لا تتعد حدود الله

لا تتعد حدود الله

أيها الرفيق العزيز.. لقد كنت تذكر لي، وربما لغيري أيضا، كل حين الوقائع الكثيرة التي حصلت لك، والتي جعلتك موقنا تماما من تأثير العين، وأنه لا يجادل في إنكارها إلا مكابر.

وأنا لا أريد أن أجادلك فيها، وكيف أجادلك، وأنت تروي لي كل حين الأحاديث الواردة بشأنها، والتي حفظتها جميعا عن طريقك، وبسندك، ومنها (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين)([1])، و(العين تدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)([2])، و(أكثر من يموت من أمتي ـ بعد قضاء الله وقدره ـ بالعين)([3])، و(إن العين لتولع بالرجل بإذن الله، حتى يصعد حالقا، ثم يتردى منه)([4])، وغيرها من الأحاديث والآثار.

وأنا لا أريد أن أجادلك في مدى صحة هذه الأحاديث، ولا من هم رواتها، ولا في اتصال سندها أو انقطاعه، ولا في موافقتها لما في القرآن الكريم من حقائق الوجود، وسنن الكون أو معارضتها له، ولكني أريد أن أدلك على أسباب أخرى قد تكون هي وراء ما يحصل لك كل حين.

وهذه الأسباب التي أريد أن أذكرها لك ليست لها علاقة بجارك الذي تتهمه بأنه أصابك بالعين، ولا علاقة لها بالرقاة الذين تحضرهم كل حين لتسلمهم ما لديك من مال، ويسلموك ما لديهم من خبرة في ضبط الأعين الخارجة عن القانون.

وإنما لها علاقة بك أنت؛ فقد تكون أنت سبب ما حصل لك، لا عين غيرك التي تتهمها جزافا، ومن غير دليل، سوى تصورك أنهم لم ينظروا إليك إلا نظرة حسد.

ولا تخف، فأنا أيضا مسلح بنصوص مقدسة لا تقل عن النصوص التي استدللت بها في اتهام غيرك، وهي نصوص متفق عليها، وليس هناك مخالف فيها، وهي فوق ذلك منسجمة مع حقائق الوجود، وسنن الكون.

وتلك الأسباب ـ مهما تفرقت أصنافها، وتباينت أنواعها ـ ترجع لكسبك وعملك وأفعالك التي خالفت فيها شريعة ربك، وتعديت حدوده، وأنت تعلم أن التعدي على حدود الله لا يختلف عن التعدي على قوانين الفيزياء والكيمياء والحياة؛ فكما أنك إذا لمست تيار الكهرباء تصاب بالصعقة، وبالألم، حتى لو لم يصبك أحد بعين؛ فكذلك القرب من حدود الله، وانتهاكها يؤدي إلى نفس الصعقة، ويكون الألم والمصيبة بقدر شدة المعصية، وعظمتها.

فلذلك بدل أن تتهم جارك المسكين، أو ترسل إلى الرقاة ليبحثوا لك عن الجناة، ابحث في سجل أعمالك، وانظر إلى كل سلوك سلكته، أو فعل فعلته، أو موقف وقفته، أو قول قلته، أو نظرة أرسلتها، فلعل بلاءك كان في ذلك السلوك، أو ذلك الموقف، أو تلك النظرة.

فإن وجدت سجلك نظيفا؛ فانظر إلى موقفك أو موقف قلبك من أولئك الذين اتهمتهم بأنهم أصابوك بعيونهم، فلعلك أسأت الظن بهم، والظن أكذب الحديث، أو لعلك تحمل بعض الحقد عليهم، والحقد معصية من المعاصي التي يتنزل بسببها البلاء؛ فلذلك قد يكونون هم سبب بلائك، ولكن لا بعيونهم التي تتهمها من غير دليل، وإنما لموقفك الحاقد عليهم.

ربما قد يجعلك هذا الحديث تتهمني أنا أيضا برد النصوص المقدسة، وتلك الأحاديث التي رويتها، ومعاذ الله أن أفعل ذلك، ولكني امرؤ شديد الحيطة، وأخاف أن أترك أسبابا واضحة معلومة دقيقة متفقا عليها إلى أسباب وهمية، قد تكون وساوس شيطانية، أو بنات لخدع النفس الأمارة، والتي تريد أن تخلص نفسها من كل تهمة، لترميها على غيرها، وتستريح.

لقد رجعت ـ أيها الرفيق العزيز ـ إلى كلام ربي الذي لا يختلف اثنان في صحته وقدسيته، لأسأله عن أسرار كل المصائب التي حصلت في تاريخ البشرية؛ فلم يذكر لي العين، وإنما ذكر لي المعاصي والذنوب والجرائم، وأعطاني سنة ذلك؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد:11]، وقال: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال:53]

وعندما سألته عن سر ذلك الدمار الذي أصاب القرى؛ فحولها من النعيم إلى العذاب، ومن السعادة إلى الشقاء، لم يذكر لي العين، وإنما أجابني بقوله تعالى: ﴿ إِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، وقوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقوله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾ [الطلاق: 8، 9]

وعندما سألته عن سر الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي، وكل ما تعانيه البشرية من مآس، لم يذكر لي العين، وإنما أجابني بقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم:41]، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]، وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100]

وعندما سألته عن سر ما حصل لقارون ذلك الغني المترف الذي آتاه الله { مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]، لم يذكر لي عيون المؤمنين، ولا عيون الكافرين، وإنما ذكر لي كبرياءه وفخره وخيلاءه، والذي جعله يسكن باطن الأرض، بعد أن تكبر على ظاهرها.

وعندما سألته عن سر تلك المصائب التي حصلت لصاحب الجنتين الممتلئتين بكل أصناف الثمار والجمال، لم يذكر لي صاحبه المؤمن الذي كان يحاوره، وإنما ذكر لي طغيانه وتأليه على الله، وإعجابه بنفسه وببساتينه؛ فلم تكن عين المؤمن هي التي أصابته، وإنما كانت عينه الشرهة للدنيا المتثاقلة إليها هي السبب، وقد عبر هو نفسه عن ذلك حين { أَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } [الكهف: 42]

وعندما سألته عن سر ما حصل لأصحاب الجنة، تلك التي { طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 19، 20] أجابني بأنهم رغم أخطائهم الكبيرة التي وقعوا فيها، لم ينسبوا الأمر للعين، وإنما نسبوه لأنفسهم، وقالوا ـ بعد أن قرأوا رسالة الله لهم ـ:{ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)} [القلم: 31، 32]

وعندما سألته عن سر ما حصل لثمود وعاد تلك القبائل البائدة، أجابني بأنه لا علاقة لكل ما حصل لهم بالعين، بل هي أعمالهم التي عبر عنها الله تعالى بقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) } [الحاقة: 4 – 8]

وعندما سألته عن سر ما حصل لفرعون ومن معه من المصريين من الهلاك، أجابني: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [الحاقة: 9، 10]

وعندما سألته عن سر ما حصل لسبأ، وتفرقها في الأرض شذر مذر، وتحولها من النعيم إلى البلاء، ومن السعادة إلى الشقاء، أجابني بأنه لا علاقة لكل ما حصل لهم بالعين، وإنما هي أعمالهم التي عبر عنها الله تعالى بقوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } [سبأ: 15 – 17]

وهكذا رحت أسأله عن كل مصيبة حصلت، وكل بلاء تنزل، ولم يجبني في واحدة منها بعلاقة العين بذلك، ولذلك لا يمكنني أن أترك هذه الإجابات القرآنية الصريحة الواضحة، وأستمع إلى إجابتك.

قد تتهمني ـ أيها الرفيق العزيز ـ بإنكار السنة، أو بضرب السنة بالقرآن، ومعاذ الله؛ فأنا أضعف من أن أنكر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا لم أقل لك أبدا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر تلك الأحاديث التي رويتها؛ فليس لدي من علم الرجال والجرح والتعديل ما يؤهلني لإنكار ذلك، ولكني عجبت من تركك للواضحات القطعيات المتفق عليها، وذهابك للظنيات المختلف فيها.

وأنا لا أقصد ـ كما قد تتوهم أيها الرفيق العزيز ـ بالظنيات تلك الأحاديث التي ذكرتها، وإنما أقصد تصورك وتوهمك أن سبب ما حصل لك من بلاء هو عيون الناس المسلطة عليك؛ فذلك في أحسن أحواله تهمة تحتاج إلى دليل، ولا يمكن لذلك الراقي المسكين، الممتلئ بكل أنواع الضعف والقصور أن يشق على قلوب الناس، أو يطلع على اللوح المحفوظ ليخبرك أن ما حصل لك سببه العين.

فلذلك دع الخلق للخالق، وانشغل بنفسك، وبالبحث في سجلات أعمالك؛ فلعلك تبصر الفيروس الذي دمر حياتك، أو المغناطيس الذي جلب ذلك البلاء إليك، لتواجه الحقيقة التي تحاول إخفاءها، ويعينك دجاجلة الرقاة على ذلك.

ولا بأس ـ أيها الرفيق العزيز ـ إن كنت صاحب حيطة ونظر أن تعتبر العين سببا من أسباب ما حصل لك، مع الأسباب التي ذكرها القرآن الكريم، لكن إياك أن تعتبرها السبب الوحيد، وإياك أن تتهم أحدا بها، حتى لا تقع في الظلم والجور وسوء الظن.

وفي هذه الحالة لست في حاجة لإحضار الرقاة، ولا الحديث عما أصابك في المنتديات، بل يكفي أن ترفع يديك إلى الله ليكف بلاء العين عنك، ويمكنك لذلك أن تستعيذ بكل أنواع الاستعاذة الواردة في النصوص المقدسة، وأن توقن بعدها بأن الله قد رد عنك كل أسباب البلاء من تلك الجهة التي كنت تتوهمها، ولم يبق إلا الجهة التي سُلمت لك مفاتيحها؛ فكنت أنت أميرها وحامي ثغرها.

أيها الرفيق العزيز.. هذه نصيحتي إليك، ولنفسي، حتى نواجه المشاكل وأنواع البلاء بما تتطلبه من حلول معقولة ومنطقية، وليس بالهرب منها إلى أهوائنا، والشياطين الذين يزينون لنا أعمالنا، ثم يرمون كل تلك الرسائل الربانية التي يرسلها الله إلينا لينبهنا من غفلتنا، ويعيدنا إلى سراطه المستقيم.


([1])  رواه البخاري 10 / 319 ، ومسلم رقم (2187)

([2])  رواه أبو نُعيم في الحلية، انظر: المقاصد الحسنة (ص: 470)

([3])  قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 106): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.

([4])  قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 106): رواه أحمد، والبزار، ورجال أحمد ثقات.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *