البداية

البداية

لست أدري هل كانت هذه الأحداث التي أريد أن أحكيها لكم اليوم أحداثا حقيقية حصلت لي وأنا مستيقظ، وفي كامل قواي العقلية، أم أنها حدثت لي وأنا في المنام.. فقد اختلطت علي حينها حياة اليقظة بحياة الأحلام..

لكن الذي أدريه أنني وبعد عودتي إلى هذا العالم الذي يعيش فيه جسدي، ويعيش فيه معي الناس، تحققت من كل شيء عشته حينها، فوجدته كما رأيته وسمعته.. فلذلك رحت أبثه لكم مثلما عاينته بالضبط.

وبداية حكايتي تنطلق مني، ومن قريتي الصغيرة المتواضعة .. فقد رأيت يومها ذلك الضخم الغليظ الذي استبد بشؤون قريتنا، فراح يحيي فيها سنة فرعون وهامان ونيرون، وراح المستضعفون من حوله يتلاشون ويتساقطون كما يتساقط الذباب عندما تنزل عليه أمطار المبيدات.

كان ضخما.. وكان لا يرى نفسه إلا ضخما.. ولا يرضى من أهل قريتي البسطاء أن يروه إلا كما يرى نفسه.. والويل لمن لم يره كما يرى نفسه.

وكان منظره هذا يملأ نفسي بالصراع.. ويملأ المستضعفين من أمثالي بأنواع من الألم لا يمكن أن نعيش أي سلام معها.

لقد كنا نشعر بسيره إذا سار.. فالأرض تندك من حوله، وبيوتنا المصنوعة من طين الأرض التي خلقنا منها تتشقق كما تنشق أجسادنا.. فهي ترهبه كما نرهبه، وتعرف منه ما نعرف منه.

وكان صوته المجلجل يخنق أنفاسنا، ويملأ أزيزه عروقنا ضيقا، فينحصر الدم في خلايانا، ويشع من وجوهنا بريق الصفرة القاتلة.

ولم يكن وحده في استبداده وكبريائه وطغيانه.. بل كان يحيط به بطانة من الناس لا يقلون عنه استبدادا وطغيانا، وإن كانوا يسيرون أمامه وخلفه وبين يديه كالعبيد والأقزام، يصفقون له، ويقبلون يديه، وينحنون برؤوسهم أمامه، بل يكادون يسجدون له..

في تلك النوبة من نوبات الصراع التي تنتابني عندما أراه أو أسمع صوته، جاءني معلم السلام بهدوئه وصفائه وروحانيته، وطلب مني كعادته أن أقوم وأصحبه..

قلت: إلى أين.. فأنت ترى هذا الضخم قد سد علينا نور الشمس، وغل أيدينا وأرجلنا عن كل حركة؟

قال: ألا تريد أن ترى حقيقته؟

قلت: أتريدني أن أزداد ألما وصراعا وحزنا؟

قال: لن تنتصر على الصراع إلا بالمعرفة والمواجهة.. فعندما تراه على حقيقته ينكشف عنك كل ألم، ويعود لعينيك إبصارهما لترى الأشياء كما هي .. لا كما تتوهم.

قلت: وما فائده هذه المعرفة؟

قال: أن تتخلص من الأغلال التي تحول بينك وبين الثورة والمواجهة.

قلت: الثورة على من؟.. ومواجهة من؟

قال: الثورة على ضعفك وخنوعك وذلتك.. فما كان للمستكبرين والطغاة والمستبدين أن يمارسوا كبرياءهم لولا ضعفك وخنوعك وذلتك.. ألم تسمع قوله تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54]؟

قلت: بلى، ولكن ذلك فرعون.. وأولئك قومه.

قال: وهل ترى الله تعالى ذكر فرعون ليسليك، أم ذكره ليربيك..

قلت: بل ذكره ليربيني، وقد قال تعالى بعد الآية السابقة: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } [الزخرف: 55، 56]

قال: فقد أجابك ربك..

قلت: ما تعني؟

قال: لقد اعتبر الله تعالى المستكبرين والمستضعفين الخانعين شيئا واحدا.. فقد شملهم العذاب جميعا.. فعندما وقعت مياه البحر على جيش فرعون لم تفرق بينه وبين جنوده المستضعفين.

قلت: أجل .. لقد أخبر الله تعالى عن ذلك كثيرا في القرآن الكريم.. ومن تلك المشاهد التي ذكرها عن الصراع بين المستكبرين والمستضعفين في الآخرة ما ورد في قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47، 48]

قال: فها أنت ترى كيف نال المستضعفون هم الضعف في الدنيا، وهم العذاب في الآخرة.

قلت: أجل.. ولكن لم كان الأمر كذلك.. لم لم يرحم هؤلاء المستضعفون؟

قال: لأنهم كانوا سبب كبرياء المستكبرين.. فولالهم ما ظهر المستكبرون.

***

سرت مع صاحبي في متاهات عجيبة إلى أن وصلنا إلى أرض قاحلة جدباء، لم أر في حياتي أجدب منها، وكأن أرضها لم تذق طعم الماء مذ وجدت الأرض، أو كأننا في كوكوب آخر غير الأرض.

سألت صاحبي عن سر هذه الأرض، وما حل بها من جدب، فقال: هذه أرض الاستكبار.. إنها مجدبة كنفوسهم التي امتلأت كبرا.

قلت: لو لم يكن من عقابهم إلا هذه الأرض وموتها لكفاهم ذلك.

قال: أنت لم تر شيئا بعد.. إن أكبر أمنية لهم هي أن يستوطنوا مثل هذه الأرض، ويعيشوا فيها.

قلت: ألا زلنا نرى أكثر من هذا القحط الذي يذكرنا بالموت؟

قال: لا زلت ترى الكثير مما لا يحتمله جسدك الضعيف، فلذلك سترتدي هذه الثياب الخاصة لتنزل إلى أوكار الاستكبار.

لبست ما أعطاني من الثياب، ثم نزلت معه إلى مهاو عميقة، خرجت بنا إلى كهوف مظلمة، ثم مغارات تمتلئ حيات وعقارب..

صحت: أفي جهنم نحن؟.. ما هذه الحيات والعقارب؟

قال: هذه هي الحيات والعقارب التي كان المستكبرون منشغلين بتسمينها في حياتهم مع المستضعفين.. لقد لاقوها أسمن ما تكون، وأقوى ما تكون.

قلت: فلم تعذبونهم بها؟.. لا أزال أسمع أن أهل السلام أهل رحمة.

قال: نحن لا نعذبهم.. ولكنهم يتعذبون بما زرعوا.. لقد نزلوا إلى الأرض، وكلفوا أن يملأوها زيتونا وبرتقالا، فراحوا يملأونها قيودا وأغلالا.. وكلفوا أن يعلموا الطيور أجمل التسابيح، فراحوا يبحثون عن الأفاعي والحيات، ليملأوها بأخطر السموم.. فلذلك لم يجدوا في هذه الأوكار إلا ما زرعوا في تلك الأرض.

قلت: في أي أرض نحن.. فإن القيامة لم تقم؟

قال: نحن في أرض التكليف، وهؤلاء الذين ستراهم جعلهم الله عبرة للمكلفين، وما كان الله الرحمن الرحيم ليؤخر عقوبة من استذلوا عباده، وهدموا بنيانهم، وخرقوا جمال الجنة التي جعلها لهم.

قلت: المستكبرون كثير.. فمن سنرى فيها؟

قال: سبعة..

قلت: أهم سبعة أشخاص؟

قال: هم سبعة أشخاص من حيث ذواتهم.. ولكنهم سبعون ألفا من حيث قوالبهم..

قلت: ماذا تقصد؟.. أهم سبعة، أم سبعون ألفا؟

قال: كل فرد منهم يمثل أمة من أمم المستكبرين، وفكرا من أفكار الاستكبار.

قلت: فما جدوى الحديث معهم.. ألتسليتهم؟

قال: لا.. بل لنتعرف على أسباب الاستكبار وأساليبه.

قلت: لم؟

قال: كيف يقاوم الأطباء عندكم الأمراض؟

قلت: بعد التعرف عليها.. والبحث عن مناهجها في نخر الجسد والتلاعب به.

قال: فكذلك أهل حصون المستضعفين.. لا يتوجهون لعدوهم من المستكبرين إلا بعد التعرف على أسبابه وأساليبه.. فمن الخطأ والخطر أن تقاوم ما لا تعرف.

***

دخلنا المغارة التي امتلأت آلاما، كانت ضيقة شديدة الضيق، ولكنا ـ لسر الحلة التي نرتديها ـ مررنا فيها كما يمر النسيم العذب، أو كما تمر الأطياف التي لا تحول بينها الحوائل.

كان أول ما بادرنا صوت يمتلئ ألما..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *