لا تسمهم علماء.. فهم قطاع طرق

لا تسمهم علماء.. فهم قطاع طرق

أيها الرفيق العزيز.. هل تحسب أن كل أولئك الذين تتحدث عنهم بإعجاب شديد علماء؟.. وهل يمكن للعالم أن يكون له كل ذلك الحرص على الدنيا، وكل ذلك الوقوف على أبواب الأمراء؟.. وهل يمكن للعالم أن يتتبع الفتن، لا لإخمادها، وإنما لإشعالها، وإضافة المزيد من الحرائق إليها؟

أعلم أنك ستصرخ في وجهي مثلما يصرخ أولئك المفتونون بهم، وبتلاعبهم بالألفاظ، واحتيالهم على العقول، واستخدامهم لكلمات ربهم المقدسة وشاحا يغطون به جرائمهم، وطلاء يسترون به قبحهم، وعطرا يسترون به نتنهم.

لكني لن أرد عليك بنفسي، أو بكلماتي، فهي أدنى من أن يكون لها معنى، ولكني أذكرك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأنا من غير الدّجّال أخوف عليكم من الدّجّال) فقيل: وما ذلك؟ فقال: (من الأئمّة المضلّين)([1])

بل أذكرك بقوله تعالى عن أولئك العلماء من أهل الكتاب الذين يضلون الناس، ويتاجرون بالدين، ويتلاعبون بالفتاوى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34]؛ فهذه الآيات كما تنطبق على أحبار ورهبان أهل الكتاب تنطبق على أحبار ورهبان هذه الأمة.

لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم). قلنا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟. قال: (فمن؟))([2])

فهل ترى أن هذه الأمة معفو عنها في هذا الجانب؟.. أو أن علماءها أكثر حرمة من علماء بني إسرائيل؟.. وكيف عرفت ذلك، ومن أين لك به، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلناه؟

أعلم ما ستقول لي.. فأنت ستذكر لي بأننا لو طبقنا ذلك، فلن يبقى عالم في الأمة.. وأنت تفعل ذلك.. فأنت ترفع بعضهم إلى درجة القديسين، وتنزل بآخرين إلى درجة الشياطين.. وأنت لست ملوما في الرفع والخفض، ولكنك ملوم في أولئك الذين رفعتهم، وأولئك الذين خفضتهم.

أنت بفعلك ذلك حولت قطاع الطرق إلى شرطة تحمي الناس، وحولت الشرطة إلى قطاع طرق.. ذلك أنك ذهبت إلى كل أولئك العلماء المتواضعين الزاهدين الممتلئين بالحكمة؛ فرميتهم في أتون عذابك، وذهبت إلى أولئك المستكبرين الممتئلين غرورا، والداعين إلى كل ألوان الفتن، فرميتهم في جنتك.. وذلك ما سبب فتنا كثيرة.

فعامة الناس لا يأخذون دينهم إلا عن العلماء، وهم يختارون ما يختار لهم أمثالك، فإن دللتموهم على الهداة اهتدوا، وإن دللتموهم على المضلين ضلوا.

وللأسف.. أنت كنت من الذين دعوهم إلى المضلين.. لأنك لم تستند للمعايير التي وضعها ربك في وصف العلماء الصالحين الصادقين..

وأول أوصافهم وأعظمها عدم ركونهم للدنيا وأهلها، فهم زاهدون فيها، وفي أمرائها وملوكها، لا يبيعون دينهم بشيء.. ولا يحكمون إلا بما يرون أنه الحق.

ولذلك وصف الله تعالى بعض قطاع الطرق ممن كان عالما، ثم تحول إلى لص من اللصوص بتثاقله للدنيا وأهوائها، فقال: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176]

وهكذا وردت الأحاديث الكثيرة تحذر من هذا النوع من العلماء، وتبين أنهم الخطر الأكبر الذي يستعمله الشيطان في تحريف الأديان، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يكون في آخر الزّمان عبّاد جهّال وعلماء فسّاق)([3])

و قال: (هلاك أمّتى عالم فاجر وعابد جاهل وشرّ الشّرار شرار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء)([4])

وبين صفات هؤلاء الأدعياء، فقال: (لا تتعلّموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السّفهاء، ولتصرفوا به وجوه النّاس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النّار)([5])

وقال: (أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض الأنبياء: قل للّذين يتفقّهون لغير الدّين، ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدّنيا بعمل الآخرة، يلبسون للنّاس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذّئاب ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، إيّاى يخادعون، وبي يستهزءون: لأفتحنّ لهم فتنة تذر الحليم حيرانا)([6])

وهكذا صنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلماء من أمته إلى صنفين، فقال: (علماء هذه الأمّة رجلان: رجل آتاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعا ولم يشتر به ثمنا، فذلك يصلّى عليه طير السّماء وحيتان الماء ودوابّ الأرض والكرام الكاتبون، يقدم على الله عزّ وجلّ يوم القيامة سيّدا شريفا حتّى يرافق المرسلين، ورجل آتاه الله علما في الدّنيا فضنّ به على عباد الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا، فذلك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار ينادى مناد على رءوس الخلائق: هذا فلان بن فلان آتاه الله علما في الدّنيا فضنّ به على عباده وأخذ به طمعا واشترى به ثمنا، فيعذّب حتّى يفرغ من حساب النّاس)([7])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مواصفات العالم الصادق السائر على منهاج النبوة، فقال: (لا تجلسوا عند كلّ عالم إلّا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس: من الشّكّ إلى اليقين، ومن الرّياء إلى الإخلاص، ومن الرّغبة إلى الزّهد، ومن الكبر إلى التّواضع، ومن العداوة إلى النّصيحة)([8])

وقد أخبر الإمام علي ـ شاكيا عن ذلك الاستخدام المقيت من طرف أئمة الجور والضلال لهذا النوع من مدعي العلم ـ فقال: (قطع ظهري رجلان من الدنيا.. رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء، والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون، فانّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ياعلي، هلاك أمتي على يدي كل منافق عليم اللسان)([9])

وقال: (إن في جهنم رحى تطحن، أفلا تسألوني ما طحنها؟ فقيل له: وما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة) ([10])

وقال الإمام الصادق في حديث طويل يبين دركات هذا النوع من العلماء في نار جهنم فقال: (إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه، ولا يؤخذ عنه، فذاك في الدرك الأول من النار.. ومن العلماء من أذا وُعظ أنف، وإذا وَعظ عنف، فذلك في الدرك الثاني من النار.. ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف، ولايرى له في المساكين وضعا، فذاك في الدرك الثالث من النار.. ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فإن رُدَّ عليه شيء من قوله، أو قُصِّر في شيء من أمره غضب، فذلك في الدرك الرابع من النار.. ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر بها علمه، ويكثر بها حديثه، فذاك في الدرك الخامس من النار.. ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول: سلوني، ولعلّه لا يصيب حرفا واحدا، والله لا يحب المتكلفين، فذاك في الدرك السادس من النار.. ومن العلماء من يتخذ علمه مروّة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار) ([11])

وعلى منهاجهم سار الأولياء محذرين من أولئك الدجاجلة الذين لبسوا مسوح العلماء، وراحوا يفسرون الدين بأهوائهم، وقد كان يحيى بن معاذ يقول مخاطبا لهم: (يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية!)

وقيل لبعضهم: إن الفقهاء يخالفونك، فقال: (ثكلتك أمّك، وهل رأيت فقيها بعينك! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم)

وعلى منهاجهم ينبغي أن يسير كل سائر على منهاج النبوة.. فلا حرمة لكل من يشوه الدين، أو يحرفه، أو ينشر بدله دين الشيطان وقيمه.. ومن سكت عن ذلك، فهو شيطان أخرس.


([1])  رواه أحمد.

([2])  البخاري- الفتح 13 (7320)

([3])  الحاكم.

([4])  الدارمي.

([5])  ابن ماجه.

([6])  ابن عبد البر.

([7])  الطبراني في الأوسط.

([8])  أبو نعيم في الحلية.

([9])  الخصال : 296 / 65.

([10])  الخصال : 69 / 103.

([11])  الخصال : 352 / 33.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *