لا تجرح مشاعر غيرك

لا تجرح مشاعر غيرك

أيها الرفيق العزيز.. سمعت أنك حدثت اليوم بعض القوم عن ولدك، وشطارتهم، وذكائهم، ونجاحهم في دراستهم وأعمالهم، وأنهم قرة عينك، وفلذه كبدك، وأنك مسرور بهم غاية السرور، وتحمد الله على منته عليك بهم، وختمت حديثك بما ذكره الله تعالى عن عباد الرحمن، وقولهم في دعائهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [الفرقان: 74]

وعلمت أنك قبل فترة نشرت صورتك، وأنت بكامل قوتك، وأمامك مكتبة فخمة مزينة بكل أنواع التحف، وكتبت تحتها: هذه صورتي، وأنا في مكتبي، وأنا بحمد الله أنعم بكامل صحتي وعافيتي، وأسأل الله أن يديمها علي.

وقبل فترة نشرت صورا للأوسمة التي قلدها لك بعض الوجهاء، وذكرت أنها ثمرة لجهدك الطويل في خدمة المجتمع، وأنها حق طبيعي من حقوقك تأخر وصوله إليك، بسبب عدم التفهم.

وكنت كل حين تنشر شهاداتك، وصورا عن بيتك الجديد، وسيارتك الفخمة، وزوجتك التي لولا حجابها والتزامها لرشحت ملكة لجميلات العالم، وهكذا لم تترك نعمة من نعم الله عليك إلا حدثت بها، وسمعها الناس منك.

وعندما عاتبك بعضهم في هذا، قرأت له قوله تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وأنا لا أريد أن أجادلك في هذا؛ فما قرأته قرآن كريم، ولا يصح لمؤمن أن يجادل في حقائق القرآن، أو يضرب بعضه ببعض.

لكني أريد أن أذكر لك فقط بأن بعض الذين سمعوا حديثك عن ولدك ونجاحهم في دراستهم وحياتهم، كانوا محرومين من نعمة الأولاد، وبعضهم كان لهم أولاد عاقون، وبعضهم كان لهم أولاد راسبون، وكلهم تألموا من حديثك، وجرحت مشاعرهم به مع أنك لم تقصد إذيتهم.

وهكذا كان حديثك عن زوجتك وبيتك وشهاداتك.. كلها صادف قوما من الناس لم تكن لهم كل تلك النعم التي أنعم الله بها عليك، والتي رأيت أنك ملزم بذكرها، وكأنك حمدك لله تعالى لا يتم إلا بذكرها، وعلى الملأ.

ولست أدري هل الآية القرآنية تدعو إلى ما فهمته من ذكر تلك النعم الحسية المادية التي أوردتها، أم أنها تقصد النعمة العظمى نعمة الإسلام([1]) التي عبر عنها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3]

وهكذا عندما ذكر القرآن الكريم النعم التي أنعم الله بها على المسيح عليه السلام ذكر أمورا في جوهر رسالته، فقال: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [المائدة: 110]

ولست أدري كيف يمكن لامرئ يسمع حديثك عن نفسك، أن يطبق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه)، وفي رواية: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)، وفي رواية: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)([2])

وقد عقب بعض رواة الحديث عليه بقوله ـ يذكر تجربته ـ (كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني، كنت أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت)

وراوي الحديث يعبر ـ بكل صراحة ـ عنك وعن أمثالك، ممن لا يبالون بمشاعر المحرومين والمتألمين، ويتصورون أنهم يحمدون الله بفعلهم ذلك، وهم لا يعلمون أن الله يمكن أن يُحمد جملة من غير تفصيل، ويمكن أن يحمد بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، لا بذكر أسماء الأولاد، وأوصاف البيوت.

ولذلك كان أقرب اسم لذلك الفعل الذي قمت به ـ أيها الرفيق العزيز ـ هو لقب [الفخر والمباهاة] لا لقب الحمد والشكر، لأننا لو طبقنا ما فعلته، لوجدنا أقرب الناس إليه قارون، ذلك الذي خرج على قومه في زينته، وأراهم كل ما لديه من صنوف النعمة، ومع أنك لم تخرج مثلما خرج، ولكن كلماتك رسمت لجمهورك مشهدا لا يختلف عن مشهد قارون، ولذلك قال كل من أحاط بك: يا ليت لنا مثلما أوتيت، كما قال من شاهد قارون: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]

ولهذا كان الرسل والأئمة والأولياء أكثر الناس تواضعا وأدبا ومراعاة لمشاعر الآخرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل رآه؛ فأخذته مهابة منه: (هون عليك فإني لست يملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) ([3])

فأنت مخير بين أن تكون مثل قارون الذي خرج على قومه في زينته وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي مثل التواضع والعبودية والبساطة أحسن تمثيل، وكان يردد كل حين: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)([4])


([1])  سئل الإمام الحسين عن عن تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11]، فقال: (أَمَرَهُ أنْ يُحدِّث بِمَا أنْعَم اللهُ بِهِ عَلَيهِ فِي دِينِه)، وروي عن الامام الباقر في تفسير قوله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/20) قال: (النعمة الظاهرة النبي a، وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا)

([2])  رواه أحمد (2/413) والبخاري (8/128) ومسلم (8/213) والترمذي (2513)

([3])  رواه ابن ماجه (3312)

([4])  رواه مسلم (2865)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *