لا تسق مرضاك سما

أيها الرفيق العزيز.. لقد رأيتك اليوم تتحدث إلى جمع من الشباب عن رحمة الله الواسعة، وذكرت لهم أثناء حديثك أصناف الشفاعة التي تنتظر العصاة يوم القيامة، وقد بلغت بك الحماسة إلى أن أوردت لهم ذلك الحديث العجيب الذي حدث به بعضهم عن كعب، وأنه ذكر ما تنتهي إليه شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة؛ فذكر أنه (يشفع حتى يبلغ من لم يصل صلاة قط، ولم يطعم مسكينا قط، ومن لم يؤمن ببعث قط، فإذا بلغت هؤلاء لم يبق أحد فيه خير)([1])
وقد زاد في حماستك ما رأيته من أولئك الشباب من انبهار واستزادة؛ فرحت تذكر لهم حديثا آخر عن كعب يذكر فيه (أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد)([2])
وعندما طالبوك بأن تترك الحديث عن كعب، وتحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت لهم قوله: (ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم فى صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمه من الخطايا ليس عليه ذنب)([3])
ثم عقبت عليه بقوله: (إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)([4])
وهكذا ذكرت لهم الكثير من الأسباب التي تقوم بمحو كامل لصحيفة سيئاتهم من دون أن يبذلوا أي جهد، ولا يتكلفوا أي ندم أو توبة، وكنت تتصور وأنت تفعل ذلك أنك ترغبهم في الدين، وتملؤهم شوقا لله وتعظيما له، وقد ذكرت لهم في أثناء ذلك أولئك الذين سميتهم منفرين عن دين الله.. أولئك الذين يحدثون الناس عن عذاب القبر، والآلام التي تنتظرهم إن هم تجاوزوا حدود الله.
أعلم أنك فعلت كل ذلك بحسن نية، وأنك لم ترد منهم جزاء ولا شكورا، ولكنك لم تعلم ما فعل أولئك الشباب المراهقون بعد أن خرجوا من عندك.. نعم خرجوا وهم يحمدون الله على رحمته الواسعة، ولكن شكرهم لله كان يشبه شكر ذلك اللص الذي قبل يد الشرطي بعد أن كتم عليه كل جرائم اللصوصية التي قام بها، وقطّع ملفه، ولم يرسل به إلى المحكمة ليأخذ عقابه، وليرد ما سرقه لأصحابه.
لقد خرج ذلك اللص من مخفر الشرطة، وهو يسبح بحمد ذلك الشرطي، ويلقي قصائد الثناء على رحمته، لكن أولئك المساكين الذين انتهكت أعراض بيوتهم امتلأوا حقدا على الشرطي، لكونه رحم اللص، ولم يرحمهم، ومارس الرحمة في غير محلها، وقدم الرحمة على العدالة، وأتاح الفرصة لكل المجرمين ليملأوا الأرض فسادا وجورا.
أنت ـ أيها الرفيق العزيز ـ تشبه ذلك الشرطي في رحمته ولطفه ولينه.. والفرق بينكما أنه ربما يكون قد تعامل مع لص واحد بتلك الطريقة، وفي شؤون مادية قد لا تضر كثيرا، لكنك فعلت ذلك مع جمهور كبير، كان يمتلئ ورعا وتقوى ومخافة من الله؛ فرحت تزيح تلك الحواجز، وتمزق القوانين، لتتيح للرغبات المكبوتة أن تفعل ما يحلو لها، لا في الأمور المادية فقط، وإنما في غيرها أيضا.. لذلك كان ذلك الشرطي أكثر رحمة وعدالة منك.
قد لا يكون كلامي ذا أهمية بالنسبة إليك، ولذلك أدعوك لقراءة كلام ربك، لترى كيف يمزج الله رحمته بعدله وغضبه حتى يردنا إلى حد الاعتدال؛ فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [الحجر: 49، 50]، فلذلك لا يصح أن تنبئ العباد عن رحمة الله، ثم تقصر في ذكر عقوباته لمن قصر في تربية نفسه وتهذيبها.
وأدعوك ـ أيها الرفيق العزيز ـ إلى الاهتداء بهدي رسولكصلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فهو سيد الدعاة والهداة؛ فهكذا كان يربي أمته، ويقول لهم محذرا: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، ويأتي قد شتم عرض هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)([5])، ويقول لهم:(من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)([6])
وهكذا علمنا أئمة الهدى؛ فالإمام علي يصف العالم الحقيقي؛ فيقول: (إنّما العالم الّذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله)([7])
أما ما ذكرت من الدعوة لحسن الظن بالله؛ فذلك صحيح، ولكن تعلّم من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم كيف تُعلم جمهورك حسن الظن بالله، حتى لا يلغي حسن الظن بالله الأمن من عذاب الله، وحتى لا يلغي الرجاء في رحمة الله الخوف من عقاب الله؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب على المنبر؛ فقال: (والّذي لا إله إلّا هو ما أعطي مؤمن قطّ خير الدّنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه باللّه ورجائه له وحسن خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين، والّذي لا إله إلّا هو لا يعذّب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلّا بسوء ظنّه باللّه وتقصيره من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين، والّذي لا إله إلّا هو لا يحسن ظنّ عبد مؤمن باللّه إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن لأنّ الله كريم بيده الخيرات يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا باللّه الظنّ وارغبوا إليه)([8])
فانظر كيف مزج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بين الرجاء والخوف، وبين الدعوة لحسن الظن بالله في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى مراعاة حسن الخلق والالتزام بالشريعة..
إذا فعلت هذا ـ أيها الرفيق العزيز ـ وتخليت عن مراعاة جمهورك، ولم تكن عبدا لطلباتهم، واستننت بسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين تكون من الذين أخذوا بالكتاب جميعا، وإذا لم تفعل فلا يمكن أن أجد لعملك تشبيها مثل ما ذكره القرآن الكريم عن اليهود الذي عاتبهم الله تعالى، فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 85]
كما عاتبهم عندما زعموا أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، فقال: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾ [البقرة:80]
وأنت ـ أيها الرفيق العزيز ـ أعفيت جمهورك حتى من تلك
الأيام المعدودة؛ فضمنت لهم النجاة، بل ضمنت لهم الجنة، ولو لم يفعلوا سوى أن
يمرضوا ثلاثة أيام، أو يتوضؤوا وضوءهم للصلاة أو لغير الصلاة.
([1]) رواه ابن مردويه، انظر: الدرالمنثور في التفسير للسيوطي ص6، ص286.
([2]) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (20/465)
([3]) رواه الحاكم (2/433، رقم 3508)
([4]) رواه الطبرانى فى الصغير (1/314، رقم 19)
([5]) رواه أحمد 2/303 (8016) ، ومسلم 4/ 1997،.
([6]) رواه البخاري 5 / 73.
([7]) رواه الكليني في الكافي ج 1 ،ص 36.
([8]) بحار الأنوار، ج 16 ص 189.