لا تبع قلمك

لا تبع قلمك

أيها الرفيق العزيز.. لقد رأيتك قبل أيام مع مدير تلك المجلة المشبوهة، والتي لا تعرف غير الشغب، وإثارة الفتن، وكنت منسجما معه انسجاما كليا، ثم ما لبثت حتى قرأ الناس لك مقالا شتت جمعهم، وفرق وحدتهم، وملأ حياتهم بالصراع.

وليتك راقبت نفسك وأنت تكتبه، ولم تراقب ما يشتهيه ذلك المدير وغيره، فنحن مطالبون بأن نزرع السلام، لا الصراع، والوحدة، لا الفرقة، والمحبة، لا البغضاء، ولذلك كان كل من يدعونا إلى الفتنة شيطانا، حتى لو لبس ثياب الإنسان.

وأريد أيها الرفيق العزيز أن أنبهك إلى أن الشياطين المعاصرين لا يختلفون كثيرا عن الشياطين القدامى.. فقد كان القدامى يضعون الأموال في الصرر، ثم يسلمونها للأمراء والملوك ليصلوا بها من يبيعهم قلمه أو حنجرته.. والمعاصرون كذلك، يستعملون نفس الأسلوب.. ولكن بطريقة أكثر تطورا.

ولذلك أحذرك من أن تبيع قلمك لهؤلاء، وكن صادقا مع ربك.. فأنت لم تنزل لهذه الدنيا لتصب الزيت على النار التي يوقدها الشيطان، وإنما نزلت لتطفئها.. فلا تجعل من قلمك كبريتا، ولا تجعل من مدادك زيتا..

وتذكر جيدا، وكل حين تلك الكلمات التي قالها الجاحظ، فقد روي أنه رؤي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟

ولا تكتب بخطك غير شيء… يسرك في القيامة أن تراه ([1])

بل تذكر ما قاله الله تعالى في كلماته المقدسة، فقد قال: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]

وضرب المثل على ذلك بعالم من علماء من قبلنا من الأمم، فقال﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الأعراف: 175]

ثم بين كيف تحول ذلك العالم إلى كلب يلهث وراء كل بريق، فقال: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]

وهكذا صاح إشعيا في بني إسرائيل قائلا:(ويل للذين يقضون أقضية الباطل، وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم، وينهبوا الأيتام) [إشعياء:10 /1-2]

وهكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلماء من أن يختصروا وظائفهم في إرضاء الأمراء، فقال: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن)([2])

وقال: (إنه يُستعمل عليكم أُمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) ([3])

وقال: (العلماء أمناء الرسل على عباد اللّه عزّ وجلّ ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم) ‏([4])

وقال: (شرار العلماء الّذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الّذين يأتون العلماء)([5])

وهكذا نبه علماء هذه الأمة وصالحوها إلى خطر تلك الأقلام المأجوره، فقال بعضهم: (إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص)

وقال آخر: (ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً)

وقال آخر: (من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقاً إليه وطمعاً فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه)

وقال آخر: (ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسئل عنه فيقال هو عند الأمير!)

وقال آخر: (كنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك؛ إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافاً مع أني لا أخذ منه شيئاً ولا أشرب له شربة ماء)

وقال آخر: (علماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم)

وقيل لآخر: (لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك) فقال: (لا تعجلوا.. ثلث يموتون قبل الإدراك.. وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق.. والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل)

وسئل آخر: (ما بال كبراء زماننا وملوكها لا يقبلون منّا، ولا يجدون للعلم مقدارا، وقد كانوا في سالف الزمان بخلاف ذلك؟) فقال: (إنّ علماء ذلك الزمان كان يأتيهم الملوك والأكابر وأهل الدنيا فيبذلون لهم دنياهم، ويلتمسون منهم علمهم، فيبالغون في دفعهم وردّ منّتهم عنهم؛ فصغرت الدنيا في أعين أهلها، وعظم قدر العلم عندهم نظرا منهم إلى أنّ العلم لو لا جلالته ونفاسته ما آثره هذه الفضلاء على الدنيا، ولو لا حقارة الدنيا وانحطاطها لما تركوها رغبة عنها، ولمّا أقبل علماء زماننا على الملوك وأبناء الدنيا وبذلوا لهم علمهم التماسا لدنياهم عظمت الدنيا في أعينهم وصغر العلم لديهم لعين ما تقدّم)([6])

هذه وصايا الحكماء وكلماتهم.. وإياك أن تفهمها بحروفها، وتبرئ نفسك بسبب ذلك.. فالأمير قد نسميه مديرا، وقد نسميه وزيرا، وقد نسميه خفيرا.. والعبرة ليست بالأسماء، وإنما بالمسميات.. فارفع قلمك عن المستنقعات، فأنت مسؤول عن كل حرف يكتبه.. وقد يدخلك الجنة، وقد يرميك في طبقات الجحيم.


([1])  إحياء علوم الدين (4/ 509)

([2]) رواه الطبراني في الكبير.

([3]) رواه مسلم.

([4]) رواه ابن عبد البر في العلم كما في المختصر ص 87.

([5])  المرجع السابق،  ص 88.

([6])  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏1، ص: 145.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *