لا تبالغ في الدفاع عن نفسك

لا تبالغ في الدفاع عن نفسك

أيها الرفيق العزيز.. يحزنني أن أعاتبك على تضييعك لتلك الأوقات الثمينة، والمداد الكثير، في الحديث مع خصومك؛ لا عن الحقائق الناصعة، أو أدلتها الباهرة، وإنما عن نفسك، وتبرئتها من التهم التي ينسبونها إليك، والتي تعتقد سلامتك منها.

فما يضرك أن يفعلوا ذلك، ما دام الله يعلم براءتك، وما دامت الملائكة الموكلة بالكتابة لم تسجل عنك ما يرمونك به، وما دمت موقنا أن كل تلك التهم لن توضع في ميزان سيئاتك يوم القيامة، بل سيوضع بدلها صبرك الجميل، وردك الطيب على خصومك.

لذلك لا تبالغ في الدفاع عن نفسك، واكتف بأن تذكر لخصومك في جملة واحدة براءتك من تلك التهم، وأنهم يمكنوا أن يتأكدوا بما أتيح لهم من وسائل، ثم لا عليك بعدها أن يفعلوا أو لا يفعلوا.. اكتف فقط برمي الكرة في ملعبهم، ثم دعهم وشأنهم معها.

هكذا كان منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لخصومه الكثيرين مع كفرهم وعنادهم الشديد: { لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]، ثم أمره بأن يذكر لهم أنه عند لقاء الله ستنكشف الحقائق، ويميز المجرم من البريء، قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [سبأ: 26]

ولذلك نرى الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يشكون إلى الله تلك الاتهامات التي اتهمهم بها قومهم، وإنما يشكون إليه إعراضهم عن الله؛ فذلك وحده ما يؤلمهم.

وقد ذكر الله تعالى عن نوح عليه السلام شكواه الطويلة مع الله، والتي لم يذكر فيها سوى الإعراض عن الله، لا كل أصناف السخرية التي ووجه بها، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح: 21 – 23]

وهذا هو منهج روثتهم الذين غابوا عن أنفسهم، وفنوا عن أهوائهم، وصار الحق قبلتهم، فلم يعد يهمهم ما يقول الناس فيهم، وإنما يهمهم أن يقبل الناس على الحق، ويقتنعوا به، لذلك لم يكونوا يضيعون دقيقة واحدة في الدفاع عن أنفسهم، وإنما كانوا يقضون كل أوقاتهم في الدفاع عن الحقائق، فمن عرف الحقائق، سيسهل عليه بعد ذلك أن يعود إلى وعيه، ويصحح ما وقع فيه من أخطاء، ويتراجع عما أشاعه من تهم.

وسبب ذلك كله طمأنينتهم بأن ما ينالهم من سخرية أو اتهامات ضريبة دعوتهم إلى الله، ولذلك يحتسبون أجرها عند الله، ولا يشعرون بأي ألم، وهم يواجهونها، بل إنهم يتلذذون بها، لاعتبارهم لها سهاما مصوبة عليهم أثناء جهادهم في سبيل الله.

وكيف ينفرون منها، أو يتألمون لها، وهم يشعرون أن الله بعظمته وجلاله يدافع عنهم، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]

لست أدري ـ أيها الرفيق العزيز ـ مدى اقتناعك بما ذكرت لك؛ فقد سمعتك مرة تذكر ما قام به بعض العلماء من كتابة الكتب في الدفاع عن نفسه، والرد على خصومه، وجعلت ذلك هديا لك تسير عليه، مع أن الله تعالى لم يجعل لك الأسوة إلا في الأنبياء وورثتهم من الصادقين المخلصين الذين فنوا عن أنفسهم وأهوائهم.

وإن شئت أن تتخذ غيرهم، فاتخذ أئمة أهل بيت النبوة، أولئك الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبرهم سفينة النجاة التي يغرق من لم يركبها.. فقد كانوا جميعا مع الآلام التي صبت عليهم جبالا من الصبر والحلم والأخلاق العالية.

وقد روي عن مجتباهم الإمام الحسن ـ سيد شباب أهل الجنة وريحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه لقيه رجل من أهل الشام، فراح يسبه ويسب أباه سبا شديدا بذيئا.. لكن المجتبى نظر إليه، فرآه غريبا، فقال له ـ وكأنه لم يسمع ذلك السباب الشديد ـ: (أحسبك غريبا.. فمل بنا؛ فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، وإلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك!)([1])

هكذا أجابه الإمام المجتبى، الذي لم يدخل معه في خصومة، ولم يستعمل أي وسيلة للتشهير به أو إيذاءه مع أنه كان يملك القدرة على ذلك، بل نظر إليه من زاوية تكليفه الشرعي، وهو الاهتمام بالغريب وعابر السبيل.

ومثل ذلك ما روي عن الإمام السجاد الذي يذكر المؤرخون أن أمير المدينة الأموي هشام بن إسماعيل كان يؤذيه كثيراً؛ فلما عزل من منصبه، وأمر الوليد أن يوقف أمام الناس للقصاص، مر به الإمام السجاد، وألقى عليه التحية والسلام، وطلب من خاصته وأصحابه أن لا يتعرضوا له بسوء حتى ولو بكلمة جارحة، فلم يجد هشام إلا أن يقرأ قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]([2])

وروي أن رجلا شتمه، فقصده بعض مرافقيه، ليرد عنه، فقال لهم: (دعوه فإنّ ما خفي منّا أكثر ممّا قالوا)، ثمّ قال له: أ لك حاجة يا رجل؟ فخجل الرجل، فأعطاه الإمام السجاد ثوبه، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً، وهو يقول: (أشهد أنّك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([3]) [5].

وروي أنّ شخصاً آخر شتمه، فقال له: (يا فتى إنّ بين أيدينا عقبة كؤوداً؛ فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شرّ ممّا تقول)([4])

وروي أن آخر سبّه، فسكت، فقال الرجل: إيّاك أعني، فرد عليه الإمام السجاد: (وعنك أغضي)([5])

وروي أنه مر يوما على قوم يغتابونه، فوقف عليهم، فقال: (إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم)([6])

وهو نفسه الذي كان يردد كل حين: (ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحب أن لي بذلك حمر النعم)([7])

هذه بعض النماذج التي يمكنك ـ أيها الرفيق العزيز ـ أن تتأسى بها، أما أولئك الذين ذكرتهم، فأنت أعلم بهم مني، ولا يمكنني أن أعرفك بشيء تعرفه، فخذا ما صفا، ودع الكدورة، فلن ينجيك عند ربك إلا الصفاء، ولن تجده إلا عند الطاهرين الذين غسلت أرواحهم في كوثر النبوة، ونمت في بيت الرسالة، وغذيت بلبان الوحي.


([1])  الكامل للمبردج1ص235.

([2])  تاريخ الطبري ج8، ص61..

([3])  مناقب آل أبي طالب: ج4 ص157.

([4])  المرجع السابق، ج4 ص157..

([5])  المرجع السابق،  ج4 ص157..

([6])  بحار الأنوار ، (46/ 62)

([7])  المرجع السابق، (46/ 74)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *