لا تغرنك الدموع

لا تغرنك الدموع

أيها الرفيق العزيز.. لا تغرنك الدموع؛ فحتى التماسيح يمكنها أن تبكي.. وحتى أولئك الممثلين الممتلئين بالقسوة يمكنهم أن يملأوا مآقي مشاهديهم دموعا، وكيف لا يبكون وهم يعلمون أنهم سيقبضون أموالا كثيرة، وجاها عريضا من وراء تلك الدموع التي سكبوها، وضحكوا بها علي وعليك وعلى جميع المشاهدين.

وهكذا فعل أولئك الذين تدافع عنهم من الظلمة، فأنا كلما ذكرت لك جرائمهم في حق الإنسانية، والدماء التي سفكوها، والأعراض التي انتهكوها، رحت تنهاني بورعك البارد عن نقدهم أو لومهم أو توبيخهم أو الإنكار عليهم، ثم تحكي لي قصصا لا تختلف عن تلك المسلسلات التي نشاهدها، والتي قد نلتفت فيها للدموع، ولا نلتفت لما وراءها.

فهل تكفي تلك الدموع لغسل خطاياهم وجرائمهم؟.. وهل جعل الله الدموع وسيلة لإبراء الذمم؟.. وبذلك فإن القاتل ليس محتاجا لأن يدفع دية القتيل، ولا لأن يقدم رقبته ليقتص منه، بل يكفيه أن يذكر القتيل، ثم يبكي، ويردد بعض كلمات الثناء عليه، مثلما فعل معاوية الذي احتال على عقلك وعقول الملايين بتلك الدموع التي كان يسكبها أمام حاشيته، ويسكب معها أضعاف أضعافها دماء.

لا زلت أذكر ثناءك عليه عندما قصصت علي بكاءه على الإمام علي، واعتبرت تلك الدموع صكا ببراءته من كل الحروب التي قام بها في وجهه.. لقد ذكرت لي ما رواه المغيرة أنه قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلتَه؟ فقال: (ويحكِ إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم)([1])

وهكذا ذكرت لي أنه لما دخل ضرار بن ضمرة عليه، فقال له ـ معاوية ـ: صف لي عليا؟ فقال له: أ وتعفيني من ذلك؟ فقال: لا أعفيك. فقال: (كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطف الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، ويناجي ربه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب..)، وبعد أن وصفه بما وصفه به من القيم النبيلة والأخلاق العالية، والتي لم تلفت إليها جميعا، وإنما انبهرت بما ذكره الرواة من أن معاوية بعد أن سمع ذلك الوصف (وكفت دموعه على لحيته فنشفها بكمه، واختنق القوم بالبكاء)([2])

وقد حسبتَ أن ذلك البكاء شافعا له عند الله، وأنها مسحت كل تلك الحروب التي خاضها، وتلك التحريفات الكبرى التي أصاب بها الإسلام في قلبه بتحويل الحكم فيه إلى كسروية وقيصرية، وتحويل حقائقه إلى لعبة بين أيدي الملوك يقربون من شاءوا من العلماء، ويذبحون من شاءوا.

وهكذا ذكرت لي، وأنت متأثر تكاد تبكي دموع الحجاج بن يوسف، عندما حضرته الوفاة، وأنه قيل له حينها: ألا تتوب؟ فقال: (إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع)([3])، وأنه دعا حينها وقال: (اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل)([4])، وقد تصورت أن ذلك كاف لغسله من جميع الجرائم، ليبعث كيوم ولدته أمه.

وهكذا ذكرت لي، عندما حدثتك عن جرائم عبد الملك بن مروان، وأنه لم يكتف بقتل آلاف الأبرياء، عبر ولاته مثل الحجاج وغيره، بل راح إلى الكعبة يرميها بالمنجنيق، لكنك لم تلتفت لذلك، وكأن الكعبة ومعها تلك الألوف الذين قتلوا لا قيمة لهم عندك.

وعندما عاتبتك في ذلك ذكرت لي بتأثر شديد ما رواه الأصمعي عن أبيه عن جده قال: خطب عبد الملك يوما خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاء شديدا ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي.. وأنه عندما بلغ الحسن البصري ذلك بكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام ([5]).

وهكذا ذكرت لي عندما حدثتك عن هارون الذي قسم الدولة الإسلامية بين ولديه، وكيف تسبب ذلك في فتنة عظمى، لا نزال نعيش آثارها.. لكنك لم تبال بكل ذلك القتل والدماء، وإنما رحت تذكر لي دموعه التي أسرتك..

لقد قلت لي موبخا: دعك يا رجل.. فمن أنت ومن هو.. ماذا قدمت.. وماذا قدم.. ألم تسمع قصته مع الفضيل بن عياض، وكيف ذكر الرواة أنه (بكى بكاء شديدا حتى غشي عليه)([6]) عندما سمعها.

وهكذا رحت تحكي لي حكايات الدموع التي ضُحك بها عليك، وعلى جماهير الناس الذين لا يلتفتون للضحية الذي بكى جسده دماء، وإنما يلتفتون لدموع القاتل، التي سرعان ما يمسحها، ويعود إلى لهوه ولعبه، ويخطط بعدها لجرائم جديدة.

ولو أنك ـ أيها الرفيق العزيز ـ عدت إلى كلام ربك المقدس، وإلى الأوصاف التي ذكر بها المنافقين وكونهم يتصورون أنهم مع جرائمهم من الصالحين، لدلك ذلك على الموازين الشرعية التي تزن بها الأعمال والمواقف، لقد قال الله تعالى في وصفهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11]، وهكذا هؤلاء الذين ملأوا الأرض فسادا، لكنهم بدموعهم يخدعونك ويخدعون الجماهير بالظهور بمظهر الصالحين.

وهكذا قال تعالى في الذين بنوا مسجد الضرار، وما أكثر مساجد الضرار التي بنيت في تاريخ وجغرافية المسلمين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]

وهكذا قال تعالى في حق تلك الخدع التي يخدعونك ويخدعون الجماهير بها: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].

وهكذا نبهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن العبرة ليست بتلك الحركات التمثيلية التي قد تؤدى في الصلاة وغيرها، وإنما العبرة بالسلوك الأخلاقي الذي يشمل الحياة جميعا؛ فقال: (يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم الى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم الى صلاتهم شيئا، ولا صيامكم الى صيامهم شيئا، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية)([7])، وقال: (يرث هذا القرآن قوم يشربونه شرب اللبن، لا يجاوز تراقيهم)([8])

أظن أن هذه النصوص المقدسة كافية ـ أيها الرفيق العزيز ـ لتراجع نفسك، وتراجع مواقفك، حتى لا تُحشر مع الظلمة الذين تدافع عنهم كل حين، وتنسى أولئك المستضعفين المقهورين الذين لم يجدوا من الأدباء أو المؤرخين أو وعاظ السلاطين من يسجل دموعهم التي لا تُكفكف، والتي قد تختلط بدمائهم، والتي تمتلئ بغصص المظلومية والاحتقار التي تسبب فيها من ترفع من شأنهم، وتحاول أن تطهر صورتهم التي لا يمكن أن تطهرها مياه البحر جميعا، فكيف بتلك الدموع التي لا تختلف عن دموع التماسيح.


([1])  البداية والنهاية  ( 8 / 133 )

([2])  لاستيعاب 3: 107، حلية الأولياء 1: 84..

([3])  محاضرات الأدباء (4/495 )

([4])  تاريخ دمشق (4/82) . والبداية والنهاية (9/138)

([5])  البداية والنهاية، (9/ 81)

([6])  المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (9/ 150)

([7])  رواه مسلم وابو داود وابو عوانة.

([8])  رواه أبو نصر السجزي في الابانة والديلمي..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *