لا تسجن عقلك

أيها الرفيق العزيز.. أطلق سراح عقلك، وفك عنه قيوده وأغلاله، فقد طال سجنه، وكاد يبلى، ولا يمكنك أن تعيش من دونه، ولا يمكن أن تظل بتلك العقول التي استعرتها من غيرك، فالله أمرك أن تعرفه وتعبده بعقلك، لا بعقل غيرك.
أنت تعلم من كلفك بسجنه، وصور لك أنه الواقف دونك ودون الحقائق، وأنه قنبتلك الموقوتة التي ستنفجر فيك لترديك..وقد كذب في ذلك، فما العقل إلا وسيلتك إلى الحقائق، ودليلك عليها، وما خلقه الله لك إلا لتسير على سراجه إليها.
أما تلك الأسئلة التي تتوهم أنها أسئلة مشاغبة، فيمكنك أن تعالجها بجلستك الهادئة معه، فهو كالمراهق والصبي، يشاغب لكنه إن وجد حوارا هادئا، وكلاما حكيما يعود إلى وعيه من جديد، لتستمر رحلتك معه في السير إلى الحقائق..
لعلك تعرف أبا حامد الغزالي.. لقد مر بنفس تجربتك، لكنه لم يذهب لأولئك السجانين الذين ذهبت إليهم، فراحوا يقيدون عقلك، وإنما التجأ إلى الله وتضرع إليه ودعاه لأن يهديه للحقائق، وأن يوفقه للسير إليها.. فهداه إليها من غير أن يقيد عقله، بل هداه إليها بعقل جديد أكثر حكمة ونورا.
لقد قال يذكر ذلك: (لقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلا.. فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات، وفي تميز الحق منها عن الباطل اختلافات) ([1])
وهكذا راح يستعمل كل وسائل البحث إلى أن هداه الله إلى الحقيقة، وتحول إيمانه من إيمان المقلدين إلى إيمان المجتهدين، ومن إيمان العوام إلى إيمان الخواص، ومن الإيمان الممتلئ بالشك والتردد إلى الإيمان الممتلئ بالذوق والشهود والمعرفة.
ولو أنه حبس عقله، كما حبست عقلك لما اهتدى إلى شيء.. لأن العقل هو المرآة التي تتجلى فيها الحقائق، ومن كسرها أو قيدها، أو رماها في غياهب السجون، فلن يصل إلى شيء.
وهكذا حصل لديكارت الفيلسوف الكبير الذي اهتدى إلى الإيمان في الوقت الذي ضل فيه الكثير من الفلاسفة عنه؛ فهو أيضا حصل له ما حصل للغزالي، لكنه استطاع بفضل إعمال عقله، وعدم سجنه أن يهتدي للإيمان بالله، ولو أنه أعمله أكثر لاهتدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد قال يحدث عن نفسه: (ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة، وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذا حالها من الزعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً.. فحكمت حينئذ بأنه لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد لي من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً)([2])
ولهذا دعت النصوص المقدسة إلى إعمال العقل، ويمكنك أن تقرأ في القرآن الكريم وحده عشرات الآيات التي تدعوك إلى استعمال عقلك.. فلا تتوهم أنها تخاطب المشركين أو المنافقين أو مرضى القلوب، بل هي تخاطبنا جميعا، فلا يمكن لبنيان الدين أن يقوم من دون عقل.
لقد قال الله تعالى يصف الوصفة التي يمكننا أن نستفيد بسبب استعمالها من القرآن الكريم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]
فهذه الرسالة الإلهية لا يمكن أن يفهمها من حجب عقله، أو قيده، أو منعه من التدبر في كلمات الله، ليبصر الحقائق من خلال مرآتها.. وقد قال تعالى مخبرا عن استحالة ذلك: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
ولهذا، فإن آيات الله التي هي مظاهر التعرف عليه، والاستدلال بها على حقائق الوجود، لا يمكن أن يفهمها إلا أولو الألباب أصحاب العقول الذين مرنوها ودربوها على اكتشاف الحقائق، لا أولئك الذين قيدوها وسجنوها، لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191]
ولهذا أخبر الله تعالى عن الضياع الذي يجده أولئك الأتباع الذين سجنوا عقولهم، وراحوا إلى ساداتهم يتبعونهم في كل ما يذكرونه لهم من غير أن يستفسروا، ولا أن يحققوا، ولا أن يدققوا.. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 166، 167]
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأنه مصدر كل الفتن والبلاء، فقال: (لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن النّاس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن النّاس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)([3])
وحكى لنا حفيده الإمام الصادق حكاية لا تصلح إلا لمن توهموا أن عقولهم ستحجبهم عن الجنة، وتحول بينهم وبين فضل الله، فقد روي أنه ذكر له فضل شخص من الناس وكثرة عبادته، فلم يهتم كبير اهتمام بذلك، وإنما راح يسألهم عن عقله، ثم ذكر لهم سبب ذلك السؤال، وأن العقل هو مناط الثواب والعقاب، وبه يميز السابقون من المتخلفين، فقال: (إن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر ظاهرة الماء وإن ملكاً من الملائكة مرَّ به فقال يا رب أرني ثواب عبدك هذا)، فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك، فأوحى الله تعالى إليه: أن اصحبه فأتاه الملك في صوره إنسي فقال له: (من أنت؟) قال: (أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك)، فكان معه يومه ذلك فلما أصبح قال له الملك: (إن مكانك لنزه، وما يصلح إلا للعبادة)، فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيباً)، فقال له: (وما هو؟) قال: (ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع)، فقال له ذلك الملك: (وما لربك حمار؟). فقال: (لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش)، فأوحى الله إلى الملك: (إنما أثيبه على قدر عقله)([4])
أرأيت أيها الرفيق العزيز قيمة العقل، وقيمه صاحبه عند الله، وأنه حتى لو نجا، فإنه لن يكون في ذلك المحل الذي يصل إليه أصحاب العقول المنورة بنور الحقائق، ولهذا ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنما يُجازى بعقله) ([5])
وهكذا كان الورثة لا يكتفون من دين الناس بظاهرهم، وإنما يسألون عن عقولهم، وهل هي مقيدة سجينة، أم حرة طليقة، وقد روي أن الإمام الصادق ذكر له رجل مبتلى بالوضوء والصلاة، فلم يلتفت لذلك، فقيل له: هو رجل عاقل، فقال: (وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟) فقيل له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: (سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فإنه يقول لك من عمل الشيطان) ([6])
إن لم تكفك ـ أيها الرفيق العزيز ـ كل هذه النصوص في فضل العقل، وأنك لا يمكن أن تصل لشيء من دونه، فاسمع لهذه النصيحة الغالية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]) ([7])
ولهذا يمكنك أن تميز بين ورثة النبوة وغيرهم بالموقف من العقل، فمن دعاك إلى العقل، فقد دعاك إلى دين الله، ومن طلب منك أن تقيد عقلك، وتسجنه، فهو يدعوك لأن تعبد الله بالدين الذي شرعه بهواه.
وقد أرسل الإمام الرضا إلى بعض أصحابه برسالة طويلة لا يدعوه فيها إلى اتباعه والخضوع لأوامره ـ كما يفعل أصحابك الذين أمروك بسجن عقلك ـ وإنما أمره باتباع العقل وإعماله، فمن اتبع العقل وأعمله عرف أصحاب الحق، واتبعهم لا لذواتهم، وإنما لأن العقل هو الذي هداه إليهم.
ومما جاء في تلك الرسالة قوله: (يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.. يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.. يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.. يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله؛ من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله، أفسد عليه دينه ودنياه.. يا هشام كيف يزكو عند الله عملك، وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.. يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله؛ اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزه من غير عشيرة.. يا هشام نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.. يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.. يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.. يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض) ([8])
إلى آخر الرسالة التي يمكنك أن تبحث عنها، لتجعلها
دستورا لك في حياتك.. وتلقي عنك كل القيود التي قيدك بها أولئك الذين يريدون منك
أن تصير تابعا ذليلا لهم، لا تابعا عزيزا للحق الذي لا يمكن أن تصل لله، ولا
لرسوله، ولا للورثة الصادقين من دونه.
([1]) المنقذ من الضلال (ص: 110)
([2]) التأملات في الفلسفة الأولى، رينه ديكارت، ص53.
([3]) الترمذي (2007) ، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال محقق جامع الأصول (11/ 698) حديث حسن.
([4]) الكافي، 1/12.
([5]) الكافي، 1/12.
([6]) الكافي، 1/13.
([7]) الكافي، 1/13.
([8]) الكافي، 1/17.