لا تزدر نعم الله عليك

أيها الرفيق العزيز.. سمعتك البارحة تمزح مع صاحب لك، وتذكر له بسخرية ممزوجة بمرارة ضيق بيتك، وقدم سيارتك، وأنك لم تشتر ثيابا جديدة منذ سنتين، وأن مرتبك لا يزال يراوح مكانه منذ عشر سنوات، وأن شاشتك التلفزيونية من ذلك النوع القديم الذي عفا عليه الزمن، وهاتفك النقال لا يكاد يتيح لك استعماله إلا بعد صبرك الطويل..
وهكذا كنت تجمع بين الشكوى والمزاح، وتذكر له أن من زملائك القدامى من لم يكتف بشقة واحدة، بل أضاف إليها شققا وقصورا، وأن منهم من يملك سيارتين لا سيارة واحدة، وأن منهم من له المحلات الكثيرة التي تدر عليه كل حين كل أصناف الرزق.
أنا أعلم أنك كنت تمزح وتضحك، ولكني أعلم أيضا أن باطنك الذي لا تشعر به كان يشكو ويبكي، بل كان يصيح في ربه الذي أنزل عليه كل أصناف النعم، بكل لغات الجحود.
وأنا لا أدعوك لأن تنطق أمامي أو أمام ذلك الصديق الذي وصفت له حالك بكل ما يدل على حمدك لله، وشكرك له.. فنحن لا نساوي شيئا.. ولن ننفعك، ولن نضرك.. والله تعالى كذلك لم يرد منك أن تردد كلمات جوفاء تمدحه بها، من غير أن تكون لتلك الكلمات ما يصدقها من قلبك وعقلك.
ولذلك أدعوك بدل ذلك أن تجلس مع نفسك.. لترى حقيقة ما ذكرت.. وهل هو حق أو باطل.. وهل أنت فقير من النعم، أم أنك فقير من النظر إليها.
نعم مرتبك ـ كما تذكر ـ ضعيف.. ولا يكاد يكفيك.. ولكن هناك من جيرانك وأهل بلدك، من يحلم بتلك الوظيفة التي تتولاها، وذلك المرتبت الذي تتقاضاه، ولكنه لا يجد له سبيلا.. وأنت لم تكتف بعدم النظر إلى ما أنعم الله عليك به، ولا بتركك لحمد الله عليه.. وإنما رحت تشكو منه، وتزدر نعمة الله عليك به.
وهكذا لو نظرت إلى سقف بيتك وغرفه.. وقارنتها بعشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الذين لا يجدون مأوى، ويحلمون بنصف البيت الذي تسكن فيه أو ربعه أو ربما عشره.. حتى لا يطاردهم الشارع، ولا يتربص بهم الصعاليك.
وهكذا لو نظرت إلى ذلك الطعام الذي تأكله، والشراب الذي تشربه، والأمن الذي تعيشه.. ورحت تقارنه بحياة المعدمين والفقراء الذين قد لا يجدون ما يأكلون.. لعرفت أنك من المعدودين الذين صبت عليهم أصناف النعم.
بل إنك لو تأملت حياتك، وما فيها من ألوان الرخاء الذي لا تراه، ولا تشعر به، لوجدت أنك أفضل من قيصر وكسرى وكل ملوك الأرض، فتلفزيونك الذي تحتقره، وهاتفك الذي تشكو من بطئه لم يكن لديهم مثله.. وكانوا يحتاجون إلى الكثير من الخدم والعبيد لأجل مصالح بسيطة تأتيك وأنت غافل عنها لا تراها.
وهكذا لو رحت تنظر إلى نعمة البصر التي حرم منها ا لمكفوفون، وإلى نعمة السمع التي حرم منها الصم، وإلى نعمة الكلام التي حرم منها البكم، وإلى نعم السير التي حرم منها المقعدون.. وإلى نعمة العقل التي حرم منها المجانين.. لوجدت أن الله أفاض عليك بحارا من النعم، أنت غارق فيها، لكنك تتوهم أنك خال منها.
أعلم جيدا ما تقوله لك نفسك أيها الرفيق العزيز، فأنت لم تُؤت من جهة قلة النعم التي أنعم الله بها عليك، ولكنك أُتيت من مقارنة حالك بحال غيرك.. وهذا ما جعلك تقع في تلك الأخطاء الكثيرة.
فالله تعالى ابتلانا باختلاف الدرجات في الدنيا، حتى نسارع في الخيرات التي تجعلنا نفوز بالدرجات في الأخرى، وقد قال مبينا ذلك: { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]
ولذلك فإن الدنيا دار للاختبار، وليست دارا للاستقرار، والعاقل هو الذي يبحث فيها عما يدوم، وليس ذلك الذي يفني عمره وجهده فيما يفنى، وقد قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]
ولو كان للدنيا منزلة عند الله لما عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو هدية الله العظمى إلى عباده، وأشرف خلق الله تلك المعيشة التي لو قارنتها بمعيشتك، لعلمت مدى ازدرائك لنعم الله.. ولكنه مع ذلك كله.. كان ممتلئا بحمد الله تعالى، يشكره في كل محل، حتى في تلك المحال التي يجتمع فيها الجوع والبرد والخوف وكل الآلام..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك الطعام القليل الذي لا يمكن لفمك ولا لمعدتك أن تستسيغه يردد بكل لطائفه قائلا: (الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع، ولا مكافأ ولا مكفور، ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسى من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلا، الحمد لله رب العالمين)([1])
هذه الكلمات ـ أيها الرفيق العزيز ـ يقولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد جوع طويل، قد يستمر أياما يضطر فيها لأن يعصب الحجر على بطنه، ثم يكون أكله بعدها حبات تمرة قليلة مع الماء، أو كسرة شعير يابسة..
هذا ما ذكره كل الصحابة الذين عاشوا معه صلى الله عليه وآله وسلم ورأوا معيشته وزهده وعفافه عن كل تلك الزخارف التي يطلبها الغافلون.. لقد قال ابن عباس يصف حاله: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير)([2])
وقال أبو الدرداء: (لم يكن ينخل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دقيق قط)([3])
وقال عبد الرحمن بن عوف: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير)([4])، وقال: (مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرنا أخرنا لما هو خير لنا)([5])
وقال سهل بن سعد: (ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا)([6])، وسئل: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، قلت: كيف تصنعون؟ قال: (كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك) ([7])
وقال عمران بن حصين: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله)([8])، وقال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غداء وعشاء حتى لقي ربه ([9]).
وقال أنس بن مالك: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رغيفا مرققا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط ([10]).
وقال ابن عمر: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بشرا أخضر، فقال: (كل يا ابن عمر)، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: (ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أربعة أيام)([11])
وقال عتبة بن غزوان: (لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا) ([12])
وقالت زوجه عائشة: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البر حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا([13]).
وقالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين)([14])
وقالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه ([15]).
وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، لفعلت([16]).
وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي: كل فلقل ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي أن بكيت، قال: قلت: لم يا أم المؤمنين؟ قالت: أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مرتين من خبز شعير حتى لحق بالله ([17]).
ومع كل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محلا لإيذاء كل المعتدين والساخرين والمنافقين ومرضى القلوب والناكثين للعهود.. ومع ذلك كله كان يردد كل حين كل آيات الثناء على الله، حتى يشعر القارئ لها أنه لم يخرج من القصور، ولم يلقه أحد بأذى.
هذه هي السنة العظمى أيها الرفيق العزيز.. فإن أردت أن تطبقها، فاحمد الله، وعش بقدر ما آتاك الله من فضله، ولا تزد نعمة الله عليك، ولا تقارن حياتك بأولئك الذين تتصور أنهم نالوا الدنيا.. بل قارنها بأولئك الذين فازوا بالآخرة، وبُشروا وهم على هذه الأرض بالجنة؛ فأنت لم تخلق للدنيا، ولا للسكن فيها، وإنما خلقت للآخرة، فأثبت أهليتك لها، بحمدك لربك، ورضاك بما قسم لك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم مخاطبا لك ولي ولكل الجاحدين نعم الله: صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح منكم آمنا في
سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)([18])
([1]) رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (10132) وابن حبان في صحيحه برقم (1352)
([2]) رواه أحمد، وابن سعد والترمذي وصححه.
([3]) رواه الطبراني.
([4]) رواه البزار بسند جيد.
([5]) رواه عبد بن حميد.
([6]) رواه الطبراني.
([7]) رواه ابن سعد والدارقطني في الافراد، وصححه.
([8]) رواه أحمد.
([9]) رواه الطبراني.
([10]) رواه ابن سعد.
([11]) رواه الطبراني.
([12]) رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
([13]) رواه ابن عساكر.
([14]) رواه ابن عدي.
([15]) رواه ابن سعد.
([16]) رواه ابن عساكر.
([17]) رواه ابن عساكر.
([18]) رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم/300) والترمذي في السنن (2346) وقال : حسن غريب ..