لا تخف أن يقطع رأسك

لا تخف أن يقطع رأسك

أيها الرفيق العزيز.. مالي كلما حدثتك عن مواجهة الباطل، والداعين إليه، رحت تتحسس رأسك، وتردد علي ما قال ذلك الجبان:

ألا لا تلوماني على الجبن إنّني

   أخاف على فخارتي أن تحطما

ولو أنّني أبتاع في السوق مثلها

   إذا شئت ما باليت أن أتقدّما

أو قول الآخر:

يقول لي الأمير بغير نصح

   تقدم حين جدّ بنا المراس

ومالي إنّ أطعتك من حياة

   ومالي بعد هذا الرأس راس

أو قول الآخر:

باتت تشجّعني عرسي وقد علمت

   أن الشجاعة مقرون بها العطب

للحرب قوم أضلّ الله سعيهم

   إذا دعتهم إلى مكروهها وثبوا

ولست منهم ولا أهوى فعالهم

   لا الجدّ يعجبني منهم ولا اللعب

أو قول ذلك الذي رؤي فارا من المعركة، فقرئ عليه قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]؛ فراح يقول لهم: (ذلك القليل أطلب)

هل تريد أن تكون كهؤلاء الجبناء.. وأين هم الآن.. وهل أغنى عنهم جبنهم شيئا.. وهل تظن أنك مختلف عنهم.. وأن الخلود الذي لم يكتب لهم سيكتب لك؟

ثم بعد هذا ـ أيها الرفيق العزيز ـ هل هناك محل لرأسي ورأسك أفضل من أن يحصل له ما حصل لتلك الرؤوس الطاهرة التي قُدمت على مذبح الحقيقة والعدالة، وهي تبتسم؟

ألم تعلم ما حصل لرأس يحي بن زكريا، ذلك النبي الطاهر الممتلئ بالحنان والرحمة.. لقد كان الإمام الحسين كثير الحديث عنه، وقد ذكر أصحابه أنه لم يكن يدع مكانا إلا ويردد فيه قوله: (من هوان الدنيا على الله عزّ وجلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل)([1])

وكأنه كان في تلك اللحظات يتحدث عن رأسه التي شرفها الله تعالى بأن تصير قربانا للحقيقة والعدالة، وأن تصير دماؤه وجراحه الكثيرة رمزا للبطولة والثبات والشجاعة في مقارعة الباطل.. فلذلك لا تخف على رأسك، فإنه لو قطع في هذا السبيل، فسيلتحق بمثل تلك الرؤوس الطاهرة التي قدمت كل ما لديها قربانا لله تعالى.

لقد عرض الإمام الحسين على أصحابه ليلة عاشوراء أن يهربوا بأنفسهم، حاملين رؤوسهم معهم قبل أن تجتزها سيوف الظلمة، لكنهم لم يفعلوا.. وأبوا.. وقالوا بلسان مسلم بن عوسجة: (أنحن نخلي عنك، بما نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، لا والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك، أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)([2])

وقالوا بلسان زهير بن القين: (والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك)([3])

وكان لهم أسوة في ذلك كله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يكن يهادن في الحق، وكان مستعدا كل لحظة لكل أنواع القتل، وقد قال في ذلك: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم بأن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل)([4])

هذه ـ أيها الرفيق العزيز ـ أمارات العشق الصادق.. فدع عنك كل الدعاوى الباطلة؛ فلا يثبت حبه وعشقه وولاءه إلا من باع نفسها كلها لله، ولم يكن كأولئك اليهود الذين كذبوا على أنفسهم عندما ادعوا مراتب لم يصلوها؛ فاختبرهم الله تعالى بقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [الجمعة: 6، 7]

ثم بين خفة عقولهم في ترك ذلك العرض الذي قدم لهم، فقال:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) } [الجمعة: 8]

وفي مقابل هؤلاء وصف المؤمنين الصادقين بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23]

لذلك أقول لك أيها الرفيق العزيز.. أنت بين أمرين: بين أن تكف عن تلك الدعاوى العريضة التي تنادي بها في كل محل.. وبين أن تبذل نفسك في سبيل الحق، فلا تخاف في الله لومة لائم، فأول علامات المحبة الصادقة لله، محبة لقائه، كما قال تعالى: { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت: 5]

وأجمل لقاء يمكن أن يتحقق لك مع الله هو أن تلقاه بعد أن تهبه كل ما تملك، وأول ما تملك روحك التي بين جنبيك، والتي هي له قبل أن تكون لك..

هذه هي ضريبة العشق الحقيقي الصادق.. فإن كنت مدعيا، فلا تتخط رقاب الصديقين، فقد قال سلطان العاشقين موبخا كل من يدعي هذه المراتب الرفيعة من دون أن يشم ريحها:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل

   فما اختاره مضنى به، وله عقل

وعش خاليا فالحب راحته عنا

   وأوله سقم، وآخره قتل

ولكن لدي الموت فيه صبابة

   حياة لمن أهوى، علي بها الفضل

نصحتك علما بالهوى والذي أرى

   مخالفتي اختر لنفسك ما يحلو

فإن شئت أن تحيا سعيدا، فمت به

   شهيدا، وإلا فالغرام له أهل

فمن لم يمت في حبه لم يعش به،

   ودوناجتناءالنحل ما جنت النحل

تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا

   وخل سبيل الناسكين وإن جلوا

وقل لقتيل الحب وفيت حقه

   وللمدعي هيهات مالكحل الكحل

تعرض قوم للغرام، وأعرضوا،

   بجانبهم عن صحتي فيه واعتلوا

رضوا بالأماني، وابتلوا بحظوظهم،

   وخاضوا بحارالحب، دعوى، فما ابتلوا

لذلك أقول لك أيها الرفيق العزيز.. لا تتحسس رأسك كثيرا؛ فسيأتي اليوم الذي يصبح فيه مثل تلك الجماجم التي تراها في المتاحف الطبيعية.. وما أجمل أن يكون حينها مقطوعا في سبيل الحق والحقيقة.. حينها سيلتحق برأس يحي والحسين وميثم وحجر.. وكل تلك الرؤوس الطاهرة التي لا يزال أريجها الطيب يملأ الآفاق..

ليتك ـ أيها الرفيق العزيز ـ تشمه مثلما أشمه، لتعلم أن أعظم هدية يقدمها الله تعالى لرؤوسنا أن يقبلها في تلك الرؤوس المقطوعة، والأشلاء الممزقة.


([1]) بحار الأنوار 14/ 175.

([2]) المرجع السابق.

([3]) المرجع السابق.

([4]) رواه البخاري 13 / 187، ومسلم رقم (1876)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *