما قد يؤذيه.

لاشك أنك قبل قراءتك لتلك التفاسير الكثيرة التي كنت تفخر بمطالعتها كل حين، كنت تقرأ القرآن الكريم، وكنت تقرأ سورة يوسف، وكنت أراك وأنت شاب يافع تمتلئ حبا لها، وإعجابا بيوسف عليه السلام الذي كان عندك مثالا للطهر والعفاف وكل الأخلاق النبيلة..

لكني بعد ذلك لم أعد أراك تذكره.. بل إني سمعتك مرة تنقل من أقوال المفسرين عنه ما أساء إليه أعظم إساءة، ولاشك أن ذلك قد سرى لوجدانك، فتغيرت تلك الصورة الجميلة لذلك النبي الكريم في نفسك بعد أن زاحمتَها بتلك الصور التي رسمها لك المفسرون، ومن المصادر التي اختلطت فيها الحقيقة بالزيف، واليقين بالظن.

نعم أنت الآن في نفسك تتصور أنك أكثر علوما.. لكن الحقيقة ليست كذلك.. بل أنت الآن أكثر شحوما.. وتحتاج إلى رياضات تأملية كثيرة لتطرحها عنك، وتخلص عقلك منها، فقد سرت إليه أمراضها، وجعلته يفكر بطريقة غير التي جبل إليها.

أنت الآن ـ أيها الرفيق العزيز ـ أسير لتلك الكتب التي سقطت عليك، وراحت تخنقك، وتمنعك من أن ترى الحقيقة، لأنك تخاف إن رأيتها أن تتبخر أكثر تلك العلوم التي تباهي بها، وتتوهم أنك تتميز بها عن سائر الناس.

ليس ذلك فقط ـ أيها الرفيق العزيز ـ ما أردته بوصيتي هذه.. بل هناك ما هو أخطر منها.. فأنا أراك تترك تطبق قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، لتطبق ما أشار إليه قوله تعالى في حديثه عن أولئك {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]

أتعلم سبب ذلك.. إنه واضح أيها الرفيق العزيز.. وهو أنك لم تلتمس الحقيقة من أهلها، وإنما التمستها من أعدائها.. لقد سمعتك تتهم تلك الفرقة الكريمة من فرق المسلمين بالقول بتحريف القرآن من غير أن تتحرى، ولا أن تبحث، ولا أن تسافر إلى بلادها، ولا أن تسأل علماءها.. بل اكتفيت بمصدرك المملوء بالأهواء، والذي لم يقصد من رميها بذلك إلا تشويهها.. وكان في إمكانك أن تتحرى، وتبحث، لكنك لم تفعل.. لأنك أنت أيضا صرت تحب تشويهها..

والحقيقة إذا خضعت للأهواء صارت كذبا، وصارت شحوما زائدة، وضارة، لأنك يوم القيامة ستسأل عن تلك الجرائم التي اقترفتها بسبب تلك الاتهامات التي أرسلتها من غير أن تتحرى، ولا أن تتأكد.. بل كان قائدك الظن والهوى..

وهكذا أيها الرفيق العزيز رحت تتعامل مع كل القضايا، فأنت تقرب المصادر التي تخدم هواك، وتبعد المصادر التي تخالفه، مع أن الله تعالى أمرك بالعدل، وأن تتعامل مع كل شيء بما يتطلبه من تحر وتدقيق وتحقيق.. وإلا وقعت أسير هواك.. وملأت عقلك بالقيود التي تحول بينه وبين إدراك الحقائق.

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال مخاطبا نبيه المعصوم داود عليه السلام:: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)

فإن كان داود عليه السلام، وهو النبي الكريم، يؤمر بذلك، فكيف بنا نحن المدنسين بالأهواء.. لذلك راقب قلبك وعقلك عند كل خبر أو معلومة تفد إليهما.. فما أكثر الفاسقين الذين لن يملأوا عقلك إلا شحوما وسموما، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6)

بعد هذا، أيها الرفيق العزيز أدعك لتمارس بعض الرياضة لعقلك، فتمسح عنه كل معلومة لا مصدر لها، وسترى كيف تشعر بالسعادة والراحة، لأن ثقل تلك العلوم التي ينوء بها عقلك هي التي منعته من التفكير السليم، ذلك أن العقل المحاصر بالأكاذيب لن يهتدي للحقيقة أبدا.

ولا تخف إن صرت عاميا بعد ذلك، فلأن تلقى الله عاميا عاقلا خير من أن تلقاه عالما مجنونا.. ولأن تلقى الله وأنت بفطرتك النقية التي لم تدنسها القراطيس الملطخة بالسموم، خير من أن تلقاه، وأنت ممتلئ بكل أنواع الخبث.. وأنت تعلم مصير الخبث.. فقد قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} (الأنفال)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *