لا تمش في الأرض مرحا

لا تمش في الأرض مرحا

أيها الرفيق العزيز.. سمعتك البارحة، وأنت تتحدث عن سيارتك الجديدة الفاخرة، وأنها آخر طراز، وأنه لا يوجد نظير لها في البلدة التي تسكنها..

وقد أعجبك قول بعض محدثيك، وهو يتزلف إليك، ويصف الأعناق التي تشرئب إليك كلما سرت بها، ومثلها العيون التي تذهل عن كل شيء، لتحدق فيك وفيها.

وهكذا أعجبك إشادة الآخر بالبذلة التي تلبسها، والحذاء الذي تنتعله، والحقيبة الدبلوماسية التي تحملها، والنظارات الشمسية التي تستعملها..

وكنت تذكر لهم أن ذلك كله من متطلبات وظيفتك الجديدة، والتي تستدعي أن تظهر أمام الناس بذلك المظهر الخاص..

ولست أدري ما أقول لك، فأنا أعلم أن سيارتك القديمة كانت وافية بالغرض، وأنها أيضا كانت تعجبك.. لكنك استبدلتها، لا لعطب فيها، وإنما لأن صورتها ومظهرها لا يتناسبان مع وظيفتك الجديدة..

وهكذ أصبح لوظيفتك الجديدة، والمكانة الاجتماعية التي حصلت لك بسببها دورا كبيرا في كل حركاتك وسكنانك، وحتى في طريقة حديثك، ومشيتك، وحملك لأغراضك.. فأنت لم تعد تزور الأسواق، وأنت تحمل القفة كعادتك، لأن ذلك يضر بمكانتك الاجتماعية.. وهكذا لم تعد بتلك البساطة التي كنت تظهر بها أمام الناس، بل صار الناس يهابونك، ولا يكادون يستطيعون الحديث معك.

لقد ذكرني وضعك الحالي، ووظيفتك الجديدة، والأخلاق التي صرت بها، بقارون.. فهو أيضا ـ بعد أن نال الكنوز الكثيرة التي وصل إليها بعلمه واجتهاده وحيله ـ صار ذا مكانة خاصة في بلدته ومجتمعه.

وبما أنه لم تكن في عهده سيارات فارهة مثل سيارتك، فقد عوضها بذلك الموكب الفخم الذي شد الانتباه، والذي وصفه الله تعالى بقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]

وهكذا أنت.. فقد كانت كل العيون التي تحدق فيك تسطر بنظراتها تلك الكلمات التي قالها الذين يريدون الحياة الدنيا.. فكلهم تمنوا أن يكون لهم ذلك النعيم، وتلك السيارة، وذلك الموكب، وتلك المكانة الاجتماعية.

وأنا لا أريد أن أوصيك، لأني أعلم أنك ستوبخني، وستذكر لي البون الشاسع بينك وبين قارون.. وأنني أظلمك عندما أشبهك به.. ولك الحق في ذلك، ولو أني لم أقصد بقارون شخصه، ولا كفره، ولا عتوه، وإنما قصدت تلك الخيلاء التي برز بها للناس، فامتلأوا عشقا للدنيا.. وكان سببا في ذلك العشق الآثم الذي تتولد منه كل الخطايا.

ولذلك سأذكر لك نموذجا مناقضا لنموذج قارون.. كانت له المكانة الرفيعة في الدين والدنيا، وفي عالم الملك وعالم الملكوت.. وكان له ـ مثلي ـ رفيق مثلك.. تولى بعض المناصب، فرأى أنها غيرت بعض سلوكه، فراح يكتب له رسالة ينصحه فيها بمثل ما أنصحك.

لا شك أنك عرفته.. ومن لا يعرفه.. إنه الإمام علي الذي كتب رسالة رقيقة إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، بعد أن بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها.. فكتب إليه يقول: (أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة، دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه) ([1])

ثم راح يصف له حاله، ليأتم به، وتأتم به الأجيال من بعده، فقال: (ألا وإنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به، ويستضي‏ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد.. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة)

ثم ذكر له أن زهده في الدنيا ليس ناشئا عن جهله بها، وإنما هو ناشئ عن رغبته فيما عند الله.. وحتى يستوي هو وأبسط المستضعفين من رعيته، ولا يتميز عنهم بمركب ولا ملبس ولا أي هالة من الهالات التي تضعها عليك.. فلا يمكن أن يدرك عوز المعوزين، ولا فقر الفقراء من ميز نفسه عن غيره.

لقد كتب الإمام علي يقول له: (و لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في‏ القرص، ولا عهد له بالشّبع!! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى!! أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

   وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ!

وهكذا راح يذكر له الأثر الحقيقي للمكانة الاجتماعية، وهو الجد في مصالح الناس، والعمل لخدمتهم، لا شد انتباههم، والتطاول عليهم.. فقال: (أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف طريق المتاهة)

ثم ختم الرسالة بهذا الشعار الذي لا ينبغي لأحد يخاف الله أن ينساه أو يغفل عنه، لقد قال له: (فاتّق اللّه يا ابن حنيف، ولتكفف أقراصك، ليكون من النّار خلاصك)

وهكذا ذكر في خطبة أخرى الأنبياء الكرام عليهم السلام، أولئك الذين نالوا أعظم مكانة، وأشرف درجة، ومع ذلك لم يزدهم الشرف ولا المكانة إلا زهدا وتواضعا.. لقد قال يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (و لقد كان في رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كاف لك في الأسوة، ودليل لك على ذمّ الدّنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطّئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها)

وقال يصف موسى عليه السلام: (وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه عليه السّلام حيث يقول: {رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، واللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذّب لحمه)

وقال يصف داود عليه السلام: (.. وإن شئت ثلّثت بداود عليه السّلام صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها؟ ويأكل قرص الشّعير من ثمنها)

وقال يصف المسيح عليه السلام: (.. وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليه السّلام فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وظلاله في الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه) ([2])

ثم ختم خطبته بذكر حبيته صلى الله عليه وآله وسلم، الذي رباه على عينه، فقال: (فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره.. قضم الدّنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدّنيا كشحا، وأخمصهم من الدّنيا بطنا، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقّر شيئا فحقّره، وصغّر شيئا فصغّره.. ولو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله، وتعظيمنا ما صغّر اللّه ورسوله، لكفى به شقاقا للّه، ومحادّة عن أمر الله)

ثم راح يصف حاله صلى الله عليه وآله وسلم، وزهده في الدنيا، وتواضعه فيها، فقال: (و لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه. ويكون السّتر على باب بيته، فتكون فيه التّصاوير فيقول: يا فلانة- لإحدى أزواجه- غيّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرض عن الدّنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النّفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده)

ثم راح يخاطب عقلي وعقلك وعقول الناس جميعا، فيقول: (لقد كان في رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما يدلّك على مساوئ الدّنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟.. فإن قال: أهانه فقد كذب واللّه العظيم بالإفك العظيم.. وإن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له، وزواها عن أقرب النّاس منه.. فتأسّى متأسّ بنبيّه، واقتصّ أثره، وولج مولجه، وإلّا فلا يأمن الهلكة، فإنّ اللّه جعل محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم علما للسّاعة، ومبشّرا بالجنّة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدّنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربّه.. فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به، سلفا نتّبعه، وقائدا نطأ عقبه)

ولم تكن مواعظه قاصرة على لسانه، بل كان فعله أبلغ من لسانه، وقد رويت الروايات الكثيرة من أحبابه وأعدائه تصفه وتصف تواضعه وزهده وحاله، وهو أمير المؤمنين، وقد ذكره الأرقم، فقال: (رأيت علي بن أبي طالب يعرض سيفا له في رحبة الكوفة ويقول: (من يشتري مني سيفي هذا والله لقد جلوت به غير مرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه)([3])

وذكره سفيان، فقال: (إن عليا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وان كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.. وكان يختم على الجراب الذي يأكل منه ويقول: لا احب أن يدخل بطني إلا ما اعلم) ([4])

وذكره عمر بن قيس، فقال: (رئي على علي إزار مرقوع فقيل له فقال: (يقتدى به المؤمن ويخشع به القلب)([5])

وذكره ابنه الحسن، فقال: (في صبيحة الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثلاثمائه درهم فضلت من عطائه)([6])

هذا هو ربان سفينة النجاة ـ أيها الرفيق العزيز ـ فاركب معه، ولا تركب مع قارون، حتى لا يخسف بك وبسيارتك وبذلتك وحقيبتك ونظارتك ومكانتك ووظيفتك الأرض..


([1]) نهج البلاغة: الكتاب رقم(45)

([2]) نهج البلاغة: الخطبة رقم 160.

([3]) الكامل لابن الأثير ج3 ص201.

([4]) الكامل لابن الأثير ج3 ص201.

([5]) منتخب الكنز ج3 ص57.

([6]) الإمامة والسياسة ج1 ص170.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *