نهاية الحكاية

ما وصل الشيخ إلى حديثه هذا حتى وصلنا إلى المطعم الذي حدثنا عنه السائق، وقد كان ممتلئا بأمثال الشيخ، يحضر لذلك المطعم ليطبق أمثال تلك السنن.
ومن العجيب أنهم كلهم ضخام الجثث، يذكرونك بما ورد في الأثر: (ن الله يبغض الحبر السمين) ([1]))
بعد أن دخلنا المطعم، ورأيت تلك الوحوش البشرية وهي تلتهم فرائسها بشره شديد، سدت علي نفسي، ولم أطق أن آكل قليلا أو كثيرا..
رآني السائق، فقال: ما بالك.. أبك لوثة من الصوفية أو الزهاد.. أولئك المجرمين الذين حرفوا الدين.
قلت: لا.. إنما هي علة أصابتني سدت علي نفسي.. فلم أطق أن آكل قليلا أو كثيرا.
قال السائق: عرفتها.. أنت مسحور بلا شك.. إن شئت أن أعرضك على بعض الرقاة من أصدقائي.. فسيخلصونك من جميع السحرة والعفاريت.
قلت: لا.. إنما هي حالة طارئة.. فلا تقلق علي.
قال السائق: لا بأس.. لكن لا تتردد إذا وصلت إلى بلدك أن تزور الرقاة ليخلصوك من السحرة والعفاريت.
بعد أن التهم صديقي مع السائق كل ما شاءت لهما نفسيهما من أنواع اللحوم، ركبنا الحافلة لنواصل الطريق.. لكنا ما إن سرنا قليلا حتى شعر صاحبي بألم شديد.. مما اضطر السائق إلى التوقف والنزول من الحافلة، وهناك امتدا على جانب الطريق، وهما بين الحياة والموت من شدة الألم.
انتظرت وقتا طويلا إلى أن مرت بنا في تلك الطريق الصعبة والنائية حافلة، فأوقفتها، وقد كانت المفاجأة أنها الحافلة الأولى التي حصل لنا مع سائقها ما حصل..
نزل السائق، ونزل معه بعض الركاب، وحملوا صاحبي..
عندما سارت بنا الحافلة رأيت عالما جميلا يختلف تماما عن العالم الذي كنت فيه.. لقد رأيت الإيمان والتقوى والمحبة تشع بين أساريرهم..
وقد صادف أن سمعنا في الوقت الذي ركبنا فيه قصائد جميلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طربت لها كثيرا.. وكان الكل يطرب لذلك، ويردد مع المنشدين..
وقد التفت إلى صاحبي ربيع، وهو يئن بصوت خافت، ويحاول أن يرفع صوته، لكنه لا يستطيع.. قربت أذني من فمه لأسمع ما يردد، فإذا به يقول: (شرك.. شرك.. شرك)
***
بعد أن أنهى حديثه، سألته عن حال السائق وربيع، فقال: لقد اضطررت مرة إلى الذهاب إلى الجنوب، وقد صادف أن ركبت من غير أن أقصد حافلته، وقد عجبت عجبا شديدا من الحال التي تحول إليها.. فقد حلق لحيته ووضع قلادة على رقبته.. وبمجرد أن ركبنا وضع موسيقى صاخبة آذت بعض الحضور، فطلب منه أن ينقص الصوت، فرفض، وقال: من يعجبه السماع يركب معنا، ومن لم يعجبه فالحافلات كثيرة.
تعجبت من حاله، واقتربت منه، وقلت: ألست أنت الذي ركبت معك مرة، وأصابك ما أصابك من اللحوم المسمومة؟
حدق النظر في، وقال: أهلا وسهلا.. كيف حالك؟ أجل ذاك هو أنا.
قلت: ألا ترى أنك تغيرت كثيرا؟
قال: بلى.. لقد رأيت من الأسلم لي عند ربي.. وحتى أضمن الجنة أن أعيش مع المنحرفين الفاسقين.. فذاك أرحم لي.. لأني رأيت أن كل أصحاب اللحوم المسمومة يكفر بعضهم بعضا، بينما المنحرفون والفاسقون لا يجرؤ أحد على تكفيرهم.. وقد دعاني ذلك إلى اختيار هذا السبيل.. فلأن أموت فاسقا خير من أن أموت كافرا.. نعم قد أعذب قليلا في الآخرة.. ولكني إن اتبعت أصحاب اللحوم المسمومة فسأعذب لا محالة أبد الأبد.
قلت: وما حال صديقك ربيع؟
قال: لقد التحق مع كثير من رفاقه بتنظيم الدولة الإسلامية، وبمجرد
انضمامه إليهم، اختلفوا في بعض اللحوم المسمومة، فقام بتفجير نفسه فيهم.. فمات
وماتوا جميعا.
([1]) واه ابن أبي حاتم في التفسير (4/1342)