لا تكن لسانا للظلمة

أيها الرفيق العزيز.. سمعتك البارحة، وأنت تخطب الناس على ذلك المنبر الشريف، وتستشهد في حديثك عن عزة الإسلام وعدله بأولئك الظلمة الذين مكن الله لهم في الأرض، ليملأوها عدلا وهداية ونورا، لكنهم ملأوها فسادا وظلما وجورا، وكانوا أعظم الحجب التي حالت بين البشرية، وبين التعرف على الإسلام الصحيح الخالص الذي لم تشبه الشوائب.
ألا تعلم ما قال نبيك صلى الله عليه وآله وسلم فيهم.. ألم يذكر أنهم من أصحاب الملك العضوض الذين لم يخلفوه في دينه خلافة صالحة، وإنما حولوه أفيونا للمسلمين، وللشعوب التي يحكمونها.
ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخلافة ثلاثون عاماً، ثم يكون الملك العضوض)([1])، وقد صدق التاريخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث انتقل الحكم في الإسلام بعد الثلاثين إلى كسروية وقيصرية لا تختلف عما كانت عليه فارس والروم، وغيرها من الممالك؟
فلم لم تسم الأشياء بأسمائها؟.. ولم لم تقل للعالم والناس أجمعين: إن أولئك المستبدين الظلمة الذين ورثوا الحكم عن آبائهم وأجدادهم لا يمثلون الإسلام، فليس في الإسلام كسروية ولا قيصرية، وليس في الإسلام حكم وراثي، وليس في الإسلام استبداد بالسلطة، ولا انفراد بها.
وليس المال في الإسلام ملك لذلك الخليفة الذي تثني عليه، وتعتبر من الكرماء الأجواد، وهو يعطي من بيت مال المسلمين كل من مدحه بقصيدة، أو تزلف إليه بخبر، أو أضحكه بنكتة في نفس الوقت الذي يرهق فيه كواهل الرعية بالضرائب وأنواع الإتاوات، فهل هذا من الإسلام، وهل هذه هي الرحمة والعدالة التي جاء الأنبياء عليهم السلام للدعوة إليها؟
إن كنت تكذب قولي؛ فاطرح الجلباب الذي ورثته عن آبائك وأجدادك وبيئتك، واقرأ الدين بعقلك قبل أن تقرأه بعقول غيرك، وابحث في كتب التاريخ التي تعتمدها، لترى الجرائم التي ارتكبها أولئك الذين أصبحت لسانهم الناطق الذي يمدحهم من غير أن ينال منهم أي جائزة.
لقد رأيتك ـ أيها الرفيق العزيز ـ وأنت تتحدث عنهم كل حين بذلك الثناء العريض مثل الذي يضع في كعبة قلبه الكثير من الأصنام، ولا يمكن أن يرى الكعبة بجمالها وصفائها وطهرها، من يملأ قلبه بالأصنام.
فخذ معولك، وحطمها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل، ويقول أثناء تحطيمه لها: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الاسراء: 81) {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 49)
بتلك العصا التي تحطم بها الأصنام، يمكنك أن تسير في الطريق الصحيح لتفهم كلمات ربك المقدسة، وتعرف نبيك الممتلئ بالطهر والعصمة وكل القيم النبيلة، وعند معرفتك لهما تعرف ورثته الحقيقيين، وأنهم ليسوا أولئك الحكام الظلمة المستبدين الذين أساءوا للإسلام، وملأوه بالتخلف والاستبداد والظلم.. فدين الله يستحيل أن يمثله ظالم أو مستبد.
وإن شئت ألا تفعل ذلك، فلك ذلك، ولكن ليس لك الحق في أن تذكر أولئك الظلمة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي بيوت الله التي أذن أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، لا اسم الفراعنة أو الشياطين.
يمكنك أن تذكرهم في أسواق عكاظ وذي المجاز، أو أن تشيد بهم في الحانات والملاعب، لكن أن تذكرهم في المساجد، وتزاحم بهم الأنبياء والأولياء، وتدعو الناس لأن يجعلوهم قدوة لهم؛ فتلك هي الطامة الكبرى، فالناس لن يسمعوا لكلامك فقط، بل سيبحثون ويدرسون ليكتشفوا من هم أولئك الذين تشيد بهم، وتدعو إليهم.
لا أدري ما أقول لك ـ أيها الرفيق العزيز ـ فأنا أعلم ثقل كلامي على سمعك، وأعلم أنك لا تريد أن تخرج من دين قومك، لتدخل في دين الله، ولذلك تسارع إلى تلك الأصنام كل حين تلمعها وتطيبها، لتشعر أنك لا تزال مع قومك.. وإن سمعت شخصا يدعوك لتحطيمها رحت تخاطبه بما خاطبت به قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو رحت تقول له ما قال قوم نوح عليه السلام مخاطبين نبيهم: { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح: 23]
وأنت كذلك ـ أيها الرفيق العزيز ـ والفرق بينك وبينهم أنهم اكتفوا بخمسة أصنام، لكنك لم تكتف بخمسة آلاف صنم، أو خمسمائة ألف صنم، أو أكثر من ذلك.. كلهم ملتفون حول كعبة قلبك يزاحمونها؛ فلا ترى الحقائق إلا بعد رؤيتك لهم، ولا يمكن أن ترى الحقائق صافية وأنت تشاهدها من خلال مرائيهم المملوءة بالقذارة.
لست يائسا منك ـ أيها الرفيق العزيز ـ مع كل ما تقابل
به نصائحي من شدة وغلظة وعنف، لأني أعلم أنك لا تخاطبني بذلك العنف، وإنما تخاطب
نفسك من خلالي؛ فأنت لم تقتنع بهم أصلا، ولكنك خشية على نفسك من قومك، فرحت تعبدهم
مثلما يعبدونهم، ولو أنك تخلصت من قومك، وعلمت أن كل ما فوق التراب تراب، لهان
عليك أن ترميهم جميعا في المحرقة، ليبقى قلبك خالصا لربك؛ فلا يمكن أن يعرف الله
من ملأ قلبه بالأصنام.
([1]) سنن الترمذي: 4/ 436 ــ سنن أبي داوود: 5/ 36، مسند احمد ج 5 ص 221..