لا تدع على إخوانك

لا تدع على إخوانك

أيها الرفيق العزيز.. لم أشفق عليك في حياتي مثل شفقتي البارحة عليك عندما رأيتك في مجلسك الذي تعودتَ أن تجلس فيه، والناس جاثون أمامك، والدموع تنهمر من عينيك بشدة، وأنت تضطرب اضطراب الحية خشوعا وتبتلا.. والجالسون بين يديك يؤمّنون بصوت مرتفع، ويبكون لبكائك..

وأنا أيضا كنت معكم أبكي، ولكن لا لبكائك، ولا لبكاء المحيطين بك، والمؤمّنين على دعائك، وإنما عليك وعليهم شفقة وحزنا، فقد رأيتني وأنا خلفك، وأمام ذلك الجمع الذي جثا بين يديك مثل أبي لهب وأبي جهل وأمية بن خلف، وهم يجثون وراء اللات والعزى باكين خاشعين يطلبون منها أن تقضي على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه الكرام، وتجتث جذورهم في أول دعوتهم.

أو مثل أولئك اليهود الذي رحل إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبدل أن يستقبلوه، وينصروه، ويبشروا بتلك النصوص المقدسة التي وردت في حقه، راحوا يرفعون أيديهم إلى الله بمثل خشوعك، وخشوع من حولك، يطلبون منه أن يقضي على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأولئك الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل نصرة الإسلام، ومواجهة الأعداء الذين يتربصون به.

ولم تكن أنت ومن حولك تختلف عنهم كثيرا، لأنك مارست نفس الجريمة التي مارسوها، ولم يكن من فرق بينك وبينهم إلا أنهم دعوا اللات والعزى، أو غيرهما من الآلهة المزيفة، وأنت كنت تدعو الله السميع المجيب.

أما دافع الدعاء، فقد كان واحدا؛ فهم حقدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين، وأنت أيضا، ومن معك، مارستم حقدكم على إخوانكم من المؤمنين أو من البشر.. حيث لم تطلبوا من الله تعالى أن يهديهم سواء السبيل، ولا أن يريهم الحق حقا ويرزقهم اتباعه، والباطل باطلا، ويرزقهم اجتنابه، وإنما رحتم تدعون عليهم بأن يجمد الدماء في عروقهم، ويزلزل الأرض من تحتهم، ويدخلهم جهنم وبئس المصير.

وكنتم تتلذذون، وأنتم تدعون بمثل هذه الدعوات، لأنها المتنفس الذي تتنفس به نفوسكم المملوءة بالأحقاد.. على الرغم من أنكم تقرؤون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن قوبل بما قوبل به من معارضة أهل الطائف والمشركين في مكة المكرمة، لم يدع بتجميد دماء مخالفيه، وإنما راح يتضرع إلى الله بأن يهديهم سواء السبيل، بل يعتذر لهم؛ فيقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)([1])

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك يوم أحد، عندما شُج وجهه وقيل له: ألا تدعو عليهم؟ قال: (اللهمَّ أهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ونزل بعدها قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56]([2])

وقد قال ذلك في حق المشركين، بل كان يقول مثله وأكثر منه في دعواته للمنافقين، لا بأن يهديهم الله فقط، وإنما بأن يغفر لهم ويرحمهم.. حتى نهي عن ذلك، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]

وهكذا قال إبراهيم عليه السلام لذلك الذي أراد رجمه، ونفيه، فقد قال له ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 47، 48]، وكان حريصا عليه وعلى أعدائه، حتى وصفه الله تعالى بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]

وهكذا قال يعقوب عليه السلام لأبنائه الذين عاقبوه سنين طوالا بإبعاد ابنه الحبيب عنه، فقد قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يوسف: 98]

بل هكذا قال يوسف عليه السلام لإخوانه الذين رموه في البئر، وأرادوا قتله، وجعلوه يتعرض للعبودية والسجن سنين طويلة، ومع ذلك، وبمجرد أن اعترفوا بجرائمهم، وقالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]، رد عليهم بكل هدوء وأدب ولطف ورحمة: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]

وهكذا كان الأنبياء والأولياء والأصفياء.. أصحاب النفوس الطاهرة، الذين لا تعرف قلوبهم الأحقاد، ولا ألسنتهم البذاءة..

أما أنت ـ أيها الرفيق العزيز ـ ومن معك، فلم تكونوا في ذلك الحين في معبد الله، وإنما كنتم في معبد الشيطان.. وتلك الدموع التي جرت على خدودكم، لم تكن صافية كدموع الخاشعين، وإنما كانت دموعا ملطخة بقاذورات النفس الأمارة، وهي لذلك أشبه بمياه المصارف الصحية منها بدموع المتقين.

لذلك عليكم أن تغسلوا مآقيكم وخدودكم ووجوهكم من تلك النجاسات التي لطختها.. ولا تكتفوا بذلك، بل اذهبوا إلى منبع تلك العيون فطهروه، حتى لا تتلطخ أرواحكم وقلوبكم وحقائقكم.

ولا تغرنكم تلك المظاهر التي تظهرون بها، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أشد الناس قسوة وأبعدهم عن الله أولئك الذين وصفهم؛ فقال: (سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)([3])

وهكذا كنتم في ذلك الحين.. فتوبوا إلى الله من ذلك الخشوع الكاذب، ومن تلك الدموع النجسة؛ فالله لا ينظر إلى حركات أجسامكم، ولا إلى ذلك الصياح، أو تلك الحركات التمثيلية، ولا إلى الدموع، ولا إلى الخشوع، وإنما ينظر إلى الطهارة والصفاء وسلامة القلب.. فإن كنتم كذلك، فأبشروا، ولو كانت عيونكم جامدة ما دامت نفوسكم طاهرة.


([1])  حلية الأبرار: 305..

([2])  الصحيح من سيرة النبي الأعظم a 3: 250.

([3])  رواه البخاري 9 / 86.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *