لا تكن شريكا للقتلة

لا تكن شريكا للقتلة

أرسلت إلي ـ أيها الرفيق العزيز ـ تتعجب من بثي لتلك الأحاديث المحذرة من القتل، وذكرت لي أنك وجميع من سمعوا تلك الأحاديث قوم مسالمون، لم تتلطخ أيديكم بالدماء، وأنه كان الأجدر بي أن أحدثكم عن غير الدماء، أو عن غير الكبائر؛ فأنتم ـ بحمد الله، كما تذكر ـ قوم متدينون مسلمون، وأبعد الناس عن مثل تلك الجرائم.

وأنا ـ في تلك الموعظة التي وعظتكم ـ لم أكن أقصد أنكم محاربون، ولا أن أيديكم ملطخة بالدماء، لكني خشيت أن تكونوا من الذين يُكتبون من القتلة، مع أنهم لم يسفكوا في حياتهم قطرة دم واحدة، لكنهم قتلوا بقلوبهم وألسنتهم ملايين البشر.. والقاتل ليس من مارس القتل بيده فقط، وإنما من مارسه بلسانه وقلبه وأي لطيفة من لطائفه.

لقد ورد في الحديث ما يدل على ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها – وفي رواية – فأنكرها – كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) ([1])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع) ([2])

وأصدقك القول ـ أيها الرفيق العزيز ـ أني لم أكن أنوي أن أحدثكم في تلك الموعظة التي شرفتموني بطلبها عن القتل والدماء، ولكني في الفترة التي جلست فيها إليكم سمعت أحاديث عجيبة جعلتني أخشى عليك وعليهم من أن تُكتبوا عند الله من القتلة، وأنتم لا تشعرون.

لقد سمعت بعضكم يتحدث بإعجاب عن أمريكا، ونهضتها، وتطورها الاقتصادي، ونظامها الدقيق، ويتمنى لو أن إخوانه من العرب انتهجوا نهجها وساروا، سيرها؛ فلما قال ذلك قام له بعض القوم، وذكر له ما فعل أسلافهم بالهنود الحمر، وبالفيتناميين، وباليابانيين، وما فعله خلفهم من جرائم في حق العراق وأفغانستان والكثير من بلاد الله الواسعة.. لكن الرجل بدل أن يستنكر تلك الجرائم، راح يبررها، ويدافع عنها، ويستعمل في ذلك كل ما تعلمه من فنون التبرير، ويصور أن السنن الحضارية قد تستدعي بعض السلوكات التي لا تنسجم مع العواطف، لكن العقل يفرضها.

واستسلم أكثر الحضور لكلامه وتبريراته، ولم ينكروا عليه، ولم يتصوروا أنهم بذلك السكوت والرضا قد كُتبوا في قائمة قتلة الهنود الحمر والفيتناميين واليابانيين والعراقيين والأفغانيين.. وغيرهم من عشرات الملايين البشر.

وهكذا راح آخر يدافع عن فرنسا، ويصور للحضور أنها أم التنوير، وأنها قمة من قمم الحضارة، وأنه لا يمكن لدولة تريد أن تتقدم من أن تسير على خطاها، وتنتهج نهجها، وتشرب من شرابها حلوه ومره، خيره وشره.. وعندما ذكر له بعض الحضور جرائم الفرنسيين في أكثر الدول الإفريقية، راح يلتمس لها الأعذار، وراح الحضور يقبلون منه، ويسجلون أنفسهم طواعية ضمن قائمة المجرمين الذين قتلوا ملايين المستضعفين.

وهكذا سمعت ثالثا يبرر للإرهابيين كل سلوكاتهم، ويعتبرهم ثوارا، وأن على الدولة أن تستسلم لهم، وأن تعطيهم رقابها، ورقاب شعبها ليذبحوه بالطريقة التي يشاءون.

وسمعت رابعا يذكر مناقب يزيد، وأنه مغفور له، وأنه استطاع أن يوحد الدولة، ويقف في وجه المعارضين؛ فلما قام بعضهم يذكر له جرائمه في حق أهل البيت في كربلاء، وجرائمه في حق الصحابة في الحرة، وغيرها.. راح يبررها، ويدافع عن يزيد وجرائم يزيد، وسكت القوم، وراحوا يسجلون أنفسهم جنودا متطوعين في ذلك الجيش المجرم.

وهكذا سمعت خامسا، يبرر ما يحصل من قتل لأطفال اليمن وشيوخها ورجالها ونسائها، ويذكر أن ذلك شيء طبيعي، وأنه على الدولة أن تحفظ جوارها من كل ما يسيء إليه.

وهكذا لم ينفضّ ذلك المجلس إلا بعد أن سجل الحضور أسماءهم في قوائم القتلة، لا قتلة أفراد معدودين، وإنما قتلة الملايين ومئات الملايين.

لذلك عندما طلبوا مني في آخر المجلس أن أحدثهم، رحت أحدثهم عن القتل، لأني لم أشم عند جلوسي إليهم إلا روائح دماء المستضعفين المظلومين، الذين لم يكفهم أن قُتلوا مرة واحدة، وبدم بارد من المجرمين المستكبرين، حتى أضاف إليهم أولئك الذين تسميهم قوما مسالمين قتلة جديدة، وفي بيت من بيوت الله، وفي شهر من أشهر الله الحرام.

وما آلمني ـ أيها الرفيق العزيز ـ هو سكوتك على ما ذكروه؛ فلم تنبس ببنت شفة، وأنا أعلم سبب ذلك؛ فأنت لا تحب أن تسبح خلاف التيار، ولا تريد أن تغرد خارج السرب، ولا تريد لقومك أن يرموك بالبلادة، أو التخلف، أو الرجعية، ولذلك آثرت أن تسجل اسمك في قوائم القتلة، واعتبرتها أفضل من قوائم الرجعيين والمتخلفين والظلاميين.

ولذلك كتبت إليك هذه الوصية، أنبهك إلى أن محكمة العدل الإلهية لن تستثني قاتلا يوم القيامة، سواء ذلك الذي باشر القتل، أو ذلك الذي زكى القاتل، أو ذلك الذي رضي عنه، أو ذلك الذي دعمه، أو ذلك الذي أحبه ووالاه، أو ذلك الذي انتصر له، ودعا إليه..

فكل هؤلاء مسجلون ضمن القتلة، وكل هؤلاء ستوضع في موازينهم كل جثث القتلى، وكل دماء المظلومين، لتؤخذ بأوزانها حسناتهم، وتُصب عليهم سيئاتهم.

لذلك لا تذكر لي أنك وقومك من المسالمين.. فالمسالم هو ذلك الورع الخائف من الله، الذي يعتذر له كل حين، ويسأله التوبة، ويسأله أن يطهر قلبه من كل حقد وضغينة، وأن يجعله كهفا منيعا للمستضعفين حتى لو كانوا متخلفين، وأن يجعله سدا شديدا في وجه المستكبرين الطغاة حتى لو لبسوا لباس فرعون، وظهروا بزينة قارون.

هذه وصيتي إليك، ولقومك؛ فإن شئتم أن تتوبوا إلى الله؛ فعليكم أن تعتذروا أولا لكل أولئك الذين قتلتموهم بألسنتكم وقلوبكم، وأن تدفعوا لهم الدية على قتلكم لهم، وديتكم هي أن تدافعوا عنهم، وأن تقفوا في وجه قتلتهم؛ فلا يمكن لمن انتمى إلى عصابة أن يخرج منها إلا بعد إعلان براءته منها، وحربه لها.


([1])  رواه أبو داود (4345)، والطبراني (17/ 139) (14033)

([2])  رواه مسلم (1854)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *