لا تطفف في الموازين

لا تطفف في الموازين

أيها الرفيق العزيز.. لا تحسبن ذلك التهديد الشديد الذي توعد الله به المطففين في الموازين خاصا بالبقالين والجزارين والعطارين.. بل هو يشملك أيضا، ويشملني، ويشمل الناس جميعا، وفي كل موقف يقفونه، وعند كل شهادة يدلون بها.

بل إن الوعيد المرتبط بي وبك أشد؛ فنحن قد اخترنا أن نطلب العلم، ونتحدث فيه، ويجلس بين أيدينا التلامذة، ويستفتينا الناس، وهم يأخذون دينهم ومواقفهم وأكثر شؤون حياتهم من خلال ما ندعوهم إليه، أو نشهد أمامهم به..

فلذلك كان تطفيفنا بالنسبة لهم أخطر من تطفيف البقالين.. فالبقال قد ينقص من طعامهم حبة، أما نحن فقد نهوي على دينهم وحياتهم بمعاولنا، فلا تقم بعدها لحياتهم قائمة.

ربما لم تفهم عني ما أقصد بالضبط، ولذلك سأشرح لك من خلال بعض ما رأيته منك.. ولا تحسبني أتجسس عليك، أو أتتبع عوراتك، فمعاذ الله أن أفعل ذلك.. ولكني ـ بحكم الصداقة التي تجمع بيننا ـ كنت حريصا عليك؛ فالمؤمن مرآة أخيه، وكاليدان تغسل إحداهما الأخرى.

لقد رأيتك في تلك الأيام المملوءة بالفتن، وأمام جمع من الناس، جلسوا إليك منصتين يطلبون شهادتك وموقفك مما يحدث في البلاد الإسلامية من دمار وخراب وسفك دماء، وكان في إمكانك أن تكون حكيما، وأن تشهد لله، وأن تذكر الحقيقة بجميع جوانبها.. لكنك أبيت ذلك، لا خوفا من الله، وإنما خوفا من الحضور، لأنك تعلم أنهم قد يضعونك بسبب موقفك في القائمة السوداء التي تقضي على سمعتك بينهم.

لقد رحت تدعو إلى الفتنة، وقتل الرئيس، وكل من يحيط به، وقتل العسكر الذي يحميه، والشرطة التي تحمي الموالين له.. لكنك عندما سئلت عن أولئك الملوك المستبدين الذين كانوا وراء ما يحصل من فتن، رحت تتملق لهم، وتثني عليهم، وتعتبرهم من السائرين على سنن النبوة، وأنت تعلم ما فعلوه بمال الأمة وأعراضها، وتعلم قبل ذلك أنهم أول الخونة لشعوبهم.. وتعلم أن تلك الأموال التي وضعوها في خزائن عدوهم، كان يمكنها أن تسد كل مسغبة، وتصلح كل مفسدة.

أنا أعلم الأدلة التي تستند إليها؛ فأنت تذكر لي أن ذلك الحاكم ظالم، وأن من حق الشعب أن يثور عليه.. وقد لا أخالفك في هذا، ولكني أخالفك في ذلك التطفيف الذي جعلك تدين اللص الذي سرق بيضة واحدة، وتسكت عن اللص الذي سرق شعبا كاملا.. وهذا هو التطفيف بعينه.. بل هذه هي شهادة الزور التي توعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يقوم بها بالوعيد الشديد.

ثم إنك ـ أيها الرفيق العزيز ـ لا تطفف في مواقفك فقط، بل تطفف في أحكامك أيضا؛ حيث أنك تصنف ذلك الشعب الذي وقف مع حاكمه ظالما، وتصنف الذي وقف ضده مظلوما، وتضع الجندي الذي يحمي بلده في خانة المجرمين، وتضع المرتزق الذي جاء من بلاد بعيدة ليقتل الناس ضمن خانة المجاهدين.. تفعل كل ذلك من غير أن تجري تحقيقا، ولا أن تسمع شهادة.. فهل هكذا يكون القضاء؟

أليس من العجب أن يمكث المحققون في قضية قتل واحدة، عشرات الأشهر يبحثون ويتداولون، ويُسمح للمتهمين بالاستئناف.. بينما أنت تحكم بأحكامك وفي لحظات معدودة، وفي قضايا ترتبط بعشرات الآلاف من القتلى..وليس لك من دليل سوى تلك القنوات التي تنفخ نار الفتنة أو أولئك العلماء الذين سكتوا عن اللصوص الكبار، وراحوا يفتون بتدمير مدن اللصوص الصغار.

أليس هذا كله تطفيف في الموازين.. أم أنك ترى أن البقال والجزار والعطار، سيوقف يوم الحساب لأجل النقير والقطمير.. ولا توقف أنت الذي حكمت على شعوب كاملة، وسكت على شعوب أخرى، مع أن الجرائم واحدة.

ليس ذلك فقط ـ أيها الرفيق العزيز ـ تطفيفك في الموازين.. فأنا أراك في كل حين تضع معايير مختلفة لوزن القضايا.. الواقعة منها والتاريخية.. وقد سمعتك مرة تدين الحروب الصليبية، وجرائمها في حق المسلمين.. وسمعتك في نفس اليوم تبرر حرق المتوكل لعاصمة جورجيا، وحرقه خمسين ألفا من سكانها، واعتبرت ذلك نصرا للإسلام..

فهل هذه شهادة لله، أم شهادة للشيطان، ألم تسمع قول ربك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]؟

وهكذا رأيتك تتعامل مع كلمات ربك المقدسة؛ فأنت تحمل تنزيلها على تأويلك وفهمك، وتلزم غيرك به، بل تبدع من يخالفك فيه، مع علمك بأن الذين تخالفهم لا يقلون عن الذين يوافقونك؛ فهل أنزل الله عليك من الفهم ما لم ينزل على غيرك؟.. ولم لم تتواضع، وتعتبر ذلك فهمك، ثم تكل فهوم غيرك لربك الذي يحاسبهم ويدينهم، ويصنفهم كيف يشاء؟

وهكذا رأيتك تتعامل مع هدي نبيك؛ فأنت تصحح من أحاديثه ما يتناسب مع مزاجك، وتضعف ما لا يتناسب معه، ثم ترمي المخالفين لك بهجران السنة، والتزام البدعة، وأنت تعلم أنهم في مواردهم ومصادرهم لم يطبقوا سوى ما وصلهم من السنة التي يعتقدون صحتها، فهم يسيرون على ما هداه إليه علمهم.

وهكذا رأيتك تتعامل مع المسلمين؛ فتقسمهم إلى طوائف وأحزاب، تلقيها جميعا في النار، وكأنك مالك خازن النيران، وكأن الله تعالى وكلك بأن تجيب جهنم عندما يقال لها: { هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]

وهكذا رأيتك تتعامل مع طائفتك التي تغض الطرف عن عيوبها، بل تحولها عيوبها محاسن، وتستعمل كل ما لديك من قدرات لكتمان ما لا تطيق علاجه من ثغراتها، لكنك في نفس الوقت تحول من حبة المخالفين لك قبة، وتنشر ما شاء لك الهوى من فضائحهم وعيوبهم، ولا تسترها عليهم، أو تدعو الله أن يهديهم سواء السبيل.

هذه بعض المشاهد التي رأيتها منك أيها الرفيق العزيز.. واعذرني لأني ذكرتها لك، فلو لم أفعل ذلك لكنت من المطففين في الموازين؛ فلا يحق لي أن أوجه نصائحي ووصاياي للأبعدين، وأترك الأقربين، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *