مصطفى محمود.. والباطنية

مصطفى محمود.. والباطنية

لم يجد السائق إلا أن يأخذ شريطا آخر، ثم يتوجه به إلى المسافرين، ويقول: لا بأس.. أظن أن لصاحبكم مواقف سلبية من الصوفية.. ولهذا لن نحرجه بأن يسمع ما لا يرضيه.. لدي بحمد الله في هذه الحقيبة الكثير من الأشرطة لعلماء مختلفين.. وهذا أحدها.. أنا أحبه كثيرا.. إنه شريط وثائقي بتعليق علم من أعلام عصرنا الكبار.. جمع في شخصه بين العلم والأدب والإيمان.. واستطاع أن يؤثر في أجيال كثيرة، وأن يعرض الإسلام بصورة نقية جميلة.. إنه مصطفى محمود..

انتفض ربيع بقوة، وقال: ويلك.. ما الذي تقول.. متى أصبح الرُّوَيْبِضَة([1]) التافة الحقير من لا يؤبه له الفُوَيْسِقُ عالما يستمع له الناس؟

أين أنت يا شيخنا الألباني لتسمع ما يقول هذا النكرة عن مصطفى محمود؟.. صدق رسول الله t حين قال: (قبل الساعة سنون خداعة، يصدق فيهن الكاذب، ويكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيهن الرويبضة)([2])

وصدقت يا شيخنا ناصر الدين حين قلت: (وما أكثر هؤلاء (الصغار) الذين يتكلمون في أمر المسلمين بجهل بالغ، الأمر الذي أكّد لي أننا في زمان تجلَّت فيه بعض أشراط الساعة)

قال السائق: ما تقول يا رجل؟.. مصطفى محمود ليس كما ذكرت.. إنه باحث كبير.. وكتبه كلها تدل على ذلك.. وما دمت قد اعتبرت محمد بن علوي المالكي خرافيا، فقد أتيتك بهذا، لأنه طبيب وباحث في مجالات مختلفة حتى أنه كتب في نظرية النسبية وحاول تبسيطها للعامة، ويندر أن يوجد علم من العلوم إلا وتحدث فيه حديث عالم مهتم.

ضحك ربيع بقوة، وقال: لقد اطلعت على كتبه، فلم أره يخرج حديثا واحدا.. ولم أره ينقل نصا واحدا عن السلف.. إنه مغرم فقط بالكلام.. كل كتبه كلام في كلام.

قال السائق: لقد نجح في عرض الإسلام بطريقة مهذبة مسالمة حضارية.. وهذا ما جعل الكثير ينجذب إليه.

لقد انتقد الإسلام السياسي، فكتب يقول في كتابه (الإسلام السياسى والمعركة القادمة) يرد على من جعلوا من الإسلام وسيلة لطلب المناصب والكراسي: (الاسلام السياسي وعي واستنارة ودعوة بالحسنى إلى كلمة سواء، وهو ليس مؤمرات وانقلابات وسباقات على الكراسي، انه دعوة للحرية وللعدالة وللتقدم فى جميع الميادين تحت راية التوحيد والتقوى.. الاسلام السياسي هو صناعة رأي عام مستنير، يجمع الأمة ولا يفرقها.. يجمع الحلبي والشامي والمغربي والنصراني والمسلم والعلماني..

قاطعه ربيع بقوة، وقال: وأين الولاء والبراء.. إذا اجتمع المسلم مع النصراني مع العلماني انهد الإسلام.. إن الذي يقول هذا لا يعرف الإسلام.

قال السائق: كيف تقول هذا عن مصطفى محمود.. إن حديثه عن الإسلام حديث عارف ذائق مؤمن.. لقد كتب كتابا بعنوان (الإسلام.. ماهو..؟) أبان فيه عن فهمه العميق للدين.. اسمع ما يقول في تعريفه للدين.. لقد قال: (الدين ليس حرفة ولا يصلح لأن يكون حرفة.. ولا توجد في الإسلام وظيفة اسمها رجل دين.. ومجموعة الشعائر والمناسك التي يؤديها المسلم يمكن أن تؤدى في روتينية مكررة فاترة خالية من الشعور، فلا تكون من الدين في شيء.. وليس عندنا زي اسمه زي إسلامي.. والجلباب والسروال والشمروخ واللحية أعراف وعادات يشترك فيها المسلم والبوذي والمجوسي والدرزي.. ومطربو الديسكو والهيبي لحاهم أطول.. وأن يكون اسمك محمدا أو عليا أو عثمان، لا يكفي لتكون مسلما.. وديانتك على البطاقة هي الأخرى مجرد كلمة.. والسبحة والتمتمة والحمحمة، وسمت الدراويش وتهليلة المشايخ أحيانا يباشرها الممثلون بإجادة أكثر من أصحابها.. والرايات واللافتات والمجامر والمباخر والجماعات الدينية أحيانا يختفي وراءها التآمر والمكر السياسي والفتن والثورات التي لا تمت إلى الدين بسبب..)([3])

قهقه ربيع بصوت عال، وقال: إذا أخرجت اللحية والقميص والاسم وكل ما ذكرت من الدين.. فما الذي بقي منه؟.. وكيف نفرق بين صعلوك شيوعي وتقي مسلم؟.. أم ننتظر حتى يأتي وقت الصلاة لنفرق بينهما.

قال السائق: لقد أجاب مصطفى محمود على ذلك، فقال: (الدين حالة قلبية.. شعور.. إحساس باطني بالغيب.. وإدراك مبهم، لكن مع إبهامه شديد الوضوح بأن هناك قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبر كل شيء.. إحساس تام قاهر بأن هناك ذاتا عليا.. وأن المملكة لها ملك.. وأنه لا مهرب لظالم ولا إفلات لمجرم.. وأنك حر مسئول لم تولد عبثا ولا تحيا سدى وأن موتك ليس نهايتك.. وإنما سيعبر بك إلى حيث لا تعلم.. إلى غيب من حيث جئت من غيب.. والوجود مستمر.. وهذا الإحساس يورث الرهبة والتقوى والورع، ويدفع إلى مراجعة النفس ويحفز صاحبه لأن يبدع من حياته شيئا ذا قيمة ويصوغ من نفسه وجودا أرقى وأرقى كل لحظة متحسبا لليوم الذي يلاقي فيه ذلك الملك العظيم.. مالك الملك.. هذه الأزمة الوجودية المتجددة والمعاناة الخلاقة المبدعة والشعور المتصل بالحضور أبدا منذ قبل الميلاد إلى ما بعد الموت.. والإحساس بالمسئولية والشعور بالحكمة والجمال والنظام والجدية في كل شيء.. هو حقيقة الدين.. إنما تأتي العبادات والطاعات بعد ذلك شواهد على هذه الحالة القلبية.. لكن الحالة القلبية هي الأصل.. وهي عين الدين وكنهه وجوهره)([4])

قاطعه ربيع بقوة، وقال: هذا دين الباطنية لا دين الإسلام.. لقد حذرنا مشايخنا من كلماته الخطيرة تلك، لقد قال في كتابه الذي تجاسر فيه على تعريف الدين: (إن العمدة في مسألة الدين والتدين هي الحالة القلبية.. ماذا يشغل القلب.. وماذا يجول بالخاطر؟.. وما الحب الغالب على المشاعر؟.. ولأي شيء الأفضلية القصوى؟.. وماذا يختار القلب في اللحظة الحاسمة؟.. وإلى أي كفة يميل الهوى؟.. تلك هي المؤشرات التي سوف تدل على الدين من عدمه.. وهي أكثر دلالة من الصلاة الشكلية) ([5])

قال السائق: ما أجمل هذه الكلمات..

قاطعه ربيع: بل ما أقبحها.. هذا دين الباطنة والملاحدة والزنادقة لا دين المسلمين.

قال السائق: كيف تقول ذلك، والرجل يدعو إلى الحرص على ظاهر الإسلام كما يدعو إلى الحرص على باطنه.. هو فقط يدعو إلى الاهتمام بالباطن لأن الصلاة التي لا يصحبها الخشوع وذكر الله وتعظيمه لا تفيد صاحبها شيئا.. لقد قال في كتابه ذلك: (إنما تكتسب الصلاة أهميتها القصوى في قدرتها على تصفية القلب وجمع الهمة وتحشيد الفكر وتركيز المشاعر.. وكثرة الصلاة تفتح هذه العين الداخلية وتوسع هذا النهر الباطني، وهي الجمعية الوجودية مع الله التي تعبر عن الدين بأكثر مما يعبر أي فعل.. وهي رسم الإسلام الذي يرسمه الجسم على الأرض، سجودا، وركوعا وخشوعا وابتهالا، وفناء.. وبسجود القلب يتجسد المعنى الباطني العميق للدين، وتنعقد الصلة بأوثق ما تكون بين العبد والرب..) ([6])

قال ربيع: إن كل كلماته تفوح منها روائح الباطنية.. ولأنك مجرد سائق بسيط، لا حظ لك في العلم، ولا جلوس لك مع العلماء تنطلي عليك أمثال هذه العبارات.. القوم لا يريدون من الصلاة ما نعرفه من الصلاة.. إنهم يقصدون بها جلسات التأمل الشيطانية.. ولهذا هم لا يؤمنون بشعائر الدين التي نص عليها الفقهاء.. بل هم يسخرون منها.

قال السائق: كيف تقول ذلك.. لقد كان يذكر الرجل حركات الصلاة الظاهرة التي نص عليها الفقهاء، ويبين المعاني العميقة التي تختزنها، فقد قال في نفس ذلك الكتاب، وهو ينتقد التصور الخاطئ لغير المسلمين عن صلاة المسلمين: (وخطأ الأوروبي أنه يظن أن الصلاة الإسلامية هي مجرد حركات وأنها على الأكثر مجرد اغتسال ورياضة بدنية، ولهذا يقف عند ظاهر الامر لا يتخطاه.. وينسى أن الحركات في الصلاة مجرد رمز فهي وقوف إكبار لله مع كلمة (الله أكبر)، ثم ركوع، ثم فناء بالسجدة وملامسة الأرض خشوعا وخضوعا، وبذلك تتم حالة الخلع والتجرد والسكتة الكاملة النفسية.. ولا يبقى إلا استشعار العظمة لله تسبيحا.. سبحان ربي الاعلى وبحمده.. فالصلاة هي المعراج الأصغر وهي نصيب المسلم من المعراج الأكبر الذي عرج فيه محمد – عليه الصلاة والسلام – إلى ربه.. وهي ليست مجرد حركات.. بل هي أسرار ورحمات.. وأشرفها وأرفعها صلاة الفجر التي تشهدها الملائكة.. وصلاة قيام الليل.. التي نال صاحبها بها المقام المحمود) ([7])

التفت السائق إلى ربيع، وقال: هل ترى في هذه الكلمات أي باطنية أو إلحاد أو إنكار لشعائر الدين وشرائعه؟

إن نفس هذا المعنى ذكره عند حديثه عن الصيام، فهو يرى أن (الصيام الرفيع.. ليس تبطلا.. ولا نوما بطول النهار، وسهرا أمام التليفزيون بطول الليل.. وليس قياما متكاسلا في الصباح إلى العمل.. وليس نرفزة وضيق صدر وتوترا مع الناس.. فالله في غنى عن مثل هذا الصيام، وهو يرده على صاحبه ولا يقبله، فلا ينال منه إلا الجوع والعطش.. وإنما الصيام هو ركوب لدابة الجسد لتكدح إلى الله بالعمل الصالح والقول الحسن والعباد ة الحقة..) ([8])

هل ترى ما يقوله هنا أيضا صوما باطنيا؟

لم يجد ربيع إلا أن انتفض غاضبا، وهو يقول: دعك من هذا.. فالرجل عندنا كافر زنديق ضال مضل.. كل كتبه وكلماته تدل على ذلك.. ألا تراه يثني على ابن عربي والعزمي في كتابه (السر الأعظم)، بل ويعتبرهم عارفين بالله.. إن كل من أثنى على هؤلاء زنديق عندنا.. بل إن كل من يطلقون عليه لقب (العارف) هو عندنا جاهل ملحد زنديق..


([1])     الرُّوَيْبِضَةُ : تصغير الرابضة، وهو راعي الربيض، والربيض : الغنم، وقيل : الرُّوَيبضة تصغير الرَّابِضة، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور، وقعَد عن طَلَبها، وزيادة التَّاء للمبالغَة. وقيل التَّافه : الخَسِيس الحَقِير. كما في النهاية في غريب الحديث والأثر (2/460)

([2])     رواه الحاكم في المستدرك (4/465)، وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، ووافقه الذهبيّ.

([3])     مصطفى محمود، الإسلام ما هو؟، ص3.

([4])     المرجع السابق، ص4.

([5])     المرجع السابق، ص6.

([6])     المرجع السابق، ص7.

([7])     المرجع السابق، ص13.

([8])     المرجع السابق، ص19.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *