مشروع اقتصادي

مشروع اقتصادي

دعيت في ذلك العام إلى بلدة عريقة جميلة من بلاد الإسلام، وذلك لحضور مؤتمر علمي حول (التنمية الاقتصادية ومشاريعها)

كان المؤتمر ممتلئا بالباحثين في جميع التخصصات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وكان أيضا ملما بشمل جميع التوجهات الفكرية: اليمينية واليسارية.. والمعتدلة والمتطرفة.. وكان الكل يحاول أن ينتصر لمشروعه، ويأتي بجميع البراهين الفلسفية والمنطقية والواقعية، بل حتى الرياضية الدالة على سلامة مشروعه ونجاعته.

كان الصراع صراع مذاهب وأفكار.. وكان الكل يحاول أن يجذب الكل لتياره.

وكان لكل جهة إعلامها الخاص، ودعاتها الذين يحاولون بشتى الوسائل أن يستقطبوا الحضور لسماع مشاريعهم.

كان الجو بالنسبة لي جميلا جدا، فما أجمل أن يلتقي المختلفون في ظل المودة والسلام والحوار.. وما أجمل أن تستبدل أصوات الرصاص والمتفجرات بأصوات الحروف والكلمات.

لكن شيئا ما أحزنني إلى درجة أني تمنيت لو حضرت الأديان والمذاهب والتيارات الفكرية جميعا ولم يحضر إلا الإسلام.. لا لأن الإسلام ليس له مشروع اقتصادي، وإنما لكون الذي جاء يشرح للناس المشروع الاقتصادي الإسلامي كان من البلاهة والغفلة والحمق ما جعل الجميع يضحكون ساخرين من الإسلام، ومن كل ممثل للإسلام.

حاولت حينها أن أصيح في الناس: إن هذا كذب، وإن هذا الرجل دجال.. ولكن لم يسمعني أحد.. لأن شهرته الواسعة ولحيته الطويلة، وقامته الفارعة، وقده الممشوق، وتلاميذه الكثيرين الأجلاف الغلاظ حالوا بين صوتي وبين أن يستمع له أحد من الناس.. ولذلك راحت كلماتي مع الريح..

لن أكون مغرورا ولا متعصبا، فقد أكون أنا المخطئ في تلك الصيحة، ولهذا سأنقل لكم الحوار بدقة وشفافية عسى صياحكم لا يبقى حبيس صدروكم، مثلما بقي مسجونا في صدري:

في ظل تلك الأجواء الممتلئة بالحماسة.. سمعنا رجلا يصيح في الحضور، ولست أدري من أي قبيلة أتى، ولا من أي زمن.. ولكن مظهره وكلماته كانت تدل على أنه من زمن غير زماننا، وربما من أرض غير أرضنا.

كان يصيح بصوت جهوري: أيها الناس.. هلموا لتسمعوا المشروع الاقتصادي الذي ينسخ جميع مشاريعكم.. إنه مشروع سماوي.. وليس مشروعا أرضيا.. إنه هدية الله للبشرية.. إنه المشروع الذي يخلصنا من كل فاقة وفقر.. بل إنه يقتل الفقر قتلا.

اشرHfj أبت جميع الأعناق إلى مصدر الصوت، ولم تدر إلا وهي تسير خلفه متخلية عن تلك الحماسة التي كانت تنتابها، وهي تعرض مشاريعها، فأنى لمشاريع الأرض أن تقف مع مشروع السماء.

سرنا فترة من الزمن إلى أن وصلنا إلى خيمة تتربع في ساحة واسعة.. كانت الخيمة بهية المنظر وكأن نسيجها من حرير خالص، وكان داخلها رجل يجلس على كرسي مرتفع، وقد أحاط به جمع من الناس، وكأن على رؤوسهم الطير.

لا أستطع– طبعا، بسبب الحرص على سلامتي – أن أذكر لكم اسمه.. فإني أخاف أن يحين حيني قبل أوانه إن فعلت ذلك..

المهم أني انتحيت ناحية.. ورحت أسمع الحوار الذي جرى بين تلك القيادات الفكرية.

كان أول سؤال للشيخ: ما هو مشروع الاقتصادي الذي يمكنه أن يقوم بكل تلك الأدوار الخطيرة؟

سكت الشيخ هنيهة، وكأن الوحي يتنزل عليه، ثم قال: إنه مختصر في كلمة واحدة..

قالوا جميعا بصوت واحد: ما هي؟

صوب نظره إليهم كما تصوب السهام، ثم قال: الجهاد..

بهت الجميع، ورددوا بصوت واحد: الجهاد !؟ ما تعني؟

حملق فيهم بقوة، وقال: نعم.. الجهاد.. إنه الحل الرباني الذي يقضي على الفقر والتخلف..

قال أحد الحضور: نعم.. فهمت.. أحسنت.. ذلك هو الحل.. لابد من الجهاد الأكبر الذي يعني الاجتهاد في العمل والكسب والسعي في طلب الرزق.. أحسنت..ما تقوله صحيح.

قاطع الشيخ المتدخل بقوة، وقال: اسكت أيها الأحمق.. أنت تريد أن تحرف معاني المصطلحات الشرعية.. الجهاد هو الجهاد.. وليس الجهاد إلا الجهاد.. ولم يكن الجهاد في يوم من الأيام إلا الجهاد.

قال الرجل، وقد غضب هو الآخر: سمعنا الكلمة.. ولكنا لم نفهم بعد ما تريد منها.

قال الشيخ: أريد أولا أن تغرس هذه الكلمة في أذهانكم.. فقد نساها الناس للأسف.. ولذلك مرغوا في مستنقعات الذل والهوان.. ولو أنهم التزموا الجهاد لتخلصوا من كل فاقة، ولحصلوا كل حاجة، ولعاشوا سعداء في أرغد عيش وأطيبه.

قال الرجل: فما تعني بالجهاد؟

قال الشيخ: الغزو…. الجهاد هو الغزو.. وليس الجهاد إلا الغزو.. ولم يكن الجهاد في يوم من الأيام إلا الغزو.

قال الرجل: فهمت.. أنت تريد أن نجاهد التصحر الذي يغزو سهولنا، والجفاف الذي يغزو أنهارنا.. والبطالة التي تغزو شبابنا.. والفساد الذي يغزو مؤسساتنا.. أحسنت فكرة طيبة.

قال الشيخ بغضب: أيها الأبله.. ألا تفهم..  الجهاد هو أن نحمل السيوف.. ونسير في الأرض؟

قال الرجل: فهمت.. فهمت.. تقصد أن نقوم بإنتاج أفلام سينمائية تاريخية.. إنها فكرة جيدة.. الناس يحبون الأفلام التي يسمعون فيها صلصلة السيوف وقعصِ الرماح.. آه ما أدهاك يا شيخ لم أكن أتصور أبدا أنك تحب السينما.. أنت رائع حقا.. لقد أصبحت السينما في الوقت الحالي تدر على أصحابها الأموال الضخمة.

غضب الشيخ غضبا شديدا، وقال: أي سينما تقصد أيها الأبله؟.. السينما حرام.. والتمثيل حرام.. والممثلون حرامية.

قال الرجل: فهمت.. حقا.. صدقت.. كثير من الأفلام تحث على الرذيلة ولذلك هي حرام.. أنت تريد أن تضع البديل لذلك بسينما نقية..أحسنت فكرة طيبة ورائدة.. ولها مدخول اقتصادي مهم.

وقف الشيخ من شدة الغضب، وقال – وهو يلوح بعصا في يده -: كل السينما حرام.. وكل تمثيل حرام.. وكل شيء حرام.. لقد صدعت رأسي بخفة عقلك.. دعني أشرح مشروعي ولا تقاطعني وإلا أفتيت فتوى في حقك: أعتبرك فيها مرتدا.. وأستبيح فيها دمك ومالك.. بل أحز بيدي هذه رقبتك.

وضع الرجل يده على رقبته، وأصابته رجفة شديدة، ولم أسمعه بعدها ينبس ببنت كلمة، ولا بابنها.

جلس الشيخ، وأخذ نفسا عميقا، ثم قال: الجهاد هو المشروع الرباني الذي يخلصنا من كل فاقة وفقر.

اسمعو جيدي شرحي الفريد لسر ذلك، وهو شرح لم يسبقني إليه أحد.. لن أشرح لكم بالفصحى.. فالكثير منكم على ما يبدو أميون لا يعرفون اللغة العربية البليغة.

ولهذا سأتكلم معهم بلهجتنا المحلية البسيطة.. ولا يقاطعني أحد منكم حتى لا ينقطع تسلسل أفكاري..

(مش لو كنا كل سنه عمالين نغزو مرة أو مرتين أو تلاته.. مش كان حايسلم ناس كتير فى الأرض.. وكل واحد كان حايرجع جايب معاه تلت أربع أشحطه وتلت أربع نسوان وتلت أربع ولاد)

ثم نظر إلى رجل حوله، وطلب مه آلة حاسبة، ثم قال: (اضرب كل راس فى 600 درهم مثلاً ولا دينار يطلع بماليه كويسه،  وكل ما الواحد يتعذر ياخد راس يبيعها و يفك أزمته ويبقى له الغلبه)

رأيت رجلا صاحب لحية طويلة وعضلات مفتولة، وقد سال لعابه يسأل الشيخ: هل حقا يمكن هذا ؟ هل يمكنني حقا إن غزوت فرنسا أن تصبح لدي جوار فرنسيات؟

ابتسم الشيخ، وقال: ليس بالضرورة أن تغزو أنت، فبمجرد أن يفتح باب الجهاد ستقام أسواق النخاسة.. وحينها يمكنك أن تشتري عشرات الفرنسيات والألمانيات والكرواتيات.. وتختار من تشاء منهن كمحظيات.. وترسل الأخريات لاستصلاح الأراضي في الفلوات.. وبذلك تفك أزمتك وأزمة التصحر والتبخر.

سال لعاب آخر، وقال: من دون عقد ولا عدد محدد.

قال الشيخ: أجل.. كان لبعض سلفنا الصالح سبعمائة جارية.. وكان إن غضب على واحدة منهن دعا عليها، فلا تمسي ذلك المساء إلا في قبرها.. بل في جهنم وبئس المصير.

سال لعاب آخر، وقال: أنا لا رغبة لي في النساء.. أنا أحب أن أجد رجالا أقوياء، لأن لدي بعض البناء.. ولا يقوم به إلا الأشداء.

قال الشيخ: يمكنك أن تشتري الأقوياء.. فسوق النخاسة الذي نحرص على إحيائه يضم جميع أنواع الرقيق من الرجال والنساء.

بمجرد أن قال هذا صاح الملتفون بالشيخ: هلم نبايعك يا شيخنا على الجهاد..

أما غيرهم من الحضور، فقد كانوا في نشوة عظيمة، وكأنهم يتفرجون على ساحر أو مهرج أو فلم كوميدي، وكانوا وهم في طريق عودتهم إلى مقر المؤتمر يقولون مستغربين: عجبا.. هل هذا هو الإسلام؟.. هلم نتفق جميعا على التحذير منه قبل أن نصبح عبيدا، وقبل أن يصبح نساءؤنا جواري عند هؤلاء الأجلاف الغلاظ أكلة لحوم البشر.

أردت حينها أن أصيح في الحاضرين بأن هذا الشيخ دجال وشيطان، ولا ينبغي للدجال ولا للشيطان أن يتحدث عن الإسلام.. لكن يدا قوية كأنها سمعت حديث نفسي، صفعتني صفعة قوية كادت تودي بروحي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *