لا تبحث عن رضى الناس

أيها الرفيق العزيز.. رأيتك قبل فترة قريبة تطالع كتابا عن كيفية كسب الأصدقاء.. وهو كتاب جميل، وفيه أفكار كثيرة طيبة، أنصحك وأنصح نفسي بالتزامها، فالمؤمن ـ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم ـ (إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([1]) وقال: (إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)([2])
لكني رأيتك ـ في سلوكك وعلاقاتك ـ تأخذ الكتاب بكل ما فيه، ولا يصح أن تفعل ذلك، فالكتاب من تدوين بشر يصيب ويخطئ، والعاقل هو الذي يميز بين الصواب والخطأ، ويمد يده إلى الورود، ويتجنب الأشواك التي تحيط بها، فقد تكون أشواكا سامة.
وهذا ما دعاني إلى كتابة هذه الوصية إليك، وإلى نفسي قبلك.. فقد رأيتك تستعمل أساليب في المداراة والألفة لا يجوّزها العقل، ولا الشرع، ولا حتى أولئك الذين تريد أن تصادقهم، ولو على حساب الحقيقة.
فالحقيقة هي الصديق الأول الذي عليك أن تصاحبه، وتدمن على صحبته، وتجعلها رفيقك الدائم في كل مجلس تجلس فيه، أو أي محل تذهب إليه.. ذلك أنها تمثل الحق سبحانه وتعالى.. وهو أول صاحب، وأعظم صاحب، وأدوم صاحب، وأرحم صاحب، وأجمل صاحب.. فكيف تحاول إرضاء غيره بإسخاطه؟.. وكيف تريد أن تكسب غيره، وتخسره؟
ألا تعلم ـ أيها الرفيق العزيز ـ أني وإياك ممتحنان في هذه الحياة الدنيا بمثل هذه الأمور، ليرى الله وملائكته ورسله وكل شيء الجهة التي تميل إليها قلوبنا.. هل تميل إلى الحق، وتحرص عليه، وتضحي في سبيله بكل شيء، حتى بعلاقاتها القريبة والبعيدة، أم تميل إلى أهوائها، فتتقلب كما تتقلب الكرة في أرجل الصبية؟
وحينها يحصل لها ما حصل لذلك العاقل المشرك الذي قرأ القرآن الكريم، وأعجب إعجابا شديدا بجماله، بل رأى فيه الإعجاز عينه، وكان في إمكانه حينها لو آثر الحق، أن يصيح ملء صوته مناديا به.. لكنه عندما فكر وقدر، رأى أنه لو صاح بذلك، فسيخسر جميع أصدقائه، ولن تبقى له حينها تلك المكانة الاجتماعية التي تبوأها بين قومه.. ولذلك راح يرضيهم على حساب الحق.
لا شك أنك قرأت قصته في القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى مخاطبا لي ولك حتى لا نكون مثله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } [المدثر: 11 – 25]
ولهذا نهانا الله تعالى أن نجامل أحدا أيا كان على حساب الحقيقة، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]
وأخبرنا فوق ذلك ذلك كله بأن الحق ثقيل، وأن الالتزام به مكلف، لأن أكثر الخلق ينفرون منه، ولا يحبون إلا من يرضيهم على حسابه، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 70، 71]، وقال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مؤكدا ذلك: (الحق ثقيل مر، والباطل خفيف حلو، ورب شهوة ساعة تورث حزنا طويلا)([3])، وقال الإمام علي: (الحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لمن صبر واحتسب، فكن منهم واستعن بالله)([4])
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناصحا لي ولك: (لا ترضين أحدا بسخط الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)([5])
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نفسه المثل الأعلى على ذلك، فقد خرج من عباءة قومه الذين كانوا يقدرونه ويعظمونه ويسمونه الصادق الأمين.. لكنه لم يعبأ بكل ذلك المديح، وآثر أن يدعى ساحرا ومجنونا، على أن يدعى صادقا أمينا.. ما دام الحق هو الذي دعاه لذلك، فالحق أحق أن يتبع.
ومع كل تلك التضحيات التي قدمها في سبيل الله خاطبه الله تعالى بقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15]، وقال له:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 150]
وهكذا فعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين واجهوا أقوامهم بكل قوة، ولم يرضخوا لمطالبهم، ولا تنازلوا عن مبادئهم، بل كان الحق ديدنهم الذي ضحوا في سبيله بكل شيء، حتى بأقرب الناس إليهم.
وهكذا كان ورثتهم من أئمة الدين والأولياء والصالحين، وقد قال الإمام علي متحدثا عن نفسه: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإنّ دنياكم لأهون عليَّ من ورقةٍ في فم جرادة، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذةٍ تبقى)([6])
وقال للحارث بن حوط، الذي التبس عليه الأمر، فلم يدر من يرضي ومن يسخط: (إنّك امرؤ ملبوس عليك، إنّ دين الله لا يُعْرف بالرجال، فاعرِف الحقّ تعرف أهله)([7])
وكان يقول: (لو أنّ الباطل خَلُص من مزاح الحقّ لم يخفَ على المرتادين، ولو أنّ الحقّ خَلُص من لَبْس الباطل، انقطعت عنه ألسُن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ، ومن هذا ضغثٌ، فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى)([8])
وهكذا عانى ابنه الإمام الحسين من أولئك الذين يرضون الناس بسخط الله، ويريدون أن يتبعوا الحق من غير أن يقدموا أي تضحية في سبيله، وقد روي أن رجلا من أهل الكوفة كتب إليه يقول: (يا سيّدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة)، فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسّلام)([9])
وقد ضرب من نفسه وأهل بيته المثل الأعلى في ذلك، حيث ترك جميع الخلق في سبيل الله، ولسان حاله يردد تلك الأبيات المنسوبة لرابعة أو إبراهيم بن أدهم ([10]):
تركتُ
الخلقَ طُرّاً في هواكا |
وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا | |
ولو
قطَّعتني في الحبّ إرباً |
لَما مال الفؤادُ إلى سواكا |
وهكذا قال الزاهد العابد أويس القرني ـ ذلك الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأثنى عليه ـ: (إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن صديقا، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه)([11])
وهكذا قال بعض العلماء يحدث عن نفسه، وعن فتنة التصنيف التي قد تكون حجابا دون العالم وبث الحقيقة التي يؤمن بها: (عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة له، فإن كنت صدقت فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان؛ سماني موافقا، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجيا، وإن قرأت عليه حديثا في الإيمان سماني مرجئا، وإن كان في الأعمال، سماني قدريا، وإن كان في المعرفة سماني كراميا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما، سماني ظاهريا، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيا، وإن أجبت بتأويل، سماني أشعريا، وإن جحدتهما، سماني معتزليا، وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني شافعيا، وإن كان في القنوت سماني حنفيا، وإن كان في القرآن، سماني حنبليا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم.. ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم، أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئا، وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم)([12])
وهكذا اعتبر الغزالي من (شغل نفسه بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه) مغرورا، لأنه (لو عرف الله حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من الله شيئاً؛ وأن ضرره ونفعه بيد الله ولا نافع ولا ضار سواه، وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، بل رضا الناس غاية لا تنال، فرضا الله أولى بالطلب)([13])
هذه نصيحتي إليك أيها الرفيق العزيز.. وما يهون
تطبيقها لك ولي هو ترديدنا لقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].. فهذه الآية الكريمة تصور
الواقع بكل دقة.. فنحن والخلق جميعا جالسون على خشبة المسرح.. وكل من ذكرهم الله
تعالى يشاهدنا ويرانا.. ونحن مخيرون بأن نرضي الله ورسوله والمؤمنين، حين نؤدي
أجمل الأدوار، أو أن نكتفي برؤية أولئك الأصدقاء الذين نخشى أن نخسرهم، فلذلك نضحي
بالحقيقة في سبيلهم، وحينها نكون أسوأ الممثلينن أولئك الذين يؤدون أقذر الأدوار
في أخطر فلم سينمائي يرتبط به مصيرنا الأبدي.
([1]) رواه أحمد (2/ 400) وفي (5/ 335)، الفردوس للديلمي (4/ 77) برقم (6549)
(8) الموطئون أكنافا: الأكناف جمع كنف وهو الجانب والمراد الذين يلين جانبهم لإخوانهم..
([2]) رواه الترمذي (2018) ، وقال: حديث حسن، وصححه ابن حبان (1917)
([3]) مكارم الأخلاق: ٢ / ٣٧١ / ٢٦٦١.
([4]) تحف العقول: ١٤٢.
([5]) رواه الطبراني في الكبير، انظر: تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص: 1713)
([6]) نهج البلاغة، الخطبة:222.
([7]) نهج البلاغة، الحكمة:262..
([8]) نهج البلاغة، الخطبة:50..
([9]) الاختصاص 225، أمالي الصدوق 167 – 168..
([10]) وهي من الأبيات التي ينسبها الكثير من الخطباء للإمام الحسين مع أنها في الحقيقة ليست له، ولكن معناها صحيح النسبة إليه، بل هو أولى الناس بها، ولذلك لا حرج على من ينسبها إليه، (انظر: أضواء على ثورة الحسين، السيد الشهيد محمد الصدر، محقق : الشيخ كاظم العبادي الناصري، هيئة تراث السيد الشهيد الصدر، النجف الأشرف، ص102 و103)
([11]) الاعتصام للشاطبي، (1/ 32)
([12]) النص لعبد الرحمن بن أبي عبد الله بن بطه، (توفي 470هـ)، وهو منقول بتصرف من الاعتصام للشاطبي (1/ 28)
([13]) الإحياء: 4/ 350.