لا تدع علمك يغلب عقلك

لا تدع علمك يغلب عقلك

ذكرت لي ـ أيها الرفيق العزيز ـ منذ جمعتني بك الطريق أنك قرأت كتبا كثيرة، وتعلمت علوما جمة، ورأيت علماء كثيرين، ومن بلاد مختلفة.. وأنا أُكبر فيك كل ذلك وأُعظمُه، وأحترمك لأجله؛ فطالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وحتى الملائكة تضع أجنحتها له رضا بما يصنع.

ولكني مع كل ذلك الإكبار والإجلال لشخصك الكريم أريد أن أوصيك بما أوصي به نفسي، وبما أوصي به ولدي وأعز الناس علي.. وأقول لك: لا تدع علمك يغلب عقلك.. ولا تدع تلك الدفاتر التي كتبتها، والكتب التي جمعتها، والعلوم التي حفظتها، تسد عليها نوافذ عقلك؛ فتحجب عنه الرؤية..

فالعلم الذي تُفتح به أبواب الحقائق قد تُغلق به أبوابها أيضا.. هو يشبه المفتاح تماما، به نفتح، وبه نغلق؛ فلذلك احذر أن يكون علمك حجابك، وأن تكون معارفك قيودا لعقلك تججبه عن الحقيقة.

لا تكن ـ أيها الرفيق العزيز ـ مثل ذلك الأستاذ الذي ذهب إلى بعض مشايخ الروح ليطلب منه أن يعلمه كيف يبصر الحقائق، وعندما بدأ الشيخ بدلالته على أول كلمات الطريق راح الأستاذ يعقب عليها، ويشرح تفاصيلها، ويذكر له ما قال الخليل بن أحمد وسيبويه وأفلاطون وأرسطو والمعتزلة والكرامية حولها.. ولم يدع فرقة إلا ذكرها، ولا عالما إلا وأشار إليه.. حينها نظر الشيخ إليه بحزن، وقال: يا بني إن أردت أن تسلك الطريق؛ فاترك علومك، وتعال إلي؛ فعلمك صار حجابا لروحك.. وبصرك صارت حجابا لبصيرتك.

وهكذا أقول لك: لا تدع تلك العلوم التي تعلمتها، تحول بينك وبين العلوم التي يمكن أن يفجرها الله من بئر ذاتك إن أنت أدمنت التفكير.. فنحن مطالبون بأن نفكر بعقولنا لا بعقول غيرنا.. ونحن مطالبون بأن نرى الوجود ببصائرنا، لا ببصائر غيرنا.. ونحن لا يمكننا أن نكتشف حلاوة العسل ما لم نتذوقه بألسنتنا لا بألسنة غيرنا.

لذلك دع لعقلك المجال لأن يتذوق الحقائق، ولا تحجب عنه الرؤية، حتى لا تكون مثل النضر بن الحارث بن علقمة، ذلك الجاهلي المشرك المقيت الذي راح يُحجب بما حفظه من قصص الأولين عن رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن سماع القرآن الكريم، ولذلك كان بلال الحبشي، ذلك العبد الأمي البسيط أكثر وعيا وعقلا منه؛ فأبصر ما حجب عن النضر، ورأى ما لم يره، لأنه لم تكن هناك أي دفاتر تحول بينه وبين الرؤية.

وليت النضر بن الحارث اكتفى بحجاب عقله عن الحقائق، بل راح يحجب عنها غيره، مثلما يفعل كل المحجوبون بعلومهم..

لقد كان يستعمل كل الأساليب ليصرف الناس عن الحقائق التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أساطير رستم وإسفنديار التي يحفظها، وكان يقول للقرشيين: (أنا واللَّه يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إليّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه)، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول: (بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما كتبتها)، وكان يقول لهم: (محمد يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم)([1])

وكان إذا سمع القرآن الكريم، لم يترك لحقائقه أن تصل إلى عقله، وكيف تصل إلى عقله ورستم وإسفنديار يحولان بينها وبينه.. ولذلك كان ينشغل برؤيتهما عن رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينشغل بقصتهما عن القرآن الكريم.. بل كان يردد بكل كبرياء ما حكاه القرآن الكريم عنه: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [الأنفال: 31]

ولذلك اعتبر بقصته.. ولا تدع لرستم وإسفنديار وأرسطو وأفلاطون والخليل وسيبويه وكل علماء الدنيا، أن يحولوا بينك وبين عقلك.. فعقلك هو وسيلتك إلى ربك.. وعقلك هو المفتاح الذي تفتح لك به حقائق الوجود؛ فاحذر أن يسقط المفتاح منك، ليتناوله النضر بن الحارث، ويملي عليك حينها كل ما يريده، لترى العالم كما يراه.

فالنضر بن الحارث ليس مجرد رجل من قريش، بل قد يكون أستاذا في الجامعة، أو كاتبا كبيرا، أو باحثا عبقريا، أو صاحب شهرة تخترق الآفاق.. فكل من يريد منك أن تعطيه مفاتيح عقلك، ليضع فيه ما يريد هو نسخة من النضر بن الحارث.. ذلك الذي استسلمت له بعض العقول؛ فراحت تغلق بقصصه وعلومه نوافذ بصائرها.

ولذلك أقول لك: اقرأ وتعلم وطالع.. ولكن لا تنس عقلك.. ولا تجعل علومك حجابا بينك وبين الحقائق، ولا تكن كأولئك الذين ذكرهم الله تعالى؛ فقال: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83]

ولا تكن كأولئك الأحبار والرهبان الذين واجهو الأنبياء، لا لقلة علومهم، وإنما لضعف عقولهم، أو لغلبة علومهم على عقولهم، أو لأنهم ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ كانوا يحملون العلوم، مثلما تحمل الحمير الأسفار؛ فهي تحملها، ولكن لا تستطيع أن تتدبرها، أو تفكر فيها.

هذه وصيتي لك، ولنفسي، ولكل من يريد أن يخرج من دين قومه ليدخل دين الله.. فدين الله لا نرثه عن آبائنا وأجدادنا، ولا نتعلمه من معلمينا وأساتذتنا، وإنما هو ذلك الذي نعاني في البحث عنه، ونتضرع إلى الله بكل صدق أن يهدينا إليه؛ فإذا هدانا إليه طلقنا كل شيء في سبيله، وأولها تلك العلوم التي كانت تحول بيننا وبينه.


([1])  سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 345)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *