الجسد

الجسد

 الفرح بالهيئة والخلقة والجمال والزهو بها من أول ما يولد في الإنسان من فرح حين يبصر وجهه في المرآة لأول مرة، ويتصور أنه بالمرآة استطاع أن يعرف نفسه، وأن المرآة التي أحاطت به واختصرت حقيقته في تلك الصورة التي قدمتها له هي التي عرفته حقيقته التي ما كان له أن يعرفها لولا جوهرها الصقيل.

ومن ذلك الحين تبدأ الأخطاء يتلو بعضها بعضا، يزهو بنفسه، ثم يقارن نفسه بغيره، ثم يحتقر غيره، ثم يصنف الناس بحسب صورهم وألوان الأصباغ التي تطبع وجوههم، ثم يبدأ التمييز العنصري، ويبدأ حرب الألوان للألوان،وتبدأ الدراسات بحوثها لتعمق الفوارق بين البشر والأجناس بحسب هيئة الشعر ولون البشرة وحجم الجمجمة وطول القامة أو قصرها، وبانتهائهم تبدأ النزغات النازية والفاشية والقومية لتنفخ من بوق الجسد كل شعارات التمييز بين خلق الله، وتتخذ من الجسد محور كل ذلك الصراع الذي لا ينتهي إلا ليبدأ بشكل آخر.

نعم، يمكن أن نجزم حذرين بانتفاء التمييز العنصري وانتهاء زمنه في ظل كثير من القوانين الحديثة، ولكن من يستطيع أن يجزم بانتفاء ذلك التمييز من قلوب الناس ومشاعرهم وهم لا يزالون يتصورون الإنسان قالبا طينيا يتخذ ألوانا وأشكالا مختلفة، وطبيعتهم البشرية تأبى ألا أن تفرق بين ألوان الخزف وأنواع الفخار.

وتعظيم الجسد وحصر الإنسان في قالبه الطيني هو الذي تفنن مصممو الأزياء الحديثة في استغلاله، فتففنوا في تعرية الجسد أكثر مما تفننوا في ستره، والقرآن الكريم في إشاراته المطلقة التي تتحدى حجاب الزمن يخبرنا عن دعاة العري المحدثين الذين يدعون إلى العري بكل الوسائل، ويطبقونه في جميع المستويات، ويكادون يفرضونه على العقول فرضا لينزعوا تلك الغلالة الرقيقة من الحياء التي لا زالت تكسو وجوه الناس، ويبين أن مصدر ذلك ليس طبيعة بشرية وإنما هي فكر شيطاني غريب عن طبيعة الإنسان، قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:27)

والدليل على غرابة التعري على طبيعة الإنسان وأنه إيحاء شيطاني لم يكن الإنسان لينتبه له لولا تلك الوساوس الشيطانية هو أن آدم عليه السلام وزوجه سارعا إلى ستر عورتهما بورق الجنة مع أنه لم يكن معهما من البشر سواهما، وهما يمثلان الفطرة النقية التي يحاول الشيطان أن يخرج منها الإنسان، قال تعالى: { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}(الأعراف:22)، بل إن الآية تشير إلى أن كشف العورة أول عقوبة عجلت للإنسان لمخالفته الأمر الإلهي.

وفكر التعري هو نفس الفكر الذي يدعو إلى تغيير خلق الله، والذي يتجلى في عمليات التجميل الكثيرة، وأصناف المساحيق التي أصبحت تجارة رائجة في عصرنا تزاحم الغذاء والدواء، وتعتبر ضرورة من ضرورات العصر كضرورة المأكل والمشرب.

والقرآن الكريم يخبرنا أن ذلك أيضا من إيحاءات الشيطان، وأنه ليس من الفطرة الإنسانية النقية، قال تعالى مخبرا عن وعد الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (النساء:119)،وعن ابن مسعود أنه قال:(لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

وهذا التعلق بالجسد والذي هو إيحاء من إيحاءات الشيطان وطبيعة من طبائعه كان أول ما ولد العداوة بين الإنسان والشيطان، عندما نظر الشيطان إلى ناره نظر استحسان وفرح، ونظر إلى طين آدم نظر استهجان واحتقار، فقال ـ كما نص القرآن الكريم ـ: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(الأعراف:12)

وقد شبه الله تعالى هؤلاء الذين يقصرون نظرهم على أجسادهم، ويعتبرونها حقيقة وجودهم ونهاية أمرهم بالأخشاب المسندة، قال تعالى { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(المنافقون:4)

فهم كالخشب المسندة لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام، أو هم كالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها([1]).

والقرآن الكريم يخبرنا كذلك أن تعظيم الجسد هو الذي ولد التيه والفخر والزهو بالنفس، والذي ينشأ عنه الكبر بمختلف أشكاله، ويشبه ثقل معنى الجسد عند هذه النفوس بأنها تكاد تخرق الأرض وهي تضرب عليها بشدة، وكأنها تتحداها، بل تتحدى السماء أيضا حين تجرب أن تطاول الجبال،قال تعالى:{ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}(الإسراء:37)

في ظل هذه التصورات العنصرية للجسد يخبرنا القرآن الكريم أن هذه الأجساد جميعا والتي يتيه بعضها على بعض سلالة نفس واحدة، ولذلك لا معنى للتمايز بينها، ولا معنى لاعتبار بعضها أكثر تطورا من بعض لأنها ورثت نفس الجينات من أبيها آدم عليه السلام، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(النساء:1)، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(الأنعام:98)

وقد ربط الله تعالى في الآية الأولى خلق البشر جميعا من نفس واحدة بالأمر بتقوى الأرحام ووصلها والمحافظة على العلاقات بينها ليشير إلى تلك الأخوة الدموية التي تربط الغربي الذي يعيش في قمة أبراج الأنا بالبدائي في أدغال إفريقيا واستراليا، وأن الكل متساوون في القدرات الإنسانية والطاقات العقلية وأنواع المشاعر، وإنما يختلفون باختلاف الظروف التي تحيط بهم والبيئة التي يعايشونها، والاختلاف بينهم اختلاف تكامل لا اختلاف تمايز ولا اختلاف تضاد، بل هو مثل الاختلاف الموجود في جميع خلق الله.

قال تعالى يوضح هذه الحقيقة العظيمة التي لا تزال البشرية تائهة عنها وإن زعمت أنها ظفرت بها، وأن العصر الحديث أبدعها:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات:13)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بهذه الحقيقة كل حين ويقرن بينها وبين المناسك والمشاعر المعظمة والأشهر الحرام، وكان من خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق أن قال:(يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)([2])

 ثم توجه إلى الحضور الغارقين في أنوار وجهه وروحه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أبلغت؟، فقالوا جميعا بصوت واحد، وبنفس واحدة يؤكدون ما رأوه منه صلى الله عليه وآله وسلم وقد صحبوه في كل أحواله: بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ليبلغ الشاهد الغائب)

ويخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن من فضل الله عليه أن دعوته ليست عنصرية، بل هي لكل البشر، وكل من دخل فيهم فهو منهم لا فرق بينه وبينهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ولا أقوله فخرا بعثت إلى كل أحمر وأسود فليس من أحمر ولا أسود يدخل في أمتي إلا كان منهم وجعلت لي الأرض مسجدا)([3])

ويخبر أن الله تعالى لا ينظر إلى الأجسام والصور، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال،وأن قيمة الإنسان كقيمة كل وعاء، فهي فيما يصدر عنه أو يرشح منه أو يحويه، ولو وضع السم في إناء من ذهب لم ترفع عنه صفة السمية،قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)([4])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بطاعة كل من تولى على المسلمين إن توفرت فيه شروط الطاعة ولو كان أسود مجدعا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا)([5])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا تشغله الوظائف الكثيرة التي أناطها الله بها عن السؤال عن البسطاء من المسلمين دون تفريق بين سودهم وبيضهم، ففي الحديث أن أسود رجلا أو امرأة كان يقم المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال:ما فعل ذلك الإنسان؟، قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟، فقالوا:إنه كان كذا وكذا قصته قال: فحقروا شأنه قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه([6]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتابع أصحابه ويربيهم على هذه الأخوة، ويبين لهم نوع العلاقة التي ينبغي أن تربط بينهم ولو كان بعضهم عبيدا وبعضهم سادة، عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلمفقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية قلت: يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه قال: يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم([7]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشدد عليهم الترهيب إن أخلوا ببعض حقوق تلك الأخوة، وإن كان في أمور كانت طبيعية بالنسبة لأذهان ذلك العصر، عن أبي مسعود الأنصاري قال:كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتا:اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت، فإذا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى قال: أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار([8]).

وليعمق القرآن الكريم هذه الحقيقة في النفس بغض النظر عن آثارها الاجتماعية يخبرنا عن حقيقة الإنسان كل إنسان، وهي أنه روح وجسد، روح هي الأصل، وجسد هو مطية لهذه الروح، والمطية لا يراد منها إلا أن تحمل راكبها وتبلغه غايته، ولا يراعي فيها صاحبها ـ إن خير ـ إلا قدراتها وتحملها،قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍفَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(الحجر:28، 29)

وكل لفظ في هذه الآية ينطق بفضل الروح على الجسد، فبينما وصف الجسد بكونه من صلصال، وهو ـ كما قال الكسائي ـ الطين المنتن، وهو مأخوذ من قول العرب: صل اللحم وأصل، إذا أنتن.

وهو من حمأ، وهو الطين الأسود المتغير، ثم أكدت كل تلك الروائح المتغيرة بوصف المسنون، وهو ـ كما قال الفراء ـ المتغير([9]) في نفس الوقت نسبت الروح إلى الله، ولم تنفخ في الجسد إلا بعد تسويته، لم يؤمر بالسجود إلا بعد نفخها.

 والآية التي ورد فيها الحديث عن بسطة الجسم، والتي اعتبرتها أحد أسباب الأفضلية لم تذكر مطلقة بل قدمت فيها بسطة العلم على بسطة الجسم، ولم تذكر بسطة الجسم إلا للحاجة إليها، فالقائد يحتاج إلى طاقات جسمية كافية تؤهله للوظيفة التي تناط به، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:247)

ولعله لأجل ذلك كان موسى عليه السلام كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رآه حين أسري به، فقال: (موسى آدم طوال كأنه من رجال شنوءة بينما عيسى عليه السلام جعد مربوع)([10])، لأن الرسالة التي كلف بها لم تكن تستدعي تلك البسطة.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويربي أصحابه على اعتبار بسطة العلم والعقل لا بسطة الجسم، وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال:والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد([11]).

ولكن القرآن الكريم والتوجيهات النبوية ـ مع نهيها عن تعظيم الجسد والفرح به واعتباره حقيقة الإنسان ومحور وجوده ـ لا تأمر باحتقاره أو التهوين من شأنه، بل تأمر عكس ذلك باحترامه، ولكن باعتبار صورته من الله، فمن أسماء الله تعالى المصور، وتعظيم الاسم يستلزم احترام مقتضاه، وهذا الاعتبار يقي الإنسان مخاطر التيه بالجسد واستشعار التميز به عن غيره، قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} (الأعراف:11)

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب الإنسان على وجهه، وعلل ذلك بأن الله خلق كل إنسان على صورة آدم عليه السلام، واحتقار صورة أي إنسان أو إهانتها إهانة لأبينا آدم عليه السلام، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته)([12]

ونظر الإنسان إلى الجسد بهذا الاعتبار يجعله يرى الحسن في كل صورة، لأن القاعدة التي ينطلق منها هي أن الله هو أحسن الخالقين، كما ورد بذلك وصفه في خطاب إلياس عليه السلام لقومه، قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}(الصافات:125)، وكما ورد وصفه كذلك به عند تفصيل خلق الإنسان كل إنسان، قال تعالى: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}(المؤمنون:14)

ومادام ذلك هو وصف الله فإن كل ما يصدر عنه من خلق حسن وجميل لا عيب فيه ولا نقص ولا فطور،قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِين} (السجدة:7)، والإنسان من مخلوقات الله، فلذلك كان في أحسن تقويم:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} (التين:4)

والألف واللام تفيدان استغراق جنس الإنسان في كل العصور، وكل الأماكن، وبكل الألوان، وكل الأشكال.

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسخر من أي لون أو شكل لأنه سخرية من خلق الله، ومن سخر من خلق الله فكأنما سخر من الله أو اعترض على الله في خلقه، ولهذا عظم صلى الله عليه وآله وسلم ما فعلته عائشة، حين وصفت امرأة بالقصر بالإشارة دون اللفظ، قالت عائشة: حكيت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا فقال ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا قالت: فقلت:يا رسول الله إن صفية امرأة، وقالت بيدها هكذا، كأنها تعني قصيرة، فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزجت بها ماء البحر لمزج([13]).

وزيادة على ذلك كله يخاطب القرآن الكريم برقة وحنان الذين تعذبوا بأجسامهم وأشكالهم ونفاهم الخلق لدمامتهم بأن حسن غيرهم الذي يتيهون به عليهم لا يغني عنهم شيئا إن جاء أمر الله، لأن الله أهلك من هو أحسن منهم منظرا وأجمل متاعا، قال تعالى:{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (مريم:74)

ويعزيهم كذلك بأن الألوان التي يحملونها على وجوههم مجرد ألوان مستعارة ستتغير يوم القيامة إلى ألوان نهائية، أو هي مجرد براقع، واللون الحقيقي هو لون الروح، فلذلك لا ينبغي للأسود أن يحزن لسواده، ولا للأبيض أن يفخر ببياضه، كما لا يفرح من يضع قناعا على وجهه بلون قناعه، قال تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (آل عمران:107)

ففي القيامة تنزع جميع الأقنعة وتظهر الصور على حقيقتها كما قال تعالى:{ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(ق:22)

وقد تكرر هذا الوصف في آيات مختلفة جامعا بين أوصاف وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين أو مفردا أحدهما عن الآخر، قال تعالى في وصف وجوه الذين كذبوا على الله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر:60)

وشبه سواد وجوههم بقطع الليل المظلم، فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس:27)

والسواد في الآخرة ليس سوادا طبيعيا، قد يتأقلم معه صاحبه، بل هو سواد الحزن الدائم والهم المقيم، قال تعالى: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة(عبس:40، 41)، قال البغوي في تفسيرها:سواد وكآبة الهم والحزن([14]).

وقال تعالى يبين هذا اللون النفسي الذي يغشى وجوه أهل النار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ(القيامة:24)، قال الشوكاني: أي كالحة عابسة كئيبة([15]).

ويبين بشاعة منظرهم وشفاههم التي كانوا يتفننون في تمطيطها في الدنيا، وملئها بالسخرية من خلق الله، وكيف يئول مصيرها بقوله تعالى { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}(المؤمنون:104) قال البيضاوي: الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان([16]).

أما وجوه المؤمنين يوم القيامة فهي وجوه مستنيرة مسفرة ناضرة ولو كانت في الدنيا سوداء كالحة مظلمة، قال تعالى في وصف وجوه المؤمنين:{ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (المطففين:24) فهي نضرة حسية تنبئ عن رضى نفسي عميق.

وكل أوصاف القرآن الكريم لوجوه المؤمنين في الجنة يقترن فيها الحسن الحسي بالرضا والجمال النفسي، قال تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}(عبس:39)، وقال تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (القيامة:22)، وقال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس:26)

وهذا الاعتقاد يجعل المؤمن غير مبال بلونه الدنيوي، ولا هيئته الدنيوية، وترفع عنه رداء الكبر بهما، أو الفخر والتطاول بهما على الخلق، وتجعل فرحه إن فرح بهما فرح المستشعر بفضل الله عليه، وهو فرح يسلب عنه كل ما يسيء إلى غيره أو يسيء إلى نفسه، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه:(اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي)([17])

وفي هذا الدعاء أدب عظيم منه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قدم شكر الله على الطلب، وشكر الله على ما منه وما لا يمكن تغييره، وسأل الله توفيقه لما طلب منه.

وهذا الدعاء الذي ورثناه منه صلى الله عليه وآله وسلم يختصر في إيجاز موقف المؤمن من جسده، فهو نعمة بأي صورة كان، والمؤمن غير مطالب بتغييره، بل هو مطالب بالرضى به وحمد الله عليه وعدم الإعجاب بأي حسن قد يصرفه عن حقيقته أو وظيفته في هذا الوجود، فكل من فرح بغير الله سيحزن، وكل من رضي بغير الله سيسخط، وكل من نسي الله سينسى نفسه وحقيقته وسيختصر وجوده في قالب طيني سرعان ما يعود إلى أصله، قال تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19)

وقد آلم الشعراء ما رأوه من تعظيم البشر للجسد وإكرامهم له مع الغفلة عن حقيقة الإنسان فصاح المعري بقوله:

لا تكرموا جسدي، إذا ما حل بي

   ريب المنون، فلا فضيلة للجسد

كالبرد كان على اللوابس نافقا

   حتى إذا فنيت بشاشته كسد

أروا حنا ظلمت، فتلك بيوتها

   درس، خوين من الضغائن والحسد

ومن قبله قال دعبل الخزاعي:

وما حسن الجسوم لهم بزين

  إذا كانت خلائقهم قباحا

وبعدهما قال البستي ناصحا:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته

  لتطلب الربح في ما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها

   فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

واتخذ شاعر آخر أسلوبا علميا كالأسلوب الذي تنتهجه تلك الدراسات لتزرع الفوارق بين البشر فأخذ يعدد عيوب هذا الجسد الذي يتيه به الخلائق ويتكبرون ويقاتل بعضهم بعضا:

يا مظهر الكبر إعجابا بصورته

  انظر خلاءك إن النتن تثريب

لو فكر الناس فيما في بطونهم

   ما استشعر الكبر شان ولا شيب

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة

   وهو بخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك

   والعين مرصة والثغر ملعوب

يابن التراب ومأكول التراب غدا

   أقصر فإنك مأكول ومشروب

وشبه ذو الرمة الجمال الظاهر الساتر للشين المختفي في ثيابه بالماء الخبيث الذي لا يغير خبثه بياض لونه، فقال:

على وجه مي مسحة من ملاحة

   وتحت الثياب الشين لو كان باديا

ألم تر أن الماء يخبث طعمه

   وإن كان لون الماء أبيض صافيا

وشبه القيرواني ذلك بالسرج التي تضيء ولكنها تحرق، فقال:

سرج تلوح إذا نظرت وإنها

   نور يضيء وإن مسست فنار


([1])  انظر:الشوكاني:5/323 ،والقرطبي18/112 .

([2])  رواه أحمد 5/411.

([3])  رواه أحمد 3/304 (14314. وعبد بن حميد (1154) والدارمي: 1389 والبخاري: 335.

([4])  رواه أحمد 2/484 (7814) وفي 2/539 (10973) ومسلم: 8/11.

([5])  رواه الحميدي (359) وأحمد: 6/402.

([6])  رواه أحمد 2/353 (8619)، والبخاري: 458.

([7])  رواه عبد الرزاق (17965)، وأحمد 5/158 (21738) والبخاري: 1/14 (30).

([8])  رواه أحمد 4/120 (17215) والبخاري في الأدب المفرد 171 ومسلم 4319.

([9])  الشوكاني:3/185.

([10])  رواه البخاري 4/141 (3239) و4/186 (3396) ومسلم 1/105 (338).

([11])  رواه أحمد 1/420 (3991)

([12])  رواه أحمد 2/347 (8556) ومسلم 6747.

([13])  رواه أحمد 6/128 وفي 6/136 و206 وأبو داود 4875 والترمذي 2502.

([14])  البغوي1 /340.

([15]) الشوكاني:5/476.

([16])  البيضاوي:1/168 .

([17])  رواه أحمد 6/68.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *