لا تنصب نفسك قاضيا

لا تنصب نفسك قاضيا

أيها الرفيق العزيز.. لقد رأيتك في مجالسك، وأنت تمتحن من يجلسون إليك في دينهم وعقائدهم ومواقفهم، فتحكم عليهم بأقسى الأحكام بناء على ما ذكروه لك من آراء أو مواقف.. ولو أنك بدل ذلك رحت تحاورهم، وتناقشهم، وتحاول أن تتعرف على أسرار ما ذهبوا إليه لكان أفضل لك ولهم؛ فهم لا يحتاجونك قاضيا، وإنما يحتاجونك هاديا.

ولو أنك قرأت بروحك وقلبك ما ورد في القرآن الكريم من وصف الوظائف التي وكلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المعصوم المؤيد بالوحي الإلهي، والمختار لخطاب الناس جميعا، لاعتزلت مناصب القضاء التي وهبتها لنفسك، أو وهبها لك الشيطان حين صور لك أنك وصي على عباد الله.. وأنك أنت من يصنفهم بحسب ما تملي عليه نفسه وهواه.. وأنك بعد ذلك من يدخلهم الجنة، أو من يرميهم في دركات الجحيم.

لقد قال الله تعالى يصف وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها لا تتعدى تبليغ ما أمر بتبليغه:{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]

وعلمه ما يقوله لأهل الكتاب الذين جحدوا رسالته على الرغم من وجود اسمه ووصفه في كتبهم: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]

وقال في سور المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، وحين كان للسلمين قوة وشوكة: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92]

وقبل ذلك قال تعالى في سور النحل المكية: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82]

وهكذا نجد القرآن الكريم في جميع المراحل التي مرت بها رسالة الإسلام يدعو إلى رفع الوصاية عن الخلق في معتقداتهم، وإتاحة الحرية لهم للتفكير والبحث والنظر، لأن العقائد لا يمكن أن تصل إليها العقول والقلوب إلا بعد البحث والنظر والتفكير العميق.

أعلم أنك ستذكر لي أن تلك القلوب والعقول التي تتعامل معها يستحيل أن تصل إلى الحقيقة.. ولنفرض ذلك.. فهل أنت مكلف بدعوتهم، أم مكلف بهدايتهم.. لقد قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذاكرا له أن الهداية بيده، لا بيد أحد من الناس: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56]

بل إن القرآن الكريم يصف بهذا الوصف جميع المؤمنين المتواضعين المستنين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية التعامل مع الخلق، والذين يكتفون بأداء ما عليهم من تكاليف، ويسألون لخلق الله الهداية لسواء السبيل من دون أن يسيئوا الأدب في ذلك لا مع الله، ولا مع عباد الله.. فقد علمنا الله أن نقول للمخالفين: {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]

ولذلك فإن ما تقع فيه، ليس حرصا على الدين، وإنما هو مرض من الأمراض، وعقدة من العقد النفسية، التي جعلتك تختصر الحقائق في تلك القناعات التي اقتنعت بها، فصرت تطلب من العالم جميعا أن يفكر بمثل تفكيرك، وينظر بنفس النظارات التي ترتديها.

لقد أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى هذه العقدة.. عقدة الوصاية على الخلق.. وهي العقدة التي مرض بها فرعون، حتى جعلته يدعي الألوهية.. لقد قال تعالى مخبرا عنه، وعن مقولته: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]

هذه مقولة فرعون، وهي لا تختلف كثيرا عن المقولات التي ترددها كل حين.. فأنت أيضا تقول: (ما علمت لكم من إله غير الإله الذي أعتقد به.. فمن خالف رؤيتي فقد خالف الحق المطلق)

ولذلك أوصيك أيها الرفيق العزيز أن تتواضع لربك، وأن تعلم أنك عبد لله، وأن وظيفتك في هذه الحياة أن تتعرف على الله، وأن تسلك السبيل إليه، حتى تنال القرب منه، ورضوانه.. أما خلق الله، فتعامل معهم بما يقتضيه السلام والمحبة والرحمة.. ثم تتركهم بعد ذلك لله ربك وربهم.. فهو الديان الوحيد الذي يدينهم، والقاضي الوحيد الذي يحكم عليهم.

فأنت ـ أيها الرفيق العزيز ـ لست عليهم بمسيطر، ولا عليهم بوصي، ولا عنهم بمسؤول.. فمن شاء منهم فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليتصوف، ومن شاء فليتزندق.. ومن شاء أن يكون أشعريا أو ماتريديا أومعتزليا أو سلفيا أو شيعيا أو إباضيا.. فله ذلك.. بل له أن يصير ملحدا أو علمانيا أو ليبراليا.. أو ما شاء له عقله من المذاهب والأفكار..

ودورك أيها الرفيق العزيز في هذا الجو المشحون بالأفكار المتناقضة أن تؤدي دورك بكل هدوء وأدب، وأن تعلم في نفس الوقت أن الله هو المهيمن على عالم الأفكار.. وهو الذي يربي عباده بعد ذلك في حركة تكاملية توصلهم في الأخير إلى الحقيقة التي يريدها هو، لا التي تريدها أنت..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *