لا تغضب

أيها الرفيق العزيز.. لقد راجعت كل ما ذكرت لي من الأحداث التي وقعت لك في فترة توليك لتلك المسؤولية الضخمة التي ناء بها ظهرك.. ورأيت أنها جميعا لا تعود لأولئك العمال البسطاء، ولا أولئك الأعوان المساكين.. وإنما تعود إليك.
فأنت لم تكن تعالج الأمور بالحكمة والروية والتؤدة، وإنما كنت تنتفخ مثلما تنتفخ الهررة، ثم تنفجر فيهم جميعا، فتملأهم بالرعب، ثم لا تلبث أن تتلاعب بأرزاقهم، وتهددهم بقطعها أو إيقافها..
ولهذا كان غضبك هو الذي جر عليك كل تلك الويلات.. وهو الذي جلب لك كل أولئك الأعدء.. الذين ما إن لاح لهم بصيص من القدرة حتى راحوا يتحولون مثلك إلى هررة منتفخة تنفجر فيك، مثلما كنت تنفرج فيهم.
ولو أنك كنت أكثر حكمة، ولم تترك لغضبك أن يتحكم فيك.. بل سارعت إلى ما أعطاك ربك من علم، فأطفأت به جمر غضبك، لما وقع ما وقع.
أنت تذكر لي أن تصرفاتهم كانت مملوءة بالطيش، وأنا أقرك على ذلك، ولكني لا أقرك في أن تتحول تصرفاتك أيضا إلى تصرفات طائشة، فالطيش لا يعالج بالطيش، وإنما يعالج بالحكمة.
لعلك سمعت بقصة ذلك الذي بال في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لا شك أن تصرفه كان طائشا، وكان لا يقل عن تصرفات أولئك العمال والأعوان الذين شكوت منهم.. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعالج تلك الواقعة بما عالجت به أمثالها، أو ما هو دونها..
بل عالجها بمنتهى الحكمة والتؤدة والرفق، فقد راح أولا إلى أصحابه الذين اشتدوا معه، وغضبوا عليه، ينتهرهم، ويدعوهم إلى عدم التعرض له، بل يمنعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة ما دعاه إلى ذلك، وهو جهله، فراح يعلمه بكل رِفق، وبكل سهولة، فلم يجد الأعرابي إلا أن يقول قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)([1])
وهي قولة تشير إلى أن ذلك الجلف الغليظ الذي لم يتأدب مع بيت الله، وفي وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد تحول بسبب ذلك التصرف إلى شخص آخر، أكثر محبة ولينا ورحمة.
وهكذا حدث بعض الصحابة قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: (واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي)، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)([2])
وقد كان هذا السلوك النبوي داعية لذلك الرجل، لأن ينطق بتلك الشهادة التي لا نزال نرددها: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)
وهكذا حدث آخر، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه رداء نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك ثمّ أمر له بعطاء)([3])
وهكذا حدث آخر، قال: إنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمّ به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوه فإنّ لصاحب الحقّ مقالا». ثمّ قال: «أعطوه سنّا مثل سنّه»، قالوا: يا رسول الله، إلّا أمثل من سنّه، فقال: «أعطوه، فإنّ من خيركم أحسنكم قضاء»([4])
هذه هي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي التي أثنى عليها قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
وأثنى عليها كل من عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخلاقه العالية، وقد قال أنس بن مالك يصفه، قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له، ترب جبينه)([5])
فلو أنك ـ أيها الرفيق العزيز ـ تعاملت معهم بهذه السنة النبوية لكان أمرك معهم مختلفا تماما.. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يصور آثار التحكم في الغضب، وليتك قرأتها قبل أن تبدأ عملك في تلك الوظيفة الخطيرة.
لقد ورد في الرواية أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: علّمني، فقال: (اذهب، ولا تغضب)؛ فقال الرّجل: قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفا، ولبسوا السلاح؛ فلمّا رأى ذلك لبس سلاحه، ثمّ قام معهم، ثمّ ذكر قول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تغضب)، فرمى السلاح، ثمّ جاء يمشي إلى القوم الّذين هم عدوّ قومه، فقال: (يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعليّ في مالي أنا أوفيكموه)، فقال القوم: (فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم)، فاصطلح القوم وذهب الغضب([6]).
أرأيت أيها الرفيق العزيز كيف استطاع هذا الرجل ـ بفضل وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن ينجي قومه من الحرب، ومن غير أن يصرف دينارا واحدا.
ولهذا لم يكن الغضب هو الدليل على قوة الشخصية، بل الدليل عليها هو السكون والهدوء والحكمة والتؤدة، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، فقال: (ما تعدّون الصرعة فيكم؟) قالوا: (الّذي لا يصرعه الرّجال)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس ذلك، ولكنّ الّذي يملك نفسه عند الغضب)([7])
وقال في حديث آخر: (ليس الشّديد بالصرعة إنّما الشّديد من يملك نفسه عند الغضب)([8])
هذه وصايا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لك ولي.. ولو أننا التزمنا بها، فإننا لن نكف عنا فقط شر الدنيا
وأهلها، وإنما نكف عنا شرور الآخرة أيضا، فمن المحال أن نتصرف بغضب، ثم لا نقع
بعدها في الخطيئة، وكيف يكون الأمر كذلك، والشيطان ما نفخ فينا نيران الغضب إلا
لنسكن معه نيران جهنم.
([1]) رواه البخاري وغيره..
([2]) رواه مسلم..
([3]) البخاري- الفتح 6 (3149) . ومسلم (1057) واللفظ له..
([4]) البخاري- الفتح 4 (2306) واللفظ له. ومسلم (1601)
([5]) رواه أحمد 3/ 126 (12299) وفي 3/ 144 (12490) والبخاري: 8/ 15 (6031) وفي 8/ 18 (6046)، وفي (الأدب المفرد) 430..
([6]) الكافي باب الغضب ج 2 ص 302 إلى 306.
([7]) ( 3) أخرجه مسلم ج 8 ص 30.
([8]) ( 4) أخرجه البخاري ج 8 ص 34 و رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف كما في مجمع الزوائد ج 8 ص 70.