لا تذكروا (الله)

في اليوم العاشر من زيارته لي، كنا في البيت، وكان من عادة ابني في ليلة كل جمعة أن يحضر معه أصدقاءه وبعض زملائه في الدراسة إلى غرفة لنا في موضع هادئ من البيت اتخذناه قبلة ومسجدا..
وكان ابني ومن معه من الأصدقاء يعقدون هذا المجلس الأسبوعي لذكر الله، ويذكرون لي أن الله يفتح عليهم بهذا المجلس من العلوم والمعارف والأحوال ما لا يجدونه في جميع مدارس الدنيا، وأن الله يفتح عليهم فوق ذلك من الفهم في دراستهم ما لا تعوضه أي دروس أو برامج.
وكنت أقبل منهم ذلك، لأني أجد نتائجهم الدراسية جميعا طيبة، وأخلاقهم ممتلئة دماثة وسماحة وكرما ونبلا.. وفوق ذلك كنت أجدهم من أكثر الناس أدبا مع الله ومع رسوله، وأكثرهم تعظيما للشريعة واحتراما لها من غير تعصب ولا غلو ولا تطرف.
وكنت أنظر في المقابل إلى بعض زملائهم من المتدينين، فأجد قسوة وشدة وتعصبا تنفر منه النفس، ولا ينبئك إلا عن سطحية وجفاء لا يدلان على إيمان عميق، ولا أحوال راقية، ولا معارف سامية.
وكان هؤلاء الأصدقاء الذاكرون الذين كنت أفخر بأن ينتمي ابني إلى كوكبتهم يبدؤون مجلسهم ذلك بتلاوة القرآن الكريم، ويثنون بأذكار كثيرة، وكان من بينها، وهو خاتمة المجلس ولبه ذكر الاسم المفرد (الله الله).. كانوا يكثرون منه إلى أن يغيب أحدهم عن كل شيء.
وكنت أحترم حالهم في ذلك الحين، فلا أشوش عليهم مجلسهم، ولا أنغص عليهم تلك الغيبة اللذيذة التي يغيبون فيها عن كل شيء ليحصلوا فيها على كل شيء.
لكني في ذلك اليوم خشيت أن يدب إلى سمع صاحبي الخارج من سجون الوهابية أصوات أذكارهم، فينزعج لذلك، وينكر عليهم ما يفعلونه.
لكن الأمر لم يكن كما يتوقع، فقد طلب مني صاحبي بمجرد أن سمع هجيرهم بالذكر أن يذهب إليهم، ويذكر معهم، فأذنت له، مع خشيتي أن يشوش عليهم مجلسهم بالإنكار والنقد.
ولكن الأمر لم يكن كما اعتقدت، فقد جلس معهم بأدب، وذكر معهم بحرارة، وحصل له ما حصل لهم من أحوال، وقد دعاني هذا بعد انتهاء المجلس إلى أن قلت له متعجبا: لم أكن أتصور أن الوهابية يقرون مثل هذه المجالس!؟
قال: ومن ذكر لك أنهم يقرونها؟
قلت: لقد رأيتك الآن تجلس إليهم، وتفعل كل ما يفعلونه، ولا أرى ذلك جديدا عليك.. وذلك لا يعني إلا أنك كنت تمارس مثله في عهدك السابق.
قال: صدقت في هذا.. ولكني لم أكن أفعله إلا بعد أن بدأت النفس تنفر منهم، وتعلم حقيقة حالهم، وحقيقة المصير الذي يريدون أن يوصلوني إليه.
لقد كانوا في مجالسهم الممتلئة بالحقد والضغينة ينفروننا من الذكر، ومجالس الذكر بكل السبل.. بل إنهم كانوا يصورون لنا بأن الذي يشرب الخمر، ويقع في الفاحشة، ويسرق ويختلس ويغتصب أكرم عند الله من ذلك الذي يجلس في الخلوة يعمر قلبه بذكر الله.. بل كانوا فوق ذلك يفتون بإباحة دماء الذاكرين، لا لشيء إلا لأنهم مرتدون..
هكذا كانوا يقولون لنا.. وهكذا كانوا يعبئون قلوبنا وعقولنا، فنمتلئ غلظة وقسوة وغرورا..
لكني في يوم من أيام الله العظيمة، مررت بمجلس من مجالس الذكر في بعض الزوايا، وكان كالمجلس الذي حضرته الآن في بيتك، وقد شعرت فيه بعد جلوسي إليهم بما يشعره الذاكر من الأحوال الإيمانية، ففرحت فرحا شديدة، ورحت من غير أن أعلم أبشر أصحابي بما رأيت، وما سمعت، وما حصل لي..
وكانت الطامة الكبرى.. فقد ذهب بي أصحابي إلى شيخ لنا طويل اللحية فارع القامة جهوري الصوت.. لا أحب أن أذكر لك اسمه.. فتبتلى بمن يؤذيك إن ذكرته، فإن له أصحابا قساة يديرهم كما يدير الخاتم في أصبعه.
دخلت عليه، وألقيت تحية الإسلام، فلم يرد علي بمثلها، ولا بخير منها، بل راح ينظر إلي بقسوة، ويقول: أنت الآن قد استحوذ عليك الشيطان، وأخرجك من الفرقة الناحية المعصومة إلى فرق الإلحاد والحلول والضلال.. ولا ينتظرك يوم القيامة إن سرت على هذا السبيل إلا نيران جهنم.
قلت: ما تقول يا شيخ؟.. أنا ابنكم البار، وتلميذكم المطيع.. ولست أرجو إلا أن أدخل معكم الجنة، وأنجو من النار.
قال بغضب: كيف تريد أن تدخل معنا الجنة، وأنت لم تعمل معنا عمل أهل الجنة؟.. أم كيف تريد أن تنجو من النار، وأنت تجلس إلى أهل النار؟
قلت: عذرا يا شيخ.. أنا لا أجلس إلا إليكم، ولا أأتمر إلا بأوامركم، ولا أنتهي إلا عما تنهوني عنه.
قال: وهل يجلس تلميذنا المطيع إلى المبتدعة الملاحدة الكفرة القبورية.. سكان جهنم ولظى وسعير وسقر؟
قلت: لا أذكر أني جلست مثل هذه المجالس.
قال: لقد جاءني الخبير بأنك مررت على بعض الزوايا من أصحاب الطرق الصوفية الضالة، وقعدت معهم تفعل ما يفعلونه، ولم تنكر عليهم ما هم فيه من ضلالة.
قلت: أجل.. ولكني لم أفعل معهم إلا ما رأيت مشروعيته.. ولم أر في سلوكهم ما يستدعي الإنكار.
رد علي بغضب: ليس هناك شيء مشروع يفعلونه.. كل أعمالهم أعمال ضلالة.. وكل أحوالهم أحوال مبتدعة.
قلت: لكنهم يذكرون الله؟
قال: وذكرهم لله بدعة.
قلت، وقد عادت إلي بعض الجرأة: عجبا.. كيف يصير ذكر الله بدعة؟
قال: ألم تر أنهم يذكرون الله جماعة، وبصوت واحد؟
قلت: بلى.. ولعلهم في ذلك يستندون إلى ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منه)، والذكر في الملاً لا يكون إلا عن جهر.
وإلى الحديث الذي رواه البزار، والحاكم في المستدرك وصححه عن جابر قال: خرج علينا النبـي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا أيها الناس إن لله سراياً من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة)، قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله)
وإلى الحديث الذي رواه مسلم والترمذي والنسائي من أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: (ما أجلسكم؟) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا….إلى أن قال: (أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة)
وإلى الحديث الذي رواه أحمد من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وتغشتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)
ففي هذه الأحاديث جميعا ترغيب واضح منه صلى الله عليه وآله وسلم في الاجتماع على الذكر..
قال بغضب: أنت ذكرت الحديث.. ولكنك نسيت أن تذكر فهم السلف له.
قلت: الأحاديث واضحة.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب الأمة بأجيالها جميعا لا جيل السلف وحده، بالإضافة إلى هذا فإن لغة الأحاديث واضحة، وليس فيها أي غريب يستدعي تفسيرا من السلف أو الخلف..
قال: أنسيت أن منهجنا هو الأخذ من الكتاب والسنة بفهم السلف..
قلت: بلى.. لم أنس.. ولكن ذلك في الأمور المشكلة التي يقع فيها الخلاف، أو لم ترد فيها النصوص القطعية التي تعين المراد منها.
قال: وهذا من المشكلة.. فالسلف الذين نستند إليهم في فهم الدين وتطبيقه لم يفعلوا هذا.. فقد ورد سؤال إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، يقول صاحبه: (لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر (لا إله إلا الله)، ويقولون في النهاية (الله الله…) بصوت عال. فما حكم فعلهم هذا؟)، وقد أجابت الهيئة السلفية الموقرة على هذا السؤال بعد أن بينت ضلال هذه الطريقة، والاجتماع على الذكر بصوت جماعي لا أصل له في الشرع، وهكذا الاجتماع بقول: (الله الله…) أو: (هو هو…) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له، بل هو من البدع المحدثة)([1])
قلت: هيئة كبار العلماء ولدت في القرن الرابع عشر الهجري.. فكيف تكون من السلف؟
قال: السلف عندنا منهج لا زمان.. فكل من استند إلى السلف فهو سلفي وقوله حجة كان في القرن الأول، أو في القرن الآخر.
لم أشأ أن أضيف كلمة واحدة إلى ما قاله.. فقد ذكرت لك أن له أصحابا شدادا غلاظا، وقد خشيت إن تحولت معه إلى الحديث عن هذه الهيئة وما جنته فتاواها على الأمة أن يتحول حديث اللسان إلى حديث السنان، ولذلك اصطنعت اللين، واستعملت التقية، ورحت أستفسره عن باقي ما رأيت في ذلك المجلس المبارك.
قلت له: جزاك الله خيرا على ما أنرتني به من علم.. فأكمل تنبيهك لي وتعليمك، فأنا تلميذك المطيع، وتابعك المخلص.
ظهر السرور على وجهه، وربت بيده الغليظة على كتفي، وقال: هذا عهدنا بك.. لقد ذكرت لك بدعية المجلس بوقته وطريقته.. وسأحدثك وأقنعك ببدعية الصيغ التي يذكرونها.. أجبني ما كانوا يقولون في أذكارهم؟
قلت: صيغ كثيرة منا الهيللة والحمدلة والحوقلة.. وغيرها.
قاطعني بسخرية قائلا: ومنها الاسم المفرد.. الله الله!؟
قلت: أجل.. ولعلهم يستندون في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل:8)، وقوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الانسان:25)، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البقرة: من الآية114)، وقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(النور: من الآية36)، وقوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)(الحج: من الآية28)
وإلى ما ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: (الله الله)
قال: ألم يسمع هؤلاء الـأغبياء بقول ابن القيم في طريق الهجرتين (ص498) من أن الاسم المفرد (لا يفيد شيئا، ولا هو كلام أصلا، ولا يدل على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان ولا ثواب، ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملة، فلو قال الكافر (الله الله) من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلما فضلا عن أن يكون من جملة الذكر أو يكون أفضل الأذكار)؟
قلت: ولكني قرأت أن الكثير من العلماء يجيز ذلك، بل يستحبه.. فقد قرأت عن ابن رجب الحنبلي، وهو كما تعلم من أصحابنا أنه قال في جامع العلوم والحكم (1/446): (المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه، فلو كلف أن ينسي ذكره لما قدر، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر، كيف ينسي المحب ذكر حبيب اسمـه في فؤاده مكتـوب، كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول أحد أحد، فإذا قالوا له: قل واللات والعزى، قال، لا أحسنه
يراد من القلب نسيانكم وتأبي الطبـاع على الناقل
وكلما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: (الله الله) ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس وتصير لا إله إلا الله لهم كالماء البارد لأهل الدنيا)
قال بغضب: دعك من ابن رجب.. فقد كان به لوثة من الصوفية.. ولذلك فإن أصحابنا لا يأخذون منه في هذا الباب..
قلت: وقد قرأت عن الرازي أنه قال في تفسيره (1/155): (أما قوله: (الله) فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي (الله) ، فإذا مت أقول (الله)، وإذا سئلت في القبر أقول (الله)، وإذا جئت يوم القيامة أقول (الله)، وأذا أخذت الكتاب أقول (الله) ، وإذا وزنت أعمالي أقول الله، وإذا جزت الصراط أقول (الله)، وإذا دخلت الجنة أقول (الله)، وإذا رأيت الله قلت (الله)
قال بغضب: وهل يستشهد عاقل بالرازي ذلك الذي أكله الفلاسفة والصوفية وكل فرق الضلال.
كنت أود أن أذكر له ما قال ابن عجيبة في شرحه على متن الآجرومية (ص15)، فقد قال: (فالاسم المفرد (الله) هو سلطان الأسماء، وهو اسم الله الأعظم، ولا يزال المريد يذكره بلسانه ويهتز به حتى يمتزج بلحمه ودمه، وتسري أنواره في كلياته وجزئياته… فينتقل الذكر إلى القلب ثم إلى الروح ثم إلى السر، فحينئذ يخرس اللسان ويصل إلى الشهود)
لكني علمت أنه لا ابن عجيبة يعجبه، ولا ما قاله يمكن أن يفهمه.. فلذلك تركت الجدل معه في هذا الموضوع، ورحت أطرق موضوعا آخر.
قلت: صدقت في هذا..
قال: بورك فيك.. فما أعظم أدبك.. عد بنا إلى ما رأيته منهم.
قلت: ذاك ما رأيت..
قال: ألم تر أنهم يقومون أحيانا في ذكرهم.. وأنهم قد يتمايلون، بل ويرقصون.
قلت: ذلك صحيح.. ولعلهم يفعلون ذلك طبعا لا شرعا.
قلت: ما تعني بذلك؟
قلت: لقد قرأت أن ابن القيم ذكر علاقة الحركة بالمحبة، فقال: (وكل حركة في العالم العلوي أو السفلي فأصلها المحبة..فلولا الحب ما دارت الأفلاك وتحركت الكواكب النيرات، ولا هبت الرياح المسخرات، ولا مرت السحب الحاملات، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات، واضطربت أمواج البحار والزاخرات، ولا تحركت المدبرات والمقسمات ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسموات وما فيها من المخلوقات)([2])
ولعل هذا ما قصده أبو مدين عندما قال:
وقل للذي ينهى عن الوجد أهله |
إذالم تذق معنى شراب الهوى دعنا |
إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى
اللقا |
نعم ترقص الأشباح يا جاهل دعنا |
أما تنظر
الطير المقفّص يا فتى |
إذا ذكر
الأوطان حنّ إلى المعنى |
يفرج بالتغريد
ما بفوائده |
فتضطرب
الأعضاء في الحس والمعنى |
كذلك أرواح
المحبين يا فتى |
تهزها الأشواق
للعالم الأسنى |
أنلزمها
بالصبر وهي مشوقة |
وهل يستطيع
الصبرمن شاهد المعنى |
فيا حادي
العشاق قم واشد قائماً |
وزمزم لنا
باسم الحبيب وروّحنا |
نهض بغضب وقال: ما هذا الجنون؟.. أمجلسنا مجلس علم أم مجلس شعر؟ حدثني عن أقوال الفقهاء لا الشعراء، وإلا أمرت من يخرجك من بين يدي.
أصابتني رعدة من تهديده، لكني استجمعت أنفاسي، وقلت: لقد رأيتهم يستندون في هذا إلى إجازة الفقهاء المعروفين.. فقد سئل السيوطي عن (جماعة صوفية اجتمعوا في مجلس ذكر، ثم إن شخصاً من الجماعة قام في المجلس ذاكرا واستمر على ذلك الوارد الذي حصل له. فهل له ذلك سواء باختيار أم لا؟ وهل لأحد منعه وزجره من ذلك؟)
فأجاب على ذلك قائلا: (لا إنكار عليه في ذلك، وقد سُئل عن هذا السؤال بعينه شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فأجاب بأنه لا إنكار عليه في ذلك، وليس لمانع التعدي يمنعه ويلزم المتعدي بذلك التعزير، وسُئل عنه العلامة برهان الدين الأنباسي فأجاب بمثل ذلك وزاد أن صاحب الحال مغلوب، والمنكر محروم، ما ذاق لذة التواجد ولا صفا له المشروب)، إلى أن قال في آخر جوابه: (وبالجملة فالسلامة في تسليم حال القوم، وأجاب أيضا بمثل ذلك بعض أئمة الحنفية والمـالكية، كلهم كتبوا على هذا السـؤال بالموافـقة من غير مخالفة: أقول: وكيف ينكر الذكر قائما والقيام ذاكراً وقد قال الله: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم(آل عمران الآية191)
وذكر السنوسي في (نصرة الفقير) هذا فقال: (وقد تواتر النقل عن الصوفية قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله عز و جل، ويقومون ويرقصون، ولم يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم. وقد رأيت بفاس بزاوية الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب، مع توفّر العلماء فلم ينكر أحد عليهم. وقد بلغني أن شيخنا شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة كان يحضر معهم في بعض الأحيــان)([3])
قال: وأين شيخ الإسلام ابن تيمية من كل هذا.. أنت ذكرت السيوطي وفلان وفلان.. ولكنك لم تذكر شيخ الإسلام.
قلت: ربما يكون لابن تيمية رأي مخالف.
قال: ابن تيمية هو شيخ الإسلام، وهو كالنص القطعي، الذي لا تجوز مخالفته، ولا نص مع اجتهاد.. بل إن المحققين من أصحابنا يقدمون كلامه على كلام الله وكلام رسوله، لا تحقيرا لكلام الله وكلام رسوله، وإنما تحقيرا لفهومهم بجانب فهمه قدس سره وعلا شأنه ورفع ذكره وشرح صدره.
قلت: فما قال في هذا؟
قال: لقد ذكر أنه بدعة.. واستدل أصحابنا لهذا بأنه فعل اليهود، فقد روي في تفسير قوله تعالى: (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} [الأعراف]، أنه لما نشر موسى عليه وعلى نبينا الصلاه والسلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبقى جل ولا شجر ولا حجر الا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً تُقرأ عليه التواره إلا اهتز وانفض لها رأسه، ثم سرت هذه العاده الى بعض المسلمين.
ففى تفسير البحر المحيط لما ذكر هذه الرواية قال: (وقد سارت هذه النزعه في بيوت أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب اذا قرءوا القرآن يهتزون ويحركون رؤسهم، وإما أولادنا بالأندلس والمغرب فلو تحرك صغيراً عند قراءة القرآن أدبه مؤدب المكتب وقال له: لا تتحرك فتتشبه باليهود في فعالهم… فتتشبه باليهود في الدراسه… فهذا تشبه باليهود)
لم أشأ أن أقول بأن هذا الدليل الذي أورده عليه لا له.. وأنه وأن شيخه ابن تيمية الذي يستند إليه يذكر جواز أخذ العقائد من كتب اليهود.. وأن الرواية ذكرت أن كل شيء تحرك لا بني إسرائيل وحدهم.. ولكني خشيت أن أفتح على نفسي أبوابا لا أستطيع سدها، فاكتفيت بأن سلمت للشيخ أمره، وداريته ببعض الكلمات، وخرجت من عنده راضيا من الغنيمة بالإياب.
قلت: فهل انقطعت عن مجالس الذكر؟
قال: كلا.. بل زادني كلامه فيها تشبثا بها.. لكني تحرزت.. فكنت أحتاط احتياطا شديدا عند ذهابي إليها، وقد أفادني ذلك كثيرا لأني كلما فعلت ذلك أتذكر رسول الله وما كان يحصل له ولأصحابه من العنت والألم إن هم جهروا بذكر الله.. وكنت أردد بيني وبين نفسي في طريقي إلى تلك المجالس قول الشاعر الصالح:
أخاطر في
محبتكم بروحي |
وأركب بحركم
أما وأما |
وأسلك كل فج
في هواكم |
وأشرب كأسكم
لو كان سماً |
ولا أصغى إلى
من قد نهاني |
ولي أذن عن
العذال صما |
أخاطر
بالخواطر في هواكم |
وأترك في
رضاكم أبا وأما |
([1]) (البدع وما لا أصل له) (ص 425)..
([2]) الجواب الكافي: 201.
([3]) (الفتوحات الإلهية شرح المباحث الأصلية ص (283-282).