لا تكن حمال حطب

لا تكن حمال حطب

أيها الرفيق العزيز.. أليس من العجيب أن تشتغل حمال حطب بعد تلك السنين الطويلة من التعب في جمع الكتب ومطالعتها وفهمها ومذاكرتها مع الطلبة والأساتذة.. هل هذه نهايتك التي تريد أن تلقى بها ربك؟

لقد رأيتك البارحة في تلك القناة التلفزيونية التي استضافتك، تحمل كل أنواع الحطب الجزل، وتصب عليها كل أنواع الوقود، ثم تقوم بإشعالها.. لا بين فردين من الناس كما يفعل البسطاء منهم، وإنما بين الطوائف الكبرى في الإسلام، لتقطع كل ما يربط بينها من جسور التواصل، وحبال المودة.

والعجب أنك بعد أن قمت بذلك سئلت عن وحدة المسلمين، فرُحت تقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]

ثم تعقب عليها بأن الوحدة واجبة، وأنه لا يمكن للمسلمين أن تكون لهم قوة من غير أن تكون لهم وحدة، ثم ذكرت لهم أن الوحدة لا تعني الاتفاق في كل شيء.. فالتنوع أساس من أسس الوحدة، والتعايش بين المختلفين سمة من سماتها.. وليتك كنت تدرك ما تقول.. إذن لكففت عن رمي الحطب وإشعال النيران.

وهكذا سئلت عن النميمة، فرحت تحذر منها أشد التحذير، وتقرع الواقعين فيها وتوبخهم وتتوعدهم بالعقاب العظيم.. وقد ذكرت فيما ذكرت قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: 10-13]

ومع أن هذه الصفات جميعا لا تنطبق على أحد كما تنطبق على الطائفيين الممتلئين حقدا وغلا، إلا أنك رحت تقصرها على ذلك الشاب أو تلك العجوز التي تسعى بالنميمة بين المرأة وزوجها، أو بين الأب وابنه، أما ذلك الذي يشعل النار بين ملايين المسلمين، فهو معفو عنه عندك، لأنه يشبه ذلك اللص الكبير الذي استطاع أن يغري لصوص الدين بأن يسموه ورعا وتقيا، وأن يحرضوه في نفس الوقت على قطع أيدي اللصوص الصغار.

وهكذا رحت تقصر قوله تعالى ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4] في امرأة واحدة، هي تلك المرأة التي كانت تشعل الحطب بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقومه، ثم تعفي نفسك، وكل أولئك الذين يثيرون الشحناء بين المسلمين من أن يشملهم مفهوم الآية، ويكونوا أحد أبرز مصاديقها.

وهكذا رحت تستعرض ما تحفظه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النمامين، وأنهم شرار الخق، ومما رويت بسندك في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بشراركم) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (المفسدون بين الأحبة المشَّاؤون بالنميمة الباغون للبرآء العنت)([1])

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)([2])

وقوله: (لا يدخل الجنّة نمّام)([3])

وقوله: (من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حقّ شانه اللّه في النار يوم القيامة)([4])

وقوله: (أيّما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بري‏ء ليشينه بها في الدّنيا كان حقّا على اللّه عزّ وجلّ أن يذيبه بها يوم القيامة في النار)([5])

وقوله بعد أن مرّ على قبرين: (إنّهما ليعذّبان، وما يعذّبان في كبير. ثمّ قال: (بلى، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنّميمة. وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله)([6])

وقوله: (تجد من شرار النّاس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه) ([7])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا تنطبق على أحد من الناس كما تنطبق على أولئك الذين لا يكتفون بنشر الكراهية بين الفرد والفردين، وإنما ينشرونها في الأمة جميعا، وبين مئات الملايين من الناس..

وقد كنت للأسف أحدهم؛ فأنت لم تسارع إلى الإصلاح بين المؤمنين، ولا ذكر ما ينشر قيم الأخوة بينهم، وإنما رحت تقتبس من كل شاردة وواردة ما يملأهم بالكراهية والبغضاء.

ولم تكتف بكل تلك النصوص التي تدينك، وتدين من يقوم بنفس عملك، وإنما رحت تضيف إليها كل ما في ذاكرتك من روايات عن ذم النميمة والإفساد بين الناس.. وقد رويت لهم أن لقمان قال لابنه: (يا بنيّ، أوصيك بخلال، إن تمسّكت بهنّ لم تزل سيّدا: ابسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم والّلئيم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساع، أو سماع باغ، يريد فسادك، ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك)([8])

ورويت لهم بسندك عن الإمام عليّ أنّ رجلا سعى إليه برجل فقال له: (يا هذا، نحن نسأل عمّا قلت، فإن كنت صادقا مقتناك. وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك) فقال: (أقلني يا أمير المؤمنين)([9])

وأنه قال: (شراركم المشّاءون بالنميمة المفرّقون بين الأحبّة المبتغون للبرآء المعايب)([10])

و عن الإمام الباقر أنه قال: (الجنّة محرّمة على المغتابين والمشاءين بالنميمة)([11])

وعن بعض الحكماء أنه زاره بعض إخوانه، وأخبره بخبر عن غيره، فقال له الحكيم: (قد أبطأت عن الزّيارة وأتيتني بثلاث جنايات بغّضت إليّ أخي وشغلت قلبي الفارغ، واتّهمت نفسك الأمينة)

ثم ذكرت لهم أن قحطا أصاب بني إسرائيل، فاستسقى موسى مرّات فما أجيب فأوحى اللّه تعالى إليه أنّي لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمّام قد أصرّ على النميمة، فقال موسى: يا ربّ من هو حتّى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نمّاما فتابوا بأجمعهم فسقوا.

ثم قصصت عليهم قصة ذلك الرجل الذي باع عبدا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلّا النميمة، فقال المشتري: قد رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أيّاما، ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتسرّى عليك، وأنا أسحره لك في شعره فقالت: كيف أقدر على أخذ شعره؟ فقال: إذا نام فخذي الموسى واحلقي من قفاه عند نومه شعرات حتّى أسحره عليها فيحبّك، ثمّ قال للزّوج: إنّ امرأتك اتّخذت خليلا وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتّى تعرف ذلك، فتناوم فجاءته المرأة بالموسى فظنّ أنّها يقتله فقام فقتلها، فجاء أهلها وقتلوا الزّوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر بينهم([12]).

ورويت لهم أن رجلا اتبع حكيما سبعمائة فراسخ في سبع كلمات فلمّا قدم عليه قال: (إنّي جئتك للّذي آتاك اللّه من العلم فأخبرني عن السماء وما أثقل منها، وعن الأرض وما أوسع منها، وعن الحجر وما أقسى منه، وعن النّار وما أحرّ منها، وعن الزمهرير وما أبرد منه، وعن البحر وما أغنى منه، وعن اليتيم وما أذلّ منه؟)، فأجابه بقوله: (البهتان على البري‏ء أثقل من السماوات، والحقّ أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحرّ من النّار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزّمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمّام إذا بان أمره أذلّ من اليتيم)([13])

وهكذا لم تترك شيئا مما ذكره المفسرون والمحدثون في ذم النميمة إلا ذكرتك.. ولكنك لم تنتبه إلى أنك وفي ذلك المجلس كنت تقوم بأبشع أنواع النميمة، وهي النميمة التي لا تشمل الأفراد، وإنما تشمل الطوائف والشعوب.

وهكذا عندما سئلت عن القطيعة بين المسلمين والآثام المرتبطة بها، رحت تقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]

ثم تفسرها بأن المراد منها وجود الدفاع عن أعراض المسلمين، وتكذيب من يكذب عليهم لينشر الفرقة بينهم.

ثم رويت لهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دبَّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم)([14])

ثم ذكرت لهم أن أفضل الأعمال الصالحة السعي في الصلح بين المسلمين، ومما رويت لهم في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)([15])، أي: التي تحلق الدين.

ورويت لهم ما ورد من أحاديث في بيان الأجر العظيم الذي يناله من يذب عن أعراض المسلمين، ويكذب الافتراءات التي تفترى عليهم، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)([16])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من النار)([17])

ثم سئلت بعدها عن حكم الذي يغتاب في مجلسه الناس، فرويت لهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اغتيب عنده أخوه المسلم فلم ينصره وهو يستطيع نصره أدركه إثمه في الدنيا والآخرة) ([18])، وقوله (من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الخلائق يوم القيامة) ([19])

لكنك بعد ذلك كله سئلت عن تلك الطائفة من طوائف المسلمين، فرحت تفرغ كل ما في جعبتك من أحقاد عليها، وتستعمل كل وسائل التحريض والتحريش، وتدعو إلى مقاومتها بكل الوسائل، وتكذب عليها بكل ألوان الكذب.. ثم تضع ما في صدرك من حطب ووقود وتشعل النار فيها، وفي كل النصوص المقدسة وغير المقدسة التي رويتها.


([1]) رواه أحمد (6/459)

([2]) رواه أبو داود.

([3]) رواه البخاري، كما في الفتح: 10 /6056، ومسلم (105)

([4]) رواه البيهقي في الشعب بسند حسن كما في الجامع الصغير.

([5]) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت.

([6]) رواه البخاري، كما في الفتح: 3 /1378، ومسلم (292)

([7]) رواه البخاري، كما في الفتح: 10 /6058، ومسلم (2526)

([8]) إحياء علوم الدين، (3/ 167)

([9]) رواه المفيد في الاختصاص، ص 142.

([10]) الكافي ج 2 ص 369.

([11]) المرجع السابق، ج 2 ص 369.

([12])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏5، ص: 280.

([13])  المرجع السابق، ج‏5، ص: 277.

([14]) رواه الترمذي (2510)

([15]) رواه أبو داود (4919)

([16]) رواه الترمذى.

([17]) رواه أحمد.

([18]) رواه أبو الشيخ في التوبيخ.

([19]) رواه أحمد.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *