لا تهجر كلمات ربك

لا تهجر كلمات ربك

أيها الرفيق العزيز.. أنا أقدر كثيرا شغفك بمطالعة الكتب، واهتمامك بكل ما تصدره المطابع ودور النشر منها.. وتتبعك لكل جديد، وتنقيبك عن كل قديم، فكل ذلك مما يوسع آفاقك، ويجعل من عقلك عقولا كثيرة.

لكني أعتب عليك فقط تقصيرك في مطالعة كلمات ربك وتدبرها ومحاولة استكشاف الحقائق المخزونة بين طيات حروفها.. فتلك الكلمات المقدسة لا يمكن أن تقارن بها أي كلمات..

وكيف يقارن كتاب ألفه أرسطو أو أفلاطون أو نيتشة أو انشتاين بكتاب أملاه الله تعالى على خلقه، بين لهم فيه أسرار الوجود، وحقائق الكون، ومصيره، ومصيرهم، وذكر فيه من الأسرار ما لا يمكن لأي عقل في الدنيا أن يصل إليه.. بل لا يمكن لأي عقل في الكون جميعا أن يعرفه لولا كلمات الله المقدسة التي منّ بها على عباده.

ألا ترى أنك بذلك الجفاء الذي تمارسه مع كلمات ربك، تقع في الجحود، حيث تأتيك الرسائل من كل الجهات، فتقرأها، وتستوعبها، وتتدبرها، وتهتم بها، بينما تأتيك رسالة ربك، فلا تكاد تبالي بها، أو تراعي تلك المعاني العظيمة التي حوتها.

لقد ورد في بعض الآثار أن الله تعالى خاطب عباده المقصرين مع كلماته قائلا: (عبدي أمّا تستحيي منّي يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبّره حرفا حرفا حتّى لا يفوتك منه شي‏ء، وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم وصلت لك فيه من القول؟ وكم كرّرت عليك فيه لتتأمّل طوله وعرضه؟ ثمّ أنت معرض عنه، أ فكنت أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي، يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكلّ وجهك وتصغي إلى حديثه بكلّ قلبك، فإن تكلّم متكلّم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كفّ وها أنا ذا مقبل عليك ومحدّث لك وأنت معرض بقلبك عنّي، فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك)([1])

وهكذا أنت أيها الرفيق العزيز.. فالتقصير مع الكتاب تقصير مع مؤلفه.. وأنا أراك تعدد أسماء المؤلفين.. وأسماء المؤلفات التي قرأتها لهم.. وتجعل اهتمامك بها بحسب اهتمامك بمنازل مؤلفيها.. فهل هناك منزلة أعظم من الله.. الذي كل شيء منه، وبه، وإليه؟

أعلم ما ستقول لي.. فأنت قرأت القرآن الكريم مرات عديدة، وحفظت الكثير من سوره.. وأنت ترى أن ذلك كاف.. وذلك غير صحيح.. فكلمات الله لا حدود لها.. فهي كالماء الذي لا يمكنك أن تستغني عنه.. بل هي كالهواء الذي تختنق إن منعت نفسك منه.

لقد ذكر الله تعالى ذلك عن كتابه، واعتبره شفاء لكل داء، فقال: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57]

واعتبره النور الذي لا يمكن لأحد أن يرى الحياة على حقيقتها من دون الاستضاءة به، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء: 174، 175]

وهكذا، فالقرآن الكريم هو المعراج الذي ترتقي به أرواحنا في سلم الكمال، ولا يمكن لروح أن تعرج دون أن تمسك به، وتتمسك به، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقال لقارئ القرآن: اقرأ ورتل وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)([2])

 وسر ذلك أن كل قراءة جديدة تعطيك معاني جديدة، وأسرارا جديدة، لم تكن لتفهمها لو اقتصرت على قراءتك الأولى، مثل الدواء الذي لا يمكن أن يقوم بدوره في جسدك، ما لم يتنزل عليه كل حين، ويسري بين الدماء ما دامت الدماء محتاجة إليه.

وهكذا الروح مع كلمات ربها.. فهي الماء الذي تشربه، والهواء الذي تتنفسه، والدواء الذي تقضي به على كل الآفات، والسلم الذي تصعد به أعلى الدرجات.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (القرآن هدى من الضلال، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأجداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار)([3])

ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الكرام لا يوصون بشيء كما يوصون بالقرآن الكريم، لأنهم يعلمون أن من قرأه بصدق وإخلاص، وعاش في بحار كلماته المقدسة، سيتطهر لا محالة.. بل سيسمو في الآفاق العليا حتى ينال رضوان الله الذي لا يناله إلا الطاهرون الصادقون المقدسون.

ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ القرآن، ثمّ رأى أنّ أحدا أوتي أفضل ممّا أوتي فقد استصغر ما عظّمه اللّه)‏([4])، وقال: (إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميّين ما خلا النبيّين والمرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإنّ لهم من اللّه العزيز الجبّار لمكانا عليّا)([5])، وقال: (ما من شفيع أفضل منزلة عند اللّه يوم القيامة من القرآن، لا نبيّ ولا ملك ولا غيره)([6])، وقال: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)([7])، وقال: (أهل القرآن أهل اللّه وخاصّته)([8])، وقال: (إنّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، فقيل: يا رسول اللّه وما جلاؤها؟ فقال: تلاوة القرآن وذكر الموت)([9])

وقال مبينا الفضل العظيم الذي يناله قراء القرآن الحريصين عليه المتأدبين بآدابه: (إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع، وما حل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدّليل يدلّ على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى‏ ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة)([10])

وهكذا تكلم تلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكبر، ووارثه الأعظم، من أوتي مفاتيح باب الحكمة الإمام علي، فقد قال في بعض وصاياه: (ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفؤ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقّده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضلّ نهجه، وشعاعا لا يظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وبنيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزّا لا تهزم أنصاره، وحقّا لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله اللّه تعالى ريّا لعطش العلماء، وربيعا ممرعا لقلوب الفقهاء، ومحاجّ لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة، وحبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وعزّا لمن تولّاه، وسلما لمن دخله وهدى لمن ائتمّ به، وعذرا لمن انتحله، وبرهانا لمن تكلّم به، وشاهدا لمن خاصم به وفلجا لمن حاجّ به، وحاملا لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسّم، وجنّة لمن استلأم، وعلما لمن وعى، وحديثا لمن روى، وحكما لمن قضى)([11]).

وعلى دربه قال الإمام السجاد مرغبا في الإدمان على قراءة القرآن: (آيات القرآن خزائن العلم فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)([12])

وقال: (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)، وقد روي أنه قرأ قوله تعالى:، وكان عليه السّلام إذا قرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، وبقي يكرّرها حتّى كاد يموت)([13])

و روي أنه سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: الحالّ المرتحل، فقيل له: وما الحالّ المرتحل؟ قال: (فتح القرآن وختمه، كلّما جاء بأوّله ارتحل في آخره)([14])

وهكذا نطق كل الحكماء، وأوصى كل الورثة، فعليك بوصيتهم، وتمسك بالحبل الذي دلوك عليه، وسترى أن شياطين الإنس والجن ستحاول أن تبعدك عنه، وستزين كل شيء لتصرفك عن حقائقه الجميلة.. لتضلك عن سبيل الله، فإياك والالتفات إليها.. واصبر مع كلام ربك، لينقلك الله من حال المجاهدة إلى حال المكافأة، وحين سيصبح القرآن مثل الهواء الذي تتنفسه، والذي لا تستطيع أن تستغني عنه.

وقد قال بعض الحكماء يذكر تجربته مع القرآن الكريم: (كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعّمت به عشرين سنة)

وقال آخر: (كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتّى تلوته كأنّي أسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يتلوه على أصحابه، ثمّ رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتلوه كأنّي أسمعه من جبرئيل عليه السّلام يلقيه على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ جاء اللّه تعالى بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلّم به فعندها وجدت له لذّة ونعيما لا أصبر عنه)

و قال آخر: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن، وذلك لأنّها بالطهارة تترقّى إلى مشاهدة المتكلّم في الكلام)

وصدق هؤلاء جميعا، فالكلام دليل على المتكلم، وقد قال الإمام الصادق: (واللّه لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون)


([1])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏2، ص: 219.

([2]) الترمذي (2914) وأبو داود (1464)

([3]) الكافي، 2/600.

([4])  رواه الطبراني والكليني في الكافي.

([5]) الكافي، ج 2 ص 603.

([6]) قال العراقي: رواه عبد الملك بن حبيب من رواية سعيد بن سليم مرسلا، وللطبراني من كلام ابن مسعود (القرآن شافع مشفع) ولمسلم من كلام أبي امامة (اقرءوا القرآن فإنه يجي‏ء يوم القيامة شفيعا لصاحبه)

([7]) البخاري ج 6 ص 236، والدارمي ج 2 ص 437.

([8]) ابن ماجه رقم 215، و الحاكم في المستدرك ج 1 ص 556.

([9]) البغوي في مشكاة المصابيح ص 189 عن البيهقي.

([10]) الكافي، ج 2 ص 598.

([11])  نهج البلاغة، خطبة 196.

([12]) الكافي، ج 2 ص 609.

([13]) الكافي، ج 2 ص 602.

([14]) الكافي، ج 2 ص 605.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *