لا تتعصب لطائفتك

لا تتعصب لطائفتك

أيها الرفيق العزيز.. رأيتك البارحة مع بعض إخوانك من المخالفين لك تجادلهم وتماريهم بعصبية شديدة، وكأنك في ساحة حرب، لا مجلس علم.. وكأنهم أعداؤك الأبعدون، لا إخوانك المؤمنون، مع أنك تعلم أنهم يقرون بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا، وأنهم يقرؤون نفس الكتاب المقدس الذي تقرؤه، ويصلون لنفس الرب الذي تعبده.

ولست أدري ما كان الداعي لكل تلك الضوضاء والجلبة، ولكل ذلك التخوين والتجريم؛ فقد رأيتك تنظر إليهم كما تنظر إلى الشياطين والمردة والمجرمين.

وعندما عدت إلى بيتي، واستعدت ذلك الموقف، ورحت أحلله، لم أجدك تناضل عن دينك، ولا عن ربك، ولا عن نبيك، ولا عن كتابك المقدس، وإنما كنت تناضل عن نفسك.. فقد كنت في كل ذلك الوقت لا تدعو إلى الله، وإنما تدعو إلى نفسك وأنانيتك وأهوائك.

لقد تذكرت مواقفك السابقة حينما كنت في طائفة أخرى غير الطائفة التي تنتمي إليها اليوم، وكنت أراك بنفس الهيئة، وبنفس الجلبة، وبنفس المماراة.. تخوّن وتجرّم المخالفين، وتتصور أنك على الحق المجرد، وتقسم عليه، ولا تكتفي بذلك، بل توزع دركات جهنم على المخالفين لك، كما توزع درجات الجنة على الموافقين، وبحسب درجات وفاقهم وموافقتهم.

وقد جعلني كل ذلك أشعر أنك في كل تلك الحوارات قديمها وحديثها كنت تشعر أنك أنت المركز، وأن أفكارك وطروحاتك ومواقفك هي الحقيقة المجردة التي لا يُحكم على من خالفها إلا بالضلالة.. وبذلك لم تكن تدعو لله، وللحقيقة.. وإنما كنت تدعو إلى نفسك وأنانيتك.

هذا ما أوصلني إليه التأمل.. وإن شئت أن تعود إلى خزان ذاكرتك، فستجد فيه مواقف لك تكفّر فيها نفسك، وتضللها، وتحكم عليها بكل ما تحكم به الآن على غيرك.

نعم أنت تذكّرني كل حين أنك قمت بالكثير من المراجعات، وأنك غيرت الكثير من المواقف والآراء.. وهذا شيء جميل؛ فالمؤمن هو الذي يدور مع الحق حيث دار، ولا يتبع الهوى أن يضله عن سبيل الله.. ولكن المؤمن أيضا هو الذي يحترم المرتبة التي وصل إليها غيره؛ فلا يطالبهم بالمراجعات قبل أن يحين حينها.. هو فقط يشرح لهم وجهة نظره، ويبرهن لهم عليها، ثم يتركهم ليتأملوا، فالمطلوب أن يصلوا إلى الحق بمحض رغبتهم، لا بذلك التهديد الذي تهددهم به، والجلبة التي تحدثها أمامهم.

ثم إنك ـ أيها الرفيق العزيز ـ تعلم أن أكثر الحق الذي تتصور أنك وصلت إليه من دون الناس حق مشتبه، وقع الخلاف فيه؛ وتعلم أن مخالفيك ممن لا يزال الاشتباه مؤثرا فيهم، ومانعا لهم من اتباعه؛ فلم تطالبهم باتباع المتشابه المختلف فيه، وترك المحكم المتفق عليه، مع أن الله تعالى لم يطالبهم بذلك، بل اكتفى منهم بإدراك المحكم والإيمان به، وترك المتشابه للراسخين في العلم الذين آتاهم الله طهارة القلب، ونقاء السر، ورجاحة العقل، ما يجعلهم يهتدون إلى الحقائق، ويتأدبون معها.

ألم تسمع ـ أيها الرفيق العزيز ـ إلى ربك، وهو يحدثك عن المحكم والمتشابه، ويبين أن أكثر الناس لا يطيقون فهم المتشابه، ولهذا يكفيهم الإذعان للمحكم، والتسليم بعلم المتشابه لله تعالى؛ فقد قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]

وقد سمعت بعض مخالفيك، وهو يذكر لك ذلك.. لكنك كنت تأبى عليهم، وتخبرهم بضلالهم، وأن ما توضحت لك أدلته ليس متشابها، وإنما هو من المحكم القطعي، مع أنك تعلم أن أكثر الأمة على خلاف قولك.

لا أريد أن أذكر لك هنا ما الذي قلته لهم، ولا ما قالوه لك.. ولكني أريد فقط أن أذكرك بأن التعصب داء مقيت، وهو من الكبر الخفي الذي ينتصر فيه الإنسان لنفسه، وهو يتصور أنه ينتصر للحق؛ فالحق أجمل وأعظم من أن ننتصر له بالباطل، وطريق الحق هو طريق السلام والهدوء والأدب.

ألم تسمع ـ أيها الرفيق العزيز ـ إلى ربك، وهو يعلم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كيف يخاطب المخالفين له من المشركين وعبدة الأصنام، ويقول لهم بكل هدوء وأدب وسلام: { قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [سبأ: 25 – 27]

ألم تسمع إليه، وهو يعلمنا كيف خاطب إبراهيم عليه السلام قريبه المشرك، وبذلك الحوار الهادي الممتلئ بالأدب والسلام، فقد قال تعالى يصف ذلك المشهد: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } [مريم: 41 – 48]

هكذا ـ أيها الرفيق العزيز ـ علمنا ربنا كيف ندعو إلى الحقائق التي نؤمن بها، ومع غير المسلمين، ممن يخالفوننا في الأصول والفروع، فكيف بمن يتفقون معنا فيهما جميعا، بل يتفقون معنا في أكثر قضايا الدين ومسائله.

لا أريد من حديثي هذا ـ أيها الرفيق العزيز ـ أن أدعوك إلى التوبة، ولا إلى الاعتذار من أولئك الذين ملأتهم حقدا؛ فذلك شأنك، ولكني أريد منك أن تتخلص من أنانيتك التي دفعتك إلى ذلك؛ وتتجرد للحق وحده، لتستحق أن تهتدي إليه، وتستحق بعد ذلك أن تكون اللسان الذي يعبر عنه، فالحق عزيز، والكل يدعيه، حتى أولئك الذين كانوا يعبدون الأصنام، تركوا أنبياءهم، فرحا بما عندهم من الباطل، قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *