محكمة في الغابة

بعد أن انتهت الاستراحة، وركب الركاب الحافلة، وقد نقص منهم نفر كما في المرات السابقة.. أخرج السائق شريطا جديدا، ثم قال: بعد أن نلتم حظكم من الراحة اسمحوا لنا أن نضع شريطا آخر.. يببن لكم مدى حرصنا على السنة والسلف.. ومدى بغضنا وحقدنا لا على المبتدعة فقط، بل على كل من يقف منهم موقفا إيجابيا مهما كانت بساطته.. فقد علمنا سلفنا الصالح ألا نتسامح مع أهل البدع مهما كان.. ولهذا فإن فيما ستشاهدونه في الفيديو بعض المشاهد القاسية، فلا ينبغي أن تأخذكم رأفة ورحمة في المبتدعة حتى لا تلتحقوا بهم.. فمن رحم مبتدعا حشر معه.
قال ذلك، ثم أدخل الشريط.. ليبدو مشهد لغابة اجتمع فيها جمع كبير من الناس، وكان أمامهم مجموعة من الأقفاص وضع في كل قفص بعض الشيوخ والشباب، وقد ألبسوا ثيابا أرجوانية من مثل تلك الثياب التي تقام على من يحكم عليهم بالإعدام.
ويقابل تلك الأقفاص كرسي قد جلس عليه شيخ كبير ذو لحية طويلة، وأمامه طاولة صغيرة، أمامها مطرقة.
بدأ الشيخ الحديث بقوله ([1]): معشر الحضور الكرام.. لقد عقدنا بفضل الله وعونه هذه الجلسة في هذه الدولة المباركة، لإقامة حكم الله في أهل التمييع.. المرجئة الجدد.. الذين يأتون إلـى أصول الإسلام يميعونها، ويرققونها، ويهونون من شأنها، بل يحاربونها.. ويسمون منهج الســــــــــــــــلف، ووقُـــوف أهله في وجه أهــــــــــل البــــــــدع، والذب عن السنة.. يسمونه شدة وتشددا وغلوا.. كذبـــــــــوا.. وأفــكوا.. والله الذي لا إله إلا هو لايوجد شدة الآن في السلفيين المساكين.. ومهما تشدد السلفيون في مواجهة الباطل والبدع لا يبلغون عُشر معشار ما كان عليه السلف من الشدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم.. ويطاردونهم.. ويهجرونهم.. ويضربونهم.. ويذلونهم.. نحن السلفيين المعاصرين ما عندنا شيء.. مساكين..
ولكن بحمد الله، وبعد أن أتاح الله لنا هذه الدولة الكريمة التي أعادت إحياء شريعة الله وفق منهج السلف، فسنعود إلى ما كان عليه سلفنا الأول.. لن تأخذنا في المبتدعة، ولا فيمن يواليهم رأفة ولا رحمة.. وسنطبق عليهم أشد العقوبات.
ولكنا مع ذلك.. ورعاية للعدل الذي جاء به القرآن، وطبقه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. وطبقه سلفنا الصالح من الخلفاء والأمراء والملوك سنقيم محاكمة عادلة لهؤلاء المميعين.
ومن ترون أمامكم في الأقفاص هم المتهمون، وقد فرقناهم بحسب المشايخ الذين ينتمون إليهم، ويدعون لهم، فبعضهم ينتمي لابن باز.. وبعضهم لربيع المدخلي.. وبعضهم لابن عثيمين.. وبعضهم للألباني..
وسنبدأ بمحكامة أتباع ابن باز من المميعين لمنهج السلف([2]).. فابن باز – كما تعلمون – من السلفيين ولكن مشكلته أنه – بحكم المناصب الكثيرة التي تقلدها – صار من المميعين المرجئين.. ولهذا وقع في توقير بعض المبتدعة وخصوصا الأشاعرة الذين ينفون علو الباري ويحرفون الصفات.. ويتخبطون في باب القدر سالكين فيها لمسالك الجبرية.. ويناصرون أقوال القبورية في شد الرحال والتبرك ونحو هذا من مسائل عقدية!.. وذلك مع إلتزامه أيضا لرد إجماع أهل العلم في تكفير الأشعرية..
وسأبدأ الجلسة بدعوة المدعي للتقدم ليذكر تهمه وأدلته عليها.
قام رجل من الحاضرين هو أشبه الناس بأبي بكر البغدادي، وراح يقول: لقد أحضرت – سيدي القاضي – كل الوثائق المثبتة لما أدعيه.. ولذلك لن أبدأ دعواي إلا بعد سوق البينة.. هكذا تقتضي العدالة.
قلب بعض الملفات، ثم قال: لقد سئل ابن باز -كما في فتوى منشورة في موقعه-: هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أم لا؟ وهل نحكم عليهم من المذهب أنهم كفار؟ فأجاب: (الأشاعرة من أهل السنة في غالب الأمور، ولكنهم ليسوا منهم في تأويل الصفات، وليسوا بكفار، بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار.. ولكنهم غلطوا في تأويل بعض الصفات.. فهم خالفوا أهل السنة في مسائل منها تأويل غالب الصفات، وقد أخطأوا في تأويلها، والذي عليه أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت)
قال القاضي: فما الذي تنكره عليهم في هذا القول؟
قال المدعي: هذا الكلام مخالف لطريقة أهل الحديث في التعامل مع المبتدعة، ومخالف لقولهم في الأشعرية، فإن أهل السنة مجمعون على تكفيرهم، بل ومجمعون على تكفير من لم يكفرهم، كما قال أبو عبدالله ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى): (اعلموا رحمكم الله أن صنفا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم، وخبث آرائهم، وقبيح أهوائهم، أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها، تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه، وضعفت نحيزته، فقالوا: (إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله، فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة).. فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله ومنه وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا، وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم)([3])
وقال أبو القاسم اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة): سياق ما دل من الآيات من كتاب الله تعالى، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن يتحدى به، وأن يدعو الناس إليه، وأنه القرآن على الحقيقة. متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن، وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول ومربوب، بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلما، ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذاهب السنة والجماعة)([4])
وقد حكى حرب الكرماني وأبو عبدالله ابن بطة وغيرهما الإجماع على تكفير اللفظية، بل وتكفير من لم يكفرهم.
وقد قال أبو عبد الله ابن منده: (ليتق امرؤ، وليعتبر عن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته؛ كيف خرج من الدنيا مهجورا مذموما مطرودا من المجالس والبلدان لاعتقاده القبيح؟! وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل: الكرابيسي، والشواط، وابن كلاب، وابن الأشعري، وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل)
وقال الهروي الأنصاري في كتابه (ذم الكلام): (رأيت يحيى بن عمار ما لا أحصي من مرة على منبره يكفرهم ويلعنهم، ويشهد على أبي الحسن الأشعري بالزندقة، وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا)
وقال ابن الحنبلي في رسالته: (الجهمية -لعنهم الله- أصناف مختلفة فمنهم من يقول القرآن ليس هو كلام الله ولا هو مخلوق.. ومنهم من يقول: إنه حكاية عن ذلك القرآن.. ومنهم من يقول ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.. ومنهم من يقول القرآن بألفاظنا مخلوق.. ومنهم من يقول لا يكفر هؤلاء بل يسكت عنهم.. فهؤلاء الأصناف كلها هم الجهمية وهم كفار زنادقة حلال القتل.. ومن لم يكفر هؤلاء الأصناف كلها فهو كافر زنديق حلال القتل)
وبناء على هذا، فقول ابن باز عن الأشاعرة أنهم (ليسوا بكفار، بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار) غلط عظيم! وتوقير لأعداء الدين، وقد قال محمد بن عبد الوهاب في (مفيد المستفيد): (قال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: (اعلم يا أخي، أن ما حملني على الكتاب إليك، إلا ما ذكر أهل بلدك، من صالح ما أعطاك الله، من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين.. فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك، من الصلاة والصيام، والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال، من إقامة كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب، فإنه جاء في الأثر: (من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه)، و(من مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام)، وجاء: (ما من إله يعبد من دون الله، أبغض إلى الله، من صاحب هوى)، وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا، ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا وصوما وصلاة، ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى بعده)
آه ليت شيخنا محمد بن عبد الوهاب كان حاضرا ليرى المياعة التي تحول إليها من يزعمون أنهم أتباعه..
قام المحامي، وقال: ائذن لي – حضرة القاضي – أن أجيبه.
أذن له القاضي، فقام، وقال: أظن أن المدعي لم يطلع على كل ما كتبه الشيخ عبدالعزيز بن باز.. وقد اقتصر على كلمات قالها في محفل من المحافل من باب المجاملة، لا من باب الحقيقة، وإلا فإن الشيخ ابن باز من أكثر الناس تشددا مع المبتدعة جميعا، بما فيهم الأشاعرة، وقد قال في فتوى صوتية له: (الأشاعرة من أهل البدع، عندهم بدع كثيرة فليسوا من أهل السنة، لكنهم وافقوا أهل السنة في بعض الأشياء)
قام المدعي غاضبا، وهو يقول: ألا ترى – حضرة القاضي- مدى الاضطراب الذي تعاني منه هذه الطائفة المارقة الظاهرة في ضلالها.. وهو دليل على عدم رسوخها في مذهب السلف.. وقد سئل عبد الوهاب الوراق عمن لا يكفر الجهمية؟ فقال: (لا يصلي خلفه هذا ضال مضل متهم على الإسلام)، والأشاعرة المتأخرون ليسوا جهمية فقط، بل هم من أشد الجهمية كفرا، فإن نفاة العلو هم الغلاة في التجهم، كما قال الحسن بن موسى الأشيب: (الجهمي إذا غلا، قال ليس ثم شيء)، وأشار الأشيب إلى السماء.
وقال ابن خزيمة: (من لم يقل إن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي في مزبلة)
التفت إلى الحضور، وقال: قارنوا – معاشر السلفيين المحترمين – بين أقوال أهل العلم في منكري العلو، وبين صنيع ابن باز لما علق على قول ابن حجر في فتحه: (فيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته).. فقال: (ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب على عرشه بذاته)
وكذلك لما وقف على قول ابن حجر (لا يتوجه عليه –سبحانه- في وجوده أين وحيث) فقد علق قائلا: (الصواب عند أهل السنة وصف لله بأنه في جهة العلو)
وكذلك لما وقف على قول ابن حجر (لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب) قال: ليس الأمر كذلك بل إطلاق الصوت على كلام الله سبحانه قد ثبت.
والحق أن من لم يثبت الصوت للباري فهو جهمي، كما قال بعضهم أمام الإمام أحمد: (من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام)، فتبسم أبو عبد الله، وقال: (ما أحسن ما قال! عافاه الله)
ونقل عبد الله عن والده الإمام أحمد قوله عن الصوت: (الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم، فهو كافر; إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت)
قلب بعض الملفات، ثم أخذ واحدا منها، وقال: ليس هذا فقط ما قام به ابن باز من تمييع المذهب السلفي.. تصوروا الطامة التي وقع فيها..
نظر إلى الملف، ثم قال: انظروا ماذا قال هو ومن معه من أعضاء ما تسمي نفسها (هيئة كبار العلماء)، لقد قال: (موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله تعالى سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك، وبالله التوفيق)
انظروا – عافاكم الله من البلاء- إلى قولهم عن نفاة العلو للعلي القهار (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة)!! واستحضروا جيدا قول ابن سحمان في كشف الشبهتين: (فهذا التلطف والشفقة والرحمة لا يجوز أن يعامل بها من ينكر علو الله على خلقه، ويعطل أسماءه وصفاته، بل يعامل بالغلظة والشدة والمعاداة الظاهرة)
وبإسناده عن بعض السلف قال: (من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام)
وعن آخر: (تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله عنكم بسخطهم)
أما الجهمية والأشاعرة ومن لحق بهم أو لم ينكر عليهم.. فالرفق بهم، والشفقة عليهم، والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان.
انظروا جيدا الفرق بين هؤلاء المميعين وبين قول حمود التويجري –رحمه الله تعالى- في (ذيل الصواعق)، فقد قال: (لا ينبغي تسمية أعداء الله باسم العلماء، لأن هذه التسمية لا تليق بهم، ولا تطابق حالهم)
قام المحامي، وقال: اسمح لي حضرة القاضي أن أعقب على هذه النقطة..
أذن له القاضي، فقلت بعض الصفحات من ملف يحمله، ونظر إليها، ثم قال: سيدي القاضي.. إن ابن باز لا يخفى عليه أن نفي العلو كفر وردة.. وقد قال في شرحه للحموية: (من أنكر أن الله في السماء أو أن الله فوق العرش فقد كفر.. هذا إجماع أهل السنة والجماعة)، وقال في شرحه لكشف الشبهات: (الحاصل أن الإنسان إذا أتى بكفر قولي أو فعلي أو قلبي من شك ونحوه كفر حتى لو قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله لكن عندي شك هل الجنة حق.. أو شك في أن الله في السماء أو فوق العرش أو ما هو فوق العرش يكفر لأنه مكذب لله ولرسوله)
وقال في فتوى صوتية له لما سئل عن: حكم من خدم السنة وشرح كتب السنة لكنه أنكر صفة من صفات الله كالعلو؟ فقال ابن باز: هذا مكذب بالقرآن! من يقل إن الله في كل مكان فهو يكذب بالقرآن، الله تعالى يقول {الرحمن على العرش استوى} ويقول {إليه يصعد الكلم الطيب} هذا مكذب بالقرآن.. ثم سئل: هل يكفر بعينه؟ فقال: ما فيه شك! بعينه)
قال القاضي للمحامي: ها أنت تراه يصرح بكفر الأشاعرة، الذين ينكرون العلو.. فما تقول؟
قال المدعي: اسمعني جيدا سيدي القاضي، واسمعوني معاشر الحضور.. أنا لا أنكر أن ابن باز وهيئة كبار العلماء بل كل السلفيين في العالم يتفقون معنا على هذا.. ولكنا ننكر عليهم التمييع.. لقد قال ابن بطة في (الإبانة الصغرى)، والتي حكى عليها إجماع السلف: (ومن السنة: مجانبة كل من اعتقد شيئا مما ذكرناه، وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه ونصره، وذب عنه، وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة)
وابن باز ولا يخفى عليه أن الرجل لا يصير سنيا حتى يعتقد السنة ويتبرأ ممن خالفها من الفرق! فقد قال كما في فتوى له ولمن معه في اللجنة: (من كان يدعو إلى كتاب الله تعالى وإلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث، ويعمل بذلك في نفسه، وينكر ما خالف ذلك ويجتهد في إزالة ما أحدث من البدع، ويتعاون مع أهل السنة ويواليهم ويعادي أهل البدع وينكر عليهم ما ابتدعوه في الإسلام على بينة وبصيرة – فهو من أهل السنة والجماعة)، ومع هذا كله فابن حجر عنده وعند أصحابه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة).. هذا وقد قال البربهاري في شرح السنة التي قال عنها: (جميع ما وصفت لك في هذا الكتاب فهو عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعن التابعين وعن القرن الثالث إلى القرن الرابع، قال –رحمه الله تعالى- فيها: (إذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فاحذره واعرفه، فإن جلس معه بعدما علم فاتقه فإنه صاحب هوى)، وقال إمامنا أحمد بن حنبل لما سأله أبو داود: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟ فقال –رحمه الله تعالى-: (لا أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه وإلا فألحقه)
قال المحامي: ولكن ابن باز يردد نفس الكلام.. فقد قال لما سئل في شرح فضل الإسلام: الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم هل يلحق بهم؟ فأجاب: (نعم ما فيه شك من أثنى عليهم ومدحهم وهو داع إليهم، هو من دعاتهم)
وقال في شرح كتاب التوحيد: (الذي يؤوي أهل البدع والمعاصي وينصرهم يكون ملعونا والعياذ بالله)
قال المدعي: هذا مجرد كلام.. لكنه في مواضع أخرى كثيرة يخالفه مخالفة صريحة..
انظروا ماذا قال في الباقلاني الجهمي الأشعري الكافر.. لقد اعتبره (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم)، وهو يصادم في ذلك قول المتقدمين الذين خبروا حال هذا الرجل وبينوا حاله وضلاله، فقد قال أبو بكر الزاذقاني: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وكان ينهي أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني؛ فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام؛ فظن أني معهم ومنهم؛ فقال لي: يا بني، قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل – يعني الباقلاني- فإياك وإياه؛ فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي؛ فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، وأشهدوا علي أني لا أدخل إليه.
وانظروا ماذا قال في البيهقي الجهمي الأشعري الكافر، لقد ذكر أنه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم).. وهذا غير صحيح، بل الرجل أشعري مشهور، وقد قال في كتابه الأسماء والصفات: (الباري جل ثناؤه.. كلامه ليس بحرف ولا صوت)! وقد سبق حكم منكر الصوت.
وقال في الأسماء والصفات: (الله تعالى لا مكان له)! وقد حكى حرب الكرماني الإجماع على أن: (الجهمية أعداء الله: هم الذين يزعمون.. أن الله لا يعرف لله مكان)
بل إنه في الأسماء والصفات قال عن حديث استلقاء ربنا سبحانه وتعالى([5]): (إن صح طريقه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار فلم يفهم عنه قتادة بن النعمان إنكاره)، وقد قال ابن القيم في (الصواعق) ردا على هذا القول الساقط: (أي نسبة جهل واستجهال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق هذا؟! أنه لا يميز أحدهم بين كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلام الكفار والمشركين، ويميز بينهما أفراخ الجهمية والمعطلة! وكيف يستجيز من للصحابة في قلبه وقار وحرمة أن ينسب إليهم مثل ذلك؟!)
وهكذا نجده في مواقفه من جميع المتكلمين كابن الجوزي وابن حجر والنووي وغيرهم.. مع أنه يعلم تماما أنه لا عذر لعالم بالجهل، وقد قال في فتاوى (نور على الدرب): (ليس في العقيدة والتوحيد توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات ليس فيها عذر.. يجب على المؤمن أن يعتقد العقيدة الصحيحة.. وليس له عذر في التساهل في هذا الأمر الا إذا كان بعيدا عن المسلمين في أرض لا يبلغه فيها الوحي فإنه معذور في هذه الحالة وأمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترات.. وأما كونه بين المسلمين ويبقى على الشرك وإنكار الأسماء والصفات فهذا غير معذور بالجهل)
فهل ترون – معشر الحضور- أن ابن الجوزي لم يبلغه القرآن فيعذر في نفيه لعلو الله وغير ذلك من الصفات.. ورحم الله عمر بن عبد العزيز القائل: (قف حيث وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا.. فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم)
اسمعوا الطامة الكبرى التي نطق بها ابن باز حين قال عن النووي: إنه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم).. هل رأيتم مدى التمييع الذي وصل له؟
لقد قال محمد بن هادي المدخلي: (كذاب الذي يقول النووي سلفي! والله كذاب حتى يموت.. هو أشعري جلد من أول كتاب مسلم إلى آخره)
قال المحامي: ولكن ابن باز ومعه لم يحكموا على المذكورين بكونهم من أهل السنة مطلقا، بل ذكروا (أنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة)
قام المدعي غاضبا، وقال: ما أجمل ما تقول.. منذ متى صارت السنة والسلفية تتفتت.. السنة والسلفية – معشر الحضور- شيء واحد.. فإما أن نأخذ بها جميعا، أو ندعها جميعا..
لقد قال عتبة الغلام، وصدق: (من لم يكن معنا فهو علينا)
فهذه الموازنة رأي محض وليست من العلم في شيء لأن عبد الله بن عمر قال: (العلم ثلاثة: كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري)
وقد نهينا عن النظر في الرأي واتباعه، كما قال عطاء: (ليس الدين بالرأي لكنه السمع)
والمقصود أنه لا يصير الرجل مهتديا حتى يلزم السنة ولا يخرج عن أصولها ولو في أصل واحد، كما قال قال سعيد بن جبير: (لزم السنة).. فمن لم يلزم أصول السنة كلها لم يكن مهتديا، بل يصير ملتحقا بركب أهل الضلال والهلكى، كما قال عبد الله بن مسعود: (يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني مفصل الأنملة فإن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى)
قال المحامي، وهو يقلب بعض الملفات: هذا عينه ما ذكره ابن باز، حيث قال في فتوى منشورة له: (من فعل بدعة؛ يقال له: مبتدع؛ هذا هو الأصل؛ من فعل بدعة؛ يقال له: مبتدع. لكن إذا كان جاهلا يعلم، ومتى تاب لا يسمى مبتدعا، وإذا أصر؛ يسمى: مبتدع)
ثم قلب ملفات أخرى، وقال: وقد سئل ابن باز: يقول الناس: إن ابن تيمية ليس من أهل السنة والجماعة، وإنه ضال مضل، وعليه ابن حجر وغيره، هل قولهم صدق أم لا؟
فأجاب: (إن الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، يدعو إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، قد نصر الله به السنة وقمع به أهل البدعة والزيغ، ومن حكم عليه بغير ذلك فهو المبتدع الضال المضل، قد عميت عليهم الأنباء، فظنوا الحق باطلا، والباطل حقا، يعرف ذلك من أنار الله بصيرته وقرأ كتبه وكتب خصومه وقارن بين سيرته وسيرتهم، وهذا خير شاهد وفاصل بين الفريقين، وبالله التوفيق)
قام المدعي غاضبا، وقال: ألا ترى سيدي القاضي هذه المكاييل المزدوجة التي يحكم بها هؤلاء.. فالذي ينفي علو الله ويحرف الصفات ويرمي السلف بالتفويض ويطعن في الجارية التي قالت: (إن الله في السماء)، وينحى إلى الإرجاء ويسلك طرق التصوف، وهو ابن الجوزي يعتبرونه (إماما فاضلا، وعالما جليلا)
أما من يتكلم في ابن تيمية ولا يعتقد فيه الإمامة فهو مبتدع بلا مثنوية!!
يا قوم قليلا من التقوى! هل ابن تيمية أعز عليكم من الله؟!
***
بعد أن انتهى المدعي من توجيه التهم لأتباع ابن باز التفت إلى القفص الذي اجتمع فيه أتباع الألباني، وراح يقول: أما أنتم يا ألبانيين.. فجرائمكم وجرائم شيخكم لا تقل عن البازيين..
فمخالفات شيخكم في نفسه لأهل السنة في باب الصفات كثيرة فضلاً عن مخالفاته لأهل السنة في باب التعامل مع أئمة التجهم والضلال.
فشيخكم الألبانيّ لفظيّ، يصرح بذلك ولا يستخفي، فقد قال في سلسلته الصوتية: قول الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]هو كلام الله لكن أنا لما أتكلم فيه هو مخلوق، لفظي أنا مخلوق) إن هذه الكلمة وحدها – معشر الألبانيين – تكفي لإدانته وإدانتكم وتكفيره وتكفيركم..
بالإضافة إلى هذا فشيخكم ممن يقول بأن الله معنا بذاته، فقد قال في شريط رقم (724) من سلسلته: (الله مع المتقين معية ذاتية لا كيفية لها)
وقد ذكر حمود التويجريّ في رده على من قال بالمعية الذاتية قول المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً قال أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره، فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية، بل علمه معهم فأول الآية يدل على أنه علمه.
وعقب عليه بقوله: (ليتأمل المبتلى بمخالفة أهل السنة والجماعة كلام الإمام أحمد حق التأمل حتى يعرف من كان يقول بالمعية الذاتية من أهل البدع والضلال، وأنهم شر أهل البدع)
وسئل ربيع المدخلي: (هل صحيح بان الله استوى على العرش بذاته وأنه معنا بذاته؟ فقال ربيع: الله على العرش ومعنا بعلمه وسمعه وبصره لا بذاته تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا لأن هذا قول أهل الحلول وقد كفَّرهم السلف)([6])
بالإضافة إلى هذا فالألباني ممن يرد أثر مجاهد ويتواقح في ذلك، فقد قال في (السلسلة الضعيفة): (اعتقاد أن الله يُجلس محمداً معه على العرش باطلاً بداهة)، وقال: (ومن العجائب التي يقف العقل تجاهها حائراً أن يُفتي بعض العلماء من المتقدمين بأثر مجاهد.. وإن مثل هذا الغلوِ لما يحمل نفاة الصفات على التشبث بالاستمرار في نفيها، والطعن بأهل السنة المثبتين لها، ورميهم بالتشبيه والتجسيم ودين الحق بين الغالي فيه والجافي عنه)
التفت إلى القاضي، وقال: ألا ترى سيدي هذه الجرأة على السلف، فالأئمة الذين أجمعوا وتلقوا أثر مجاهد بالقبول عند الألباني المأفون أصحاب غلو وعجائب ويقولون بما هو باطل بداهة! ولا أدري هل للسفيه تعريف أجمع من هذا التعريف؟! فأف للألباني ما أشد غروره وتعالمه، علما بأن الأئمة لم يقولوا فقط بأثر مجاهد رحمه الله تعالى، بل امتحنوا الناس به وأخرجوا من ينفيه من السنة وبدعوه، فهم على مقتضى قول الجهول ظلمة أيضا.. وحاشا السلف والأئمة من هذه الافترائات والبهتان.
***
كانت المحاكمة طويلة جدا، ولا يمكنني بثها لكم جميعا، فقد اتهم فيها كل من نعرفهم من كبار السلفية بالتمييع، ثم حكم عليهم بعد ذلك بما حكم به على المبتدعة نفسهم، وهو الحرق.
وقد حضر لذلك مسبقا، حيث أنه بمجرد أن نطق القاضي بالحكم، أشعلت النيران على تلك الأقفاص.. ولوحظت البهجة الشديدة على القاضي والمدعي وكثير من الحضور.
أما السائق، فقد كان يكبر بزهو وخيلاء..
وأما صاحبي ربيع، فقد امتلأ فرحا وسرورا لا أستطيع التعبير عنه.
أما ركاب الحافلة، فقد امتلأوا رعبا.. ولهذا بمجرد أن توقفت الحافلة فروا
هاربين لا يلوون على شيء، وقد تركوا بعض حقائبهم، ولم نرهم بعد ذلك.
([1]) هذا الكلام منقول بتصرف من شريط لربيع المدخلي بعنوان: ( هل الجرح والتعديل خاص برواة الحديث؟)
([2]) رجعنا في بيان موقف هؤلاء المتشددين إلى كتاب (مِنْ مُخَالفَاتِ الخَلَفِ لما كَانَ عَلَيْهِ السَلَف)، لإبْرَاهِيمُ بنُ رَجَا بنُ شِقِاحِيّ الشّمّريّ، وهو من السلفية الحدادية.. وهي تتفق مع كل أصناف السلفية، ولكنها ترفض مجاملة الآخر، وتعتبر ذلك إرجاء.. وما سنذكره هنا نموذج عنها.
([3]) الإبانة الكبرى لابن بطة (5/ 317)
([4]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص: 330)
([5]) يقصدون به الحديث الذي رواه أبو يعلى الفراء في (إبطال التاويلات 1:187 )، فقد ورى بسنده عن قتادة بن النعمان، قال: سمعت رسول الله a يقول: (إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه، واستلقى، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: إنها لا تصلح لبشر..)، ونفس الحديث رواه عن محمد بن قيس، قال: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دق الله فاك أتسأل عن هذا؟ قال لكعب: دعوه فإن يك عالما أزداد، وإن يك جاهلا تعلم، سألت أين ربنا وهو على العرش العظيم متكئ واضع إحدى رجليه على الأخرى.
([6]) الذريعة ج3 ص62.