لا تنه عن المعروف

لا تنه عن المعروف

أيها الرفيق العزيز.. رأيتك البارحة، وأنت تجتهد في إقناع أولئك الذين امتلأوا فرحا بميلاد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، بأن فرحهم منكر، وأنهم يمارسون بفرحهم واحتفالهم بدعة من بدع الضلالة.. ولم تكتف بذلك، بل رحت تزعم لهم أن كل البدع في النار.. وعندما لم تر منهم آذانا صاغية رحت تدعو عليهم، بل تكبهم في جهنم جميعا، لأنهم رغبوا عنك، ولم يستمعوا لتحذيراتك.

وقبل فترة رأيتك تحدث آخرين اجتمعوا على قراءة القرآن الكريم، يقرؤونه جماعة، على حسب الطريقة التي ورثوها عمن آبائهم وأجدادهم، وكانوا منفعلين جدا في قراءتهم، وملتزمين بسببها بدينهم، لكنك رحت تقنعهم واحدا واحدا بأن ينقطعوا عنها، إلى أن انفض جمعهم، ولم يجتمعوا بسببك على قراءة، ولا على دعاء، ولا في صلاة، وإنما ابتلعتهم الدنيا والأهواء، بعد أن حرموا من منبع الهداية الذي قطعته عنهم، ولم تفكر في عاقبة قطعك له.

وهكذا رأيتك قبل فترة تذهب إلى تلك الزاوية التي يجتمع فيها من يسمون أنفسهم [الفقراء إلى الله] يذكرون ويسبحون، ويستعملون كل الوسائل التي يقطعون بها الحجب التي تحول بينهم وبين ربهم.. لكنك لم تتركهم، بل ظللت خلفهم إلى أن انشغلوا عن قطع الحجب التي كانوا منشغلين بها إلى وضع الحجب أمام الخلق وربهم.

ولم تكتف بذلك، بل كان الشيطان يستعملك في كل محل للهداية أو ذكر الله؛ لتثبطهم عن ذلك، وتمنعهم منه، بعد أن حفظت تلك الكلمات التي لا تعرف من الدين غيرها: هي بدعة ضلالة.. وصاحب الضلالة في النار..

فإذا سئلت عن مصدر علمك بكونها بدعة أو ضلالة، ذكرت أن القرن الأول والثاني والثالث لم يفعلوها.. ولست أدري من أين لك بعصمة تلك القرون، وأنت تعلم البدع الخطيرة التي ارتكبوها، والتي لم يقع مثلها في سائر القرون.

فهل تريد من خلفك أن يقتدي بسلفك في رمي الكعبة بالمنجنيق، أو في حصار أهل المدينة المنورة، واستباحة أهلها وقتلهم وتشريدهم وهتك أعراضهم؟

أم تريد منهم أن يقتدوا بسلفك في محاربة إمام الأمة ذلك الذي اعتبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراطا مستقيما، ومنبعا من منابع الهداية، واعتبر حبه إيمانا، وبغضه نفاقا؟

أم تريد منهم أن يقتدوا بسلفك في ترك مجالسة العترة الطاهرة، والصحابة السابقين الصادقين لينهلوا علمهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، واليهود وتلاميذ اليهود؟

دعك من سلفك وخلفك، وعد إلى ربك، وتواضع في عبوديتك له، ولا تكن حجابا بين غيرك، وبين خير يقدم عليه، أو يؤمن به، يفعل ذلك اجتهادا أم تقليدا؛ فأنت مسؤول عن نفسك، ولست مسؤولا عن غيرك، ولست ملزما بأن تفرض قناعاتك على غيرك؛ فلغيرك علماء ومجتهدون لا يقلون عن علمائك ومجتهديك.

إنك بتصرفاتك تلك ـ أيها الرفيق العزيز ـ تمارس ما كان يقوم به المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل دقة، فقد وصفهم الله تعالى فقال: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، وقال عن فريق منهم: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى } [العلق: 9، 10]

بل إن مشاهد القيامة التي ذكرها القرآن الكريم عن رفاق السوء، تكاد تنطبق عليك، ذلك أن كل من حذرتهم من تلك التي سميتها بدعا، قطعت تلك الحبال التي كانت تربطهم بربهم ونبيهم.. وقد قال تعالى يصف الأصدقاء من أمثالك: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29]

عد إلى نفسك أيها الرفيق العزيز، وتخل عن كبريائك، فكل ما تفعله ليس نابعا من علم نافع، وإنما هو نابع من الكبر الذي يدعوك إلى مخالفة غيرك، والتدخل في أبسط شؤونهم، وإلا فأخبرني عمن وافقك في تلك الأقوال التي انفردت بها وحدك مع تلك المجموعة من أمثالك، والذين صور لهم الشيطان أنهم الفرقة الناجية، وأن من عداهم مشركون ومبتدعون وضالون.

ألا تخف أنت ورفاقك أن تكونوا من الذين صور الله تعالى دهشتهم يوم القيامة عند معاينة جهنم وأهلها، فقال: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } [ص: 62، 63]، وقال في مشهد آخر: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 48، 49]

تب إلى ربك ـ أيها الرفيق العزيز ـ واعلم أن أول عبوديتك لله، احترامك لخلق الله، وتقديرك لقناعاتهم؛ فلهم من العقول مثل عقلك، ولهم من الورع ما لا يقل عن ورعك؛ فدعهم وما اختاروا لأنفسهم، وإن شئت أن تسلك طريق الدعوة وهداية الخلق إلى الله، فهناك الملايين الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يهتمون بأي شعيرة من شعائر الدين؛ فاذهب إليهم، وادعهم إلى ربهم، فذلك أجدى لك عند الله، وأنت حينها داعية هداية لا داعية ضلال.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *