لا تنس أسماء ربك

لا تنس أسماء ربك

أيها الرفيق العزيز.. لقد أعجبني كثيرا ماحدثت به البارحة عن أهمية التعرف على أعلام العلماء، وفي جميع المجالات، لما تكسبه تلك المعرفة لأصحابها من علو همة، ومن تعرف تفصيلي على تاريخ العلوم، والمسارات التي سارت عليها، والإنجازات التي تمت فيها.

وقد أعجبني كذلك ما ذكرته عن نفسك، ومعرفتك لآلاف العلماء والفلاسفة والمفكرين والباحثين والمخترعين، وأنهم أصبحوا بالنسبة لك كالأصدقاء والأصحاب لا يكادون يفارقونك.

وذكرت أنك تتسلى بهم أكثر مما تسلى بمن يحيط بك من البشر، وأنه إذا مر عليك اسم أحدهم شعرت بقلبك يخفق شوقا إليه، وحنينا لذكره.

وذكرت في المقابل أنك تشعر بخجل عظيم إن ذُكر اسم فيلسوف أو مخترع أو عالم ثم لا يكون لك معرفة به، أو بمنجزاته، أو بالخدمات التي قدمها للإنسانية.

وكل ما ذكرته جميل، ويدل على أنك صاحب عقل كبير لا يعيش زمانه وواقعه فقط، وإنما يعيش كل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل التاريخ، وكل الجغرافية.

وأنا لا أريدك أن تنسى ما تعلمته من أسماء، أو تتوقف عن تعلمه، ولكني أريد أن أدلك على أسماء أخرى تحتاج إلى التعرف عليها، وهي أسماء تتجاوز الأزمنة والأمكنة، وتتجاوز الأرض والسماء، وتتجاوز التاريخ والجغرافية، بل تتجاوز كل شيء، ومن دونها لا يكون أي شيء.

أريدك ـ أيها الرفيق العزيز ـ كما بذلت كل جهدك في التعرف على أسماء الأعلام، ومنجزاتهم، أن تتعرف على أسماء ربك، فكل ما تراه من منجزات في الكون، هي منجزات أسماء الله الحسنى؛ فأسماء الله هي المفاتيح التي تُفهم بها حقائق الوجود والكون والحياة والإنسان وكل شيء.. بل لا يمكنك أن تفهم سر ما تعرفه من أسماء من دون أن تمر على أسماء الله الحسنى، تلك التي بني بها الكون، ولولاها لم يكن شيء في الأرض ولا في السماء، وفي المكان أو في الزمان، أو في اللامكان ولا زمان.

فلولا اسم الله البديع والمصور والجميل، والذي تزينت به أقطار السموات والأرض، ما رأيت لونا ولا صورة ولا شيئا جميلا، ولا رأيت بعد ذلك فنانا، ولا مطربا، وكيف يمكن للفنان أن يبدع في رسمه أو شعره أو فنه، وهو لا يجد جمالا يشحن به ذوقه، أو يعبر به عما رآه؟

فلذلك قبل أن يهزك الطرب عند ذكر أسماء أعلام الفنون الجميلة؛ فليهزك الطرب والشوق لاسم ربك البديع المصور الجميل الذي لولاه ما كنت صورة، وما كان فن، وما كان للجمال محل في الكون.

وإن شئت أن ترتقي في سلم المعارف قليلا، فتنسب الأمور إلى أهلها، وتترك الجحود ونكران الجميل؛ فلتعلم أن كل إبداع فني في الكون هو إبداع لخالق الكون.. ولذلك إن صح أن تشتاق لشيء، فليكن شوقك إليه، وإن صح أن تملأ قلبك بحب شيء، فليكن حبك كله متوجها إليه؛ فلولاه لم يكن شيء.

ولذلك من الغبن أن تحفظ كل أسماء الفنانين، ثم يغيب عنك اسمه، لأنه لولا اسمه لكانت كل تلك المسميات التي تحفظ أسماءها مجرد أشباح وهياكل لا حياة فيها.

وهكذا؛ فإن كل أسماء الفلاسفة والمفكرين والعقلاء التي تحفظها ليست سوى نفحات من أسماء الله الحسنى التي لا نهاية لعطائها وكرمها وجودها، فلذلك لك أن تفرح بتلك الأسماء، ولكن مصحوبة باسم مبدعها وملهمها ومعلمها، فلولاه لكان كل من تراهم من عقلاء مجرد مجانين وصعاليك في الشوارع، لا قيمة لهم، ولا علوم لديهم، ولا عقل يفكرون به، لأن العقل ليس أداة إنتاج، وإنما هو أداه استقبال.

وهكذا؛ فإن كل أسماء المخترعين وعلماء الفيزياء والفلك والطب.. وكل العلوم ليسوا سوى عيال أمام حضرة أسماء الله الحسنى، يتلقفون منها المعارف، ويستفيدون منها العلوم، ولولاها لم يكونوا.. ولذلك من الغبن أن تعرف أسماء التلاميذ، ولا تعرف اسم معلمهم.

ومن الغبن أن تمضي حياتك كلها في التعرف على الظلال، ثم لا تعرف مصدرها، ولا حقيقتها، ولا منبعها الذي منه خرجت، وإليه تعود.

لذلك ـ أيها الرفيق العزيز ـ وجه همتك قليلا للتعرف على الأسماء الحقيقية، لا الوهمية؛ فإنها وحدها الباقية، وما عداها فان.. وإياك أن تجعل تلك الأسماء الوهمية أندادا تحبها من دون الله، فلولا الله لم يكن شيء، فانطلق منه إليها، لتعرفها على حقيقتها، لا على ما تزينت به، لأن كل ما تزينت به وهم وسراب سرعان ما تكتشفه بنفسك، حين يكشف عنك الحجاب، وترفع عنك الأوهام.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *