الجذور

الجذور

القوميات والشعوب والقبائل والآباء والأنساب.. بوق من أبواق الشيطان، ينفخ فيه، فيصدر مع صداه الضارب في أحقاب التاريخ أكثر الحروب، وأبشع العصبيات، وأرذل الجرائم الإنسانية.

عندما انطلق الرومان من أرضهم الخصبة، ومعيشتهم الميسرة، وفلسفتهم وأساطيرهم لم يكونوا يحملون مع جيوشهم الجرارة من فضل حضارة وإنسانية، ليساهموا في رفعة الإنسان، بل كان زادهم الوحيد، وهاجسهم الوحيد، ودافعهم الوحيد هو أن يعرفوا العالم الذي نعتوه بالبربرية من هو الإنسان الروماني وأي دماء تسري في عروقه.

وعندما أباد خلفهم من الأوروبيين سكان أمريكا وأستراليا، واستعبدوا سكان إفريقيا واستعمروا سكان آسيا لم يكونوا يشعرون بأي ألم، وهم يستغلون الأرض، ويستسخرون البشر، ويمصون دماءهم، لأنهم كانوا يعتقدون، بل قد يصرحون، بأنهم الجنس السامي، والإنسان الممتاز، الإنسان الذي يجوز له أن يستغل من دونه كما يستغل سائر البشر النبات والحيوان.

ومرت حقبة على البشرية تصوروا أنهم تخلصوا من العبودية والاستعمار، وأن الإنسان ترقى ليمحو آثار الشعوبية والقبلية والعرقية، وأن العالم يتجه نحو الإنسان المفصول عن أعراقه، ولكن الأخبار التي تبث كل يوم، بل كل ساعة تكذب كل هذا.

فالآلاف يموتون في أنحاء العالم بجريمة من جرائم ذلك الإنسان الأشقر، فلا يلتفت العالم لهم، ولا يترحم عليهم، ولا يعزي ذويهم في مصابهم، لأن الموت هو المصير الحقيقي لهم، وهو الخاتمة السعيدة لمأساة وجودهم، فإذا ما جرح فرد من أفراد ذلك الجنس المتميز انتهض البشر جميعا لمداواة جراحه، وإذا ما فقد انتهضوا جميعا للبحث عنه، فإذا مات تحولوا جميعا معزين ومواسين، والويل لمن لم يفعل كل ذلك، أو بعض ذلك.

هذه الشعوبية والقبلية والعرقية هي التي وقفت قديما حائلا بين الشعوب واتباع أنبيائها، وهي التي تقف حاليا بين هذا العالم الذي يدعي معرفة كل شيء، ويتصور أنه حقق كل شيء، وبين الالتفات للبحث عن التفسير الصحيح للكون، والبحث الجاد عن حقيقة الإنسان.

نعم.. توجد آلاف الدراسات في هذا الميدان، ولكن الجذور التي امتلأت القلوب زهوا بها وبطرا تحول بينهم وبين النظرة الجادة المؤثرة، فهم قد يقبلون أي شيء، ولكن أن يقبلوا بدين بدوي يسكن الجزيرة، فذلك شيء لا يخطر على بال المستعبدين بعبودية الجذور.

قد يقال: بأن المسيح من الشام، فكيف يبجلونه، بل يعبدونه؟

وما درى هذا السائل علاقة هؤلاء بالمسيح، وما درى أصل ارتباطهم بالمسيحية، وإلا كيف يفسر انتهاض العالم المسيحي لأبراج التجارة في الوقت الذي لم ينبسوا فيه ببنت شفة أسفا على كنيسة المهد.

إن عبادة الأسلاف ـ كما ينص القرآن الكريم، وكما يفسر التاريخ ـ ليست خاصة بالبدائيين، بل هي دين البشرية التي ابتعدت عن الدين الحق، هي دين الأوروبيين والأمريكيين والهنود والصينيين، وكل القوميات والعرقيات التي نبتت في أوطاننا لتفرق بين الأخ وأخيه.

يقول تعالى عن منطق القرى في جوابها لأنبيائها، وهي تستند إلى أكبر كذبة تحول بينها وبين اتباع الحق، أو على الأقل الاستماع إلى الحق: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف:23)

وفي هذه الآية إخبار عن حقيقة اجتماعية، هي أن الذي يتولى زعامة القوميات هم المترفون الذي يتذرعون بذرائع العصبية القبلية ليحققوا مطامحهم الشخصية، فهم قد فقهوا عن الشيطان أن بوق القومية هو البوق الذي يستحث الشعوب المشبعة بذكريات ماضيها إلى التبعية العمياء.

والقرآن الكريم لا ينكر عليهم تعلقهم بأسلافهم وجذورهم، بل ينكر عليهم كون هؤلاء الأسلاف أضعف شأنا من أن يكونوا قدوة أو قادة لغيرهم، وهو ما لا يستطيع تقبله هؤلاء الذين يعيشون على أوهام الماضي، قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)

وفي آية أخرى يصور القرآن الكريم قناعة هؤلاء واكتفاءهم بما وجدوا عليه آباهم، فهم مشبعون بفكر أسلافهم لا يرضون عنه بديلا، قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (المائدة:104)

 بل إنهم يربطون بين أمر الله وما وجدوا عليه آباهم، فلآبائهم من العصمة ما يتسحيل معه أن يخالفوا أمر الله، أو لهم من القداسة ما يحيل على الله أن يأمر بخلاف ما كان عليه آباؤهم، قال تعالى مخبرا عن المبررات التي يتذرعبها هؤلاء إذا ما نهوا عن الفواحش:{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:28)

ويخبرنا القرآن الكريم عما تفعله القوميات في عصرنا هذا كما في العصور السالفة من تقديم الوطن والقومية على الله، فيحفظ الصبيان من الأناشيد التي تزرع فيهم التعلق بالجذور ما ينسيهم تعلقهم بربهم وذكرهم له، ويدرسون من التاريخ ما يملؤهم بالتيه في الوقت الذي يتغافلون فيه عن النماذج الرائعة التي من الله بها على البشرية لتكون قدوة لها، قال تعالى عن موقف لا يعرف فيه المؤمن الحقيقي غير ربه في الوقت الذي ينشغل فيه القومي بسرد سيرة أسلافه:{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (البقرة:200)

ويذكر القرآن الكريم استدلالهم المطلق بفعل آبائهم، وكأنهم الآلهة التي تشرع لهم وتبين لهم سنن الكون ونواميسه وقوانيه، قال تعالى:{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (لأعراف:95)

ويبين العلاقة الحقيقية مع الآباء والإخوان والعشائر والقبائل في حال استحبابهم الكفر على الإيمان فيقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة:23)

ويصور القرآن الكريم الدافع الحقيقي لهذه المشاعر القومية المبعدة عن الحق عند ذكره لارتباط عبادة الأسلاف بالكبرياء في الأرض، يقول تعالى:{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (يونس:78) وذلك لأن المتكبر كما يرى لنفسه وجودا متميزا عن غيره لا يتصور لماضيه غير ذلك الوجود المتميز.

وفي موضع آخر يبين أن الحاجز بينهم وبين تدبر الآيات الواضحات هو مخالفتها للأعراف التي ورثوها عن أسلافهم، قال تعالى:{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون:68) { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الانبياء:53)، وقال تعالى:{ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء:74)

ويعتبر القرآن الكريم الدعوات الشعوبية العنصرية صدى لنفخات شيطانية قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان:21)

ويصور ذلك اللهث الأعمى وراء تراث الأسلاف مع بعده عن الحق بل إبعاده عنه بقوله تعالى:{ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (الصافات:69،70) قال أهل اللغة:(لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة يقال أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى وهو مهرع ل وقيل أهرع أي أهرعه حرصه وعلى هذا يهرعون أي يستحثون عليه)([1])

وقد ورد هذا الوصف في موضعين في القرآن الكريم الأول منهما في قوله تعالى:{ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات}(هود: 78)، وقوله: { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:22)

ويخبر القرآن الكريم عن عرض يقدمه الأنبياء على أقوامهم، هو مشروع حياة أنجح من المشروع الذي ورثوه عن أسلافهم، لكن المتفانين في حب الذات والمستغرقين في عبادة السلاف يرفضون هذا المشروع قبل أن يستمعوا له، قال تعالى: { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:24)

ولذلك، فإنه من المستغرب والمستبعد أن يركن المؤمن لأي شيء يبعده عن ربه أو يحجبه عنه كائنا من كان، قال تعالى:{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(المجادلة:22)

ويعقب القرآن الكريم مبينا العوض الإلهي لهؤلاء الذين باعوا الفرح والزهو بالقومية والشعوبية والعشائرية بفرح الانتماء لله رب العالمين، جزاء لا يمكن تصوره، وعوضا لا يفقه إلا من ذاقوه، قال تعالى:{ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة:22)

ولا بأس أن نقرب هنا بعض ما ذكر من بدائل إيمانية تعوض المضحين بالقومية والعشائرية، فأول ما يرزقون هو الإيمان الذي عبر عنه القرآن الكريم بالكتابة، فهو إيمان مكتوب في قلوبهم لا تمحوه المياه، ولا يؤثر فيه المناخ.

والجزاء الثاني هو تأييدهم بروح منه.

والجزاء الثالث هو إدخالهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار خالدين فيها.

والجزاء الرابع هو رضى الله عنهم، وهو الرضى الذي لا يساويه أي جزاء.

والجزاء الخامس هو رضاهم عن الله.

والجزاء السادس هو أنهم لا ينسبون إلى عشائر أو أقوام بل ينسبون إلى الله.

والجزاء السابع، وهو خاتمة كل هذه الجوائز الربانية هو الفلاح المستقر المستمر الذي لا تقرره لجان بشرية يغلب عليها الهوى، وتتحكم فيها الأمزجة، وتكثر حوله الطعون، بل هو نجاح بتقرير رباني يحمل موشور السعادة الدائمة الخالدة.

ويضرب القرآن الكريم نموذجا بشريا عن المؤمن الذي لم يصله نفخ الشيطان، ولم يتأثر لصداه، وهو إبراهيم عليه السلام، فينقل موقفه مع أبيه([2])، يوجهه بكل وسائل التوجيه، قال تعالى:{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة:4)

ويعمم في موقف قرآني آخر موقفه من أبيه وقومه جميعا، فقال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأنعام:74)

ويكرر هذا الموقف بصيغ مختلفة، ليرسم به صورة الإنسان المؤمن الذي امتلأ قلبه بالله، فمحى كل ما يحجزه عنه، قال تعالى:{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الانبياء:52)، وقال تعالى:{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} (الشعراء:70)، وقال تعالى:{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} (الصافات:85)، وقال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (الزخرف:26)

حتى استغفاره لأبيه الذي كان نتيجة رقة قلبه سرعان ما تنازل عنه، بل استغفر الله منه لما تبين له عداوته لله، قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114)

وهذا مقتضى الخلة، فالخليل لا ينبغي له أن يقدم أحدا على خليله مهما كان.


([1])  انظر: القرطبي: 9/74.

([2])  المراد به في الآيات الكريمة ـ كما يذكر أكثر المفسرين ـ عمه، لأن الأب في اللغة العربية يطلق على العم أيضا، ومن الأدلة على ذلك من القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له ، وبالفعل وَفيَ بِوعده كما قال تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيم وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾، لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً ، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه ، قال تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾

هذا في بداية أمره قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة ، والدليل على ذلك أنّه يبدأ الدعاء بقوله : ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾

وبعد مغادرتِه إلى الأرض المقدّسة ، نراه يبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين . ﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، وهنا يُجيب الله دعاءه : ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾

ثمّ إنّه لمّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما : ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾ إلى قوله : ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾

وقد علق العلاّمة الطباطبائي على هذه الشواهد القرآنية بقوله: (والآية بما لها من السياق والقرائن المُحتفّة بها خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام ، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي ، وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللغة مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ ، وزوج الأُمّ ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير ، وكذا كلّ كبير مُطاع ، ونحو ذلك ، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب ، بل هو جارٍ في سائر اللغات أيضاً) (انظر: تفسير الميزان : 7 / 168 ـ 171)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *