يزيد

يزيد

ما إن سرت قليلا حتى سمعت صوتا قبيحا يصيح: ويل لي من آل بيت رسول الله.. ويل لي من صحابة رسول الله.. الويل لك يا أبي كيف زججت بي إلى هذه الأوكار.. أما في قلبك رحمة.. ألم تكن تعلم مصير المستبدين؟

قلت لصاحبي: من هذا الذي يرسل الويلات على نفسه وعلى أبيه.

قال: هذا يزيد.. وهو مثال المستبد الذي زاحم الأمر أهله، إنه كالجاهل الذي سجن الأطباء، وراح يداوي المرضى، فقتلهم.

قلت: ومن الأطباء الذين سجنهم؟

قال: آل البيت الكرام، والصحابة المنتجبون الذين تربوا على عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى يديه الشريفتين.

قلت: ومن أبوه الذي يرسل عليه الويل؟

قال: معاوية الذي زاحم الأمر أهله، ولم يكتف بذلك، بل راح يزاحمهم بولده، ويشوه جمال العدالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكسروية والقيصرية.

قلت: فكيف سكتوا دون نصحه؟

قال: لقد قمعهم باستبداده.. ألم تسمع ما قال ابن سيرين، فقد ذكر أن عمرو بن حزم وفد على معاوية فقال له: أذكرك الله في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمن تستخلف عليها فقال: (نصحت وقلت برأيك، وإنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم وابني أحق)

قلت: ويله.. أهو ميراث يقتسمونه، أم أمانة يحملونها؟

قال: الوالي المستبد يتصور أن رعيته وما تملك رعيته ملك من أملاكه.

سمعت صياحا عظيما تنهد له الجبال، وترتعش الأرض: الويل لي منك يا ابن بنت رسول الله.. الويل لي منك يا حسين..

قلت: ما باله؟

قال: إنه يسترجع ذكرياته المريرة، يوم أرسل في قتل الحسين، وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فما فعل الحسين؟

قال: لقد كان الحسين يمثل القوة التي تقف في وجه الاستبداد.. فلذلك لم يبايع يزيدا.. ولم يرض لدين جده صلى الله عليه وآله وسلم أن ينتقص، وتنقض عراه، وهو حي.. لقد قال يعبر عن ذلك: (إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين)

قلت: أعلم قصة ذلك.. فقد كان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية، وهو يأبى فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموماً يجمع الإقامة مرة ويريد المسير إليهم أخرى، فأشار عليه ابن الزبير بالخروج، وكان ابن عباس يقول له: لا تفعل، وقال له ابن عمر 🙁 لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها ـ يعني الدنيا ـ) واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.

وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة، ومعه طائفة من آل بيته رجالا ونساء وصبياناً، فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتله، فوجه إليه جيشاً قوامه أربعة آلاف، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فخذله أهل الكوفة، فقتلوه، وقتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته، وجيء برأسه في طست حتى وضع بين يدي ابن زياد.

التفت إلى صاحبي، فإذا دموعه تذرف بشدة، قلت: ما بالك؟

قال: لقد ذكرتني بمواجع لن يمحوها الدهر.. لقد كنت حاضرا ذلك الموقف..

قلت: هل كنت حاضرا.. لقد سمعت أنه لما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة والكواكب يضرب بعضها بعضاً، وكسفت الشمس ذلك اليوم واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك ولم تكن ترى فيها قبله.

وذكروا أنه لم يقلب حجر ببيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط، وصار الورس الذي في عسكرهم رماداً، ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتكلم رجل في الحسين بكلمة فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره.

قال: هذا كله هين بسيط.. الخطر الأعظم هو تحول الأمة من النظام الذي اختاره الله لها إلى النظام الذي سنه المستبدون..

قلت ـ وكأني لم ألتفت لكلامه ـ : بل قد ذكروا أن الجن رثت الحسين، فقد روى أبو نعيم في الدلائل عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تبكي على حسين وتنوح عليه.

وأخرج ثعلب في أماليه عن أبي خباب الكلبي قال: أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب: أخبرني بما بلغني أنكم تسمعون نوح الجن فقال: ما تلقى أحداً إلا أخبرك أنه سمع ذلك، قلت: فأخبرني بما سمعت أنت قال: سمعتهم يقولون:

مسح الرسول جبينه

  فله بريق في الخدود

أبواه من عليا قري

  ش وجده خير الجدود

قال: ليس الشأن أن تبكي الجن، بل الشأن أن تبكوا أنتم.. وليس الشأن أن تبكوا، بل الشأن أن تختلط دماؤكم مع دماء الحسين، لتنصروا المستضعفين، وتقاوموا الاستبداد.

قلت: لم لم يسمع الحسين لتلك النصائح الرقيقة التي وجهت له؟

قال: إن الحسين لم يكن يمثل نفسه في ذلك الحين، ولم يكن حريصا على حياته.. لقد كان يعلم أن المستبدين لن يتركوه..

قلت: فلماذا خرج إذن ما دام يعلم ذلك؟

قال: لقد خرج ليحفظ دين جده من التحريف الذي أراد المستبدون إيقاعه بهذا الدين.

قلت: ولكنه فشل في تحقيق ما صبا إليه.

صاح صاحبي بقوة: لا.. لم يفشل.. لقد كانت الشرارة التي أشعلها الحسين في وجه الاستبداد هي التي أحرقت بعد ذلك كل قصور المستبدين، وهي التي دمرت كل قلاعهم..

قلت: بأي سلاح استطاع أن يفعل كل هذا؟

قال: بسلاح الدم الذي يهدر في سبيل الله.. لقد كان الدم الذي سال منه، ومن آل بيته أعظم محطم لأسطورة الاستبداد.. ألم تسمع رؤيا أم سلمة؟

قلت: بلى.. فقد روي عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنصف النهار أشعث أغبر وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ما هذا؟ قال 🙁 هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم)، فأحصى ذلك اليوم، فوجدوه قتل يومئذ([1]).

قال: أتدري تعبير هذه الرؤيا؟

قلت: ليس لي من علوم التأويل ما أعبر به الرؤى.

قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يجمع دم الحسين ودم أهل بيته، ليصبح ذلك الدم دليلا للمستضعفين يستنولون به النصر، ويستمدون منه الهدي، ويقمعون به الظلم، ولا يبالون في سبيل ذلك أن تختلط دماؤهم بتراب الأرض.. لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيجمعها في محل واحد مع دم الحسين .

قلت: لقد ذكرتني برؤيا أخرى، أرجو أن تعبرها لي.

قال: وما رأيت؟

قلت: لا.. لم أر أنا.. بل هذه الرؤيا رواها الترمذي عن امرأة قالت: دخلت على أم سلمة، وهي تبكي، فقلت 🙁 ما يبكيك؟)، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله قال 🙁 شهدت قتل الحسين آنفاً)([2])  

قال: هذه الرؤيا رسالة وجهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة.

قلت: ما يقول فيها؟

قال: إن ما حصل للحسين كان أعظم إهانة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا ينبغي للأمة أن تسكت على إهانة نبيها.

قلت: ولكن يزيد الآن في أوكار الاستكبار، فكيف تنهض الأمة لنصرة الحسين.

قال: بالنهوض في وجه الاستبداد.. فلا يمكن أن يكرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعظم من النهوض في وجههم.

قلت: ولكن دماء المستضعفين قد تسيل.

قال: ستختلط حينها بدماء الحسين.. وحسبها بذلك شرفا.

قلت: أنت تحرض على الثورة.

قال: أنا لا أحرض على ثورة أهل الحرب، أنا أحرض على ثورة أهل السلام.

قلت: ولكن الحسين استعمل ثورة أهل الحرب؟

قال: لا.. لقد استعمل ثورة أهل السلام.

قلت: كيف ذلك.. لقد سمعت صرير السيوف في قصة كربلاء.. ولا يمكن أن نمثل وقعة كربلاء من دون سيوف.

قال: تلك سيوف المستبدين.

قلت: والحسين.. ألم يكن يملك سيفا؟

قال: لقد كان يملك قبل السيف أصنافا من أسلحة أهل السلام، لم يحق له أن يحمل السيف قبل امتلاكها.

قلت: فما هي؟

قال: ستعرفها في حصون المستضعفين.

قلت: ألسنا في حصون المستضعفين؟

قال: لا.. لن تدخلها حتى تخرج من أوكار المستكبرين.

سمعت صوتا شديدا، يقول: ويل لي من أهل الحرة..

قلت: أعرف هذا.. ففي سنة ثلاث وستين بلغ يزيدا أن أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه، فأرسل إليهم جيشاً كثيفاً، وأمرهم بقتالهم، ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير، فجاءوا وكانت وقعة الحرة على باب طيبة.

بكى صاحبي، وقال: وما أدراك ما وقعة الحرة؟.. لقد ذكرها الحسن مرة([3])، فقال 🙁 والله ما كاد ينجو منهم أحد.. قتل فيها خلق من الصحابة ومن غيرهم، ونهيت المدينة، وافتض فيها ألف عذراء، فإنا لله وإنا إليه راجعون).. أتدري ما سببها؟

قلت: أجل.. فقد خلع أهل المدينة يزيدا، لما بلغ به الإسراف حده الأقصى، وقد روي أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال 🙁 والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن ترمى بالحجارة من السماء.. إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة)

وقال الذهبي: ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شربه الخمر وإتيانه المنكرات اشتد عليه الناس وحرج عليه غير واحد ولم يبارك الله في عمره وسار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات أمير الجيش بالطريق، فاستخلف عليهم أميراً وأتوا مكة فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق وذلك في صفر سنة أربع وستين واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة سقفها.

قلت: ما بالهم لا يراعون لله حرمة، فهم لم يراعوا حرمة المدينة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)([4]).. ولم يراعوا حرمة البيت الحرام الذي قال فيه تعالى:{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً } (البقرة: 125) وقال فيه :{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } (آل عمران: 97)، وقال فيه :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً و} (المائدة: 2)

قال: وهل عظموا الله حتى يعظموا مدينة رسوله، أو مدينة خليله؟

قلت: إن من قومي من يبالغ في يزيد حتى يكاد يلحقه بآل البيت الطاهرين، أوالصحابة المجتبين.

قال: أولئك ألسنة الطغاة.

قلت: إن منهم من يضع عمائم العلماء، ويلبس طيالستهم.

قال: فأخبرهم بما رواه نوفل بن أبي الفرات، قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد فقال: قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال: تقول أمير المؤمنين، وأمر به فضرب عشرين سوطاً.

وأخبرهم ـ قبل ذلك وبعده ـ بمقوله الحسن البصري، واعظ هذه الأمة وعالمها، فقد قال في معاوية وابنه 🙁 أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : إنتزاؤه على هذه الامة بالسيف حتى أخذ الامر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه – يزيدا – سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقتله حجرا([5])، وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر! ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر!)([6])

قلت: إن ما تردده هو نفس ما يذكره الشيعة الذين يطلق عليهم قومي لقب [الرافضة]، ويسبونهم بكل ألوان السباب، بل يسلبون منهم لقب الإيمان، ويرموهم بالكفر البواح.

قال: ألا زلتم تنشغلون بتصنيف الناس.. الحق أقول لك: لن تنتصروا على أعدائكم، ولن تخرجو من ضعفكم، حتى لا يكون فخركم إلا بإسلامكم.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر : يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فانه من شجر اليهود)([7]).. فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الحجر والشجر يسمي المسلم مسلما، بل يسميه عبد الله، ولا يسميه سنيا ولا شيعيا.

قلت: ولكن السنة درجة أخرى فوق الإسلام.. إنهم الطائفة المنصورة التي يتنزل عليها النصر دون سائر الطوائف.

قال: السنة أن تعيشوا الحقائق لا أن تفخروا بها.. وأول السنة أن لا تحتكروا السنة، فالسنة حق الأمة جميعا بجميع مناهجها.. وأول السنة أن لا ترضوا تسمية غير ما سماكم به ربكم، ألم يقل الله تعالى:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)

قلت: صدقت في هذا.. لقد أهلكتنا الطائفية حتى نسينا إسلامنا انشغالا بطوائفنا.

قال: ستعرف كيف قضى أهل السلام على خفافيش الطائفية.

قلت: أين.. وكيف ذلك؟

قال: ستعرف ذلك عندما ترحل إلى حصن الوحدة.

قلت: شبهة أخرى أريدك أن تجيبني عنها.

قال: ما أكثر شبهكم.. وما أولعكم بها.

قلت: إن نفرا من قومي يحذرون من الخوض في هذا حتى لا نشوه تاريخنا، بل قد يضعون الأقاصيص الباطلة ليستروا العورات الفاضحة.

قال: لا.. التاريخ محل العبر.. وتاريخكم لم يسطره حكامكم المستبدون، ولا قادتكم المتعجرفون.. بل سطره العلماء والأولياء والشهداء.. تاريخكم هو تاريخ هؤلاء وسيرهم لا تواريخ الطواغيت.. أخبرني: كيف يعرف الناس عظم التضحية التي قام بها الحسين لو سترتم تاريخ يزيد؟.. إنكم ستكافئون المجرم المستبد أعظم مكافأة.. وتحتقرون مثال التضحية أعظم احتقار.

قلت: صدقت.. لقد فاتني أن أنظر إلى الجانب المشرق الذي يمتلئ به تاريخنا.. بل إنه لولا هؤلاء الطواغيت من المستبدين ما أدركنا قيمة هؤلاء العظماء، ولا عظم التضحيات التي قدموها.. إنهم كالسواد الذي يشرق فيه البياض.. أو كالليل الذي يطل ليبين جمال نور الشمس.

قلت: شبهة أخرى أرجو أن تجيبني عنها.

قال: أعرفها .. أنت تريد أن تذكر لي أن من قومك من يقدم نصيحة ابن عمر على موقف الحسين.

قلت: أجل .. كيف عرفت ذلك؟

قال: وهل يسمع الناس من رؤوس الضلال الذين اتخذوهم أئمة إلا ذلك؟

قلت: فما جوابك على هذه الشبهة؟

قال: أجبني من هو سيد شباب أهل الجنة .. هل هو ابن عمر، أم الحسين؟

قلت: بل الحسين .. ففي الحديث الصحيح عن حذيفة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فصليت معه الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم تبعته، وهو يريد يدخل بعض حجره، فقام، وأنا خلفه، كأنه يكلم أحدا، قال : ثم قال : من هذا؟ قلت : حذيفة. قال : أتدري من كان معي؟ قلت : لا. قال : فإن جبريل جاء يبشرني، أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. قال : فقال حذيفة : فاستغفر لي ولأمي. قال : غفر الله لك، يا حذيفة، ولأمك ([8]).

قال: ومن هو الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه منه .. هل هو ابن عمر، أم الحسين؟

قلت: بل الحسين .. ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسينا)([9])

قال: فمن الذي اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبه شرطا لحبه؟

قلت: لاشك أنه الحسين .. ففي الحديث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسين بن علي: (من أحب هذا فقد أحبني)([10])، وقال يعني الحسن والحسين: ( اللهم! إني أحبهما فأحبهما، وأبغض من أبغضهما)([11])، وقال: (اللهم! إني أحبهما فأحبهما)([12])، وقال: ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)([13])، وقال: (من أحب الحسن والحسين أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله جهنم وله عذاب مقيم)([14])

قال: ومن هو المطهر من الرجس .. الذي لا يقربه الشيطان، فيوسوس له، ولا يستطيع أن يؤثر فيه .. هل هو ابن عمر، أم الحسين؟

قلت: بل الحسين .. فقد ورد في الحديث عن عمر بن أبي سلمة قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) في بيت أم سلمة دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره جللهم بكساء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)([15])

قال: فمن الذي ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أشبه الناس به .. هل هو ابن عمر، أم الحسين؟

قلت: بل الحسين .. ففي الحديث عن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها أتت بالحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفي فيها فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً. فقال: (أما حسن فله هيبتي وسؤددي، وأما حسين فله جراءتي وجودي)([16])

قال: ومن الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسير خلفه ونتبعه حتى ننجو من الضلالة؟

قلت: لاشك أن ذلك لا ينطبق إلا على الحسين، فالحسين من العترة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)([17])

قال: فهذا هو جواب ما طرحته من شبهة.

قلت: لم أفهم .. ما تقصد بإيراد أحاديث هم يوردونها؟

قال: هم يروونها .. ولكنهم يضعون بينهم وبينها آلاف الحجب.

قلت: أنت تعرف غفلتي .. وعدم طاقتي على القراء ما بين السطور .. فعلمني.

قال: أرأيت لو أن طبيبا خبيرا نال تزكية من جميع المراكز الطبية هل ترى للمرضين والعامة من الأطباء أن يتقدموه أو يجادلوه؟

قلت: لا .. فللخبرة التي دلت عليها التزكية محلها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 أنزلوا الناس منازلهم)([18])

قال: فكيف ينزلونه منزلته التي يقرون بها، ثم يقدمون غيره عليه .. ويقتدون بغيره، ويتركونه، بل يعتبرون تقليده بدعة، والسير خلفه ضلالا.

***

بينما نحن كذلك إذ نزلت مرآة من السماء في منتهى الدقة والجمال، وقد صورت فيها الجنة بقصورها وأنهارها.. ثم ظهر في المرآة شباب لا يقلون عنها جمالا وعذوبة ورقة.. ثم سمعت بعدها أصواتا تصيح من الألم، فالتفت إليها، فإذا بيزيد وكثير ممن حشر معه، يصرخون، وكأن عذابا شديدا سلط عليهم، يرونه ولا أراه.

سألت صاحبي معلم السلام عن أولئك الشباب، وسر تألم يزيد لمرآهم، فقال لي: نحن نطلق عليهم لقب [الحسينيين]

قلت: هل تقصد أولئك الذين ساندوا الحسين ووقفوا معه في تلك الأيام الصعبة.. وقد أثنى عليهم لأجل ذلك ثناء عطرا، فقال: (إني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعا خيرا)([19]

بل شهد الأعداء لهم بالشجاعة والشهامة، فقد قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك أقتلتم ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: (عضضت بالجندل؛ إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا. ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضاربة تحطم الفرسان يمينا وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت؛ لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما كنا فاعلين لا أُم لك)

قال: بل أقصد كل من وقف معه في تلك الأيام، وما بعدها من الأيام.. فعاشوراء تتكرر في كل زمن.. وكربلاء يمكن أن تحل في أي مكان.

قلت: والحسين؟

قال: والحسين كذلك يمكنك أن تراه في شخص كل ثائر على الظلم، داعية إلى العدالة.. فإن نصرته، فقد نصرت الحسين.. وإن خذلته فقد خذلت الحسين.

رأيت شابا من خلال المرآة ينظر إلينا، وكأنه يتحدث معنا، لكني لم أطق أن أسمع صوته، ولا أن أفهم مراده.. لكن صاحبي معلم السلام راح يجيبه بلغة لم أفهمها، وبإشارات لم أعرف مقاصده منها.

سألته عن أمرهما، فقال لي: هذا أنس بن الحرث الأسدي الكاهلي ، وقد رزق فضل الصحبتين صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وصحبة آل بيته الطاهرين.. وكان من الذين كرمهم الله بالشهادة مع الإمام الحسين.. وقد كان مما رواه من الحديث قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ـ والحسين بن علي في حجره ـ: (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق ألا فمن شهده فلينصره)([20]

وقد كان من جملة حديثي معه أن سألته عن سر نصرته للحسين، فأخبرني بهذا الحديث..

قلت: من رزق الصحبتين ينبغي أن لا يكون إلا شيخا كبيرا، فكيف أراه شابا يافعا؟

قال: أنسيت أن الشيخوخة والهرم لا ترتبط إلا بحياتكم الدنيا.. أنسيت أن الشيخوخة قد تمتد للجسد فتضعفه لكنها لن تمتد أبدا للروح إلا إذا استسلمت الروح للجسد.

قلت: صدقت في هذا.. وقد أقام علينا هذا الشيخ الجليل الحجة، حتى لا نحتج بشيخوختنا عن مواجهة الباطل، أو الوقوف مع الحق.

رأيت شابا آخر، جرى بينهما من الحديث ما جرى مع الأول، فسألته عنه، فقال لي: هذا حبيب بن مظاهر الأسدي.. وقد رزق مثل صاحبه فضل الصحبتين ([21]) .. وقد روي أن ميثم التمّار مر على فرس له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتّى اختلف عنقا فرسيهما ، ثمّ قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق ، قد صلب في حب أهل بيت نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فتبقر بطنه على الخشبة. فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلا أحمر له ضفيرتان ، يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه فيقتل ويجال برأسه في الكوفة. ثمّ افترقا ، فقال أهل المجلس : ما رأينا أكذب من هذين. قال : فلم يفترق المجلس حتّى أقبل رشيد الهجريّ فطلبهما ، فقالوا : افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا. فقال رشيد: (رحم الله ميثما نسي ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم). ثمّ أدبر ، فقال القوم : هذا والله أكذبهم. قال : فما ذهبت الأيّام والليالي حتّى رأينا ميثما مصلوبا على باب عمرو بن حريث. وجيء برأس حبيب قد قتل مع الحسين، ورأينا كلّما قالوا([22]).

قلت: أجل .. لقد قرأت عن شهامته ونبله الكثير.. ومن ذلك أن ما رواه الثقاة من المؤرخين أن أنّ حبيبا لمّا وصل إلى الحسين، ورأى قلّة أنصاره وكثرة محاربيه ، قال للحسين : إنّ هاهنا حيّا من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك ، لعلّ الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسين فسار إليهم حتّى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم ، وقال في كلامه : يا بني أسد ، قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه ، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين ، وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه ، فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ، فو الله لئن نصرتموه ليعطينّكم الله شرف الدنيا والآخرة ، وقد خصصتكم بهذه المكرمة ، لأنّكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس منّي رحما. فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال : شكر الله سعيك يا أبا القاسم ، فو الله لجئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب ، أمّا أنا فأوّل من أجاب ، وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهدوا مع حبيب ، وانسلّ منهم رجل فأخبر ابن سعد ، فأرسل الأزرق في خمسمائة فارس فعارضهم ليلا ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم ، فلمّا علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل وتحمّلوا عن منازلهم. وعاد حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان. فقال: ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ) ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ([23]).

رأيت شابا ثالثا، جرى حديث بينه وبين صاحبي مثلما جرى مع سابقيه، فسألته عنه، فقال لي: هذا الحر بن يزيد الرياحي ([24])  ..

قاطعته بقولي: ولكن كيف نال هذه المرتبة الرفيعة.. وقد كان في بداية أمره مع ابن زياد.

قال: ليس الشأن في بداية أمره .. الشأن في نهايته.. أنسيت السحرة، وكيف انقلبوا في طرفة عن من عالم الأشقياء إلى عالم السعداء.

قلت: أجل.. وقد ختم لهم بالشهادة.

قال: وهكذا كان الرياحي، فقد عرف كيف يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

***

بعد أن تشرفت بالتعرف على ثلة طيبة من أصحاب الإمام الحسين ممن استشهد معه في كربلاء.. قدمت ثلة من النساء في قمة الجمال والوقار.. فسألته عنهن، فقال: هؤلاء الزينبيات اللاتي مثلن صورة من صور مواجهة الاستكبار.

قلت: ما تعني؟

قال: لقد شاء الله أن يكمل النساء دور الرجال.. فلذلك لم تكن لثورة الإمام الحسين لتفعل مفعولها، وتؤدي دورها في الحياة لولا هؤلاء الزينبيات.

قلت: أعرف السيدة زينب.. وأعرف مكانتها العظيمة في قلوب جميع المسلمين، وقد ترجم لها المؤرخ الكبير ابن الاثير بقوله : (زينب بنت علي بن أبي يطالب القريشية الهاشمية، وأمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدركت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولدت في حياته.. وكانت امرأة عاقلة لبيبة، جزلة، زوجها أبوها علي من عبد الله بن أخيه جعفر، فولدت له علياً وعوناً الأكبر وعباسا ومحمداً وأم كلثوم، وكانت مع أخيها الحسين لما قتل وحملت الى دمشق وحضرت عند يزيد بن معاوية، وكلامها ليزيد حين طلب الشامي أختها فاطمة بنت علي من يزيد مشهور مذكور في التواريخ، وهو يدل على عقل وقوة جنان)([25]

قال: ما ذكره هذا المؤرخ من عقلها وقوة جنانها هو الصفة الكبرى التي يشترك فيها هؤلاء الزينبيات جميعا، فلا يمكن لثورة أهل السلام أن تتم دون عقل وقوة.

قلت: ما صدر عنها في كربلاء وما بعدها من الأيام أكبر دليل على ذلك، فعندما شاهدت الإمام الحسين مقتولا مسلوب العمامة والرداء صاحت بابن سعد: (ويحك أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!)، فصرف وجهه عنها، فصاحت : ( ويحكم، أما فيكم مسلم؟)، فلم يجبها أحد.

وعندما مر ركب الأسارى على الحسين وأصحابه، فصاح النساء ولطمن خدودهن، صاحت زينب بكل قوة: (يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفى عليها الصبا، فأبكت كل عدو وصديق)([26]

وعندما دخبت الكوفة، خاطبت القوم قائلة: (يا أهل الكوفة ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف؟، خوارون في اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيعون للذمة، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون)

فجأة سمعت صوتا من بعيد، التفت إليه فإذا به رأس من الرؤوس المحيطة بيزيد، وقد أحاطت به النيران من كل جانب، فلم أسمع إلا صوته من غير أن أتبين ملامحه.. كان يقول: أنا ابن زياد.. أنا ذلك الذي ارتكب أبشع الجرائم في التاريخ بكل قسوة وبرودة، لكني لم أستطع تحمل تلك الكلمات التي واجهتني بها هذه المرأة التي تتحدثون عنها.. لقد ظلت كلماتها كالسم ينهش بدني إلى أن قضى على حياتي الدنيا.. وها هو يتبعني في هذه الكهوف المظلمة، ليذيقني أضعاف ما أذاقني في تلك الدار.

لقد قلت لها شامتا: (الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم)، فأجابتني بكل قوة: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله)، فقلت لها: ( كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟)، فقالت: (كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه، وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يابن مرجانة!!)

ما إن سكت ابن زياد، حتى سمعت صوتا آخر لا يقل عنه قبحا، التفت فإذا بيزيد يردد بكل ألم: لا تذكرني يا ابن زياد، فأنا أسمع في كل لحظة خطبتها التي واجهتني بها عندما كنت أسخر من رأس الحسين، وقد وضعته في طشت، ورحت أضرب ثناياه بمخصرة كانت في يدي، وأنا أردد:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

   جزع الخزرج من وقع الاسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً

   ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا

   خبر جاء ولا وحي نزل

قامت حينها زينب، وقالت: ( أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى أنَّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وإنَّ ذلك لعِظَمِ خَطَرِكَ عنده، فشمَخْتَ بأنفِكَ، ونظرت في عطفِك،جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متَّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.. أمِن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا.. فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردنَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمَّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وحسبك بالله حاكماً، وبمحمَّد صلى الله عليه وآله وسلم خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكَّنَك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيّكم شرٌ مكاناً، وأضعف جنداً. ولئن جرَّت علي الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى. ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تَنْطُفُ من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمّهات الفراعل ولئن اتّخذتنا مغنما، لتجدنَّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدَّمت يداك وما ربُّك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول)

ثم خاطبتني بذلك الشعار الذي راح الثوار يرددونه في كل حين: (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيَّامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)

لست أدري كيف شعرت بشجاعة عظيمة، وأنا أسمع حديث زينب ومن معها من الزينبيات.. وخاصة وأنا أمام يزيد ومن معه من زبانيته..


([1])  رواه البيهقي في الدلائل.

([2])  رواه الترمذي.

([3])  بل روي أن رسول الله a خرج في سفر من أسفاره، فلما مر بحرة زهرة وقف فاسترجع، فساء ذلك من معه، وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر:( يا رسول الله ما الذي رأيت !؟ ) فقال رسول الله a 🙁 أما إن ذلك ليس من سفركم هذا )، قالوا 🙁 فما هو يا رسول الله !؟ ) , قال 🙁 يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي )، قال ابن كثير : هذا مرسل، ولا يضره إرساله.

([4])  رواه مسلم.

([5])  حجر بن عدي   صحابي مترجم في سير أعلام النبلاء ( 2 / 463 ) والاصابة ( 1 / 329)،  وهو أحد الصحابة العباد.

([6])  الكامل لابن الاثير:3 / 487.

([7])  رواه مسلم.

([8])   رواه أحمد.

([9])  رواه الحاكم في المستدرك.

([10])  رواه الطبراني.

([11])رواه البيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير.

([12]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([13]) رواه ابن عساكر.

([14]) رواه الطبراني في الكبير.

([15]) رواه الترمذي وغيره.

([16])  رواه الطبراني.

([17]) رواه أحمد والنسائي وغيرهما بألفاظ مختلفة والحديث متواتر.

([18]) رواه مسلم.

([19])  اللهوف:79.

([20])  أسد الغابة : 1 / 123، الإصابة : 1 / 68.

([21])  جمهرة النسب : 1 / 241..

([22])  منتهى المقال في أحوال الرجال 2 / 328.

([23])  تسلية المجالس : 2 / 260 ـ 261.

([24])  أحد زعماء أهل الكوفة وساداتها، وكان شريفاً في قومه جاهليةً وإسلاماً، وقد أرسله عبيد الله بن زياد ليساير الإمام الحسين، ويراقب حركته، وقد ندم في اللحظات الأخيرة في يوم عاشوراء؛ فالتحق بركب الإمام الحسين، واستشهد معه بكربلاء سنة 61 هـ.

([25])  أسد الغابة في معرفة الصحابة: 5/469.

([26])  الكامل في التاريخ: 3/434.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *